الاثنين، 10 أغسطس 2020

09 - قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات الهند المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

09 - قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات الهند المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

09 - قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات الهند المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

[ قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات هند ]
قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس
رسالة إلى ببغاوات الهند عندما كان ذاهبا للتجارة

- كان هناك أحد التجار ، وكان له ببغاء ، وكان الببغاء الجميل حبيسا في القفص 
- وعندما أعد التاجر عدة السفر ، عازما على التوجه إلى الهند .
- أخذ من جوده يسأل كل عبد وكل جارية قائلا : ماذا أحضر لك ؟ قل سريعا .

1560 - وطلب كل واحد منهم طلبا ، ووعدهم جميعا ذلك الرجل الطيب .

- وقال للببغاء : أية هدية تريد أن آتيك بها من بلاد الهند ؟
- قال ذلك الببغاء : هناك توجد ببغاوات ، عندما تراها ، حدثها عن أحوالي .
- " قل لهم " : إن الببغاء فلان مشتاق لكم ، وقد شاء القضاء أن يكون حبيسا عندنا .
- لقد أرسل إليكم السلام وطلب الغوث ، وسألكم الوسيلة وطريق الإرشاد .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 679 : استمع إلى حكاية أيها الرفيق الطيب ، حتى تعلم شرط هذا البحر العميق . 
- استمع إلى قصة الآن كمثال ، حتى تصبح واقفا على أسرار المقال .


« 164 »


1565 - وقال : أيليق أن أسلم الروح إشتياقا ، وأموت هنا من الفراق ؟
- وهل يجوز أن أكون أنا في الغل الثقيل ، وأنتم حينا فوق الخضرة وحينا فوق الأشجار ؟
- أهكذا يكون وفاء الأصدقاء ؟ أنا في هذا السجن وأنتم في الرياض ؟
- فتذكروا أيها العظماء هذا الطير المسكين بصبوح بين الرياض .
- وذكر الأصدقاء يكون يمنا على الصديق ، خاصة إذا كانوا في مقام ليلى وهو في مقام المجنون .


1570 - فيا رفاق حسنائكم الممشوقة ، إنني أحتسي الأقداح مليئة بدمي .
- فاشرب كأسا من الخمر على ذكراى ، هذا إذا كنت لا تريد القيام بنجدتي .
- أو على ذكرى هذا الساقط فوق التراب ، عندما تشرب ، أرق جرعة فوق التراب .
- فواعجباه ، أين ذلك العهد ؟ وأين تلك الأيمان ؟ وأين الوعود من تلك الشفة الشبيهة بالسكر ؟
- وإذا كان فراق العبد من سوء قيامه بالعبودية ، وتجازى السوء بالسوء ، ما الفرق إذن ؟


1575 - وإن ذلك السوء الذي تقوم به عند الغضب والحرب ، أكثر إطرابا من السماع ومن أنين الصنج .
- ويا من جفاؤك أكثر حسنا من الإقبال ، وانتقامك أحب إلينا من الروح .
- هذه نارك فكيف يكون نورك ؟ وهذا هو المأتم فما بالك بما يكون عليه عرسك ؟
- ومن أنواع اللذات التي يحويها جورك ، ومن اللطف لا يسبر أحد غورك .
- إنني أئن ، وأبدي خوفي من أن يصدق " أنيني " ، ومن كرمه يقلل هذا الجور .

« 165 »


1580 - إنني عاشق لقهره وللطفه جاد في هذا ، وهو أمر شديد العجب ، أن أكون عاشقا لهذين الضدين .
- فوالله لو أنني انتقلت من هذا الشوك إلى البستان ، أكون نائحا كالبلبل لهذا السبب .
- إنه عجيب ذلك البلبل ، إنه يفتح منقاره ، حتى يأكل الشوك مع " زهور " الرياض .
- أي بلبل هذا ؟ إنه تمساح ناري ، وكل البلايا بالنسبة له لذات من العشق .
- إنه عاشق للكل وهو بعينه الكل ، إنه عاشق لنفسه ، وباحث عن عشق نفسه

صفة أجنحة طيور العقول الإلهية

1585 - إن قصة ببغاء الروح على هذا النسق ، فأين شخص يكون مسموحا له بأسرار الطيور ؟
- أين طائر ضعيف برئ وفي باطنه سليمان ذو جيش ؟
- وعندما يئن شاكيا ، بلا شكر أو ملام ، تحدث الضجة في الأفلاك السبعة .
- وفي كل لحظة له مائة رسالة ومائة رسول من الله ، وإن قال مرة واحدة يا رب ، أجابه الله بلبيك ستين مرة .
- وزلته أفضل من الطاعة عند الحق ، وكل أنواع الإيمان خلقة أمام كفره .


1590 - وله في كل لحظة معراج خاص ، ويضع فوق مفرقه مائة تاج خاص .
- صورته فوق التراب ، وروحه في اللامكان ، اللامكان الذي يعلو على أرواح السالكين .
- ذلك اللامكان الذي لا يتأتى لك في فهم ، ويتولد لك منه خيال كل لحظة .
- بل إن المكان واللامكان تحت أمره ، مثلما تأتمر الأنهار الأربعة بساكن الجنة . 


« 166 »

- فلتقصر في شرح هذا الأمر ولتحول عنه وجهك، ولا تتحدث، والله أعلم بالصواب.


1595 - ولنعد نحن أيها الأصدقاء صوب الببغاء والتاجر والهند .
- لقد قبل التاجر هذه الرسالة ، أي أن يبلغ سلامه لمن هم من جنسه


رؤية السيد لببغاوات الهند في الوادي
وإبلاغه رسالة ذلك الببغاء

- وعندما وصل إلى أقصى بلاد الهند ، رأى في الصحراء عددا من الببغاوات .
- فأوقف مطيته ، ورفع صوته ، وأبلغ ذلك السلام وأدى تلك الأمانة .
- فارتعد ببغاء من تلك الببغاوات رعدة شديدة ، ثم سقط ميتا وقد قطع النفس .


1600 - فندم السيد من إبلاغه الخبر ، وقال : لقد سعيت في إهلاك كائن حي .
- فلعله كان قريبا لذلك الببغاء المسكين ، وربما كانا جسدين والروح واحدة ! ! 
- لم فعلت هذا ؟ ولم أبلغت الرسالة ؟ لقد قضيت على المسكين بهذا القول الساذج 
- إن هذا اللسان كالحجر وهو أيضا شبيه بالحديد ، وما ينطلق من اللسان كأنه النار .
- فلا تضرب الحديد والحجر معا خبط عشواء ، حينا كراوية ، وحينا مثرثرا .


1605 - ذلك أن الجو مظلم ، وفي كل صوب حقل قطن ، وكيف يكون الشرار وسط القطن ؟ ! 
- وظَلمة أولئك القوم الذين أغمضوا عيونهم ، ومن تلك الألفاظ أحرقوا عالما .
- وإن اللفظ الواحد ليدمر عالَما ، ويجعل من الثعالب الميتة أسودا .
- والأرواح في أصلها ذوات نفَس كنفس عيسى ، حينا تكون جراحا وحينا تكون مرهما .
 

« 167 »

- ولو أن الحجاب رفع عن الأرواح ، لكان قول كل روح على مثال المسيح .


1610 - وإذا كنت تريد أن تقول كلاما كالسكر ، فاصبر ، ولا تأكل هذه الحلوى من الحرص .
- فالصبر يكون شهوة الأذكياء ، أما الحلوى فهي شهوة الأطفال .
- وكل من يصبر ، يرتقي الأفلاك ، وكل من يأكل الحلوى ، يمضي متقهقرا .

تفسير قول فريد الدين العطار قدس الله روحه :
إنك صاحب نفس أيها الغافل فداوم على شرب الدم بين التراب
لكن صاحب القلب إن شرب السم يكون عسلا

- إن صاحب القلب لا يصيبه من هذا خسران ، أي أن يشرب السم عيانا .
- ذلك أنه قد وجد الصحة، وخلص من الحمية، والطالب المسكين في غمرة الحمى.


1615 - ولقد قال الرسول : أيها الرجل المماري حذار ، وإياك أن تمارى مطلوبا أبدا .
- وفي داخلك نمرود ، فلا تقدم على النار ، وإذا كنت تريد ، فتحول أولا إلى إبراهيم .
- وما لم تكن بالسباح أو رجل البحار ، لا تلق بنفسك فيها من عنادك .
- إنه يُخرج من النار وردا أحمر ، ومن الأضرار يضع النفع على الرؤوس .
- والكامل إن أمسك بالتراب يصبح ذهبا ، والناقص إن حمل الذهب ، يصبح ترابا 


1620 - وعندما يكون ذلك الرجل الصادق مقبولا من الحق ، تكون يده في الأمور هي يد الله .
- ويد الناقص هي يد إبليس ويد الشيطان ، ذلك أنه في شباك التكليف والحيلة .
- والجهل يبدو أمام الكامل فيتحول إلى علم ، أما العلم إن إحتواه المنكر فإنه يصير جهلا

« 168 »


- وكل ما يمسك به العليل يصير علة ، أما الكامل إن تلقى الكفر ، يصير ملة .
- ويا من ماريت ، إن الراجل ينجو برأسه من الراكب ، فاثبُت الآن .
 

تعظيم السحرة لموسى عليه السلام قائلين :
بماذا تأمر ؟ أتلقي عصاك في البداية ؟


1625 - إن السحرة في عهد فرعون اللعين ، عندما جادلوا موسى بالباطل حقدا .
- قاموا بتقديم موسى على أنفسهم ، وذلك تكريما منهم له .
- وذلك عندما قالوا له : الأمر لك ، وإن أردت ألق بعصاك .
- قال : لا ، لتلقوا أتم أولا أيها السحرة ولتعرضوا مكركم .
- وبهذا القدر اليسير من التعظيم إشتراهم الدين ، ومن الجدل قطع أيديهم وأرجلهم ، 


1630 - وعندما عرف السحرة له حقه ، قامروا بأيديهم وأرجلهم " تكفيرا " عن جرمهم .
- ولقمة الكامل وقوله كلاهما حلال ، ولست بالكامل فلا تأكل ، وكن أبكم .
- وما دمت أذنا وهو لسان ، فهو ليس من جنسك ، وقد قال الحق للآذان : أنصتوا .
- والطفل أول ما يولد ويكون رضيعا ، يبقى مدة صامتا ، ويكون بأجمعه أذنا .
- وينبغي عليه أن يضم شفتيه عن الكلام فترة من الزمن ، حتى تعلمه الكلام . « 1 » 


1635 - وإن كان فاقد السمع ، يظل يتهته ، ويجعل من نفسه أبكم في هذا العالم .
- والذي يولد أصم ويكون فاقدا لحاسة ، السمع من البداية يصبح أبكم ، فمتى ينطلق في النطق ؟
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 714 : - وما لم يتعلم لا يتحدث ولو بنسبة واحد في المائة ، وإن تحدث فإنه يقول هراء بلا شك .


« 169 »


- ذلك أنه تلزم حاسة السمع من البداية من أجل النطق ، فتعال إلى النطق عن طريق السمع .
- " أدخلوا الأبيات من أبوابها ، واطلبوا الأعراض من أسبابها " « 1 » 
- والنطق الذي لا يكون موقوفا على طريق السمع ، ليس إلا نطق الخالق الذي لا طمع عنده .


1640 - إنه المبدع ، وليس تابعا لأستاذ ، والجميع يُسندون إليه ، ولا يسند هو إلى أحد .
- أما سواه فسواء في الحرف أو المقال ، تابعون لأستاذ محتاجون إلى المثال .
- وإذا لم تكن غريبا عن هذا الكلام ، فالبس الخرقة ، وداوم على ذرف الدمع في خرابة ما .
- ذلك أن آدم نجا بالدمع من هذا الملام ، والدمع الهتون يكون نفسا للتواب الأواب .
- ومن أجل البكاء هبط آدم على الأرض ، لكي يكون باكيا نائحا حزينا .


1645 - لقد هبط آدم من الفردوس الأعلى ومن فوق السماوات السبع إلى موضع خلع النعال من أجل الاعتذار .
- فإذا كنت من نسل آدم ومن صلبه ، داوم على الطلب ، وكن أيضا في طريقه .
- واجعل من دمع العين وحرقة القلب غذاءك الشهي ، فالبستان يكون طلقا من " بكاء " السحاب و " حرقة " القلب .
- وأي علم لك بلذة الدموع ، وأنت عاشق للخبز كالعميان .
...............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .


« 170 »


- وإنك إن أخليت مخلاتك من الخبز ، فإنك تملؤها بجواهر ذي الجلال .
 

