الخميس، 27 أغسطس 2020

07 -  صفة بعض الأولياء الراضين بالأحكام فلا يدعون ولا يشكون .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

07 - صفة بعض الأولياء الراضين بالأحكام فلا يدعون ولا يشكون .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

 صفة بعض الأولياء الراضين بالأحكام فلا يدعون ولا يشكون .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

صفة بعض الأولياء الراضين بالأحكام فلا يدعون 
ولا يشكون قائلين : ارفع عنا هذه الأحكام
1880 - استمع الآن إلي قصة أولئك السالكين الذين لا اعتراض عندهم في هذه الدنيا .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 407 : وما دام يهبك النور دون عين ، ويكون هذا العمي كعين مبصرة .
  
“ 173 “
 
- وهم غير أولئك الأولياء أهل الدعاء ، الذين يرتقون حينا وحينا يفتقون .
- فأنا أعرف قوما آخرين من الأولياء ، قد انغلقت أفواههم عن الدعاء .
- إن هؤلاء الكرام مستكينون رضا ، صار طلب دفع القضاء عندهم من قبيل الحرام .
- فهم يرون في القضاء متعة خاصة ، وطلب الخلاص بالنسبة لهم من قبيل الكفر .
 
1885 - لقد تفتح حسن الظن في قلوبهم، فهم لا يلبسون عند الغم لباس الحداد الأزرق “1“.
 
استفسار بهلول من ذلك الدرويش

- قال بهلول لأحد الدراويش : كيف أنت أيها الدرويش ، اجعلني واقفا علي أحوالك .
- فأجاب : كيف يكون من تسير الدنيا وأمورها دوما وفق هواه ؟
- تتدفق السيول والأنهار وفق مراده ، وتصير الكواكب علي النسق الذي يريدها أن تكون عليه .
- والحياة والموت حراس له ، يسيران وفق مراده حيا بحي .
 
1890 - وحينما يريد يرسل التعزية ، وحيثما ينبغي يهب التهنئة .
- وسالكو الطريق أيضا وفق هواه ، والعاجزون علي الطريق في شراكه .
- ولا يضحك سن في الدنيا ، دون رضا ذلك النافذ الأمر وأمره “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 412 : وكل ما يتأتي يكون عندهم حلوا ، يكون ماء حياة وإن كان ناراً ، يكون السم في حلوقهم سكرا ، ويكون الحصي في طريقهم جوهرا استوي عندهم الخير والشر ومن أي شي هذا من حسن الظن . والدعاء عندهم كفر وأن يقولوا يا الهي حول عنا هذا القضاء .
( 2 ) ج / 7 - 416 : ولا تسقط ورقة دون رضاه ، ولا يتأتي موت دون قضائه . 
ولا يتحرك عرق دون مراده ، في الدنيا من أوج الثريا إلي أعماق الأرض .
 
“ 174 “
 
- قال : صدقت أيها السلطان ، فهذا واضح من بهائك وسيماك .
- هذا لك وأضعافه أيها الصادق ، لكن : اشرح هذا الأمر وبينه جيداً .
 
1895 - بحيث يكون مقبولا عند أسماع أهل الفضل وأهل الفضول عندما يبلغها .
- اشرحه وبينه بالتفصيل ، بحيث يستفيد منه عقل العامي .
- فإن الناطق الكامل عندما يكون مادا للسماط ، يكون سماطه مليئا بكل أنواع الحساء .
- بحيث لا يبقي ضيف بلا نوال ، ويجد كل إنسان غذاءه الخاص به .
- مثل القران الذي هو بمعناه سبعة أبطن ، للخاص والعام مطعم من داخله .
 
1900 - قال : أليس قد صار يقينا عند الجميع، أن الدنيا في دورانها مطيعة لأمر الله؟
- فلا تسقط ورقة من شجرة قط ، بلا قضاء سلطان الإقبال ذاك وحكمه .
- ولا تسري لقمة من الفم إلي الحلق ، ما لم يأمرها الحق بأن تسري إليه .
- والميل والرغبة وفي يديهما زمام الآدمي ، حركتهما طوع أمر ذلك السني ؟!!
- ولا ذرة ولا قشة تتحرك أو تطير في السماوات والأرضين .
 
1905 - إلا بأمره القديم النافذ ، ولا يمكن أن نشرح أكثر كما أن الجلد علي هذا ليس علي ما يرام .
- بحيث تستطيع أن تعد أوراق الشجرة كلها ، فمتي يمكن أن يصير المرء منطلقا في نطقه عن اللانهائي .


“ 175 “
 
- فاستمع إلي هذا القدر : إنه لما كان الأمر كله لا يتحول إلا بأمر الله سبحانه وتعالي .
- ولما كان قضاء الحق هو رضا العبد ، صار العبد مريدا لحكمه .
- لا تكلفا ولا من أجل الأجر والثواب ، بل لأن طبعه قد استطاب هذا الأمر .
 
1910 - إنه لا يريد حياته من أجل نفسه ، ولا من أجل لذة الحياة المنعمة .
- وحيثما يكون مسار لأمر القدم ، فإن الحياة والموت بالنسبة له سيان .
- إنه يعيش من أجل الله لا من أجل الكنز ، ويموت من أجل الله لا من الخوف أو التعب .
- بل إن إيمانه من أجل إرادة الله ، لا من أجل الجنة أو الأشجار والأنهار .
- وتركه الكفر أيضا من أجل الحق ، لا من أجل خوفه من الورود علي النار .
 
1915 - وهذا أمر في طبعه من الأصل ، لا من الرياضة الروحية ولا من الطلب والسعي .
- إنه يضحك رضا عندما يحل به القضاء ، فهو بالنسبة له كأنه الحلوي بالسكر .
- والعبد الذي تكون هكذا خلقته وجبلته ، ألا تسير الدنيا وفق أمره وحكمه ؟
- فلماذا يشكو إذن ولماذا يدعو قائلا : يا الله حول عني هذا القضاء .
- وموته وموت أبنائه يكونان عنده من أجل الحق كالحلوي في الحلق .
 
1920 - ونزع الأبناء عن ذلك الوفي ، كأنه حلوي القطائف أمام المحروم .
- إذن لماذا يدعو قائلا : يا الله ، إلا إذا كان يري في الدعاء رضا الخالق .
 
“ 176 “
 
- وتلك الشفاعة وذلك الدعاء لا يقوم بهما ذلك العبد ذو الرشد عن شفقة .
- لقد أحرق “ ذاته “ شفقة في نفس تلك اللحظة التي أشعل فيها مصباح الحق .
- فالعشق جحيم أوصافه ، قد أحرق فيه كل أوصافه شعرة بشعرة .
 
1925 - ومتي فهم كل طارق هذه الفروق ، إلا “ الدقوقي “ الذي صال في هذه الدولة .
 
قصة الدقوقى وكراماته
 
- كان الدقوقي ذاك بهي الطلعة ، كان سيدا عاشقا صاحب كرامة .
- كان يمضي علي الأرض كالقمر في كبد السماء ، صار للسارين منه روح نيرة .
- وقليلا ما اتخذ من مقام مسكنا ، وقليلا ما مكث يومين في قرية واحدة .
- وقال : لو مكثت يومين في مسكن واحد، فإن عشق ذلك المسكن يتأجج في داخلي.
 
1930 -” غرة المسكن أحاذره أنا * انقلي يا نفس سافر للغنا-لا أعود خلق قلبي بالمكان * كي يكون خالصا في الامتحان ““ 1 “ .
- كان نهاره تجوالا وليله صلاة ، وعينه مفتوحة علي المليك كأنها عين البازي .
- كان منقطعا عن الخلق لا عن سوء طوية ، كان “ مفردا “ عن الرجال والنساء لا من الإثنينية .
- وكان مشفقا علي الخلق نافعا كالماء ، كان شفيعا طيباً مستجاب الدعاء .
 
1935 - وكان حنونا علي الطيب وعلي الشرير ، وكان ملاذا أفضل من الأم وأكثر حنانا من الأب .
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
 
“ 177 “
 
- فقد قال الرسول عليه السلام : إنني لكم أيها العظماء شفيق مثل الأب وحنون .
- وذلك لأنكم جميعا أجزاء مني ، فلماذا تفصلون الجزء عن الكل ؟
- فإذا انقطع الجزء عن الكل صار بلا نفع، وإذا انقطع العضو عن الجسد صار ميتة.
- وما لم يتصل بالكل مرة ثانية ، يكون ميتا لا خبر عنده عن الروح .
 
1940 - وإذا تحرك فليس هذا في حد ذاته دليلا “ علي حياته “ فإن العضو الذي بتر حديثا يختلج أيضا .
- وإذا قطع الجزء من هذا الكل يضيع تماما ، إذ لا يصبح بعدها “ كلا “ ذلك الذي انقطع .
- إن قطعة ووصله لا يتأتيان في مقال ، لقد قبل شيء ناقص علي سبيل المثال .عودة إلى قصة الدقوقى
- لقد سمي الرسول “ عليا “ أسدا علي سبيل المثال ، والأسد لا يكون مثله حتى علي سبيل المثال .
- وانصرف عن المثال والمثل والفرق بينهما أيها الفتي، “ وعد “ إلي قصة الدقوقي.
 
1945 - ذلك الذي كان في الفتوي إماما للخلق ، كان يختطف كرة التقوي من الملائكة .
- ذلك الذي كان يزري بالقمر في سيره ، بل كان الدين نفسه يحسده علي تدينه .
- ومع وجود التقوي والأوراد والقيام ، كان طالبا لخواص الحق علي الدوام .

 
“ 178 “
 
- وفي أثناء سياحاته كان منتهي مراده ، أن يغتنم لحظة حضور علي عبد خصه الله .
- وكان دائما يدعو عندما يمضي في الطريق ، يا إلهي اجعلني قرينا لخواصك .
 
1950 - يا رب ، إنني عبد عاقد الحزام “ خدمة “ لأولئك الذين يعرفهم قلبي ، شاكر لجميلهم .
- أما من لا أعرفه منهم يا رب الروح ، فاجعله شفيقا عليَّ أنا المحجوب عنه .
- كان هاتف الحضرة يصل إليه قائلا : أيها الصدر العظيم ، أي عشق هذا وأي استسقاء ؟
- إنك محاط بحبي فلماذا تبحث عن الغير ؟ وما دام الله معك فكيف تبحث عن البشر ؟
- فكان يجيب : يا إلهي ، يا عالما بالسر ، إنك أنت الذي فتحت في قلبي طريق الاحتياج .
 
1955 - ولو أنني وجدت في قلب البحر ، لطمعت أيضا في ماء الجرة .
- إنني مثل داود لي تسع وتسعون نعجة “ 1 “ ، وتحرك في قلبي الطمع إلي نعجة أخي ! ! 
- إن الحرص والطمع في عشقك فخر وجاه ، والحرص والطمع فيما هو سواك عار وفساد .
- إن الشهوة والحرص كمال عند الرجال ، لكنه عند المخنثين عار وسوء سلوك .
- إن الحرص لدي الرجال من قبيل الكمال ، وعند المخنثين يكون ضعة وانحطاطا .
..............................................................
( 1 ) في المتن مثل داود ، ولي تسعون نعجة .
 
“ 179 “
 
1960 - فالحرص عند ذاك من كمال الرجولة ، أما عند هذا فهو افتضاح وسخف .
- اه ، فإن ثمة سرا خفيا شديد الخفاء بحيث يصير موسي مسرعا في أثر الخضر .
- ومثل المستسقي الذي لا يرتوي من الماء ، لا تتوقف - بالله عليك - علي كل ما وجدت “ 1 “ .
- إن هذا العتبة حضرة لا نهاية لها ، فاترك الصدر ، فصدرك هو الطريق و “ الطلب “ .
 
سر طلب موسى للخضر مع كمال نبوته وقربه
 
- تعلم من كليم الحق أيها الكريم ، وانظر إلي ما يقوله الكليم من الشوق .
 