1650 - فافطم طفل الروح عن لبن الشيطان ، وبعد ذلك اجعله شريكا للملك .
- وما دمت مظلما وملولا وكدرا ، فاعلم أنك تشارك الشيطان اللعين الرضاع .
- واللقمة التي تزيد النور والكمال ، هي تلك المجلوبة من الكسب الحلال .
- والزيت الذي يأتي ويطفئ مصباحنا ، سمه ماءً ، لأنه يطفئ مصباحا .
- والعلم والحكمة يتولدان من اللقمة الحلال ، والعشق والرقة يتأتيان من اللقمة الحلال 


1655 - وعندما ترى من اللقمة الحسد والفخ ، ويتولد منها الجهل والغفلة ، فاعلم أنها حرام 
- فهل زرع أحد قط قمحا وحصده شعيرا ؟ وهل رأيت فرسا ولدت جحشا ؟
- واللقمة هي البذرة وثمارها الأفكار ، واللقمة هي البحر ودرها الأفكار .
- ومن اللقمة الحلال في الأفواه يتولد الميل إلى العبادة وعزم التوجه إلى تلك الدار«1»

رواية التاجر للببغاء ما رآه من ببغاوات الهند

- لقد أتم التاجر أمور تجارته ، وعاد إلى داره راضيا .

1660 - وأحضر لكل غلام هدية السفر ، وأنعم على كل جارية بنصيب .
- فقال الببغاء : أين هديتي ؟ إروِ لي ما رأيت وما قلت .
- قال : لا ، إنني جد نادم على ذلك ، أعض بنان الندم « 2 » وأضرب كفا بكف .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 715 : - ومن اللقمة الحلال يتولد أيها العظيم الحضور في قلبك الطاهر والنور في عينيك 
- وهذا الكلام لا نهاية له أيها المبجل ، فأتمم حكاية التاجر والببغاء .
( 2 ) حر : وأعض يدي .
 

« 171 »

- فلماذا حملت رسالة ساذجة خبط عشواء ، ثم أديتها من جهلي وغبائي ؟
- قال : أيها السيد ، ولم الأسف ؟ وما الذي يسبب لك كل هذا الأسى والحزن ؟

1665 - قال : لقد نقلت شكاواك لسرب من الببغاوات من رفاقك ؛ 
- وأحس أحدها بقدر يسير من ألمك ، فانفجر كمدا وارتعد ومات .
- ولقد ندمت ، فأي قول كان هذا القول ، لكن ما دمت قد قلته ، ما جدوى الندم ؟
- والفكرة التي انطلقت فجأة من اللسان ، إعلم أنها كالسهم الذي انطلق من القوس .
- وذلك السهم لا يعود عن طريقه يا بني ، إذ ينبغي أن يُسد طريق السيل من بدايته 

1670 - وما دام قد انطلق من منبعه فقد اجتاح العالم ، ولا عجب إن حطم العالم .
- وللأفعال في الغيب آثار قابلة للتولد ، وما يتولد عنها ليس في حكم الخلق .
- وكلها مخلوقة لله دون شريك ، نعم هي مواليده ، وإن نسبت إلينا .
- لقد أطلق زيد سهما نحو عمرو ، فأصمى سهمه عمرا كالنمر .
- ولمدة عام يتولد عن ذلك الألم ، والآلام يخلقها الله لا الإنسان .

1675 - حتى وإن مات زيد الرامي لفوره من الوجل ، فإن الآلام تتولد عند عمرو حتى يحين الأجل .
- وإذا كان قد مات نتيجة لما تولد عنه من ألم ، فسم زيد إذن مميتا فهو السبب الأول .
- وانسب إليه تلك الآلام بالرغم من أنها كلها من صنع الله .
- وهكذا الزراعة والتنفس والشباك والجماع ، كلها مواليد في قدرة الحق .
- وللأولياء قدرة " موهوبة " من الإله ، بحيث يعيدون السهم المنطلق عن طريقه

1680 - ويغلقون أبواب المواليد من أسبابها ، فكيف يندم الولي من قبل الله ؟

« 172 »

- ويجعلون ما قبل كأن لم يُقل من شرح صدورهم ، بحيث لا يحترق منها لا السفود ولا الشواء .
- وإن سمع نقطة ما من جميع القلوب ، فإنه يجعلها ممحوة غير ظاهرة .
- وإذا أردت الحجة والبرهان أيها العظيم ، فاقرأ ثانية " ما ننسخ من آية أو ننسها " .
- واقرأ آية " أنسوكم ذكرى " ، وإسناده إليهم قدرة النسيان 

1685 - وما داموا قادرين على النسيان والتذكير ، فهم إذن مسلطون على كل قلوب الخلق .
- وعندما سد على النسيان طريق النظر ، لا يمكن القيام بفعل ما ، وإن كان ثم فضل .
- " إتخذتموهم سخريا " أي أهل السمو ، فاقرأ من القرآن " حتى أنسوكم " .
- وصاحب القرية ملك على الجسوم ، وصاحب القلب ملك على القلوب .
- والعمل فرع من البصيرة بلا شك ، ومن ثم لا يستحق لقب الإنسان إلا إنسان العين . « 1 »

 1690 - وأنا لا أستطيع أن أفصح عن هذا الأمر بتمامه ، ذلك أني أُمنع من قبل أصحاب الصدارة .
- وما دام نسيان الخلق وذكرهم من لدنه ، وهو أيضا الذي يغيثهم .
- فإن ذلك البهي يفرغ قلوبهم كل ليلة من مئات الآلاف من " أفكار " الخير والشر .
- إنه يملأ قلوبهم بها أثناء النهار ، ويجعل تلك الأصداف مليئة بالدرر .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 726 : - وإنما يراه الناس صغيرا كإنسان العين ، ولم يفهم أحد مدى عظمة إنسان العين .

« 173 »

- وكل تلك الأفكار الموجودة منذ الآزال ، تعرفها الأرواح من هدايته .
 

1695 - تأتيك حرفتك ويأتيك فنك ، حتى يفتحا باب الأسباب أمامك .
- فلا تنتقل حرفة الحداد إلى الصائغ ، ولا يذهب طبع ذلك الحسن الطبع إلى ذلك القبيح .
- والحرف والأخلاق وكأنها المتاع ، تعود إلى أصحابها عند البعث . « 1 » 
- مثلما تعود الحرف والطباع من بعد النوم مسرعة إلى أصحابها .
- فالحرف والأفكار في وقت الصبح ، تعود إلى الموضع الذي كانت فيه من حسن وقبيح .
 

1700 - ومثل الحمام الزاجل تحمل إلى مدينتها المنافع من المدن "التي كانت فيها " .
سماع ذلك الببغاء ما فعله الببغاء الآخر وموته 
في قفصه ونوام السيد عليه

- وعندما سمع ذلك الطائر ما فعله ذلك الببغاء ، إرتعد وسقط وبرد جسده .
- وعندما رآه السيد ساقطا هكذا ، قفز وألقى بقلنسوته على الأرض .
- وعندما رآه السيد على هذا اللون والحال ، قفز وشق جيبه .
- وقال : أيها الببغاء حسن التغريد، ماذا جرى لك ؟ ولماذا صرت على هذا الحال؟. 

1705 - وآسفاه على طائرى حلو الصوت ، وآسفاه على نجيى وموطن أسرارى .
- وآسفاه على طائرى حلو الألحان ، راحِ روحي وروضتى وريحانى .
- ولو كان لسليمان مثل هذا الطائر ، فمتى كان سيشغل بغيره من الطيور ؟
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 726 : - والصورة التي كانت غالبة على وجودك ، تصويرك عليها واجب في الحشر


« 174 »
 
- وآسفاه على الطائر الذي وجدته بسهولة ، وسرعان ما فرطت فيه ! ! 
- ويا أيها اللسان ، إنك خسارة شديدة على الورى ، وما دمت أنت المتحدث ماذا أقول لك يا ترى ؟

1710 - أيها اللسان ، إنك أنت النار وأنت البيدر ، فحتام تضرم النار في هذا البيدر ؟
- فالروح صارخة في الباطن منك ، بالرغم من أنها تفعل كل ما تقوله لها .
- أيها اللسان إنك أنت الكنز الذي لا ينفد ، أيها اللسان . . وأنت الألم الذي لا علاج له 
- إنك الصفير والخدعة للطيور ، كما أنك الأنيس لوحشة الهجران . « 1 » 
- فحتام تعطيني الأمان يا من لا أمان لك ، ويا من شددت علىّ قوسك حقدا .


1715 - وها أنت قد طيرت طائرى ، فكفاك رعيا في مرعى الظلم .
- فأجبني ، أو أغثني ، أو فعلمني أسباب الفرح ،،،،   
- وآسفاه على النور الماحي لظلمتي ، وآسفاه على الصبح المضئ لنهارى .
- وآسفاه على طائري حسن الطيران ، الذي طار من سدرة المنتهى حتى مبدئي ! ! 
- والجاهل عاشق للكبد إلى الأبد ، فانهض ، وأقرأ من " لا أقسم " حتى " في كبد " 

1720 - ومع وجهك كنت فارغا من الكبد ، وفي جدولك ، كنت صافيا من الزبد .
- وهذه التأوهات ما هي إلا خيال المشاهدة ، والانفصال عن وجودي الحق .
- لقد كانت غيرة الحق ، ولا حيلة مع الحق ، وأين هو القلب الذي لم يتمزق إربا من عشق الحق ؟ ! 
- والغيرة لأنه يكون غير الجميع ، ذلك الذي يزيد عن البيان وعن القول .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 734 : - إنك الصفير والخدعة للطيور ، كما أنك إبليس وظلمة الكفر . 
- وأنت الصفير للرفاق والمرشد لهم ، كما أنك أنيس وحشة الهجران .

« 175 »

- وآسفاه ، ليت دمعي كان بحرا ، حتى أجود به من أجل الحبيب الجميل .
 

1725 - ببغائي ، طائري الذكي ، ترجمان فكري وأسراري .
- وكل ما أعطيته وما منعته ذات يوم ، أخبرني به من البداية ، علني أذكره .
- فالببغاء الذي يأتي من الوحي صوته ، يكون مبدؤه قبل بداية الوجود .
- وهذا الببغاء مختفٍ في داخلك ، وأنت ترى إنعكاسه على هذا وذاك .
- إنه يسلب سرورك وأنت مسرور به ، وتقبل منه الظلم وكأنه العدل .

1730 - ويا من تحرق الروح من أجل الجسد ، لقد أحرقت الروح وأضأت الجسد ! ! 
- لقد احترقت ، وهل يريد أحد محترقا ؟ حتى يضرم بي النار في الهشيم ؟
- والمحترق متى يكون قابلا للنار ؟ والبستان المحترق متى يكون جاذبا للنار ؟
- وآسفاه ، وآسفاه ، وآسفاه ، إن مثل ذلك القمر إختفي خلف السحاب ! ! 
- وكيف أتحدث وقد تأججت نار القلب ، وهاج أسد الهجر ، وصار سافكا للدماء .

 
1735 - وذلك الذي يكون حار الطبع ثملا وهو مفيق ، كيف يكون حاله عندما يمسك بالكأس ؟ ! 
- والأسد الثمل الذي يعز على الوصف ، يكون أعظم من ساحة المرج .
- إنني أفكر في القافية ، ويقول لي حبيبي : لا تفكر إلا في رؤيتي ، 
- واقعد هانئا يا من أنت لي ، يا مفكرا في القافية ، إن قافية إقبالك موجودة لدي .
- فماذا يكون اللفظ حتى تفكر فيه ؟ ماذا يكون اللفظ ؟ مجرد شوك في سور الكرمة ! ! !

 1740 - فلأحطم اللفظ والصوت والقول ، حتى أتحدث معك دون وجود هذه الثلاثة ! !

« 176 »
 
- بذلك الحديث الذي أخفيته عن آدم ، أحدثك به يا من أنت أسرار العالم .
- ذلك الحديث الذي لم أتحدث به مع الخليل ، وذلك الحزن الذي لا يعرفه جبريل .
- ذلك الحديث الذي لم ينبس منه المسيح بحرف، ولم يتحدث به الحق إلينا غيرة منه.
- وماذا تكون " ما " في اللغة ؟ إثبات ونفي، وأنا لست بالإثبات ، كما أنني بلا ذات.


1745 - ولقد وجدت هويتي في انعدام الهوية ، ثم جدلت الهوية في انعدام الهوية 
- وكل الملوك عبيد لعبيدهم ، وكل الخلق موتى " هياما " في موتاهم .
- وكل الملوك خاضعون للخاضعين لهم ، وكل الخلق ثملون بمن هم ثملين بهم .
- ويصبح الصياد صيدا للطيور ، حتى يقوم فجأة لصيدهم ! ! 
- والحسان يبحثن بجد عن مسلوبي القلوب ، وكل المعشوقين صيد للعاشقين ! !