1965 - ومع ما كان له من نبوة وجاه ، “ قال “ : أنا طالب للخضر بريء من الغرور .
- يا موسي لقد هجرت قومك ، وصرت شريدا في إثر مبارك القوم .
- أيها العظيم لقد نجوت من الخوف والرجاء ، فحتام تسعي وحتام تبحث ؟
وإلي أين ؟
- إن مطلوبك - معك وأنت واقف عليه ، أيتها - السماء - حتام تقطعين الأرض ؟
- قال موسي : قللوا من هذا الملام ، وقللوا قطع الطريق علي الشمس والقمر .
 
1970 - إنني أمضي إلي مجمع البحرين ، حتى أصير في صحبة سلطان الزمن .
- “ اجعل الخضر لأمري سببا ، ذاك أو أمضي وأسري حقباً “ “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 429 : وعندما عبرت من واحدة ، تصل أحدث منها ، تصل تلك التي تكون أرفع درجة منها .
( 2 ) بالعربية في المتن .
  
“ 180 “
 
- ولأحلق سنوات بالجناح والقوادم ، وماذا تكون السنوات ؟ بل آلاف السنوات .
- أجل لأمشِ ، أليس يستحق هذا ذاك ؟ ، فلا تعتبر عشق الأحبة أقل من عشق الخبز ! !
- هذا الكلام لا نهاية له أيها العم ، فارو لنا قصة الدقوقي ذاك .عودة إلى قصة الدقوقى
 
1975 - قال الدقوقي ذاك رحمة الله عليك “ لقد سافرت مدي في خافقيه “ .
- وسحت السنين والشهور من عشق الحبيب ، غافلا عن الطريق حائرا في الإله .
- “ وكم سئل “ : أتمشي حافيا علي الشوك والحصي ؟ فكان يجيب : إني حائر غافل عن نفسي مذهول .
- فلا تنظر إلي هذه الأقدام علي الأرض ، ذلك أن العاشق يمشي علي قلبه يقينا .
- وماذا يدري القلب وهو ثمل بالمحبوب عن الطريق إلي المنزل قريبا كان أو بعيدا ؟
 
1980 - إن ذلك “ القريب “ و “ البعيد “ أو صاف للجسد ، وسير الأرواح سير اخر .
- لقد - سافرت أنت من النطفة إلي العقل ، لا بالخطو ، فلا منزل ولا نقل .
- وسير الروح يكون بلا كيفية في زمان أو مكان ، فيا أجسادنا تعلمي السير من الروح .
- ولقد ترك “ الدقوقي “ السير بالجسد الآن ، إنه يمضي “ كالروح “ بلا كيفية مختفيا في كيفية “ الجسم “ .

 
“ 181 “
 
- قال : كنت أسير ذات يوم كالمشتاق ، حتى أري في البشر أنوار الحبيب .
 
1985 - حتى أري بحرا “ قد تجلي “ في قطرة ، وحتى أري “ شمسا “ قد اختفت في ذرة .
- وعندما وصلت بخطوي إلي ساحل ما ، كانت الشمس قد أذنت بالمغيب وحل وقت الغروب .ظهور مثال سبع شموع على الساحل
- فرأيت فجأة علي البعد سبعاً من الشموع علي ذلك الساحل ، فأسرعت إليها .
- وكان لهب كل شمعة منها قد ارتفع إلي عنان السماء .
- فاحترت حيرة شديدة وزادت حيرتي حيرة ، وتجاوزت أمواج الحيرة قمة العقل .
 
1990 - كيف أن هذه الشموع مشتعلة وقد أعرضت عنها عيون الخلق ؟
- صار الخلق باحثين عن مصباح في وجود هذه الشموع التي كان نورها يفوق نور القمر .
- إن إغماض العيون عجيب ، فواعجباه علي العيون التي أغمضها ، إنه يهدي من يشاء .تحول هذه الشموع إلى مثال شمعة واحدة
- ثم أخذت أري الشموع تتحول إلي شمعة واحدة ، كان نورها يشق جيب الفلك .
- ثم صارت دفعة واحدة سبع شموع ، فزاد سكري وتضخمت حيرتي .
 
1995 - وكانت هناك اتصالات بين الشموع، لا يتأتي “ وصفها “ علي ألسنتنا وفي أحاديثنا.
  
“ 182 “
 
- وذلك الذي تدركه نظرة واحدة ، لا يمكن أن يجري علي اللسان في أعوام !
- وما يدركه اللب في لحظة واحدة ، لا يمكن سماعه بالأذن في أعوام !
- وما دام الأمر بلا نهاية ، فاذهب صوب ما يقال له “ إليك “ ( الملاذ ) وقل له : “ لا أحصي ثناء عليك “ .
- فتقدمت مسرعاً لأدرك ماذا تكون هذه الشموع ، من دلائل الكبرياء .
 
2000 - وكنت أغيب عن الوعي وأحس بالدهشة ودبيب الخدر حتى سقطت من عجلتي وسرعتي .
- وأثناء ذلك سقطت فترة من الزمن علي الأرض بلا وعي ولا عقل .
- ثم عدت إلي وعي فنهضت ، “ أجد “ في السير كأنه لا رأس لي ولا قدم .
 
ظهور تلك الشموع للنظر سبعة رجال
 
- بدت تلك الشموع السبعة رجال أمام النظر أنوارهم كانت تسطع حتى السقف اللازوردي .
- وأمام هذه الأنوار يكون ضوء النهار كدرا، كانت تمحو كل الأنوار من تألقها الشديد “1” .
 
تحول تلك الشموع إلى سبع أشجار
 
2005 - ثم تحول كل رجل إلي شكل شجرة ، تسعد الأبصار من نضرة خضرتها .
- ولا غصن يبدو منها من كثافة الأوراق ، والأوراق نفسها قد اختفت من وفرة الثمار .
- ومدت كل شجرة أغصاتها إلي سدرة المنتهي ، وماذا يكون السدرة لقد تجاوزت الأفلاك لي حيث الخلاء والفراغ .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 451 : فحرت ثانية في صنع الرب ، كيف صار هذا الشكل هكذا للعجب ، فتقدمت أكثر لا نظر جيداً ، أي حال هذا الذي يدير رأسي .
 
“ 183 “
 
- ومدت كل شجرة جذورها إلي أعماق الأرض بحيث كانت تلك الجذور أدني من الثور والحوت .
- كانت جذورها أكثر نضرة من فروعها ، وصار عالي العقل سافله من الإشكال الذي أحدثته له .
 
2010 - وكانت ثمارها تتشقق من قوتها ، وكان وميض النور ينشق منها كأنه الماء .
 
اختفاء تلك الأشجار عن عيون الخلق
 
- وأعجب من هذا أن مئات الآلاف من الخلق ، كانوا يمرون عليها من الصحراء والوادي .
- كانوا يضحون بالأوراح في سبيل ظل ، ويجعلون من أغطيتهم مظلات عليهم .
- لكنهم لم يكونوا يرون ظلالها قط ، فأف لهذه الأبصار المحجوبة .
- لقد ختم قهر الحق علي الأبصار ، بحيث لا تري القمر بل تري السها .
 
2015 - إنها تري ذرة الهباء ولا تري الشمس ، لكنها ليست قانطة من اللطف والكرم .
- إن القوافل تمضي بلا زاد ، وهذه الثمار تسقط ناضجة ، فأي سحر هذا يا إلهي ؟
- إن الخلق يقطفون التفاح المهتري ، ومن القحط يلجأون إلي السلب والنهب .
- وقالت كل ورقة وكل برعمة من هذه الشجرة ، لحظة بلحظة ، “ يا ليت قومي يعلمون “ .


“ 184 “
 
- وكان يأتي نداء من ناحية كل شجرة قائلا : هلموا إلينا أيها الخلق المدبرون .
 
2020 - وكان النداء يرد من الغيرة “ الإلهية “ نحو الشجرة ، لقد أغمضنا عيونهم ، كلا لاوزر .
- فلو أن أحدا قال لهم : امضوا هذه الناحية حتى تسعدوا من هذه الأشجار ؟
- لقال الجميع : إن هذا المسكين الثمل ، قد أصيب بمس من الجنون من قضاء الله .
- ومن السوداء المزمنة ، ومن كثرة الرياضة ، صار مخ هذا المسكين فاسدا كأنه بصلة .
- ويظل هو مندهشا قائلا : ما هذا الحال يا رب ؟ وما هذا الحجاب والضلال عند الخلق .
 
2025 - والخلق علي أنواعهم مع ما فيهم من أنواع العقول والآراء ، لا ينقلون أقدامهم إلي هذه الناحية خطوة واحدة .
- وعقلاؤهم وأذكياؤهم في اتفاق ، صاروا منكرين لهذا البستان عاقين له ،
- أو تراني صرت مجنونا مضطربا ، أو كأنه الشيطان قد أصابني بمس في رأسي .
- وأخذت أحك عيني في كل لحظة . . أتراني في حلم أو في خيال يقظة ؟
- أي نوم يكون ؟ إنني أسير تحت ظلال هذه الأشجار ، أكل من ثمارها فكيف لا أعتقد فيها .
 
2030 - ثم إنني كنت أنظر إلي المنكرين ، الذين يبتعدون عن هذا البستان .
- ومع شدة احتياجهم وافتقارهم ، ومع أنهم كانوا يهلكون أرواحهم في سبيل نصف حبة حصرم .
 
“ 185 “
 
- ومع أنهم من الشوق والحرص علي ورقة شجرة ، كان أولئك المحرمون يطلقون الآهات الحري .
- إلا أنهم فراراً من هذه الأشجار وهذه الثمار ، كانوا يضمون الآلاف والآلاف .
- وأقول ثانية : عجبا ! ! أأنا غائب عن وعيي ، أمسك في يدي بغصن وهمي ؟
 
2035 – فقل حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا.
- واقرأها بهذه القراءة أي تخفيف “ كذب “ ، فتري نفسك بهذه القراءة محتجبا .
- لقد سقطت أرواح الأنبياء في الشك ، من اتفاق الأشقياء علي الإنكار .
- وجاءهم بعد التشكك نصرنا ، فاترك “ هؤلاء الأشقياء “ وتعالي إلي شجرة الروح .
- وكل منها وأعط ، فإن عطاءها في كل نفس ولحظة معلم للسحر .
 
2040 - والخلق قائلون : عجبا ! ! ما هذا الصوت ؟ إن الصحراء خالية من الشجر والثمر .
- لقد صرنا مذهولين من أقوال المصابين بالسوداء “ المالخوليا “ ، التي هي بالنسبة لكم بستان وسماط .
- إننا نحك عيوننا ولا بستان هنا ، فإما صحراء وإما طريق وعر .
- فوا عجبا لهذا الحديث الطويل ! ! كيف يكون عبثا ؟
وإذا كان حقا فأين هو “ هذا البستان “ ؟
- وأنا أقول مثلهم : عجبا ، لماذا ختم صنع الله الرب “ عليهم “ مثل هذا الختم ؟
 
“ 186 “
 
2045 - ومن هذا الجدال يصير “ محمد “ في عجب ، وكذلك بقي أبو لهب متعجبا .
- وبين هذا التعجب وذاك فرق عظيم ، إلي ما شاء الله السلطان العظيم أن يفعل .
- فيا دقوقي ، يا متدفقا في الحديث اصمت، فحتام تحدث حتام وهناك قحط في الآذان.
 
تحول الأشجار السبعة إلى شجرة واحدة
 
- قال “ الدقوقي “ : فتقدمت أنا السعيد “ بهذه المشاهدات “ فتحولت تلك الأشجار السبعة إلي شجرة واحدة .
- كانت تتحول إلي سبع أشجار ثم إلي شجرة واحدة في لحظة واحدة ، وكم كانت الحيرة تأخذ بمجامعي .
 
2050 - ثم رأيت الأشجار وقد اصطفت للصلاة كأنها في جماعة .
- وشجرة تتقدمها كأنها الإمام ، والأشجار الأخري وراءها في قيام .
- وذلك القيام والركوع والسجود الذي كانت تقوم به الأشجار أجج الحيرة في داخلي .
- وحينذاك تذكرت قوله تعالي :وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ.
- وليس لتلك الأشجار ركب في أواسطها ، فأي ترتيب للصلاة علي ذلك النسق ؟
 
2055 - فهتف بي إلهام من الله : يا ذا الضياء ، ألا زلت تعجب من أمرنا ؟
 
تحول تلك الأشجار السبعة إلى سبعة رجال
 
- وبعد فترة تحولت الأشجار السبعة إلي سبعة رجال ، كلهم قاعدون من أجل الإله الفرد .
 