1750 - وكل من تراه عاشقا ، إعلم أنه معشوق ، والأمر نسبي لهذا ولذاك .
- وإذا كان الظامئون يبحثون عن الماء في الدنيا ، فإن الماء في الدنيا يبحث أيضا عن الظامئين .
- فإذا كان هو عاشقا ، أصمت أنت ، وإذا كان يجر أذنك ، كن أذنا .
- وأقم سدا ، ما دام السيل يتدفق ويهمي ، وإلا أحدث الخراب والدمار .
- وأي حزن أحس به إن كان ثم دمار ؟ وتحت الخرائب يكون الكنز السلطاني ! ! 


1755 - وغريق الحق يريد أن يزداد غرقا ، كأمواج بحر الروح " يصبح " صاعدا هابطا .
- فهل قاع البحر أفضل أو سطحه ؟ وهل سهمه أكثر فتنة يا ترى أو درعه ؟
- إنك ممزق بالوسوسة أيها القلب ، فليتك تستطيع أن تميز الطرب من البلاء ! ! 
- وإذا كان لمرادك مذاق السكر ، أليس انعدام المراد هو مراد الحبيب ؟ !


« 177 »

- وكل نجمة له فداؤها مائة هلال ، وسفك دم العالم له حلال .


1760 - ولقد وجدنا الثمن ووجدنا الدية ، وأسرعنا صوب المقامرين بالروح .
- فيا لها من حياة للعاشقين تلك التي تكون في الموت ، وإنك لن تجد القلب إلا في استلاب القلب .
- وأنا أكون باحثا عن قلبه وهو بمائة دلال ، يتعلل معي ويبدي الملال .
- قلت : في النهاية هذا العقل والروح غريقان فيك ، قال : إمض ، ، إمض ولا تتل على هذا الهراء .
- إنني لا أدري فيم تفكر ، يا عيني كيف رأيت الحبيب ؟ !
 

 1765 - يا ثقيل الروح أتراك رأيته شيئا هينا ، وذلك لأنك قد شريته بثمن بخس .
- وكل من يشتري الشئ رخيصا يفرط فيه بثمن بخس ، كالطفل يقايض الجوهرة على رغيف .
- وأنا غريق في عشق غرق فيه عشق الأولين والآخرين .
- ولقد بحت بالأمر على سبيل الإجمال ، ولم أبن ، وإلا لاحترقت الأفهام كما احترقت الألسنة .
- فإن قلت ساحل فإنما أقصد ساحل البحر ، وإن قلت لا ، فإنما أقصد إلا .


1770 - وأنا من شدة اللذة التي أشعر بها جلست عابس الوجه ، ومن كثرة ما لدى للقول صامت .
- وذلك حتى تختفى لذتنا عن الدارين في حجاب الوجه العبوس .
- وحتى لا يتطرق هذا الكلام إلى كل الأسماع ، أتحدث بواحد في المائة من الأسرار اللدنية

« 178 »


تفسير قول الحكيم : في كل ما يجعلك عاجزا عن الطريق يستوى الكفر والإيمان 
ومن كل ما وقعت به بعيدا عن الحبيب يستوى الجميل والقبيح في معنى قوله عليه السلام : إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد والله أغير منا ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن

 
- لقد اتصف الكون كله بالغيرة، والحق قد حاز قصب السبق في الغيرة على الكون، 
- فهو بمثابة الروح والكون بمثابة الجسد ، والجسد يقبل من الروح الخير والشر 


1775 - وكل من صار له محراب الصلاة عين الذات " الإلهية " ، إعلم أن عكوفه على " مظاهر " الإيمان شين .
- وكل من صار مشرفا على ملابس الملك ، يكون غبنا له الإتجار للملك .
- وكل من صار جليسا للسلطان ، يكون جلوسه على بابه ظلما وغبنا .
- فما دام قد وصل إلى " مرتبة " تقبيل يد الملك ، فإنه إن اختار أن يقبل قدمه ، يكون قد أذنب .
- وبالرغم من أن وضع الرأس على " قدم " الملك من قبيل التبجيل ، فإن ذلك إلى جوار التكريم الآخر خطأ وزلة ، 


1780 - وإن الملك ليشعر بالغيرة على ذلك الذي اختار أن يشم الرائحة بعد أن شاهد الوجه .
- وغيرة الحق على مثال القمح ، وغيرة الناس هي التبن المنفصل عن البيدر .
- فاعلم أن أصل أنواع الغيرة من الإله، وما عند الخلق من غيرة فروع لها بلا جدال.

« 179 »
 
- ولأترك تفسير هذا الموضوع وأبدأ في الشكوى ، من قسوة قلب الحسناء ذات القلوب العشرة .
- ولأئن ، فإنما يحلو لي الأنين ، وإنها لتريد من كلتا الدارين الأنين والحزن .

 

1785 - وكيف لا أنوح بمرارة من تعلاتها؟ وكيف لا أكون في حلقة السكارى بها؟
- وكيف لا أكون كالليل وأنا محروم من نهارها ؟ محروم من وصال وجهها الذي يضئ النهار .
- وكل ما يبدو غير طيب منها تطيب له روحي ، فلتكن روحي فداءً للحبيب الذي يؤلم قلبي .
- وأنا عاشق لأوجاعي وآلامي ، وذلك من أجل رضا مليكي الفرد .
- وإنني لأجعل من تراب الغم كحلا لعيني ، حتى يمتلئ بحر عيني بالدرر .


1790 - والدمع الذي يذرفه الخلق من أجله ، هو در ، بينما يظنه الخلق دمعا .
- أأقوم بالشكوى من روح الروح ؟ ! معاذ الله ، إنني لا أشكو ، بل أبوح .
- فالقلب لا يفتأ يقول : إنني متألم منه ، وأنا أضحك من نفاقه المكشوف .
- ألا فلتستقم يا فخر المستقيمين ، ويا من أنت الصدر وأنا عتبة لبابك .
- وما العتبة وما الصدر بالنسبة للمعنى ؟ وأين " نحن " وأين " أنا " حيثما يوجد الحبيب ؟

 
1795 - ويا من تنزهت روحك عن " نحن " وعن " أنا " يا لطيفة الروح في الرجال وفي النساء .

« 180 »

- وعندما يصير الرجال والنساء واحدا فذلك الواحد هو أنت ، وعندما تنمحى الآحاد ، حينذاك تكون .
- لقد صنعت هذه الأنا والنحن من أجل هدف ما، هو أن تلعب مع نفسك نرد الخدمة !!« 1 » 
- وحتى تصبح كل " أنا "و" أنت " روحا واحدة، وتصبح في النهاية مستغرقة في الأحبة.
- وكل هذا موجود ، فتعال يا أمر " كن " ، يا منزها عن تعال وعن الكلام .


1800 - فهل تستطيع عين الجسد أن تبصرك ؟ أو هل يدور لها في خلد حزنك وضحكك ؟ ! 
- والقلب الذي هو رهين البكاء والضحك ، لا تقل أنه جدير بهذه الرؤية .
- وذلك الذي يكون رهن الحزن والسرور ، يكون حيا بهذين الشيئين الطارئين .
- وحديقة العشق النضرة التي لا تحدها حدود ، فيها ثمار كثيرة غير الحزن والسرور .
- والعشق أعلى من هاتين الحالتين ، فهو أخضر نضر بلا ربيع أو خريف .


1805 - فلتؤت زكاة الحسن يا حسن الوجه، ولتعد حديث الروح التي مزقت إربا .
- فمن دلال العين الفاتنة ، نظرة واحدة ، وسمت قلبي بجرح جديد .
- ولقد جعلت دمي له حلالا إن سفكه ، وظللت أقول : حلال لك ، وهو يجد في الهرب .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 760 : - وحتى تصبح جوهرا واحدا مع نحن وأنت ، تصبح في النهاية محض ذلك المحبوب .


« 181 »


- فكيف تكون هاربا من أنين أهل التراب ؟ وأي حزن تصبه علي قلوب المحزونين ؟
- ويا من كل صبح أشع من المشرق ، وجدك منهاجا مثل نبع المشرق .
 

1810 - فأية حجة تسوقها للمفتون بك ؟ يا من لا ثمن لشفتيك الفياضتين بالشهد .
- ويا من أنت الروح الجديدة للعالم القديم ، إستمع إلى النواح من الجسد الذي بلا روح ولا قلب .
- فبحق الله ، دعك من الحديث عن الورود ، وتحدث عن البلبل الذي افترق عن الورود .
- فمن الحزن والسرور لا يكون وجدنا ، وإلى الخيال والوهم لا تسكن ألبابنا .
- فهناك حالة أخرى ، وهي حالة نادرة ، ولا تنكر ، فالحق شديد القدرة .
 

1815 - ولا تقم بالقياس على حال الإنسان ، ولا تتخذ منزلا من الجور ومن الإحسان .
- فالجور والإحسان والحزن والسرور أمور حادثة ، والحادث يموت ، والحق هو الوارث .
- لقد طلع الصباح يا من أنت ملجأه وملاذه ، فاصرف عن محضرك السيد حسام الدين .
- وأنت الصارف للعقل الكلي والروح ، وأنت روح الروح وألق المرجان .
- لقد أشرق نور الصباح ونحن من نورك ، في صبوح من خمر منصورك .


1820 - وما دامت عطيتك تجعلني على هذا الحال ، فما ذا تكون الخمر حتى تشعرني بالطرب ؟
 

« 182 »
 

- فالخمر في جيشانها لتتسول منا الجيشان ، والفلك في دورانه أسير لألبابنا .
- ولقد ثملت منا الخمر ولم نثمل نحن منها ، مثلما وجد منا الجسد ، ولم نوجد نحن منه .
- ونحن كالنحل والأجساد كالشمع ، ولقد خلق " الحق " الأجساد خلية خلية كالشمع

 
عودة إلى حكاية السيد التاجر

 
- لقد طال الأمر بنا ، فتحدث عن السيد ، لنرى ماذا جرى لذلك الرجل الطيب .

 

1825 - فالسيد في ناره وألمه وحرقته ، ظل يتحدث كيفما أتفق على هذا النسق .
- فهو حينا في تناقض ، وحينا في تكبر ، وحينا في ضراعة ، وحينا مفتون بالحقيقة وحينا بالمجاز .
- فالغريق الذي يعاني نزع الروح ، إنما يتعلق بكل عشبة " طافية " .
- منتظرا أيها يأخذ بيده في الخطر ، فهو يضرب بيديه وقدميه خوفا على رأسه .
- والحبيب إنما يحب هذا الاضطراب ، والجهد الذي لا طائل منه أفضل من النوم .


1830 - وذلك الذي سيكون ملكا لا يكون عاطلا ، والشكوى أمر عجيب ممن لا يكون مريضا .
- ومن أجل هذا قال الرحمن يا بنى ، كل يوم هو في شأن .
- فداوم على إزالة العقبات وتحطيمها في هذا الطريق ، وداوم على الجهد حتى النفس الأخير ولا تجلس فارغا .
- حتى النفس الأخير ، فقد يكون في نفس أخير ، أن تكون العناية معك صاحبة سر .


« 183 »

- وكل سعي يُبذل من ذكر أو أنثى ، فإن عين مليك الروح وأذنه تكون مشرفة عليه من الكوة « 1 »

إلقاء التاجر الببغاء خارج القفص وطيران الببغاء الميت
 
1835 - ثم ألقى به بعد ذلك خارج القفص، فطار الببغاء المسكين إلى غصن عال.
- لقد حلق الببغاء الميت طائرا ، وكأنه شمس المشرق تهجم هجوم التركي .
- وتحير السيد في أمر الطائر ، ودون أن يدري أبصر فجأة أسرار الطائر .
- فرفع رأسه وقال : يا عندليب ، أخبرنا عن أحوالك بنصيب .
- ماذا فعل الذي هناك وتعلمت منه ؟ أو تراك مكرت مكرا وألحقت بنا الهزيمة ؟
 
1840 - فقال الببغاء : لقد نصحني بهذا الفعل ، وقال لي : دعك من حلاوة الصوت والوداد .
- ذلك أن صوتك هو الذي أوقعك في السجن ، ونصحني بأن أجعل نفسي ميتا من أجل هذا .
- يعني : يا من صرت مطربا للعامي والخاص ، مت مثلي حتى تجد الخلاص .
- فإن كنت حبة تلتقطك الطيور ، وإن كنت برعمة يقطفك الأطفال .
- فاخف الحبة وكن بأجمعك فخا ، وأخف البرعمة ، وكن نباتا متسلقا على السطوح .
 