“ 187 “
 
- وأنا أحك عيني متسائلا : من هم هؤلاء الأسود السبعة ؟
وماذا لديهم من الدنيا ؟
- وعندما اقتربت منهم ، قرأت عليهم السلام منتبها .
- فأجاب القوم السلام علي قائلين : السلام عليك يا دقوقي يا تاج الكرام وفخرهم .
 
2060 - قلت : وكيف عرفوني إذن ؟ ولم تقع أنظارهم عليَّ من قبل .
- وعرفوا من ضميري هذا التساؤل ، وهم ينظرون بعضهم إلي بعض من طرف خفي .
- وأجابوني ضاحكين : أيها العزيز ، هل لا يزال هذا خافيا عليك أيضا .
- متي يختفي شيء من يسار أو يمين علي القلب الذي هو في تحير مع الله ؟
- قلت : إنهم وإن كانوا مكشوفين علي الحقائق ، كيف وقفوا علي الرسم واللفظ ؟
 
2065 - قال أحدهم : إذا غاب الاسم عن الولي ، اعتبر ذلك من الاستغراق لا من الجهل .
- ثم قالوا لي : إن بنا رغبة في أن تؤمنا في الصلاة أيها الصديق الطاهر .
- قلت : سمعا وطاعة ، لكن أمهلوني برهة فأنا أواجه بعض المشكلات من دوران الزمان .
- فلعلها تحل بالصحبة الطاهرة ، فمن الصحبة ينبت الكرم ، من التراب .
- والبذرة المليئة باللب ، قامت بخلوة وصحبة من التراب الكدر وذلك من الكرم .
 
2070 - لقد محت نفسها كلية في التراب ، حتى لم يبق ثم لون ولا رائحة ولا حمرة ولا صفرة .
 
“ 188 “
 
- ومن بعد هذا المحو لم يبق لديها قبض ، مضت الصورة وتجلي معناها .
- وهز الرجال رؤوسهم قائلين : الأمر لك ، فارتفعت الحرارة من القلب بمثل هذه الهزة .
- ومكثت ساعة مع تلك الجماعة المختفية “ عن أعين الخلق “ كأنني المراقب ، منفصل عن نفسي .
 
2075 - وفي تلك الساعة تخلصت الروح من الزمان ، ذلك أن ساعة واحدة تحول الشاب إلي شيخ .
- وكل التلوينات قد ظهرت من الساعة “ الزمان “ ، وقد نجا من التلوين من نجا من الزمان .
- وعندما تخرج برهة من إسار الزمان ، لا تبقي الكيفية وتصير مأذونا لمن لا كيفية له “ 1 “ .
- ولا خبر للزمان عن اللازمان ، وليس لها إلي تلك الناحية من طريق إلا الحيرة .
- فكل امرئ إنما ربط علي حظيرته الخاصة به في هذه الدنيا التي هي دنيا السعي والكدح .
 
2080 - وهناك رائض قائم علي كل حظيرة ، بحيث لا يدخلها رافض إلا بإذن .
- ولو ضاق بحظيرته هوسا ، وأطل برأسه في حظائر الآخرين .
- فإن السائسين النشطين الطيبين في لحظة واحدة ، يأخذون بطرف زمامه ويسحبونه “ خارجا “ .
- وإذا كنت لا تري الحفظة أيها العيار ، فانظر إلي اختيارك دون اختيار منك .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 467 : فأخرج برهة عن الزمان أيها القلب حتى تنجو من الكيفية والسبيبة .
 
“ 189 “
 
- إنك تختار لكن اليد والقدم يجرانك “ بعيداً “ عن هذا الاختيار ، فلماذا أنت في حبس لماذا ؟
 
2085 - ورفعت وجهك منكرا لحافظك ، وسميته بالتهديدات النفسية .
 
تقدم الدقوقى للإمامة
 
- ليس هذا الحدث من نهاية فدعك منه ، وانتبه فقد قامت الصلاة ، والدقوقي هو الإمام .
- لقد قالوا له : أيها الفرد أدَّ بنا ركعتين ، حتى يزدان بك الزمان .
- فيا أيها الإمام المستنير البصر هيا ، ينبغي للإمام عين مستنيرة .
- فمكروه في الشريعة أيها العظيم ، أن يؤم الأعمي المصلين .
 
2090 - حتى ولو كان حافظا ماهرا فقيها ، فالبصير أفضل ولو كان سفيها .
- فليس عند الأعمي اتقاء من النجاسة ، فالعين هي أصل الاتقاء والحذر .
- إنه لا يري النجاسة عند عبور “ الطريق “ ، فلا كان المؤمن قط عين عمياء .
- والعمي الظاهر “ مختص “ بنجاسات الظاهر ، لكن عمي الباطن “ مختص “ بنجاسات الباطن .
- وهذه النجاسة الظاهرة تنقضي بالماء ، لكن هذه النجاسات الباطنة تزداد .
 
2095 - ولا يكون غسلها إلا بدمع العين ، أقصد نجاسات الباطن إذ صارت عيانا .
- ولما كان الله قد سمي الكافر نجسا ، فليس المقصود إذن بالنجاسة الظاهرة .
- وذلك أن ظاهر الكافر ليس ملوثا ، لأن تلك النجاسة ( التي وصف بها ) في الأخلاق والدين .
- فالنجاسة “ الظاهرة “ تفوح رائحتها لعشرين خطوة ، لكن نجاسة الباطن
 
“ 190 “
 
- بل إن نتنها يرتفع إلي السماوات ، فتزكم أنوف الحور “ وأنف “ رضوان .
 
2100 - إن ما أقوله هو بقدر فهمك ، ولقد مت حسرة “ بحثا عن “ الفهم الصحيح .
- والفهم ماء ، ووجود الجسد كالجرة ، وعندما تنكسر الجرة يسيل الماء منها .
- وفي هذه الجرة خمسة ثقوب عميقة ، فلا يبقي فيها ماء بل إن الثلج نفسه لا يبقي فيها .
- لقد سمعت الأمر ب “ غضوا أبصاركم “ ، لكنك لم تضع حافرك في الموضع الصحيح .
- فالنطق من فمك يقضي علي فهمك ، والأذن كأنها الرمل تمتص هذا الفهم فيك .
 
2105 - وهكذا فإن ثقوبك الأخري ، تسحب خارجا ماء فهمك المضمر .
- فإذا أخرجت الماء من البحر دون عوض ، فإنك تحول هذا البحر إلي صحراء .
- فالوقت غير مناسب وإلا حدثتك بالحال ، وشرحت لك مدخل الأعواض ومدخل البدائل .
- ومن أين تأتي هذه الأعواض والبدائل إلي البحر من بعد كل هذا الإنفاق ؟
- إن مئات الآلاف من أنواع الحيوان تشرب منه ، والسحب أيضا تجذب الماء خارجه .
 
2110 - ثم يجذب البحر هذه الأعواض ، فمن أين يعلم ذلك أصحاب الرشد ؟
- لقد بدأنا القصص ومن التسرع ، صارت بلا نتيجة داخل هذا الكتاب .
  
“ 191 “
 
- فيا ضياء الحق يا حسام الدين العظيم ، يا من لم يلد الفلك والأركان مثلك ملكا .
- إنك نادراً ما تحل في الروح والقلب ، يا من تحس الروح ويحس القلب بالخجل منك .
- لطالما مدحت السالفين من الناس ، وكنت أنت مقصدي من هذا “ المدح “ اقتضاء .
 
2115 - إن الدعاء في حد ذاته يعلم المنزل الموجه إليه ، فوجه أنت الثناء باسم من تشاء .
- ومن أجل كتمان المديح عن من ليس بأهل له ، وضع الحق هذه الحكايات والأمثال .
- وإذا كان هذا المدح يخجل منك ، فإن الله يقبل جهد المقل .
- فالحق يقبل - كسرة واحدة ويعفو بها ، إذ تكفي قطرتا “ دمع “ من عين الأعمي .
- إن الطيور والأسماك تعرف هذا الإبهام ، “ وتعلم “ أنني مدحت - مجملا هذا الاسم المبجل .
 
2120 - وذلك حتى تهب عليه رياح الحاسدين قليلا ، وحتى لا يعض الأنامل من الغيظ علي خيال يظنه هو .
- فمن أين يدرك الحسود حتى خياله ، ومتي يرقد الببغاء في جحر الفأر ؟ !
- إن خياله هذا “ بالنسبة للحسود “ مجرد اختيال ، إنه شعرة من حاجبة وليس الهلال .
- إنني أسوق المدح فيك خارج “ الحواس “ الخمسة و “ الأفلاك “ السبعة ، فاكتب الآن : إن الدقوقي قد أم .
  
“ 192 “ 
تقدم الدقوقى لإمامة هؤلاء القوم
 
- في تحيات الصالحين وسلامهم ، يكون مدح كل الأنبياء متضمنا .
 
2125 - لقد امتزجت المدائح بأجمعها ، وانصبت كل الكئوس في حوض واحد .
- ذلك أن الممدوح في حد ذاته ليس إلا واحدا ، والأديان من هنا ليست إلا دين واحد .
- فاعلم أن كل مدح إنما يمضي إلي نور الحق ، ويكون عارية علي الصور والأشخاص .
- فمتي يقوم “ المادحون “ بالمديح إلا لمن يستحق ؟ لكن “ الآخرين “ يضلون بالظن .
- مثل نور قد انعكس علي جدار ، والجدار كأنه قيد لهذه الأنوار .
 
2130 - أو أن انعكاسا لقمر قد ظهر في بئر ، فطأطأ الضال رأسه في البئر وطفق يثني عليه .
- فلا جرم أنه ما دام الظل عندما يسرع نحو الأصل، فإن الضال يفقد القمر ويعجز عن الثناء.
- فهو في الحقيقة مادح للقمر ، بالرغم من أن جهله قد حول وجهته إلي صورته .
- فمدحه “ موجه “ إلي القمر لا إلي هذه الصورة ، وصار كفره به لخطئه في أصل الأمور .
- فقد ضل هذا الشجاع من الشقاء ، إن القمر أعلي لكنه ظن أنه أسفل .
 
2135 - واضطراب الخلق إنما يكون من هذه الأصنام ، فيتبعون شهواتهم ثم يندمون .
 
“ 193 “
 
- ذلك أن الشهوة قد تأججت بخيال ، وتخلف هو بعيدا جداً عن الحقيقة .
- وعندما يكون لميلك جناح من الخيال ، فمتي يحلق نحو الحقيقة بهذا الخيال ؟
- وعندما سقطت في شهوة تساقط جناحك ، فصرت أعرج ، وهرب منك ذلك الخيال .
- فحافظ علي الجناح ولا تتبع الشهوات ، حتى يحملك جناح الميل نحو الجنان .
 
2140 - إن الخلق يظنون أنهم يلهون ، وينتزعون أجنحتهم من أجل خيال .

- لقد صرت مدينا بشرح هذه النقطة ، فأمهلني إذ إنني معسر ومن هنا سكت .

اقتداء القوم بالدقوقى
“ 1 “
- لقد أمهم الدقوقي ذاك في الصلاة ، كان القوم كأنهم “ الثوب “ الأطلس وهو زينته .
- واقتدي هؤلاء الملوك واصطفوا خلف هذا المقتدي الشهير .
- وعندما كبروا ، خرجوا من الدنيا كأنهم الأضحيات .
 