1845 - وكل من عرض حسنه في المزاد ، اتجه إليه مائة من قضاء السوء .
- فتنصب على رأسه نظرات الحسد وألوان الغضب والأحقاد مثلما تنصب المياه من القرب .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 790 : - هذا الكلام لا نهاية له يا عماه ، فتحدث ثانية عن قصة الببغاء والتاجر .

 
« 184 »
 
- ويمزقه الأعداء غيرة منهم ، والأصدقاء بدورهم يتلفون أوقاته .
- وذلك الذي كان غافلا عن الغراس والربيع ، أي علم له بقيمة هذه الأيام ؟
- وينبغي الفرار إلى حمى لطف الحق ، لأنه هو الذي صب آلاف الألطاف على الأرواح .
 
1850 - حتى تجد الملجأ ، ويا له من ملجأ آنذاك ، إن الماء والنار كليهما يكونان جيشا لك .
- ألم يصبح البحر عونا لنوح وموسى ؟ ألم يكن قهارا لأعدائهما منتقما منهم ؟
- وألم تكن النار حصنا لإبراهيم حتى حطمت قلب النمرود تحطيما ؟
- وألم يستدع الجبل يحيى إليه ورد مطارديه عنه مشجوجين بالحجارة ؟
- وقال : يا يحيى تعال ، أهرب داخلي ، حتى أكون لك ملجأً من السيف البتار .
 
وداع الببغاء للسيد ثم طيرانه
 
1855 - أسدى إليه نصيحة أو نصيحتين مخلصا ، ثم قال له : سلاما . . . الفراق . « 1 » 
- قال له السيد : إمض في أمان الله ، لقد أبديت لي الآن طريقا جديدا . « 2 » 
- وقال السيد : لتكن هذه النصيحة نصب عيني ، ولأسلك طريقه ، فهو طريق واضح .
- ومتى تكون روحي أقل همة من ببغاء ، وما ينبغي على الروح أن تكون حسنة الخطو .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 797 : - الوداع أيها السيد ، لقد تلطفت معي ، وحررتني من القيد والظلم . 
- الوداع أيها السيد فأنا ذاهب إلى الوطن ، وسوف تصبح ذات يوم حرا مثلي .
( 2 ) ج ، 1 - 797 : - واتجه إلى الهند " موطنه " الأصلي ، ومن بعد الشدة سر قلبه من الفرج .

 
« 185 »
 
مضرة تعظيم الخلق وكون المرء مشارا إليه بالبنان
 
- إن الجسد على شكل القفص ، صار شوكا على الروح قائما بخداع الداخلين والخارجين .
 
1860 - يقول له هذا : لأكن موضعا لأسرارك ، ويقول له ذاك : لا ، إنني شريك لك .
- يقول له هذا : لا مثيل لك في الوجود في الجمال والفضل والإحسان والجود .
- ويقول له ذاك : العالمان كلاهما لك ، وكل أرواحنا آكلة لفتات " مائدة " روحك . « 1 » 
- وعندما يرى هو الخلق ثملين به ، من الكبرياء يضيع من يدي نفسه .
- وهو لا يدرى أن آلافا من أمثاله ، قد ألقى بهم الشيطان في ماء الجدول .
 
1865 - ولطف الدنيا وخداعها لقمة حلوة، فقلل من أكلها ، فهي لقمة ملأى بالنار.
- ونارها مختفية ولذتها ظاهرة ، ومن ثم يتصاعد الدخان منها في نهاية المطاف 
- ولا تقل : متى يخيل على ذلك المديح ؟ إنه يقوله طمعا ، وأنا أفهم ذلك .
- فإذا حدث وهجاك مادحك هذا على الملأ ، لاحترق قلبك عدة أيام من وخز "هجائه".
- ومع أنك تعلم أنه قال ذلك من حرمانك إياه ، ولأن طمعه فيك لم يجد فتيلا .
 
1870 - وأثر ذاك المديح يبقى في داخلك ، وحالتك هذه معيار عند المديح .
- ويبقى هذا الأثر لعدة أيام ، ثم يصبح مادة للكبر ، وخداعا للروح .
- لكنه لا يظهر ، ذلك لأن المدح حلو ، ويظهر الأثر السىء لأن القدح مر .
- مثل الدواء المطبوخ " على هيئة " الحَب الذي تزدرده ، تظل لفترة طويلة في هياج منه وضيق .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 800 : - ذاك يدعوه حينا السرور والهناء ، وهذا يقول له حينا : أنت الشهد والبلسم .

 
« 186 »
 
- وإن أكلت الحلوى تكون لذتها على الفور ، ولا يثبت أثرها على الدوام مثل ذاك الأثر .
 
1875 - وما دام لا يثبت في الظاهر فطنه يثبت في الخفاء ، فاعلم إذن كل ضد من ضده .
- مثل السكر الذي يبقى تأثيره خفيا ، وبعد فترة يؤدي إلى طفح الجلد الذي يطلب المبضع .
- والنفس من كثرة المديح تحولت إلى فرعون ، " كن ذليل النفس هونا لا تسد " « 1 » 
- وكن عبدا ما استطعت ولا تصر سلطانا ، وكن متلقيا للضربات كالكرة ، ولا تصر صولجان .
- وإلا فعندما لا يبقى لك لا ذلك اللطف ولا ذلك الجمال ، يتأتى لرفاقك منك الملال .
 
1880 - وتلك الجماعة التي كانت مقيمة على نفاقك ، عندما تراك تقول : إنه شيطان .
- ويقولون لك جميعا عندما يرونك واقفا ببابك : هل أنت ميت أطل من قبره ؟
- مثل ذلك الأمرد الذي يلقبونه بالسيد ، لكي يلقوا به في الفخ بهذا الخداع .
- وما دامت لحيته قد نبتت في سوء السمعة ، فإن الشيطان من النظر إليه يشعر بالعار .
- والشيطان يتجه إلى الإنسان "للوسوسة" بالشر ، لكنه لا يأتي نحوك ، لأنك أشر.
 
1885 - وطالما أنت إنسان يسرع الشيطان في أثرك ويذيقك من خمره ،
...............................................................
( 1 ) ما بين القوسين بالعربية في المتن .

 
« 187 »
 
- وعندما صرت بطبعك شيطانا راسخا ، فإن الشيطان الرجيم يفر منك .
- وذلك الذي تعلق بطرف ثوبك ، عندما صرت على هذا النحو ، فر منك .
 
تفسير " ما شاء اللّه كان "
 
- لقد قلنا كل هذا ، لكننا عند الاستعداد والسعي ، دون عناية الله هباء منثور .
- ودون عنايات الحق وأولياء الحق ، كل "إمرى" عبد رقيق وإن كان ملكا .«1» 
 
1890 - فيا الله ، يا من أنت من فضلك قاضٍ للحاجات ، إن ذكر من سواك لا يجوز .
- لقد وهبت أنت هذا القدر من الإرشاد ، وبه سترت كثيرا من العيوب .
- وقطرة واحدة منحتها من المعرفة فيما سبق ، أوصلها يا إلهي ببحارك .
- وقطرة العلم الموجودة في روحي ، خلصها من هواء الجسد ومن ترابه .
- وذلك من قبل أن تطمسها هذه الأتربة ، وذلك قبل أن يمتصها هذا الهواء
 
 1895 - مع أنه وإن إمتصها فأنت قادر على أن تستردها منه وتشريها .
- فالقطرة التي إمتصها الهواء أو إنصبت على التراب متى هربت من خزانة قدرتك؟
- فإن ذهبت إلى العدم أو مائة عدم ، عندما تستدعيها تجعل من الرأس قدما .
- ومئات الآلاف من الأضداد تقتل أضدادها ، ثم ينشرها حكمك مرة ثانية .
- ومن غياهب العدم حتى " عالم " الوجود ، في كل لحظة ترد - يا رب - قافلة وراء قافلة . « 2 »
 
 1900 - خاصة في كل ليلة تنعدم كل الأفكار والعقول وتغرق في بحر عميق ! !
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 809 : - يا الله ، أيها القادر بلا كمية ولا كيفية ومطلع على أحوال الظاهر والباطن
( 2 ) ج / 1 - 809 : - ثم تمضي سائرة من الوجود إلى العدم ، تلك القوافل مرة أخرى .


« 188 »
 
- وفي وقت الصبح ، تطل هذه الهبات الربانية برؤوسها من البحر وكأنها الأسماك 
- وفي الخريف ، مئات الآلاف من الفروع والأوراق تمضي منكسرة في بحار الموت .
- وطائر الزاغ قد إكتسى السواد وكأنه النادبة أخذ ينوح في الروضة على ما ذوى من نبات .
- ثم يصدر الأمر للعدم من سيد الوجود : رد ما التهمت .
 
1905 - رد ما التهمت إليها الموت الأسود من نبات وأعشاب . « 1 » 
- فيا أخي ، إصطحب العقل لحظة واحدة ، فمن لحظة إلى لحظة ، في داخلك خريف وربيع .
- وانظر إلى حديقة القلب خضراء طرية نضرة مليئة بالورود والبراعم والسرو والياسمين .
- ومن تكاثف الأوراق إختفت الفروع ، ومن تراكم الورود إختفت الصحارى والقصور .
- وهذه الكلمات الصادرة عن العقل الكلي ، هي أريج تلك الرياض والسنابل وأشجار السرو .
 
1910 - فهل تنسمت ريا الورود حيث لم تكن ورود ، وهل شاهدت جيشان " غوارب " الخمر حيث لم تكن خمر ؟ ! .
- إن الرائحة دليل ومرشد بالنسبة لك ، وهي تقودك حتى الخلد والكوثر .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 809 : - ويا أخي إبتعد لحظة واحدة عن نفسك وعد إلى وعيك واغرق في بحر النور .


« 189 »
 
- والرائحة تكون دواءً للعين صانعة النور ، فمن ريح ارتد يعقوب بصيرا .
- والرائحة النتنة تجعل العين مظلمة ، وريح يوسف يسدى إلى العين العون .
- وأنت لست بيوسف فكن يعقوب ، وكن مثله قرينا للألم والبكاء والحزن . « 1 » 
 
1915 - واستمع إلى هذه النصيحة من الحكيم الغزنوي ، حتى يبث الشباب في جسدك الهرم :
- " للدلال ، ينبغي وجه كالورد ، وما لم يكن لديك لا تحوم حول سوء الطبع ؛ 
- فقبيح أن يكون الدلال من وجه قبيح ، وقاس أن تكون العين العمياء تعاني الألم " « 2 » « 3 » 
- وأمام يوسف لا تتدلل ولا تبد الحسن ، ولا تقم إلا بضراعة يعقوب وآهاته .
- ومعنى الموت من الببغاء كان الضراعة ، ففي الضراعة والفقر اجعل نفسك ميتا 
 
1920 - حتى يقوم نفس عيسى بإحيائك ، ويجعلك مثله طيبا مباركا .
- ومن فصول الربيع متى يصبح سطح حجر أخضر اللون ، فكن ترابا حتى تنبت الورود متعددة الألوان .
- ولسنوات كنت حجرا تخمش القلوب ، فلمحض التجربة ، كن لحظة واحدة ترابا
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 809 : - وما لم تكن شيرين فكن فرهاد ، وما لم تكن ليلى ، فكن ناثرا للتراب كالمجنون
( 2 ) ما بين القوسين من شعر مولانا سنائي الغزنوي دون تصرف .
( 3 ) ج / 1 - 822 : - واستمع إلى هذه الرباعية بالروح والقلب ، حتى تخرج كلية من الماء والطين .
- وانصت إلى نصيحته بالقلب والروح ، واجعل العقل روحا والروح عقلا . 
- وذلك الحكيم الغزنوي شيخ كبير ، وقد قال هذه النصيحة فتعلمها جيدا .

* * *
شرح قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات الهند 

( 1557 ) : القصة التي يبدأ بهذا البيت فيما يرى فروزانفر ( مآخذ / 18 - 19 ) من القصص التي كانت شهيرة في زمن مولانا ، أشار إليها الشاعر الخاقاني في منظومة ( تحفة العراقين ) ورواها أبو الفتوح الرازي في تفسيره لعلاقات سليمان عليه السلام وحكاياته مع الطيور ، كما نظمها فريد الدين العطار في أسرار نامه بشكل يوحى بأنها كانت المصدر المباشر لمولانا جلال الدين . . .
والقصة هنا في موضعها وتتصل بالأبيات السابقة . . . فالببغاء ما دام حيا يغنى كان سجينا في القفص ، وعندما تظاهر بالموت ، نال الخلاص .
 