2145 - وهذا هو معني التكبير أيها الإمام ، معناه : يا إلهي لقد صرنا فداء لك .
- إنك تكبر عندما تذبح ، وهكذا يجب عند “ ذبح “ النفس الجديرة بالذبح “ 2 “ .
- إن الجسد كإسماعيل والروح كالخليل ، وقد كبرت الروح علي الجسم النبيل .
- لقد ذبحت الشهوات والحرص في الجسد ، وصار بالبسملة كالطائر الذبيح من الصلاة .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 494 : لقد عدت ، إذ طالت القصة، والوقت ضيق، والقوم قد وقفوا للصلاة .
( 2 ) ج / 7 - 494 : فقل : الله أكبر واذبح تلك المشئومة حتى تنجو من الفناء.
  
“ 194 “
 
كالطائر الذبيح من الصلاة .
- ومثل القيامة اصطفت الصفوف أمام الحق ، وهناك مئات “ الألوان “ من الحساب والمناجاة والضراعات .
 
2150 - لقد وقفت أمام الخالق ذرَّافاً الدمع ، كالواقف مستقيما يوم الحشر .
- فيقول لك الحق : ماذا أحضرت لي من تلك المهلة التي أعطيتك إياها ؟
- وفيم أنهيت عمرك ؟ وفيم أفنيت قوتك وقُوَّتك ؟
- وأين أبليت جوهر البصر ؟ وفي أي موضع ضيعت حواسك الخمس ؟ .
- لقد أنفقت العين والأذن والعقل وجواهر العرش ، فماذا اشتريت “بها” من الأرض؟
 
2155 - لقد أعطيتك اليد والقدم كالفأس والرفش ، لقد وهبتها من لدني ، فمتي صارت من لدن نفسها ؟
- وعلي هذا النسق تأتي مئات الآلاف من الرسائل المؤلمة من لدن الحضرة .
- وفي القيام يعود هذا البدن ، ومن الخجل ينحني راكعا .
- لا يتبقي له جلد علي الوقوف من الخجل ، فيتلو تسابيحه خجلا عند الركوع .
- ثم يصله الأمر أن ارفع رأسك من الركوع ، وأجب الحق علي ما سألك عنه .
 
2160 - فيرفع رأسه من الركوع ذلك الخجل ، ثم يسقط علي وجهه ذلك الساذج في أموره .
- ثم يصله الأمر ثانية أن ارفع رأسك من السجود ، وحدثنا بأخبار أفعالك .
- فيرفع رأسه مرة أخري خجلا ، ثم يسقط ثانية علي وجهه كأنه الثعبان .
- فيقول له ثانية : ارفع رأسك وتحدث ، إنني سوف أطلب منك الحديث عن كل ما بدر منك شعرة بشعرة .
- فلا تبقي له قوة علي الوقوف ، ذلك أن خطاب الهيبة قد أصاب سويداء روحه .
 
2165 - ثم يجلس قاعدا من ذلك الخجل الشديد ، فيقول له : تحدث حديثا مفصلا ومفهوما !! 
 
“ 195 “
 
- لقد وهبتك النعمة فقل لي : ماذا كان شكرك ؟ لقد أعطيتك رأس المال فهيا بين فائدته “ 1 “ .
- فيلتفت إلي اليمين مسلما علي أرواح الأنبياء وأولئك الكرام .
- أي : يا ملوك الشفاعة إن هذا اللئيم ، قد بقيت قدماه وجسده مغروسة تماما في الطين .
 
بيان أن إشارة التسليم نحو الناحية اليمنى في القيام من هيبته محاسبة
الحق وطلب العون والشفاعة من الأنبياء
 
- يقول له الأنبياء : لقد مضي يوم الوسيلة، كانت الوسيلة هناك وكانت الآلة متوفرة.
 
2170 - إنك طائر تغرد في غير أوان فامض أيها المشئوم واتركنا ، ولا تتسلل إلي دمائنا .
- فيلتفت إلي الناحية اليسري ، أي إلي قومه وأهله فيقولون له : خسئت .
- هيا وأجب الخالق ، فمن تكون أيها السيد ، أقلع عن مطاردتنا ! ! 
- فلا هو وجد حيلة في هذا الجانب أو ذاك الجانب ، وتحطمت روح ذلك المسكين داخل قلبه إلي مائة قطعة .
- لقد يئس من الجميع ذلك المسكين الأصل ، فأخذ يرفع يديه داعيا .
 
2175 - قائلا : لقد يئست من الكل يا الله ، وأنت الأول والآخر والمنتهي “ 2 “
- فانظر في الصلاة إلي هذه الإشارات الحسنة ، حتى تعلم أن هذا هو الذي سوف يحدث يقينا “ 3 “ .
- فأخرج الفرخ من بيضة الصلاة ، ولا تحرك رأسك كطير لا تعظيم عنده ولا تغريد .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 494 : ولما لم يكن لديه لا رأس مال ولا فائدة فإنه يريد شفيعاً يعتذر له سريعاً .
( 2 ) ج / 7 - 502 : وهذا هو معني التسليم أيها المقتدي ، أي : إنك أنت الهادي أيها الحق وأنا المهتدي - فكل ما تأمر به نحن منقادون فيه ، وبقضائك نحن مسرورون .
( 3 ) ج / 7 - 502 : فإن كان ثم رجاء تصل العناية ويصبح امنا من “ حبل من مسد “ .
“ 196 “ 
سماع الدقوقى في أثناء الصلاة لصراخ تلك السفينة
التي كانت موشكة على الغرق
 
- لقد أم الدقوقي ذاك ، واستغرق في الصلاة علي ذلك الساحل .
- وتلك الجماعة وراءه في قيام ، فيا لهم من قوم حسان ويا له من إمام مختار .
 
2180 - وفجأة وقع بصره علي البحر ، عندما سمع صيحات الاستغاثة قادمة من جهته .
- ورأي سفينة بين الأمواج ، “ تتلاعب “ بها أيدي القضاء والبلاء والمحنة .
- كان الليل والغيوم والموج العظيم معا، هذه الظلمات الثلاث ثم الرعب من الأعماق.
- وهب إعصار كأنه ملك الموت ، وتلاطمت الأمواج ذات اليسار وذات اليمين .
- وركاب السفينة قد انهدت قواهم من الخوف ، فانبعثت منهم صرخات واويلاه !
 
2185 - كانوا يلطمون رؤوسهم بأيديهم نائحين ، والكافر والملحد كلاهما صار مخلصا .
- وأصبح يتوجه إلي الله يتضرع حار في تلك اللحظة ، وكم نذروا النذور وأخذوا علي أنفسهم المواثيق الشديدة .
- كانوا ساجدين مكشوفي الرؤوس ، أولئك الذين لم يسجدوا من قبل قط اعوجاجا .
- لقد قيل : إنه لا فائدة من تلك العبودية ، لكنهم رأوا فيها مائة حياة في اللحظات .
- كانوا قد قطعوا الأمل تماما من الجميع، من الأصدقاء والأخوال والأعمام والآباء والأمهات.
 
2190 - صار الزاهد والفاسق كلاهما تقيا في تلك اللحظة ، ملثما يكون الشقي
  
“ 197 “
 
عند الاحتضار .
- فلا كانت لهم حيلة لا من أيمانهم أو من شمائلهم وعندما تنقضي الحيل ، فهذا أوان الدعاء .
- كانوا في دعاء وتضرع وابتهال وتأوه ، وقد تلبد الفلك منهم بدخان أسود .
- ومن عداوته لهم ظهر لهم الشيطان آنذاك ، وصاح فيهم : الفراق ! ! الفراق يا عبدة الكلاب ، جعل الله لكم علتين .
- فالموت والحسرة يا أهل الإنكار والنفاق ، سوف يصيران آفة هذا الاتفاق .
 
2195 - وتندي عيونكم بالدمع من بعد الخلاص ، فأنتم تصبحون من أجل الشهوة شياطين خواص .
- فلا تتذكرون أنه ذات يوم في الخطر ، أخذ الله بأيديكم من القضاء والقدر .
- كان هذا النداء يأتي من الشيطان ، لكن لم تسمع هذا النداء إلا الآذان الطيبة .
- ولقد صدق المصطفى معنا ، ذلك القطب وملك الملوك وبحر الصفاء ،
- “ عندما قال “ ، إن ما يراه الجاهل في النهاية ، يراه العقلاء منذ الوهلة الأولي .
 
2200 - فالأمور من بداياتها بالرغم من أنها غيب وسر ، يراها العاقل منذ بدايتها أما المصر فيراها في أواخرها .
- إن أولها محجوب ، لكن أواخرها يراها العاقل والجاهل عيانا .
- فإن لم تر وقائع الغيب أيها العنود ، فمتي يختطف السيل الحزم ؟ !
- وماذا يكون الحزم ؟ ، إنه سوء الظن بالدنيا ، وتوقع البلاء المفاجىء منها لحظة بلحظة .
 
“ 198 “ 
تصورات الرجل الحازم
 
- مثل هذا إن أسدا قد ظهر فجأة ، فاختطف رجلا وأخذ يجره إلي أجمته .
 
2205 - ففي أي شيء يفكر والأسد يحمله ؟ فتمعن وفكر علي نفس النسق يا أستاذ الدين .
- إن أسد القضاء يجرنا نحو الغابات ، بينما أرواحنا مشغولة بالحرف والأعمال .
- وهكذا يخاف الخلق من الفقر ، وغرقوا في الماء المالح حتى حلوقهم .
- ولو أنهم كانوا يخافون من خالق الفقر ، لتكشفت لهم الكنوز من الأرض .
- وهم جميعا من خوف الغم في غم ، وفي سبيل الوجود سقطوا في العدم
 
دعاء الدقوقى وشفاعته في خلاص السفينة
 
2210 - وعندما رأي الدقوقي تلك الضجة ، تحركت فيه نوازع الرحمة وسال دمعه .
- وقال : يا رب ، لا تنظر إلي أفعالهم ، وخذ بأيديهم يا ملكا حسن الفعال .
- وردهم إلي الساحل بسلام ، يا من وصلت يدك إلي البر والبحر .
- أيها الكريم ، أيها الرحيم السرمدي ، تجاوز للخبثاء الماكرين عن هذه السيئات .
- يا من وهبت بلا مقابل مائة عين وأذن ، ووهبت العقل والوعي دون عطاء منا .
 
2215 - ووهبت العطاء قبل الاستحقاق ، ورأيت منا جميعا الكفران والزلل .
- يا أيها العظيم ، إنك تستطيع في حرمك أن تعفو عن الذنوب العظيمة منا 
- لقد أحرقنا أنفسنا حرصا وطمعا ، وتعلمنا منك أنت أيضا هذه
 
“ 199 “
 
الأدعية .
- وبحرمة ذلك الذي علمته الدعاء ، وأشعلت به مصباحاً في مثل تلك الظلمة .
- هكذا أخذ يردد الدعاء آنذاك كالأمهات الوفيات “ 1 “ .
 
2220 - كان الدمع يسيل من عينيه وذلك الدعاء ، كان دون وعي منه يرتفع إلي عنان السماء .
- إن دعاء الذين فنوا عن ذواتهم في حد ذاته شيء اخر ، فذلك الدعاء ليس منهم إنه من الحق .
- فذلك الدعاء يقوم به الحق لأن “ الداعي “ إلي فناء ، فذلك الدعاء وتلك الاستجابة من الله .
- ولا وساطة من مخلوق بينهما ، والجسم والروح يقومان بهذا الدعاء .
- وعبيد الحق رحماء صبورون ، يعرفون طبع الحق في إصلاح الأمور .
 
2225 - فهم رحماء ظهراء بلا أجر ، في الموقف الصعب وفي اليوم الثقيل .
- فهيا وابحث عن هؤلاء القوم أيها المبتلي ، هيا واغتنم صحبتهم قبل البلاء
- لقد نجت السفينة بأنفاس ذلك الهمام ، بينما يظن أهل السفينة أن هذا الأمر حدث بجهدهم .
- إذ لعل سواعدهم عند الحذر ، أطلقت سهما من الفضل أصاب الهدف .
- إن القدم تخلص الثعلب أثناء الصيد ، بينما أولئك يعتبرون ذلك الخلاص من ذيله ، أولئك الثعالب المغرورة .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 511 : خذ بأيديهم وأبدِ لهم الطريق ووفقهم وتجاوز عن جرمهم ، واعف ، وحل المشكلات .
 
“ 200 “
 
- أرواحنا من الكمين .
- أيها الثعلب ، حافظ علي قدمك من أن ترشق بالأحجار ، فأي نفع للذيل إن لم يكن قدم ، أيها الوقح .
- إننا كالثعالب وأقدامنا أيها الكرام ، تخلصنا من أنواع كثيرة من الانتقام .
- وحيلنا الماهرة هي بمثابة ذيولنا ، ونحن نزاول العشق مع الذيول يساراً ويمينا .
- ونحرك ذيولنا عند الاستدلال من المكر ، حتى يزداد دهشة منا زيد وبكر .
 
2235 - وصرنا طالبين لإعجاب الخلق ، ومددنا أيدي الطمع في الألوهية .
- حتى نصير ملاك القلوب بالشعوذة ، غافلين عن رؤية أنفسنا - ساقطين في حفرة .
- إنك في حفرة وفي بئر أيها الديوث ، فارفع يدك إذن عن شوارب الآخرين “ وكف عن إرشادهم “ .
- وعندما تصل إلي بستان جميل وطيب ، خذ إذن بأطراف ثياب الخلق واجذبهم نحوك .
- فيا مقيما في سجن “ العناصر “ الأربعة ، و “ الحواس “ الخمسة ، و “ الجهات “ الستة ، اجذب الآخرين إذن إلي مكان طيب .
 
2240 - ويا من كالمكاري صرت ملازما لمؤخرة الحمار ، لقد وجدت موضعا للقبل ، فخذنا معك ! !
- وما دام الحبيب لم يهبك قدرة علي العبودية ، من أين إذن ظهر لديك الميل إلي الملوكية ؟
- وغراما منك أن يقول لك الآخرون : مرحي ، قد ربطت وترا في عنق
 
“ 201 “
 
روحك .
- فيا أيها الثعلب ، اترك ذيل الحيلة هذا ، واجعل القلب وقفا علي أصحاب القلوب .
- وفي حِمَي الأسد لا يكون الشواء قليلا ، فكفاك اتجاها إلي الجيف إذن أيها الثعلب .
 
2245 - ويا أيها الثعلب إنك تصير منظورا للحق ، عندما تمضي كجزء نحو الكل الذي أنت جزء منه .
- فالحق لا يفتأ يقول : إن أنظارنا علي القلب ، وليست علي الصورة التي هي من ماء وطين .
- وأنت لا تفتأ تقول : إنا أيضا لي قلب ، إن القلب يكون فوق العرش لا في الأذلين .
- وفي الطين الكدر يوجد أيضا ماء ، لكن لا يصح لك الوضوء من هذا الماء 
- ذلك أنه وإن كان ماء فالطين يغلب عليه ، فلا تسم قلبك إذن قلبا .
 
2250 - وذلك القلب الذي هو أعلي من السماوات ، هو قلب الرسول عليه السلام أو من قلوب الأبدَال .
- لقد تطهر من الطين وصفا ، وأخذ في الزيادة وصار وافيا .
- لقد هجر الطين ، واتجه صوب البحر ، ونجا من سجن الطين وصار بحريا .
- وقد صار ماؤنا محبوسا في الطين ، فهيا يا بحر الرحمة واجذبنا من الطين .
- ويقول البحر : إنني أجذبك إلي داخلي ، لكنك تثرثر قائلا : إنني ماء عذب
 
“ 202 “ 
 
2255 - وثرثرتك هنا تبقيك محروما ، فاترك هذا الظن ثم ادخل إليَّ .
- إن الماء الممتزج بالطين يريد أن يمضي نحو البحر ، لكن الطين يمسك بقدم الماء ويجذبه إليه .
- فإن خلص قدمه من سيطرة الطين ، لجف الطين ، ولا ستقل هو عنه .
- فما هو جذب الماء من الطين ؟ إنه جذبك للنقل والشراب والزلال .
- وشبيه بهذا كل شهوة في الدنيا ، جاها كانت أو مالا أو قوتا “ 1 “ .
 
2260 - إن كل واحد منها يجعلك ثملا ، وعندما لا تجده يصيبك الخمار .
- وهذا الهم الذي يصيبك بالخمار ، دليل علي أن سكرك كان بهذا “ الشيء “ المفقود .
- فلا تأخذ منه إلا بالقدر الضروري ، حتى لا يتحكم فيك ويصير غالبا عليك .
- لقد تمردت وعاندت قائلا : إنني صاحب قلب ، ولا حاجة بي إلي الغير فأنا وأصل .
- وهكذا يعاند الماء الممتزج بالطين قائلا : أنا ماء ، ولماذا أبحث عن المدد ؟
 
2265 - لقد ظننت أن قلبك هو هذا الملوث ، فلا جرم أنك فصلت القلب عن أصحاب القلوب .
- وهل تجيز أنت نفسك أن يكون ذلك الذي يكون عاشقا للبن والعسل قلبا ؟
- إن لطف اللبن والعسل انعكاس للقلب ، وإن كان ثمة لذة ، فهي حاصلة من القلب .
- ومن ثم فإن القلب جوهر والعالم عرض ، فكيف يكون عرض القلب غرضا للقلب ؟
- وذلك القلب الذي يكون - عاشقا للمال والجاه ، أو - مقهوراً لهذا الطين
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 513 : سواء كانت سيفا أو بستانا أو بلطة أو مجنا سواءٌ كانت ملكا أو داراً أو أولاداً .
 
“ 203 “
 
والماء العكر .
2270 - أو متعلقا بخيالات يعبدها في الظلمات أجل القيل والقال .
- لا يكون قلبا ، فليس بقلب غير ذلك البحر من النور ، إنه موضع نظر الله ، فهل يتفق أن يكون هكذا ويكون أعمي ؟ ! !
- إن هذا لا ينطبق علي قلب واحد من مئات الألوف من قلوب الخواص والعوام ، إنه في واحد من ذلك العدد فأيهم يكون أيهم ؟
- فاترك فُتات القلوب وابحث عن القلب ، حتى يصبح ذلك الفتات كأنه الجبل منه .
- فالقلب محيط بهذا الجزء من الوجود ، إنه ينثر الذهب من الإحسان والجود .
 
2275 - ومن سلام الحق ، يهب السلام لهذا العالم جودا وطوعا واختيارا .
- وكل من يملك حجرا جاهزا ومعدا وصحيحا ، فإن نثار القلب وعطاءه يصلان إليه .
- وحجرك هو الضراعة والحضور ، فانتبه ولا تلق في حجرك بحجر الفجور .
- حتى لا يتمزق حجرك بتلك الحجارة ، وحتى تعلم النقد الصحيح من الألوان “ المزيفة “ .
- لقد ملأت حجرك بالحصي في الدنيا ، من حصي الفضة والذهب كما يفعل الأطفال .
 
2280 - ومن خيال الفضة والذهب إن لم يكن هناك ذهب ، تمزق حجر رداء صدقك وزاد حزنك .
- ومتي تبدو للأطفال قيمة الحصي ، ما لم يأخذ العقل بأطراف أثوابهم في
 
“ 204 “
 
قبضته ؟
- إنه شيخ العقل ، لا ذاك الشيخ أبيض الشعر ، يكون الإقبال والرجاء “ معه “ كاملين لا يتسعان لشعرة “ بينهما “ .إ
 
إنكار تلك الجماعة على دعاء الدقوقى وشفاعته وغيبتهم
واختفاؤهم في حجب الغيب وحيرة الدقوقى
هل ذهبوا في الهواء أو على الأرض
 
- عندما نجت تلك السفينة وبلغت مرادها ، تمت صلاة تلك الجماعة أيضا
- وجري همس بينهم ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : من هو هذا “ الفضولي “ بيننا أيها الأب ؟
 
2285 - أخذ كل منهم يهمس للآخر في السر ، مستترا من وراء ظهر الدقوقي .
- وقال كل واحد منهم : أنا لم أوجه هذا الدعاء الآن ظاهرا أو باطنا .
- قال أحدهم : لعل إمامنا هذا قد أحس بالألم ، فغلبه الفضول وناجي ربه .
- وقال اخر : إن الأمر يبدو لي علي هذا الوجه يقينا أيها الرفيق .
- كان فضوليا ، ومن القبض الذي ألم به اعترض علي المختار المطلق .
 
2290 - قال الدقوقي : وعندما التفت بعد ذلك ، لكي أسمع ما يقول أهل الكرم .
- لم أجد واحدا منهم في المقام ، كانوا قد انصرفوا عن مكانهم جميعا .
- ولا عن شمالي ولا عن يميني ولا أعلي ولا أسفل ، لم تظفر عيني الحادة بهؤلاء القوم .
- كانوا كأنهم من الدر وعادوا إلي الماء ، فلا أثر لقدم ولا غبار في الصحراء .
- انتقلوا جميعا إلي “ قباب “ الحق في تلك اللحظة ، فتري إلي أية روضة
 
“ 205 “
 
ذهبت تلك الجماعة ؟
 
2295 - وأخذت الحيرة بتلابيبي وأنا “ أتساءل “ : كيف أخفي الحق هذه الجماعة عن أعيننا ؟
- هكذا اختفوا عن ناظريه ، وكأنهم أسماك غاصت في جدول .
- وبقي سنوات في حسرة عليهم ، وذرف الدموع أعمارا شوقا إليهم .
- وأنت لا زلت تقول : كيف يذكر رجل الحق - عند النظر- البشر وهو مع الله تعالى؟
- إن الحمار يرقد هنا يا فلان “ 1 “ ، إنك رأيتهم بشرا ولم ترهم أرواحا .
 
2300 - ومن هنا فقد فسد الأمر أيها الرجل الساذج ، ذلك أنك كالعوام رأيتهم بشرا .
- كما رأيت أيضا أن إبليس اللعين ، قال : أنا من نار وادم من طين .
- فاغمض عينيك الإبليسية لحظة واحدة ، فحتام تنظر إلي الصورة حتام حتام ؟ !
- ويا دقوقي ، بعينيك اللتين تشبهان جدولا “ من الدمع “ هيا لا تقطع الأمل وابحث عنهم .
- هيا ، وابحث فإن ركن الدولة في البحث ، وكل انبساط في القلب من القبض .
 
2305 - لقد تجاوزت كل أمور الدنيا ، فداوم علي قولك “ أين ؟ ، أين ؟ “ مثل الفاختة .
- وانظر إلي هذا جيدا أيها المحتجب ، فقد ربط الله تعالى الدعاء ب “ استجب “ !
- وكل من صار له قلب طاهر من الاعتلال ، يمضي دعاؤه حتى ذي الجلال .
..............................................................
( 1 ) أي أن الجاهل يقنع بهذا التفسير هنا .
.
* * * 
شرح صفة بعض الأولياء الراضين بالأحكام فلا يدعون 
ولا يشكون قائلين : ارفع عنا هذه الأحكام
 
( 1880 - 1885 ) يدور الحديث حول الرضا بقضاء الله ، وقمة الرضا هي التسليم دون دعاء بأن يرفع الله البلاء ، وهذا ما دام عوض البلاء يفوق البلاء نفسه بمراحل ، ومن ثم فأهل الرضا يحرمون الدعاء على أنفسهم ويسلمون للمشيئة والأمر على صلة بالرضا والطمأنينة والتسليم للمقادير والسرور عند المصيبة والابتلاء ( شرح التعرف / 3 - 144 / 148 ) وهو اعتماد على حسن ظنهم بالله يتلذذون بالبلاء لأنهم يرون فيه تجلى الحق سبحانه وتعالى .
 
( 1885 - 1899 ) ما يرد في هذه الأبيات وصف للمرشد الكامل أو القطب وهو الذي يرى كل ما يدور في العالم - ويحسبه الآخرون من ظواهر الطبيعة - هو من المشيئة الإلهية ، وما دام مسلما بالمشيئة الإلهية فالعالم كله يسير فوق هواه ، فلا خوف عنده ولا شكوى . بل إن الحياة والموت ينفذان أمر القطب ، ويصدق بهلول ( انظر تعليقات البيت 700 في هذا الكتاب ) على كلام هذا الدرويش ، لكن يطلب منه الشرح ، ليقتنع به الفاضل ، وهو الذي علم بالطريق والفضولي وهو الذي يقحم نفسه على أهل الفضل ويضايقهم بتعليقاته وأسئلته ، ويضرب المثل للمائدة التي تعطى من نفسها لكل طالب على مذاقه وحاجته بالقرآن الكريم “ إن للقران ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن “ .
 