( 1562 - 1567 ) : يقص الببغاء آلام الفراق - مثل الناى في مقدمة الكتاب ، أو مثل مولانا جلال الدين نفسه في أكثر من موضع من المثنوى ( انظر أوضح مثال في قصة العاشق البخاري الأبيات 3690 - 3701 وشروحها من الكتاب الثالث ) تراه كان مولانا جلال الدين نفسه يحن إلى موطنه على الأرض . . . كانعكاس لحنينه إلى موطنه الأصلي في السماء ؟ ! ! لا يستبعد ، فإن تعبيراته عن سمرقند وبخارى وما وراء النهر موطنه الأصلي تفيض رقة وعذوبة وشوقا ، ومن ثم فالببغاء هنا يتحدث بلسان مولانا والهند هي الموطن الأصلي الذي يحن إليه مولانا والبيت 1574 يذكر بإحدى رباعيات الخيام إذا فعلت السوء وجازيتى بالعقاب فأي فرق إذن بين وبينك ، وإن كان جولبنارلى يرى أنها مدسوسة على الخيام ، وأنها وردت في ديوان فخر الدين العراقي

« 463 »
 
كما استشهد بها شمس الدين التبريزي في مقالاته ( 1 / 200 ) ( 1568 - 1575 ) : لا يزال الببغاء الحبيس يملى رسالته على التاجر المسافر إلى الهند ، ويزيد في وصف شوقه ومسكنته وهو في الحبس ، ويطلب منهم ان يتذكروه في خمر الصباح ، وان يشربوا كأسا على ذكراه عند شربهم من شراب الموطن ، ويهرقوا منها جرعة على الأرض مصداقا لقول الشاعر العربي :شربنا وأهرقنا على الخمر جرعة * وللأرض من كأس الكرام نصيبوتختلط رسالة الببغاء بأنظار صوفية مما يقطع بأن المشتاق هو مولانا جلال الدين ، وأن الشوق قد برح به ، بحيث يصور نفسه بأنه يحتسى الدم ، ويخاطب محبوبا جميلا مدلا : أيجزيه بالفراق على سوء العبودية فأين عفو السيادة ؟ ! ! ويتمنى منه ان يرد ولو بالرد الغليظ ، فإن مجرد سماع الصوت أكثر طربا من السماع الصوفي ومن أنين الصبح . . .
 
( 1576 - 1584 ) : الخطاب لا يمكن إلا أن يكون للمعشوق الأوحد الذي يحلو جوره وجفاؤه لأنه منه ، فنارة نور ، ومأتمه عرس ، وجوره كله ملىء باللذة - أليس - الجور في حد ذاته التفات ؟
ومن لم يرض بنار الحبيب حرمت عليه جنته ، أو كما قال ابن الفارض :وكل أذى في الحب منك إذ بدى * جعلت له شكري مكان شكايتى
وما كل بي من محنة فهو محنة * وقد سلمت من حل عقد عزيمتي
ومنك شقائى بل شقائي منة * وفيك لباس البؤس أسبغ نعمةأو كما قال الشبلي : البلاء هو الغفلة عن البلى . أو كما قال القشيري : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه : النعم الظاهرة المحبة والولاء والنعم الباطنة البلاء ، لأن البلاء يورث الفناء والفناء يورث اللقاء والبقاء ) ( انقروى 1 / 329 ) . ومن هنا فهو عاشق للقهر ، راض من البستان

« 464 »
 
بالشوك ، نائح كالبلبل إن حرم منه ! ! ! اى بلبل ؟ ! ! إن العاشق لا يمكن أن يكون بلبلا ، إنه تمساح ناري يحتمل هذا الجور وأضعافه ويرضى به ، وفي هذا الرضا ينتقل إلى الفناء التام في المعشوق ( انظر مقدمة الترجمة العربية الكتاب الثالث ، البقاء في الفناء ) .
 
( 1585 ) : يرى مولانا العقول الإلهية ( أي الباحثة عن الله سبحانه وتعالى ) بمثابة طيور ذات أجنحة تستطيع الطيران إلى الله ، وتكون جديرة بمعرفته . ويصفها هنا بأجنحة طيور العقول الإلهية ، ولا جدال في أن هذا الوصف هو وصف للشخصيات التي سوف يتحدث عنها فيما بعد ، ويعرفنا بهذا العنوان عن الروح وهي كالببغاء تريد أن تتصل ببغاوات هذا الغيب ، وتفنى حياتها الجزئية في الكل . . . والطيور هي الأرواح العاشقة للحقيقة . . . وقد جرى الحديث عنها وعن حبسها في أقفاص الأجساد عند مولانا وعند كثيرين قبله ( أبو حامد الغزالي وأحمد الغزالي لكل منهما رسالة عن الطير ) وتشبيه الروح بالطائر ورد أيضا في عينية ابن سينا الشهيرة . . . ولها جذور في المأثور العربي . . . والروح هنا جوهر مجرد حلت في الجسد حلولا مؤقتا وبعده تغادره ( شرح فروزانفر ص 628 ) ويرى المولوي ( 1 / 301 ) أن الروح المقصودة هنا هي الروح القدسية وهي مخصوصة بالأنبياء وبعض الأولياء ، فتكون فيها لوائح الغيب وأسرار التجلي ، والطيور الإلهية عبارة عنها ، والعشق والشوق والبكاء والأنين أجنحتها تطير بها من هواء الهوية إلى فضاء الأحدية ، وأدنى مراتبها التفرج في رياض جنات النعيم . أخرج مالك في الموطأ واحمد والنسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم قال « إنما قسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم بعثه " ولو كانت أرواح العشاق بعد في أجسادها لأنها لم تخرج من أبدانها بالموت الحقيقي ، لكنها بفنائها لبشريتها كانت مظهر « موتوا قبل أن تموتوا » ، فبعد موتها المجازى ولو كانت بحسب الظاهر ترى انها أسيرة قفص

« 465 »
 
الوجود الإنسانى لكن حصل لها وسعة بأنه إذا وضع جملة الكون في زاوية بقلبه لمحى وما علم بأي جهة كان » .
 
( 1586 - 1593 ) : يصف مولانا الطيور الإلهية بأنها ضعيفة في الظاهر لكنها ذات قدرة قاهرة في الباطن لا تقل عن قدرة سليمان عليه السلام ، وهي قدرة الحق التي تجلت فيه « فبى يسمع وبي يبطش وإن سألني أعطيه وإن استعان بي أعنته » ، إنه مستجاب الدعوة ، ودعوته مقرونة بلبيك من الله تعالى عند الإجابة ، وزلته أفضل من طاعة العوام ، لان طاعة العوام تقليد ، ولذا قال الشبلي ( طوبى لمن مات في كفره ) لقياس أحواله على المجانين وإلحاقه بهم ( مولوى 1 / 302 ) . . . وهو في معراج إلى الخالق في كل لحظة ، وفي معيته ، متمتع بقربه ، وإن كان جسده فوق التراب ، فإن روحه عند رب الأرباب ، تأتيه الرسائل من اللامكان الذي لا يأتيك منه إلا الأوهام والتصورات ، مما وراء السماوات السبع وفلك الأفلاك . . . لكن ما أقوله كله مجرد خيالات بالنسبة لك ، لكنها واقع محسوس بالنسبة له وتحت سيطرته ، مثلما تكون انهار الجنة الأربعة تحت سيطرة ساكن الجنان .
 
( 1606 - 1612 ) : عن اللفظ الذي يطلق خبط عشواء يتحدث مولانا جلال الدين : رب لفظ أحرق عالما ، ولفظ آخر قد يبوح به شيخ لسالك غير ناضج فيكون فيه هلاكه هو ، ورب لفظ آخر يبوح به لسالك فيحوله من ثعلب متماوت إلى أسد هصور . . . والأرواح من خاصيتها أنها تحيى الموتى مثل عيسى ، لكنها أيضا قد تقتل إن تعلقت بأدران الدنيا ، وران عليها خبثها ، ولو أن الحجاب رفع عنها لكانت محيية على الدوام . على كل حال : حتى إن كان الكلام الذي تريد ان تقوله كالسكر فاصبر . . . ولا تغرنك حلواه فبعد الحلوى تكون الحمى ( هكذا يعتقد الفرس أن أكل الحلوى بكثرة يؤدى إلى رفع الحرارة ) ، فالصبر قوة العارفين ومشتهاهم ومره حلو في أفواههم ،

« 466 »
 
وبالصبر تبلغ ما تريد ، حتى ذروة الفلك ، وإن تسرعت من أجل الحلوى أي من أجل ما يتكشف لك في الطريق تسير القهقرى في الطريق .
 
( 1613 - 1624 ) : البيت المذكور في العنوان ورد في ديوان فريد الدين العطار ( انظر مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا ) في غزلية مطلعها :
أي علم لي بأن هذا البحر الذي لا نهاية له يكون هكذا يتحول بخاره إلى سماء وزبده إلى أرض ( من ديوان فريد الدين العطار ، بتحقيق سعيد نفيسى ، ص 224 ، ط 3 ، تهران 1339 ه . ش ) .
وفكرة صاحب القلب الذي يشرب السم عيانا من الأفكار التي ترد كثيرا عند الصوفية ، من أن صاحب القلب " رجل الطريق ورجل الروح " لا يصيبه أذى مما يصيب الآخرين منه أذى . . .
فجسده تحت سيطرته تماما ، وفي ذلك أيضا إشارة إلى ما روى أنه بعد فتح المدائن حمل إلى عمر ضمن غنائمها قارورة فيها سم ، قيل له أن من شرب نقطة منه مات لتوه ، فحمل خالد بن الوليد القارورة ورفعها إلى فمه قائلًا : « بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ » وشربها ، ولم يصب بسوء ، فهو كما يقول مولانا قد وصل إلى صحته الكاملة ، أما الطالب فهو لا يزال يمرض ويصح ، والرسول صلى الله عليه وسلّم قد أمر الطالب بعدم المراء أمام مطلوبه . . . بل عليه بالطاعة الكاملة ( يشير جولبنارلي 1 / 202 إلى الحديث : لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموهم فاصبروا - والمعنى فيما يبدو بعيد ) الطالب طالب والشيخ شيخ ، واعلم أن في داخلك نفسا هي أشبه بالنمرود ملقى الأنبياء في النار ، فلا تستمع إليها ما دمت لم تصل بعد إلى مقام إبراهيم عليه السلام ، واعلم أن بحار الطريق عميقة تحتاج إلى سباح ماهر ، وأنت أدرى بنفسك ، فإن لم تكن رجل بحر لا تخاطر بإلقاء نفسك فيه ، وأن هناك فرقا بين الكمل الواصلين وبين من لا يزالون في



« 467 »
 
أوّل الطريق ، فالتراب يتحول في يد الكامل إلى ذهب ، والذهب يتحول في يد الناقص إلى تراب ، ويد الكامل هي يد الله « كنت يده التي يبطش بها » قال الشيخ الأكبر ( ولا بد من إثبات عين العبد في الفناء في الله وحينئذ يصح ان يكون الحق سمعه وبصره ولسانه ويده ، نعم قواه وجوارحه بهويته على المعنى الذي يليق به ، وهذه نتيجة قرب النوافل ، وأما قرب الفرائض أن يسمع الحق بك فتكون آلته ( عن مولوى 2 / 306 ) أما يد الناقص فهي يد الشيطان تفسد كل ما تلمسه ، والكامل يستطيع أن يخرج من الجهل ( مما يراه في الجاهلين ) علما ، أما علم الناقص فآلة فساد وإفساد وتخريب " كمصباح في يد لص " . . . وكل شئ أمام المريض يصاب بالمرض .ومن يك ذا فم مر مريض * يرى مرا به الماء الزلالاوالكفر إن سقط في يد الكامل تحول إلى إيمان . . . فحذار لا تتطامن برأسك إلى مستواهم . . .
فما ذا يفعل الراجل إلى جوار الراكب .
 
( 1625 - 1630 ) : موسى والسحرة ، علم النبوة ومعجزة النبوة والسحر ، الفرق بينهما مثل الفرق بين علم الكمل الواصلين ، وعلم الجهال الذين لا يزالون في أول الطريق . ويلتفت مولانا إلى نقطة مهمة أن السحرة قاموا بتعظيم موسى ، فدعوه إلى أن يبدأ هو« قالُوا : يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ : أَلْقُوا »( الأعراف / 115 - 116 ) وهذا القدر اليسير من الاحترام هو الذي قادهم إلى طريق التوبة وإلى طريق الدين وإلى التضحية بأيديهم وأرجلهم ( لتفصيلات أنظر الكتاب الرابع ) .
 