( 1900 - 1916 ) يفسر المرشد ( الدرويش ) لبهلول كيف أن الدنيا تسير 
 
“ 496 “
 
وفق هوى رجل الحق ، فإن رجل الحق يرى كل تغيير في ظاهره أو في باطنه مرده إلى الله تعالى ، فلا مشيئة له بل هو مريد لما أراد الله ، وفي البيت 1901 إشارة إلى ما ورد في سورة الأنعام اية 59وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍإن هذه كلها أمور لا يمكن شرحها فالأمر يطول لو شرحت ، كما أن “ الجلد “ على ذلك ليس على ما يرام .
 
فمن الذي يستطيع أن يعد أوراق الشجر ؟ ويوالى رجل الحق شرح التناسق بين المشيئة الإلهية : فعندما يكون العبد راضيا بأمر الله فهو يخضع له دون تساؤل ودون تكلف ودون انتظار لثواب أو خوف من عقاب “ إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك “ ، إنه يحيا بالله لا أملا في كسب . ويموت بالله لا نتيجة لخوف أو لنصب ، وهذا في جبلته وطبعه فلا هو اكتسبها بسلوك أو طريق ، إنه فرح بقضاء الله في حد ذاته ، نقل عن أبي على الدقاق أنه قال : هذا الأمر لا هو بعلة ولا لجهد لكنه جبلة كما قال اللهيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُولم يذكرها في سياق ذكر الطاعة والقيادة ( تذكرة الأولياء 2 / 164 ) .
 
( 1917 - 1925 ) في هذه الأبيات يخلص إلى النتيجة الكلية بين مدرستين في التصوف الإسلامي مدرسة كانت تحبذ الدعاء ، ومدرسة كانت ترى الدعاء نوعا من نفاذ الصبر من القضاء ، فبينما يبدو بعضهم متلذذا حتى بثكل الأبناء ( إشارة إلى ما ورد في الأبيات 1774 - 1790 ) ، وبعضهم يرى أن الدعاء ليس ضيقا ولكنه لأن الله سبحانه وتعالى أراد له أن يدعو ، إنه لا يدعو رحمة ولا شفقة ، وإلا فإن كل هذه الأحاسيس العادية قد أفناها في نفسه عندها انمحت كل صفاته ، لقد أحرق كل صفاته بنار العشق. ومن الذي يستطيع أن يدرك هذه الفروق الدقيقة إلا “ الدقوقى “؟
 
“ 497 “
 
( 1926 ) يبدأ مولانا من هذا البيت الحديث عن الدقوقى وكراماته ، في حوالي أربعمائة بيت ، ولم يذكر اسم الدقوقى بهذه الكرامات وبهذه الصورة في مصدر قبل مولانا ، هناك بهذا الاسم شخصيتان لا يتفق ما ورد عنهما مع ما ذكره مولانا في هذا الجزء من المثنوى : أولهما عبد المنعم بن محمد الدقوقى المحدث في القرن السابع والمتوفى في حماة سنة ( 640 هـ - ) والثاني : تقى الدين محمود الدقوقى الذي ولد في أواخر عمر مولانا ، وكان حيا حتى سنة ( 733 هـ - ) وكان واعظا - ولم يكن أحدهما بالعارف أو من يملك شخصية عارفة بحيث ينسج مولانا حوله هذه القصة الطويلة . ولا “ يوجد “ “ دقوقى “ اخر معاصر لمولانا أو قبله ، وحتى إذا قيل : إن الاسم تحريف لاسم أبى على الدقاق وهو صوفي مشهور كان دائم السفر فإنه لم تنسب له كرامة أو رواية يمكن أن تكون أساسا لهذه القصة الطويلة ( انظر نفحات الأنس 291 ) وربما يكون الأمر كله ابتكارا من مولانا جلال الدين على أساس الرؤى التي تكررت كثيرا في “ الفتوحات المكية “ لابن عربى مستخدما اسما ما أعجبه
 
( ماخذ 107 - 110 ) أو سمع به ، أو لعله رأى بين الاسم وبين “ الدقة “ سببا فاختاره ، والدقوقى في نظر مولانا روح سامية ، يعيش بين الناس دون أن يعيش بينهم ، يرى في اليقظة ما يراه الآخرون في النوم والسكر ، دائم الطلب لرجال الطريق ، يسافر سفرا لا كيفية فيه ويرى شموعا تتحول إلى بشر وبشرا يتحولون إلى شموع والأشجار وهلم جرا . كل ذلك في بيان يطعمه مولانا بمذاق باطني خاص ، وبأسلوب أدبى رفيع يبلغ فيه الرمز الصوفي قمة استخدامه الفنى ، بحيث تبدو القصة كقصة استبطانية سابقة لمنهج الاستبطان في الأدب بقرون عديدة كما سنرى .
 
( 1929 ) ورد في عوارف المعارف : إنما سمى السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق ، قال بشر بن حارثة : يا معشر الفقراء سيحوا تطيبوا ، والمسافر في طريق الله إما يسافر بفكره في المعقولات وهو من طلب الآيات على وجود صانعه
 
“ 498 “
  
وشهود خالقه إلى حق اليقين ، وإما مسافر بالأعمال من عمل ( مولوى 3 / 265 ) ، وقد يكون في إشارة يوسف بن أحمد عن السفر في المعقولات دليل على أن رحلة الدقوقى شأنها كشأن معارج الصوفية أغلبها معارج في الروح وفي الباطن لا في الأماكن والأصقاع ، وفي هذه الإشارة إلى كثرة سفرة الدقوقى ما يشير إلى غرام كثير من مشايخ الصوفية بالسياحة ، وبينهم أبو علي الدقاق ( هل يمكن أن تكون الدقوقى إمالة للدقاق ؟ ) ( نفحات الأنس / 191 ) .
وإبراهيم الخواص الذي روى عنه أنه لم يكن يمكث في مدينة ما أكثر من أسبوعين .
 
( 1932 ) الاثنينية هي قطع العلائق عن الصور الظاهرة ، والمقصود أنه كان منفردا لأنسه بالحق وليس كبرياء على الخلق .
 
( 1936 ) الإشارة هنا إلى حديث مروى عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ( إنما أنا لكم مثل الوالد ) “ استعلامى 3 / 305 “ وإلى حديث آخر “ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى من المؤمنين وترك دينا فعلى قضاؤه ، ومن ترك مالا فهو لورثته “ وقال تعالى في هذا المضمون في سورة الأحزاب آية ( 6 )النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ( مولوى 3 / 265 ) .
 
( 1938 ) ترجمة أيضا لحديث نبوي “ كل شئ قطع من الحي فهو ميت “ ( استعلامى 3 / 305 ) .
 
( 1939 ) ما دام الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأولياء الله هم جزء من كلية الوجود فمن انقطع عنهم فهو ميتة حتى يتصل بهم ثانية .
 
( 1947 ) خواص الحق هم الأولياء الكاملون ومجالستهم حتى بالنسبة للواصلين شديدة النفع ، وهي ضرورية في نظر مولانا .
إذا صرت بعيدا عن حضور الأولياء * فأنت في الحقيقة تصير بعيدا عن الحق
 
“ 499 “
 
( انظر الكتاب الثاني الأبيات 2220 - 2224 وشروحها ) .
 
( 1956 ) في النص مثل داود والواقع أن داود كان المشكو له ولم تكن تسعون نعجة كما ذكر مولانا بل هي بنص القران الكريم “ تسع وتسعون نعجة “إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ( ص / 23 ) .
 
( 1958 - 1963 ) التعليق هنا خارج القصة ومن لدن مولانا ، والمقصود بالذكور أو الرجال رجال الحق الذين يقوون على الطريق ، والمخنثون هم الذين لا يملكون من الرجولة إلا مظاهرها ولا قوة لهم على الطريق ، والرجولة في الطريق ليست رجولة الجنس ، فرب امرأة في الطريق “ أكثر رجولة “ من كل الرجال . والسر الخفي في هذا الطريق أن سالكه لا يشبع من التجليات والإنعامات . فليس في هذا الطريق “ صدر “ أي ليس فيه زعامة ، ولا لسالكه منتهى ، يقول إن وصل إليه “ لقد ان لي أن أتوقف “ بل يظل الطريق في حد ذاته هو المنتهى .
 
 
( 1964 - 1974 ) والدليل على هذا هو قصة موسى والخضر عليهما السلام ، والخضر هو المرشد صاحب العلم اللدني ، فموسى كليم الله كان طالبا للشيخ والمرشد ، فحتى الواصل لا بد له من الشيخ والمرشد ، أما المقصود بالشمس والقمر فهما موسى والخضر ، فكلاهما كوكب منير لكن القمر يستمد نوره من الشمس ، أما مجمع البحرين “ في تفسير لبعض العارفين “ فهما كناية عن وليين من أولياء الحق وهما هنا موسى والخضر ، أو هما الجمع بين السير المباشر إلى الله والسير بصحبة شيخ ، ويرى موسى أن متابعة الخضر لسنوات أمر جدير بالنصيحة المرجوة . فإذا كان المرء يسعى ويكدح في سبيل “ عشق الخبز “ أفلا يساوى عشق الأحبة كدحا أكثر وعملا أكثر ؟ .
 
“ 500 “
  
( 1975 - 1986 ) عودة إلى قصة الدقوقى : والخافقان هما الشرق والغرب أو هما السفر بين عالم المادة وعالم المعنى ، أو السير الباطني داخل الذات ، وكل ذلك في سبيل عشق المحبوب ، المشي حافيا على الشوك والحصى كناية عن صعوبة الطريق الصوفي ووعورته ، ولا يحس العارف بهذا لأن المشي لا يتم بالأعضاء ، بل هو سير بالقلب ، بل إن القلب نفسه في سكره بالمحبوب لا يحس بهذا الطريق ، وينتقل مولانا إلى موضوع محبب إليه : وهو أن الطفرات التطورية في حياة الإنسان العادي تتم دون انتقال ودون حركة ، فرحلة الإنسان من النطفة إلى العقل ومن العقل إلى الجنان
 
( انظر من الجنين إلى الجنان تأليف مولانا قطب الدين عنقا ترجمة كاتب هذه السطور - القاهرة دار نشر الثقافة 1977 ) لا يتم بالسير أو الخطو . وفي البيت 1983 يقول مولانا أن الدقوقى كان يسير هو الآخر في عالم المعنى ، أي يسير لا نقل فيه ولا حركة بالرغم من أنه كان ينتقل ويتحرك ، وفي البيت 1984 يعود مولانا إلى الحديث على لسان الدقوقى : إن الدقوقى يرى البشر تجسيدا لأنوار الحبيب ، يرى في كل إنسان جزءا من هذا النور ، وهو يطالع هذا النور في أقل جزئيات العالم ، الذرة أو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس وكالقطرة التي تمثل البحر ، ثم يدخل بنا في مشاهداته عند وصوله إلى “ ساحل ما “ أي ساحل هذا ؟ قد يكون ذلك الحد الذي يفصل بين مشاهداته المعنوية وتجسد هذه المعنويات في صورة تبدو كالأشباح عندما يصل السالك إلى ساحل عالم الأرواح ، وعالم المثال في صورة هذا العالم فإن اللبن صورته في عالم المثال العلم ، وكذا المحبة والعشق صورته في عالم المثال الخمر ، وكذا الأشجار المثمرة صورة العلماء ، وكذا الشموع المنيرة صورة الأولياء ، فالعوام يدخلونه حالة النوم والخواص يدخلونه حالة اليقظة ( مولوى 3 / 272 ) .
 