( 1632 - 1641 ) : يتوسل مولانا بمثال آخر لبيان الفرق بين الكامل الواصل والجاهل المبتدىء . فالسمع هو أداة التعلم ، والكامل المتصل بالحق في حكم اللسان ، وعلى من لا يزال في أول الطريق أن يستمع فحسب ، والسالك كالطفل ينبغي أن يسمع أولا حتى يتعلم بعد أن يستمع إلى


« 468 »
 
كثير من الألفاظ ، ويحاول تقليدها ، هذه كلها بدهيات ، أن تأتى البيوت من أبوابها ، أن تتعلم النطق عن طريق السمع ، وثمة كلمات ليست موقوفة على طريق هذا السمع هي كلمات الله سبحانه وتعالى ، فهو المبدع وكل ما هو موجود من إبداعه هو لم يعلمه إياه أستاذ ، وما سوى الله في الحرف وفي المقال في حاجة إلى أستاذ 
( 1642 - 1648 ) : هيا إذن وخذ منى الوسيلة ، إن لم تكن غريبا عن هذا الكلام ، فإن هذا الكلام يؤثر فيك ، وإلا لا فائدة ، تعال إذن وخشن ملبسك ، إلبس الخرقة . . . وإبك . . . فهذه كانت وسيلة أبيك آدم عليه السلام للتوبة عن ذنبه العظيم . . . ( بكى مائتي سنة وامتلأت البحار من دمعه ) ( استعلامى 1 / 199 ) . . . واستمع إلى قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( عينان لا تمسها النار أبدا ، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ) ( جامع 2 / 67 ) ( ولتفصيلات عن قيمة الدمع ، أنظر الكتاب الخامس ، الأبيات 1597 - 1609 وشروحها ) .
 
( 1649 - 1658 ) : النصيحة الثانية في طريق الكمل الواصلين : أطب مطعمك تستجب دعوتك ، والأولى أن تخلى بطنك ، فإن أخليت البطن ملأت القلب ( مولوى 1 / 311 ) ولذائذ الدنيا هي لبن الشيطان تقوى في داخلك الشهوات ، والشهوة مادة كل فتنة ، وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم « أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ، فقال : يا عيسى تجوع تراني . . . تجرد تصل إلىّ » ( منارات / 324 - 325 ) والبيت 1654 ناظر إلى قول سهل بن عبد الله التستري " لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل ، وجعل في الجوع العلم والحكمة " ( منارات / 325 ) . . . وقال صلى الله عليه وسلّم « من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه » ( إحياء 3 / 82 ط الحلبي ) ويصور مولانا أن الطعام الذي ينيم الفكرة ليس زيتا بالنسبة لمصباحنا لكنه ماء ، لكن مولانا لا ينص هنا على الجوع بقدر ما ينص على كون اللقمة حلالا " فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج


« 469 »
 
البحر " كما قال الإمام الغزالي ( إحياء 3 / 86 ) فلقمة الشبهة ظلام للقلب وقيل " من أكل الشبهة أربعين يوما أظلم قلبه ( إحياء 2 / 92 ) وقى البيت 1658 إشارة إلى قول أبى طالب المكي ( قوت القلوب 2 / 195 ) ان ملأ البطن يمنع من الذكر .
 
( 1668 - 1670 ) : يقر التاجر بأنه نقل رسالة الببغاء إلى رفاقه في الهند جهلا ، لكن اللسان أفلت :وجراحات السنان لها إلتيام * ولا يلتام ما جرح اللسانلقد أنطلق السهم ولا فائدة من الندم ، إنها اندفاع العقل والكلام حين يستحب الصمت ( بتعبير سعدى ) ( استعلامى / 1 - 301 ) .
 
( 1671 - 1678 ) : وكل فعل يبدر منا يؤدى إلى فعل آخر ، وكل حركة يقوم بها حرفى تستتبع حركة أخرى . هذه المواليد تتأتى من الغيب ، ولا سيطرة للإنسان عليها وإن نسبت إليه ( انظر 1490 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ولا يزال مولانا في كتابه هذا على الأقل المؤمن المخلص بآراء الأشاعرة ، فالعمل وآثار العمل كلاهما من خلق الله سبحانه وتعالى ويضرب مثلا : فإذا رمى زيدٌ عمر بسهم ، ثم مات لتوه - اى زيد - من الوجل ، ومات عمرو بعده بعام بآثار سهم زيد ، فهل يمكن ان تطلق على زيد صفة المميت ؟ ! وهل يتأتى فعلٌ من ميت ؟ ! ومن ثم فكل عمل يمارسه الإنسان مولود من قدرة الحق .
 
( 1679 - 1687 ) : وأولياء الحق تتجلى فيهم قدرة الحق ، ومن ثم تصدر منهم أفعال لا توزن بموازين هذا العالم المادي ، فإذا كانت الأفعال من الحق فكيف تكون لها علاقة بموازين هذا العالم الدنيوي ؟ لكن لو أن قدرة الله صرفت النظر عن إيجادها تستطيع أن يسيطر على بواطن المريدين بقوة المشايخ والرجال الكمل ، فيمحى ما قد قالوه وسمعه المريد من خاطر المريد ، والله سبحانه

« 470 »
 
وتعالى قال في كتابه العزيز «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» ( البقرة / 106 ) وقال «أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» ( المؤمنون / 110 ) فإذا كان قد أسند فعل النسيان إلى غيره ممن لم يصل إلى درجة من الكمال فما بالك بالمؤمنين والمشايخ وأولياء الله ؟ ! قال الشيخ الأكبر : من جلس مع الصوفية وخالفهم في شئ مما يتحققون به نزع الله الإيمان من قلبه ، ويعلق المولوي ( 1 / 316 ) ما كان هذا النزع إلا بتصريف الله أولياءه في قلوب عباده .
 
( 1688 - 1690 ) : وصاحب القدرة المادية مالك على أجساد الرعية ، أما صاحب القلب فهو مسيطر على القلوب ، وهو صاحب قلب ببصيرته النافذة المسيطرة ( أنظر البيت 1337 و 1416 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ويعلق مولانا بأن الأمر ما دام رؤية فليس جديرا بقلب الإنسان إلا إنسان العين على صغره ودقته ، وفي بيت من الأبيات التي زادها جعفري : إن الناس يرون صاحب القلب صغيرا كإنسان العين في حسن انه يرى عالما ( ج 1 / 726 ) وانظر هوامش النص ) وينقل أستاذنا كفافى عن ابن العربى في شأن الإنسان " وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر المعبر عنه بالبصر ، فهذا اسمى إنسانا ، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم ) ( كفافى 1 / 509 ) ويتوقف مولانا عند هذا الحد ، فبعده لن يستطيع أن يفصح ، إذ يمنعه أصحاب الصدارة ، وأصحاب الصدارة هنا قد تعنى كبار المشايخ الذين حذروا من البوح بالأسرار أمام غير أهلها ، أو أصحاب الصدارة من أرباب السلطان الذين يترصدون المشايخ ويأخذونهم بأقوالهم التي يفهمونها على ظاهرها ( انظر 1416 - 1417 من الكتاب الذي بين أيدينا ) .
 
( 1691 - 1700 ) : ذكر الإنسان ونسيانه من لدن الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة الكمل من الرجال بواسطة مباشرة ، وفي هذا يقول ابن العربى " يتجلى الحق لمرآة قلب الولي الكامل فتنعكس الأنوار من قلبه إلى العالم ، فيكون العالم باقيا محفوظا بوصول ذلك القصد إليه ، فلا يجسر أحد من


« 471 »
 
العالم على فتح الخزانة الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل ، لأنه هو صاحب الاسم الأعظم ولا يخرج من الباطن إلى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه ، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شئ إلا بأمره ، وإن كان يجهله أحيانا عند تجلية البشرية عليه ( انقروى 1 / 348 ) بواسطة مباشرة ، إذ يفرغ أوعية القلوب كل ليلة من مئات الأفكار والفكر والذكر والمشاغل والحرف والتفكير في النفع والضر ( انظر الأبيات 390 - 392 من الكتاب الذي بين أيدينا ) أي يفرغها مما يشغلها طوال النهار من هموم ومشاغل ، هذا هو النسيان ، ثم تعود كل حرفة وكل فن وكل هم إلى صاحبه بمجيء النهار ، . ولأن النوم هو أخ الموت أو الموت الأصغر فقس أحوال القيامة على ذلك " الناس كما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون " و " يبعث المرء على ما مات عليه " . . .
ويضيف مولانا أن الحرف والصنائع تعود إلى أهلها في الصباح ، بما زاد عليها في منتجعها . . .
وهي فكرة ذات دلالة عظيمة ، فإن كل صباح تضاف إلى أرباب الحرف والفنون خبرة فوق خبرة . . . فمن أين جاءت إذن ؟ ! ! 
 
( 1710 - 1714 ) : اللسان جامع المتضادات : فهو بيدر للذكر والعبادات وهو أيضا بز لله حارق لهذا البيدر ، إنه الكنز ( تحت العرش كنز مفاتيحه ألسنة الشعراء ) وهو أيضا الألم الذي لا دواء له ، " ولا يلتام ما جرح اللسان " وهو أيضا الصفير الذي يخدع به الصياد الطيور ! ! ولذا قال الإمام علي رضي الله عنه " ما سلامة الإنسان إلا في حفظ اللسان " واللسان صغير الجرم كبير الجُرم ، والبلاء موكل بالمنطق ( انقروى 1 / 352 ) فكيف الأمان منك أيها اللسان وأنت نفسك بلا أمان ؟ ! ! إن الروح تستمع إلى الكلام منك ، ولذلك فهي في تعب دائم من جرائك - وها أنت والكلام على لسان التاجر - قد ضيعت منى طائرى ، فهل ثم ظلم تلحقه بي افدح من هذا الظلم ؟ ! 
 
( 1715 - 1721 ) التفجع ليس من أجل الببغاء الذي مات في الهند ( أو على الأصح تظاهر


« 472 »
 
بالموت ) أو ببغاء التاجر الذي تظاهر بالموت أيضا عند سماعه بنبأ موت أليفه في الهند ، فمن الواضح أن مولانا ترك التاجر وطائره وانهمك في الحديث عن طيره هو . عن الروح ، المعشوق والسبيل إلى المعشوق ، الغاية والوسيلة والآلة ! ! ثم أنين الروح نفسها حين بست في هذا القفص الجاهل عاشق الكدح والذي كتب عليها الكدح إلى الأبد " لا أقسم بهذا البلد ، وأنت بهذا حل بهذا البيت ، ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد " وكتب عليها أيضا أن تعاني الكدح في هذا السجن ( القفص ، المزبلة ، جوال الطين ) وعند غيابها يزداد كبد الإنسان وتعبه وتتفرق به الأودية والمسالك فلا يبالي في أيها هلك .
 
( 1722 - 1732 ) : إن هذه التفجعات التي يطلقها هي في الحقيقة انعكاس لغيرة الحق على أسراره من أن تتعرض للبوح ووشيكا سنتعرض لحديث الغيرة . لأن مولانا هنا فسر الغيرة الإلهية بأنها قائمة لأنه " غير " الجميع فالغيرة جزء من " الغيرية " ويتضح المعنى أكثر وأكثر كلما توغل مولانا في وجده وازداد تدفقه ، إن الحديث عن طائر الروح طائر المبدء وطائر المعاد ، وحى الحق ونفثته ، ونفسه الساري في أكرم المخلوقات ، ترجمان الفكر وترجمان الأسرار ، ثم إنه موجود في كل باطن ، مختف في الداخل وكل ما تراه في هذا وذاك هو في الحقيقة انعكاس له ( إنما ترى نفسك في الآخرين ) ، يسلب منك السرور الفاني بتذكيره إياك في كل لحظة ومع ذلك تكون مسروراً به ، ويجعلك تشق على نفسك وتقف في طريق شهواتك ، ومع ذلك تقبل ذلك منه .
وأنت يا من كنت تضحى بالروح لكي تزين الجسد ، أنظر إلى أنا المحترق أترى تريد محترقا ؟ ! ! ولم ؟ ! ! ألكى تضرم به النار في كل الدنيا ؟ ! ! ألست ترى الدنيا برمتها محترقة ؟ ! ! إذن فكيف تطلب نارا أخرى ؟ ! ! 
 