( 1987 - 1992 ) الشموع السبعة في رأى صاحب المنهج هي مصابيح أرواح الأبدال السبعة في عالم الظلمات ( 3 / 272 ) ، والرقم سبعة في كثير من
 
“ 501 “
  
الأساطير والروايات المذهبية الشرقية ذو قيمة معنوية مقدسة ، وفي تصنيف الأولياء ، هناك طبقة عليا يسميهم الهجويرى في كشف المحجوب الأبرار ، ويسميهم ابن عربى “ الأبدال “ وهم الحكام الباطنيون على الأقاليم السبعة التي ينقسم العالم إليها في منظور الجغرافيا الإسلامية ، وقد تكون الشموع السبعة هنا هي تجلى نور الحق في الأبرار أو الأبدال السبعة ، خاصة أن الشموع السبعة تتحول فيما بعد إلى سبعة رجال . وتزداد حيرة الدقوقى من مشاهداته التي لا يراها الخلق ، وهم سادرون في غيهم يبحثون عن مصباح مع وجود هذه المصابيح المنيرة . لكن الله لم يشاء هدايتهم إليها “ إنه يهدى من يشاء “ .
 
( 1993 - 2002 ) تحول الشموع إلى شمعة واحدة كناية عن وحدة أولياء الحق ( انظر شروح الأبيات المقدمة ) وهي في مرتبة الوحدة تشق جيب الفلك أي تصل إلى أسرار تخرج عن نطاق هذا العالم الترابى ، أما تحولهم إلى سبع شموع مرّة ثانية فهو كناية عن عودتهم من عالم الرحدة إلى عالم الكثرة ، أو من تجلى الذات إلى تجلى الصفات ، ورغم الكثرة فإن الاتصالات التي بينها لا توصف لأنها ليست من عالمنا الأرضي ، وتعبيراتنا مرهونة بهذا العالم الأرضي ، والمشاهدة الواحدة بعين الباطن لا يمكن التعبير عنها في سنوات ، وما يصل إليها الإدراك الباطني في لحظة لا تقوى الأذن على سماعه في عام وما دام التعبير ليس ممكنا فانشغل بنفسك وهذبها وسر في الطريق حتى تصل إلى الساحل الذي تنكشف لك فيه المشاهدات عيانا . وقل ما دمت لا تجد ما تتحدث به من الثناء “ لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ وفي الأبيات ( 2000 - 2002 ) يحاول الدقوقى أن يتقدم نحو هذه الشموع لكنه لا يقوى ويسقط مغشيا عليه .
 
إن محاولة إدراك الباطن بالظاهر ( الجسد والحركة ) مقضى عليه بالفشل . لأن “ القشة “ بتعبير مولانا لا تتحمل الجبل ( انظر الكتاب الأول - المقدمة ) .
 
“ 502 “
 
( 2003 - 2004 ) في رأى القدماء أن النور بلا جسم ، ويبدو هذا الأمر في هذه القصة ، فتجلى عالم الغيب على عالم الصورة ظل ما دام في صورة النور والشموع سعيا ما بين المعنى والصورة ، فهو نوع من الأعيان الثابتة أو الصور المثالية ، وفي هذين البيتين تنتقل المشاهدات من عالم المثال ، وتنقلب الشموع السبعة إلى سبعة رجال ، لكن أنوارهم مع ذلك ترتفع إلى عنان السماء . وربما شاهد الدقوقى في صحوة أنهم سبعة رجال ، لأن حالات الحيرة والإغماء المتتالية تخرج الشيخ من المشاهدة الباطنية ومن عالم السكر إلى عالم الصحو .
 
( 2005 - 2010 ) حدث تحول الرجال إلى شجر عندما تحول بصر الدقوقى إلى عالم المثال فرأى كل رجل قد تحول إلى شجرة ، فقد رآهم في البداية شموعا لتجردهم من المادة العنصرية ، ثم رآهم رجالا لمشاهدته إياهم في هذا العالم مع أبدانهم فلما نظر في عالم المثال شاهدهم أشجارا ، أي شاهدهم مع أرواحهم وأجسادهم وحواسهم واثارهم وعلو مراتبهم ( مولوى 3 / 275 ) وهذه الرؤية في عالم المثال تثبت فترة أطول كما سنرى - وفي البيت 2008 يقصد السمكة والثور الأسطوريين عندما ساد الاعتقاد بأن الأرض على قرن ثور والثور على ظهر سمكة . وثمار هذه الأشجار روحانية أيضا ينبثق منها النور أيضا ، وهذه الثمار هي إفاضات هؤلاء الأبدال وحديثهم على الحق وو رحمتهم بهم ، وهم سبب الرزق وسبب المطر الإلهية .
 
( 2011 - 2034 ) تتناول هذه الأبيات فكرة أن أولياء الله غالبا ما هم مجهولون من الناس محجوبون عن الخلق ، إنهم لا يلجأون إلى ظلالهم الفينانة ويلجأون إلى أهل الدنيا في هذه الصحراء القاحلة التي لا تحتوى على أشجار سواهم ، لقد سد الغضب الإلهى عليهم أبواب المعرفة ، فهم ينظرون إلى “ السها “ ولا ينظرون إلى القمر ، وتتعلق أبصارهم بالهباء المنبعث مع أشعة الشمس ولا تنظر إلى الشمس ، ويتقاتلون على متاع الدنيا وهو بمثابة التفاح المهترىء ،
 
“ 503 “
 
ويدفعهم القحط إلى السلب والنهب ، بينما كل ورقة وكل برعمة من هذه الأشجار تقول ( يا ليت قومي يعلمون ) ( يس / 26 ) إنهم لا يزالون يدعون الخلق إليهم لكن غيره الله تعالى عليهم وغضبه على الخلق لا تجاهم إلى “ الغير “ يغمض عيونهم ، لأنهم لا يستحقون الفيض ، فأولوية شروط الفيض الاستحقاق ، وهم من جهلهم لا يسمعون من يوجهونهم ، أي تلك الأشجار الوارفة ، إنهم يظنونه يهذى من كثرة رياضاته وجوعه وسهره ، بحيث إن الدقوقى نفسه يشك : تراه واهما ؟ وكيف يكون واهما وهو يمشى بين هذه الأشجار يتفيأ ظلالها ويأكل من ثمارها ؟ إن ما يراه من تناقض بين حاله وأحوال الخلق يتقاتلون في سبيل متاع تافه ( نصف حبة حصرم ) ، يجعله في حيرة من أمره ، أتراه غافل عن أمره يتثبث بوهم ؟
 
( 2035 - 2039 ) يعلق مولانا هنا : اقرأ يا دقوقىحَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا( يوسف / 110 ) الرسل أنفسهم ييأسون لا من رحمة الله بل من تكذيب الخلق ، واقرأها “ كذبوا “ بتشديد الذال ، لأن قرأءتها بالتخفيف تعنى أن الكذب قد قيل لهم ، ولكن كذبوا بالتشديد تعنى المعنى المفترض وهو أن الخلق قد كذبوهم ، وعند اليأس الشديد يأتي النصر .
كما ينبلج الفجر الصادق من ظلمة الليل البهيم . إن قراءتها بالتخفيف تعنى أن الأنبياء قد رأو أنفسهم “ غير “ الحق وأنهم كانوا في حجاب . على كل دعك من البحث في هذه الأمور الظاهرية “ كيفية القراءة “ ، فإن المهم هنا هو الثمار المعنوية ، فأسرع وجاهد ، لكي تأخذ نصيبك منها ، فإن ثمار عالم المعنى ذات سحر ، ولها في كل لحظة سحر جديد .
 
( 2040 - 2047 ) عودة إلى حيرة الدقوقى ومشاهداته : ها هي الأشجار تنادى الناس لكنهم يظنونها خيالا من هؤلاء الناس الذين يرونهم مبتلين بالسوداء والهذيان والوهم ، إنهم يحكون عيون الأجساد علهم يرون شيئا ،
 
“ 504 “
 
لكن متى كانت رؤية هذه الأمور منوطة بعيون الأجساد ؟ إنهم يتعجبون لأنهم لا يرون . والدقوقى يتعجب من ختم الله الذي ختم على قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم غشاوة ، إن عجب أبى لهب من صنع الله ، لكن عجب محمد صلى الله عليه وسلم من غفلة الأبصار والأسماع والقلوب عن صنع الله . . وخير للعارف أن يصمت . فإن لم تكن هناك اذان واعية فماذا يجدى الحديث ؟
 
( 2048 - 2055 ) يتوالى تغير الصور على الدقوقى ، حينا يراهم سبعة وحينا يراهم واحدا . وهكذا بشكل مستمر ، هم سبعة عددا ، لكنهم نفس واحدة ، هم من حيث التعين متعددون ومن حيث الحقيقة واحد ، لكن رؤية الدقوقى “ بحسب حاله “ فإن حل به التكوين رآهم سبعة ، وإن تحقق من مرتبة الذات رآهم واحدا ( مولوى / 281 ) وها هو يرى “ الأشجار “ تصطف للصلاة ، لماذا يراها أشجار حتى عند الصلاة ليثبت أنهم حتى في عالم المثال عابدون راكعون ، وإن لم تصدق أن الشجر يصلى ، فاقرأ من سورة الرحمنوَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ( اية / 6 ) ومن قال : إن الصلاة يلزمها مفاصل وركب ؟ إن هي إلا صورة الصلاة ، أما معنى الصلاة فحدث ولا تسل ! !
 
( 2056 - 2065 ) تنتقل التجليات من عالم المعنى إلى عالم الصورة وتتحول الأشجار السبعة إلى رجال سبعة ، وهذا واضح ، فسوف يتحدثون مع الدقوقى ، ومن العسير أن يتم الحديث وهم في صور عالم المثال “ الأشجار “ . . لقد كانوا يعرفونه ، ونادوه باسمه ، ويتحير الدقوقى : إذا كانوا بالفعل مستغرقين في نور الجلالة فكيف يعرفون الألفاظ والأسماء ؟ لكنهم يجيبونه : متى تخفى الأسماء على القلب المستغرق في الله ؟ إنه هو الذي يعلم الأسماء كلها . . فكيف يضن على “ صفوة أوليائه بعلم كان لأحدهم “ ادم “ ؟ فإذا غاب الاسم عن الولي حينا فهو موكول بهذا الحين فحسب ، لأنه يكون في “ استغراق “ مع الله تعالى لا يرى سواه ولا يدرك إلا ما يجعله يدركه .
 
“ 505 “
  
( 2066 - 2073 ) يكرم الأبدال الدقوقى بأن يطلبوا منه أن يؤمهم في الصلاة لكن كيف يقوم الدقوقى بالإمامة وهو في حالته هذه أنه يطلب برهة من الزمان لكي يكون مستعدا ، ولكي تحل المشكلات التي تعن له ، والصحبة هي التي تحل هذه المشكلات وإن صدقت هذه الفكرة مع الأعيان والجماد والنبات فكيف لا تصدق مع رجال الله ، إن حبة الكرم بصحبتها وتفانيها في التراب تتحول إلى كرمة سامقة ، والروح أيضا تمتزج بالجسم لكنها من عطايا الكرم جديرة بالتحليق والطيران ولا تتخلص الذات من “ القبض “ أي انقباض قلب السالك من غضب الله وتصير إلى البسط ( أي انبساط الخاطر والطمأنينة ) إلا بأن تمحى بالكامل ، وبما أن ذات الدقوقى قد أعجبت في أصلها فقد تخلص من المادة وصار موضعا لتجلى المعنى والحقيقة . كان الدقوقى في حاجة إلى أن يصير من جنس الأبدال لكي يكون إماما لهم ومن ثم طلب هذه المهلة ، وقد وافقه الأبدال على ذلك .
 