( 1733 - 1739 ) : لا يزال مولانا في وجده الذي يتصاعد بيتا بعد بيت بحيث نسي التاجر

« 473 »
 
والببغاء والهند والسند وغيرها وغيرها ، ربما - والتعليق هنا لفروزانفر - ذكره العشق بشمس الدين ذلك القمر الذي اختفى خلف السحاب ( عن استعلامى / 1 - 305 ) لقد ظهر أسد الهجر ، وانتهى الأمر فكيف يكون ثمة حديث ؟ وإذا كان لا يتحمل الفراق في حال صحوه ؟ فكيف يكون في حال سكره ؟ اى مجال يحتويه ؟ أي مرج وهو أسد ثمل يعز عن الوصف ؟ أي شعر ؟ وهل ثم عقل في أن يفكر في القوافي ؟ وهل ثم وعى حتى يفكر في انتقاء الألفاظ ؟ ما أشبه هذه الألفاظ بسور شوكي حول كرمة . . . أترى هناك اى اتصال بين السور الشوكي وبين الكرمة ؟
 
( 1740 - 1745 ) : فلأحطم اللفظ والصوت والقول ، فما أريد أن أقوله لا يستوعبه لفظ أو صوت أو قول ، وما أريد أن أحدثك به جد خطير ، فهو حديث أخفيته عن آدم ، أخصك به أنت لأنك أسرار العالم ، وهو الحديث الذي لم أبثه للخليل في محنته ، بحزنك هذا وتوقك للمعرفة أيها الإنسان وهو ذلك الحزن وذلك الشوق الذي لم تعرفه الملائكة ، وذلك النفس الذي لم يتحدث به المسيح ولم يتحدث إليه به الحق غيره على أسراره المكنونة ، إلا أن مولانا لم يتحدث إلينا بهذا الذي وعد به لينصرف بعدها إلى مبحث لغوى عن وظيفة " ما " في اللغة كنفي وإثبات ، ليخلص منه إلى أن الإنسان أيضا بقاء وفناء ، وفناء في البقاء ، فإن كان ثم إثبات في اللفظ فالحقيقة تقول إنني فناء .
 
( 1746 - 1752 ) : العبودية هي التي تعطى معنى للملوكية ، العاشق مهم أهمية المعشوق ومن فُنى فيه يبحث عمن يفنى فيه ، والملك لا يزال يقرب من يبدي له الخضوع وهو أيضا نوع من الخضوع ، وكل الخلق يشعرون بالمحبة لمن يحبونهم ، فهم ثملون بمحبة الخلق لهم مثلما يثمل الخلق بمحبتهم ، والصياد لكي يصيد الطيور يجعل من نفسه صيدا لهم من البداية ، وكيف تكون هناك حسناء تشعر بحسنها دون ان يكون حولها كثير من العاشقين . أنت الصياد والصيد ، وهكذا

« 474 »
 
فالعشق شعور متبادل العاشق معشوق والمعشوق عاشق لعاشقه " يحبهم ويحبونه " فقدم حبه لهم على حبهم له وقال في الحديث القدسي « ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا أشد لهم شوقا » ( انقروى / 1 - 360 ) . ويقدم مولانا هذه الصورة : كما يطلب الظامئون الماء فإن الماء يطلب الظامئين بدوره ، فكيف تتحقق له " المائية " دون ظاميئين خلفه ( تكرر البيت في الكتاب الثالث ، البيت 1401 ويفصل الفكرة تفصيلا شديدا في الأبيات 4399 - 4423 من الكتاب الثالث ، وانظر أيضا مقدمة الترجمة العربية ص ص 27 - 29 ) فإذا كان قد ثبت انه أيضا عاشق لك ما دمت أنت عاشقا له ، فأصمت إذن ودعه يجرك ويجذبك وكن كلك أذنا .
 
( 1753 - 1761 ) : ضع سدا من الصمت أمام هذا السيل المتدفق من الكلام وإلا فضحك ودمرك ، لكن ما الحيلة والكنز في الخرابات والغارق في بحر عشق الحق لا يقنع ولا يرتوى ، بل يريد أن يزداد غرقا ، لا يهمه أن يكون صاعدا هابطا ، في قاع البحر أو على سطحه ، ممزقا بسهمه أو محميا بدرعه وحفظه ، منبسطا بطربه أو ممزقا ببلائه ، وأنت أيها القلب كريشة في فلاة تلعب بها الريح فما مرادك هنا ؟ فمتى يكون للعاشق مراد ؟ وكل نجم يتجلى من الحبيب ( بارقة فكر ) فداؤها مائة بدر ( مائة رجل كامل ) ، والعالم كله فداء للحبيب ، فهو القاتل وهو الدية ( من عشقنى عشقته ومن عشقته قتلته ومن قتلته فأنا ديته ) ( حديث قدسي ، أستعلامى 1 / 307 ) ، وحياة العشاق في موتهم ( بقاؤهم في فنائهم )من مات عشقا فليمت هكذا * لا خير في عشق بلا موتوحياة القلب في ان يكون مسلوبا له .
 
( 1762 - 1765 ) : إنني لا أزال ابحث عن رضا الحبيب ، أواجه بصده ولا يثنينى هذا عن حبه ، لكنه يتدلل على إنه يرى عزة العقل والروح في حبه هراء ، فلا يزال في نفس يتردد وعرق

« 475 »
 
ينبض - والموت هو الثمن - ( انظر حكاية في هذا المعنى في الكتاب الخامس الأبيات 1244 - 1259 وشروحها ) . . . ما هذا ؟ ! هل تطيل الحديث عن بلائك في العشق ؟ ! أي ادعاء هذا يدل على تقل الروح وانعدام الحس ؟ وهل تحسب العشق أمر هيناً لأنك مُنحته دون ان تبذل فيه شئ يذكر مهما تقول أنك بذلت ؟
 
( 1767 - 1772 ) : كل هذا وأنا غارق في عشق كالبحر يغرق فيه عشق الأولين والآخرين ، وكل ما أقوله عنه مهما فصلت قاصر لايبين عن شئ ، كل ما يقال عن العشق من شرح وبيان أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه ، ولو أبنت لاحترقت الأفهام واحترقت الألسنه ، ودعك من ظاهر أقوالي فإن قلت ساحل أو شفه فأنا اقصد ساحل بحر الأسرار الإلهية ، وان تحدثت بالنفي فإنما اقصد الإثبات ، وإن عبست فإنما افعل ذلك لأصرف الناس عن شغلى عن اللذة التي أحس بها في داخلي ، وإن صمت فمن كثرة ما لدى من أقوال مما لا يستطيع العوام فهمه أو إدراكه .
 
( 1773 - 1782 ) : البيت في العنوان منقول من ديوان سنائى ( ص 51 ، من طبعة مدرس رضوى ) وموضع الاستشهاد واضح ، ما يصدك عن طريق الحبيب وعن عشق الحبيب يستوى فيه الكفر والإيمان والقبيح والحسن ، فلا يشغلنك شيىء عنه ، والله غيور على حرمه ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وسعد المذكور في النص هو سعد بن معاذ ( انظر للإسناد أحاديث مثنوى ص 18 ) فالغيرة من الحق هي علامة الكبرياء والحكم والأمر ، وأية عبودية دون العشق بمثابة الكفر ، وأي تعبير عن هذه العبودية بغير العشق ضلال ، وأن تكون مجتبى من الإله مرزوقا بالعشق مجالا للحب مكرما باللب مسلوبا للقلب ، ثم تمضي إلى مظاهر العبادة فهو شين لا يليق بك ، وقد أعزك ورفعك ، فكيف تذل نفسك ؟ ومن ترجو بمظاهر الإيمان سواه وهو أدرى بإيمانك ، وأية درجة تريدها فوق الدرجة التي أرادها لك ؟ هذه هي غيرة الإله أن يوضع عزه في

« 476 »
 
غير موضعه ، وأن يختار المعزز به الذلة ، يقنع بالرائحة بعد المشاهدة ، غيرة الحق هي غيرة الاصطفاء ، وسواها غيرة على عرض من أعراض الدنيا .
 
( 1783 - 1792 ) : المعشوق ذو العشرة قلوب هو المعشوق كثير العاشقين ، ولأشكُ . . . لا . .
إنني أئن فحسب ، فإن هذه الحسناء تحب أن تسمع أنينى ( الحبيب سعيدٌ بأنات الساهرين ) ( حافظ الشيرازي عن استعلامى / 1 - 306 ) إنني في حلقة السكارى ولست في حلقة الواصلين ، فكيف لا أئن ؟ وأنا في ليل هجر فراقها محروم من وصالها فكيف لا أئن ؟ لكن هذا هو سر عشقى وأنا به راض ، فهذا الدمع در ، وتراب الغم كحل ، ولست اشكو من روح الروح بل أبوح ، وأنا اضحك من شكوى قلبي وأراها دليلا على نفاقه ، فما أنا متأكد منه انه سعيد في هذا العذاب راض به مستريح إليه .
 
( 1793 - 1804 ) : فخر المستقيمين كما يدل السياق هو القلب والخطاب واضح السخرية ، فكيف تلتوى هذا الالتواء ( تتظاهر بالشكوى وأنت سعيد ) وأنت صدر المعاني وموئلها ؟ وما العتبة وما الصدر هنا ؟ وما العلوا وما الدنو ؟ وما نحن وما أنا ؟ أيتها اللطيفة الروحية الموجودة عند كل الخلق من رجال ونساء ، وعندما تتحد هذه التعينات ، فالحقيقة الواحدة هي أنت وإنما خلقت الخلق لكي يعرفوك " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " اى ليعرفون و " كنت كنزا مخفيا فأحببت ان أعرف فخلقت الخلق فبى عرفوني " وكل الخليقة من أجل العشق ، من أجل ان تصير أنا وأنت واحدا ، من أجل العودة " إنا إليه راجعون " ، لكن كل هذا في انتظار أمر " كن " فتعال يا منزها عن الخطاب وعن القول فلست في حاجة إليها منا ، وإدراكك لا يتم بالإبصار « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » وهل يطوف في خيال تقليبك للقلب بين الحزن والسرور ؟ وهل القلب الذي تتقلب بين الحزن والسرور جديرٌ حقا برؤيتك . . . وهو ليس ثابتا على
 
« 477 »
 
عطائك راضيا مسرورا ببلائك ؟ ! وأليس عالم العشاق حديقة دائمة النضرة مليئة بالثمار اللدنية غير هذا الحزن والسرور وهما من امارت الدنيا ؟ ! آثمة حزن وسرور في العشق وهو أعلى منهما ؟ ! 
( 1805 - 1812 ) : القلوب التي مزقت إربا هي القلوب العاشقة ( انظر البيت رقم 3 من الكتاب الذي بين أيدينا ) فجد عليها أيها الحسن بزكاة جمالك ، فإن عينك الفاتنة تسم قلبي كل لحظة بجرح جديد وتؤجج في قلبي لهيب الشوق . . . فأجمل . . . وأقتل . . . واسفك الدم بدلا من هذا العذاب المتأجج المتجدد . . . لقد قلت لك مرارا دمى حلال لك . . . فإلى متى . . . إلى متى يظل المخلوق من تراب محزونا من فراقك . . . باكيا من الشوق إليك ؟ ! ! 
( يفسر المولوي هذه التساؤلات انها ليست على سبيل الإنكار بل لان مولانا في حال السكر - مولوى 1 / 336 ) ويستمر مولانا في مناجاته : يا من كل صبح أطل على هذا العالم وجدك فياضا مهتاجا مثل عين المشرق ( ثانية رمز الشمس ، أنظر الأبيات 120 - 125 من الكتاب الذي بين أيدينا ) أية حجج تسوقها في هذا الدلال ؟ ! ألا فلتستمع إلى أناتنا هذه المنطلقة من الأجساد لا من الأرواح والقلوب التي لا يصح بلا ان تئن وتتوجع . . . ودعك بحق الله من الحديث عن الجمال ( الورود ) وتحدث عن المعذب بهذا الجمال ( البلبل ) ! ! 
 
( 1813 - 1816 ) : يترك مولانا حال المعشوق ليعود إلى الحديث عن حال العاشق . . . لقد تحدث فيما سبق عن الحزن والسرور وارتباطهما بأمور الدنيا ، ثم يعود هنا فيقول ان أحوال العشاق ليست من الحزن والسرور أو الإشباع والحرمان أو النفع والضر وهي أيضا ليست نتيجة للوهم والخيال ، هي أحوال أخرى نادرا ما تحدث وليست قابلة للوصف ، لكنها لا تعزب عن قدرة الله تعالى ، فالجور والإحسان والحزن والسرور كلها أوصاف حادثة ، ولا يجوز ان تستخدم في
 
« 478 »
 
علاقة مع الحي الذي لا يموت والذي يرث الأرض ومن عليها .
 