( 2074 - 2078 ) حلت إذن مشكلات الدقوقى ، ومنحه الأبدال السبعة التأييد وكلهم جلسوا للمراقبة والرحلة إلى عالم المعنى منفصلين جميعا عن ذواتهم لا خبر عندهم ولا انتباه إلا إلى الحق سبحانه وتعالى ، لقد تخلصت روح الدقوقى من محدودية الزمان ، والخلاص من محدودية الزمان هو الشباب الدائم ، ومن ثم فلا طريق للذبول والشيخوخة إلى رجال الله ، وتنجيه أيضا من ألوان التلويث أي اثار الحياة المادية ذات الألوان المتعددة وتعلقاتها ، فالصوفى الواصل من هنا يسمى في مرحلة اللون الواحد . . وإنك إن خرجت فترة بسيطة من جوف الزمان والعالم المحدود فإن حديث الكيفية والماهية سوف ينتقى تماما ويكون مأذونا لك بأسرار الغيب فالزمان مقيد بعالم المادة لا يدرك الأزمان والخروج عن قيود الحياة المادية . وإن أراد أن يعرف شيئا خارج هذه الحياة المادية فلن يظفر إلا بالحيرة ( انظر الأبيات من 2937 - 2940 ) .
 
“ 506 “
 
( 2079 - 2085 ) كديدان مولانا يتدخل بتعليقاته هو من خلال حكاياته ، فالحظيرة هي ما يجتمع فيها ذوو الأجناس الواحدة وعالم البحث والسعي هو الطريق ، والمقصود أنه في العلاقة بين الله والعبد فإن كل إنسان يمضى مع من يجانسه ، والإنسان كالدابة تربطه المشيئة الإلهية بأحد هذه الحبال ، والرائض هو مدرب الخيول ، والرافض هو من يخرج عن طريق “ جنسه “ والقائمون “ السائسون “ على الحظيرة ، هم الشيوخ والمرشدون يأخذون بزمامه ويسحبونه ، والحفظة هي المشيئة الإلهية تسلب منا اختيارنا ( لاختيار هو أفضل بلا جدال ) ، والعيار هو مدعى الذكاء ، والحافظ هنا مقتبس من الآية الكريمةإِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ( الطارق / 4 ) وفي البيت رقم 2084 يقول مولانا :
إنك تنوى شيئا ما ، وتسعى فيه ، ولا تصل إلى نتيجة فما الذي قيد يديك وقدميك ، وفي البيت التالي يقول : إنك مع ذلك لا تؤمن بأن الذي فعل ذلك هو قدرة الله وتسمى هذا الأمر بتهديدات النفس ، أي مشاغل هذه الدنيا التي تضخمها النفس في نظر السالك وتجعله مشغولا بنفسه وتبعده عن الخالق ( استعلامى 3 / 312 - 313 ) .
 
( 2086 - 2098 ) يواصل مولانا حكاية الدقوقى ، لكنه يتحدث حديثه هو ، ها هم يطلبون منه أن يؤمهم في ركعتين ( الفروض ) فأولى أن يكون العارفون . . المستنيرون ذوو البصيرة هم أئمة القوم ، فإن الأعمى لا يؤم المصلين وبالرغم من أنه يمكن أن يكون المقصود بالأعمى هنا أعمى البصيرة ، فإن الإشارة أيضا إلى قاعدة فقية ، وذلك لعدم اهتداء الأعمى إلى القبلة وصون ثيابه من الدنس .
وإن لم يوجد أفضل منه فلا كراهة ( مولوى 3 / 286 ) لكن الأبيات التالية تشير إلى أن المقصود هو “ أعمى الطريق “ ، ذلك لأن النجس الظاهر من الممكن أن ينتفى بالغسل ، أما نجس الباطن فلا حيلة فيه وفي البيت 2096 إشارة إلى الآية الكريمة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ( التوبة / 28 ) ونجس الكافر

 “ 507 “
 في باطنه ، والمقصود بالرائحة في البيت 2098 تأثير الكفر ومفاسده .
 
( 2100 - 2110 ) يتحدث مولانا إلى المريدين الذين لا طاقة لديهم لتحمل المعاني العميقة ويقدم لهم الأمثال من العالم المحسوس ومن الواقع المعاش .
إنكم لو كسرتم جرة “ الجسد “ وتغلبتم على هوى النفس فإن ماء الفهم يسيل خارجا ويصير سلسا رقراقا ، والحواس الظاهرة التي ترد الفهم الصحيح بمثابة الأنابيب التي تهدر الفهم ويشير في البيت 2103 إلى الآية 53 من سورة النور :
لقد سمعت أمر الله تعالى : غضوا أبصاركم ، ومع ذلك فقد اعوج سيرك وسال منك ماء الفهم الصحيح ، كما أن الكلام والاستماع إلى كلام الآخرين قد يمنعان الفهم الصحيح أيضا ، وفي البيت 2105 يقصد بالثقوب الأخرى الحواس الأخرى علاقتنا المختلفة بالحياة المادية والفهم المضمر هو الفهم الصحيح وإدراك الحقائق الإلهية . وزوال الفهم كأنه تبخر الماء . إن لم يكن هناك عوض من المطر لا نقلب العالم إلى صحراء .
 
( 2111 - 2119 ) يدرك مولانا نفسه أنه أحيانا يستغرق في المعاني بحيث ربما يترك القصص دون أن ينهيها . ومن المنافذ التي تأخذ مولانا إلى عالم المعنى ذكر أشخاص من مثيل أستاذه ومرشده شمس الدين التبريزي أو حسام الدين جلبي ( انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الأول ) ، وهنا يذكر مولانا حسام الدين چلبى قائلا : إنه إن مدح السابقين فهو يقصد أيضا حسام الدين چلبى على أساس أن الأولياء نفس واحدة . لقد ثبت يا حسام الدين في القلب والروح ، وهما أيضا جديران بحلول من هو مثلك لأن السماء والأرض والأركان والعناصر لم تلد من هو مثلك . إن أي ثناء سقته لأحد هو ثناء لأولياء الحق . فنحن لا نمدح إلا الخير في الناس ، إنني أسوق هذه الحكايات والأمثال . حتى تأتى “ أسرار الأحبة في أحاديث الآخرين “ ولا يظن من هم ليسوا بأهل أنني أمدح حسن حسام الدين . والمدح أيضا مهما بلغ لا يبلغ ما هو جدير بحسن حسام الدين .
 
“ 508 “
 
( 2129 - 2133 ) يواصل مولانا الحديث عن أن كل أنواع المدح هي في الحقيقة مدح الله سبحانه وتعالى ، فالنور الذي يشع على جدار ليس من الجدار في شئ ، وانعكاس القمر في بئر يجعل الضال يدلى برأسه في البئر ويمدح .
وكل هذه الأحداث الخاطئة هي في الحقيقة نوع من توجيه مدح الله سبحانه وتعالى إلى غيره ، هي مثل ذلك الذي رأى شعره من حاجبه وظنها الهلال ( انظر الكتاب الثاني وأيضا ماخذ / 43 ) .
 
( 2135 - 2141 ) المقصود بالأصنام هو كل موجود سوى الله ، وفي المصطلح الصوفي “ كل ما شغلك عن الحق فهو صنمك “ ومدح هذه الأصنام كمدح الشهوة الوقتية ومن هنا فإن الميل إلى مخلوقات الدنيا ينبغي أن يكون وسيلة للتحليق نحو افاق عليا ، إن الخيال هو السبيل إلى الحقيقة ، والمجاز قنطرة الحقيقة ، والعشق الأرضي وسيلة للسمو إلى العشق الأعلى ، المهم أن توطن النفس على العشق ، المهم أن تحتفظ بهذا الجناح . ولا تعتبر نفسك واقفا على الصور الأرضية وإلا فقدت جناحك الذي تطير به إلى عالم المعنى . وكعادة مولانا يمنع نفسه من الاسترسال في الحديث ، وإن كان يطلب المهلة ويرجىء الحديث إلى موضع اخر حتى يتم قصة “ الدقوقى “ .
 
( 2142 - 2168 ) يواصل مولانا الرحلة الروحانية للدقوقى ( التي توقفت عند البيت 2078 ، وبعد المراقبة يصطف الأبدال للصلاة خلف الدقوقى إن تكبيرة القيام هي بمثابة ذبح النفس ، بحيث لا يبقى من النفس شئ والأضحية في الصلاة معناها إفناء النفس . فالروح تكبر تكبيرة الذبح على الجسد كما كبر إبراهيم عليه السلام تكبيرة الذبح على إسماعيل عليه السلام ، إن البسملة هي بمثابة البسملة على الذبيحة ، والصلاة بمثابة القيامة حيث يعرض الناس جميعا على الحي القيوم . وحيث موقف الحساب ويشتق مولانا من كلام الإمام على رضي الله عنه “ لا يزول قدم ابن ادم حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن شبابه
 
“ 509 “
 
فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعما عمل فيما علم “ ( جعفري 7 / 495 ) ثم يواصل مولانا تفسيره عن الصلاة ويعطى معاني جديدة لحركات الجسد في الصلاة ، فالأكتاف المرفوعة أمام الخالق في القيام تنوء بهذه الأسئلة الملقاة عليها “ فتركع “ خجلا ، فينادى من الحق أن ارفع رأسك ، وأجب عن أسئلة الحق ، لكنه لا يقوى على مواجهة الحق فيخر ساجدا وهكذا تمر الصلاة ما بين سؤال من الحق ، وخجل وركوع وسجود من العبد ، بحيث لا يبقى له إلا أن يطلب الشفاعة .
 
( 2169 - 2177 ) إن تسليم الصلاة يعنى أن المصلى وقد أعياه السؤال يتلفت ذات اليمين وذات اليسار هيبة من الله تعالى وبحثا عمن يشفع له أو يعينه فييَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍفلا يجد شفيعا ولا حميما ، فكل مشغول بنفسه ، وكل انسان لا يستطيع أن يدافع عن ذنوب غيره . . ويخلص مولانا إلى تنبيه المصلى إلى هذه الإشارات الحسنة طالبا منه أن يستنتج من الصلاة بهذا التعبير الجميل : أخرج الفرخ من بيضة الصلاة : أي استخرج المعاني الكامنة في الصلاة كما يخرج الفرخ من البيضة . والبيضة هي الأفعال والفرخ هو المعاني ( مولوى 3 / 299 ) .
 
( 2193 - 2203 ) إن الشيطان نفسه ليسخر من العبد العاصي الذي لا يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والإنابة إلا حين يدركه الغرق . وعبدة الكلاب يعنى يا عبدة النفس الكلبية ، والعلتان : أي ما سبق من نفاق وكفر ، وما يبدو من نفاق حاضر وتظاهر بالتقوى . ولو رددتم لعدتم إلى مما كنتم فيه . ويعلق مولانا : إن حديث الشيطان واضح وظاهر ولكن لا تسمعه إلا الأذن الطيبة .
ويرى بعض المفسرين أن الحديث النبوي المشار إليه في الأبيات هو من كلام الإمام علي عليه السلام “ أول رأى العاقل اخر رأى الجاهل “ ( استعلامى 3 / 318 ) وفي البيت 2201 إشارة إلى حديث نبوي : “ الكيس من دان نفسه
 
“ 510 “
 
وعمل لما بعد الموت “ 2203 إشارة إلى الحديث النبوي “ سوء الظن من حسب الفطن “ .
 
( 2210 - 2225 ) يقترب مولانا من “ الدرس “ المستفاد من الحكاية وهو أن رجال الله لا ينتبهون إلى ما يجرى في الدنيا ، ومن ثم فهم لا يدعون إلا إذا كان الدعاء من مشيئة الخالق سبحانه وتعالى ، فالدعاء من الله سبحانه وتعالى والاستجابة منه أيضا سبحانه وتعالى . فهو الذي يطلب الدعاء ويوحى بهادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْوإن أولياء الله لا يدعون ، لأن وجودهم قد فنى . فلا رغبة عندهم سواء بالنسبة لهم أو لمن سواهم ، فهو عندما يدعو لا يدرى جسمه أو روحه الفردية خبرا عن دعائه .
 
( 2227 - 2244 ) المقصود بالبطل هو الدقوقى بالطبع . وأهل السفينة هم أهل هذه الدنيا . فالقدرة المعنوية لأهل الله هي قدم الثعلب ، وعلوم أهل الظاهر والتدابير الدنيوية . ومن أجل الوصول إلى الهدف عليك أن تستخدم القدم لا الذيل ، ونحن بالبحث