( 1817 - 1824 ) : ها قد أتى الصباح . . . فانصرف يا حسن حسام الدين وامتنع عن مواصلة إملاء الكتاب المثنوى عليه ، وأنت المسيطر على العقل الكلى ، والمسيطر على الروح تصرفها أنى تشاء ، ذلك أنك روح الروح وأنت ضياء القلب ( المرجان ) . . . فها هو نور الصبح قد أشرق . . .
وصبوحنا من التوحيد ( خمر الحسين بن منصور الحلاج ) . . . وإذا كانت خمر عطاياك وتوحيدك ونورك تهبناكل هذا الغليان . . . فأي خمر دنيوية هذه حتى تشعرنى بالطرب ؟ ! إن الخمر لتسكر بنا ، والفلك أسير لعقولنا ، والجسد جسد بأرواحنا ( وإلا كان جثة ) . . . وحلاوة الروح كالعسل ، ونحن كالشمع ، وأجسادنا صورت كأنها خلايا النحل . . . ( الأصل في البيولوجيا الحديثة الخلية ! ! ) ( 1825 - 1834 ) : عودة إلى حكاية التاجر الذي تتوالى عليه الأحوال فيتخذ طبقا لها المواقف . . . 
حينا يكون في مقام الفخر ، وحينا في مقام المسكنة والضراعة ، وحينا يغرق في بحار الحقيقة ويستنبط الحكم مما جرى ( يحاول مولانا ان يوحى بأن كل ما ساقه في الأبيات السابقة قد جرى في الحقيقة على لسان التاجر ) . . . انه أشبه بالغريق ( والغريق يتشبث بكل حشيش ) انه يضرب بيديه وقدميه . . . 
فلعله ينجو ( المعنى من حديقة سنائى ) وهذا ما يريده الله منك تماما : أن تحاول ، وأن تجتهد ، والملك لا يكون عاطلا ، فالملك هو ابن آدم فهو ابن الخليفة . . . ( التعبير من حديقة سنائى أيضاً ) واعلم أن «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» ( الرحمن / 29 ) 
ومن يدرى قد تكون نجاتك موكلة إلى النفس الآخر واعبد ربك حتى يأتيك اليقين . . . قال نجم الدين كبرى : لأن حقيقة اليقين المعرفة ولا نهاية لمقامات المعرفة . فقط كن في الطريق . . . 
واعمل جاهدا «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» والله سبحانه وتعالى « لا يضيعأَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» .
 
« 479 »
 
( 1837 - 1848 ) : أدرك التاجر فجأة أن الببغاء الذي كان قد سقط ميتا في الهند إنما كان يتماوت في الحقيقة ، وأنه أرسل بذلك رسالة إلى الببغاء المقيم عنده يقول له : تريد النجاة مت قبل أن تموت ، دعك من التظاهر ، فما قيمة كل ما عندك من ميزات ؟ ما دامت ميزاتك هذه هي التي توردك موارد الهلاك ، إن كنت حبا يلتقطك الطيور ، وإن كنت برعمة يقطفك الأطفال ، لا تعرض حسنك في المزاد وإلا أصابك قضاء السوء ( انظر الأبيات 208 - 212 وشروحها من الكتاب الذي بين أيدينا ) . . . الأعداء يتربصون بك ، . . . والأصدقاء يلتفون حولك ويتلقون وقتك العزيز الشريف ، ويبعدونك عن صحبة الحق ، فيضيع ربيع العمر وأوان العمل دون غراس تغرسه ينفعك في خريف العمر وإدبار الأيام .
 
( 1849 - 1854 ) : إنما ينبغي الفرار إلى حمى الحق " ففروا إلى الله " فإن الله هو الذي يهبك الملجأ والملاذ من الأصدقاء ومن الأعداء على السواء ، وإن إصطفاك الله وكان لك الملجأ والملاذ والأنس ، فإنه يجعل الكون كله في خدمتك ، مثلما جعل الطوفان في خدمة نوح عليه السلام والبحر في خدمة موسى عليه السلام حين لم ينصرهما الخلق ، وجعل النار قلعة وحمى لإبراهيم عليه السلام ، وجعل الجبل نصيرا ليحيى عليه السلام من أعدائه ، ورد كيد خصومه إلى نحورهم . ( رواية حماية الجبل مذكورة في شأن إلياس عليه السلام وليس يحيى . أنظر قصص الأنبياء للثعلبي ط . 4 القاهرة 1954 ص 255 . ) 
 
( 1859 - 1877 ) : بوحي أيضا من قصة الببغاء الذي أراده جماله وحلاوة صوته ، وحبساه في القفص كما تحبس الروح داخل قفص الجسد ، ومن ثم كان الملامتية من الصوفية يتجنبون الشهرة " فالولي لا يكون مشهورا " ، وقال بعضهم " بل لا يكون مستورا " لأن في ستره نوعا من حبس القدوة ، على كل حال فإن مولانا يحذر في مواضع عديدة من المثنوي من مضار الشهرة ، وآفة
 
« 480 »
 
تعظيم الخلق ومدحهم ، فإن هذا هو بذور الكبرياء ، وشباك الشيطان ، وبداية البعد عن الطريق ، وتتجلى كل هذه المعاني عندما يتحدث مولانا عن فرعون ( أنظر الكتاب الثالث الأبيات : 778 - 781 و 1556 - 1558 وشروحها ) . . 
وهذا كله يكون من تلطف الدنيا معك ، ولطغها يكون لقمة حلوة ، لكنها لقمة نارية تحرق جوفك وترديك ، لذتها هي الظاهرة في بداية الأمر ، لكن نارها خفية ، سرعان ما تفتضح ويرتفع دخانها تنفجا منك وكبرياء وتصديقا لأقوال الخلق وغربة عن نفسك وجهلا بها ، فالكبرياء تنين ، والتنين لا يعيش إلا في النار ، وقال ابن الفارض :
وأحملني وهنا خضوعي لهم فلم * يزدني هوانا بي محلا لخدمتي
ومن درجات العز أمسيت مخلدا * إلى دركات الذل من بعد نخوتي
( أنقروي / 1 - 381 ) وهذا المعني وارد برمته في مقالات شمس ( ص 139 ) " أقول لك الخلاصة في كلمة واحدة ، هؤلاء القوم يرضون قلوبهم بالنفاق ويحزنون من الصدق ، قلت له : أنت رجل عظيم ، وأنت وحيد عصرك ، فسر وأخذ بيدي وقال : كنت مشتاقا لك ومقصرا في حقك ، بينما خدمته بالصدق في السنة الماضية فصار خصما لي وعدوا . عجبا ! ! أليس كذلك ؟ 
ينبغي العيش بين الناس بالنفاق ، حتى تصبح سعيدا بينهم ، وبمجرد أن تبدأ في قول الصدق ، عليك بالخروج إلى الجبل والصحراء ، فليس لك طريق بين الناس " إياك أن تتظاهر إذن بأن هذا المديح لا يهمك ، وأنك لا تحتاج إليه ، وأنك فاهم أن من يمدحونك إنما يمدحونك طمعا أو خوفا ، وأن نفسك محصنة ضد المدح ، فلو هجاك نفس مادحك ، لاحترق قلبك غضبا ولأضرمت داخلك النيران ، ولقلت أنه يهجوك لأنك رددت طمعه بالحرمان ، هذه هي طبيعة الإنسان ، قد لا تظهر عليك آثار المدح ، لكن آثار الذم تظهر عليك ، لأن المدح حلو والذم مر ، وإن شربت الدواء المر تضيق ، وإن أكلت
 
« 481 »
 
الحلوى تحس بحلاوتها على الفور ، مع أن الدواء يأتي لك بالشفاء ، والحلوى تأتيك بالحمى والبثور ، فاعرف الشيء من ضده ، واعرفه أيضا بآثاره ، والنفس من كثرة المديح تتحول إلى فرعون ، والرسول صلى اللّه عليه وسلّم قال لأحدهم يمدح آخر في غيابه " ويحك ، قصمت ظهره ، لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة " وقال عمر رضى اللّه عنه " المدح وافد الكبر " ( عن شرح فروزانفر صص 731 - 732 ) 
 
( 1878 - 1887 ) : ولا حل إلا أن تكون عبدا ، أن تشعر بعظمة الله مهما بلغت أنت من عظمة ، ألا تتوق إلى السيادة والسيطرة ، أن تصبح مجهولا لا يعرفك أحد ، متحملا للضربات كأنك الكرة من الصولجان ، : فرب أشعث أغبر تزدريه العيون مجهول من الناس ولو أقسم على الله لأبره " واعلم أن نهاية المديح معروفة ، ونهاية الشهرة معروفة ، فكم من مشهور انصرف الناس عنه وأنكروه وضاقوا به وملوه بعد انقضاء شهرته ، ومن أحبك لشيء كرهك عند زواله ، ومديح الناس فخ ، يضفي على الإنسان ما ليس فيه ، يجعل من المملوك سلطانا ، ومن الخصي سيدا ، ومن تربى في جو الخصيان وجد فيه الشيطان مرتعا خصبا ، ثم انصرف الشيطان نفسه عنه وشعر منه بالعار "كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ ، قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ" ( الحشر / 16 ) ( أنظر أيضا الكتاب الثالث الأبيات : 4039 - 4055 وشروحها ) .
 
( 1888 - 1897 ) : لكنها على كل حال مشيئتك يا إلهي ، تجريها على عبادك وإن كانوا كارهين ، وما شئت يا إلهي يكون ، وكلنا مهما بلغنا من سلطان عبيد أرقاء لسلطانك ( في الكتاب الخامس الأبيات : 3113 - 3128 تفسير آخر لمعنى ما شاء الله كان يدعو إلى العمل لا إلى كسل الجبر ) ويواصل مولانا مناجاته : لقد أوحيت لنا بهذا القدر من الإرشاد ، لكنه على كل حال قطرة من
 
« 482 »
 
محيط علمك ، فأوصلها بالبحر ، وخلصها من كدر الجسد ، ومن تشرب التراب ، أليست كل قطرة يشربها التراب تعود ثانية إليك ، تخلصها مما علق بها من أدران ثم تعيدها طاهرة إلينا ؟
( لتفصيل هذه الفكرة أنظر الكتاب الخامس الأبيات : 201 - 225 وشروحها ) .
 
( 1898 - 1905 ) : لا شيء يعدم ، فالعدم هو خزانة الوجود ، والوجود هو موضع تجل العدم ، وفيك كل لحظة موت وحياة أو موت وبعث ، وفي الليل تنعدم كل أفكارك ثم تعود إليك في الصباح ، فإلى أين تذهب ؟ تمضي عنك الحرف والفنون ثم تعود إليك ، فإلى أين تمضي ؟ العالم كله أمامك في خلق ثم موت بعث ، قوافل تترى في أثر قوافل ، خريف يلتهم كل شيء ، ثم ربيع يحيي به الله الأرض بعد موتها . ( المعنى وارد في معارف بهاء ولد : كل ما مضى يعود .
ص . 272 ) .
 
( 1906 - 1911 ) : فأعمل العقل ، وانظر إلى داخلك ، فما يفعله الله في الكون من حولك ، يفعله أيضا داخلك ، تتبع كل أفكارك وخواطرك ، وحديقة قلبك ، تراها دائما نضرة حية ندية ، لا ينقطع عنها الفكر إلا بالموت ، وهذه الكلمات التي تفوه بها ، وتتأنق في جعلها حلوة سلسة ، جميلة ريانة ، هي مجرد عبير من تلك الرياض والسنابل ، فهل يفيض الإنسان بغير ما في داخله ؟ نعم . . . هي مجرد عبير من الفيض الإلهي الأول " العقل الكلي " ، تستطيع أن تفهم إذن أن تيار الحياة والساري في الوجود يسري أيضا داخلك ، وأنك مظهرٌ للفيض وأنك تستطيع أن تتبع هذا التيار الجزئي " العبير ، الرائحة " لتصل إلى أصله ومعدنه وحقيقته وبحره ومنبعه .
 
( 1912 - 1922 ) : ألم تكن رائحة القميص " بشرى الوصال " علاجا لعين يعقوب عليه السلام من قبل الوصال ؟ هذه الكلمات هي أيضا بمثابة الرائحة تقودك إلى حانوت الوحدة وإلى نهر الجنة .
وإذا لم تكن يوسف في جمالك ، فكن يعقوب في بكائك وضراعتك وإتجاهك إلى الله وشكوى بثك

 
« 483 »
 
وحزنك ، فكما قال الحكيم الغزنوي سنائي ( ديوان : ص 851 ) مع قبحك لا يجمل بك الدلال ، مثلما يكون الألم من العين الرمداء ، فكن جميلا ثم تدلل ، وكن مبصرا ثم تألم ، ولا تتظاهر أمام مرشدك ، ولا تبد الحسن أمام معدن الحسن ، فأين حسنك المستعار المؤقت من حسنه الأزلي الأبدي ؟ وكن ميتا عن آمالك ورغباتك ، وأمام مرشدك كن كالميت بين يدي الغسال ، حتى يحييك بإرشاداته وكلماته وفيضه ، وكن ترابا ينبت عليك النبات ، ولا تكن حجرا صلدا قحلا لا تجود ، فحتى من الحجارة تتفجر الأنهار ، أتراك ترضى أن تصبح بكبريائك وتجبرك أقسى من الحجر الصلد ؟
 .
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: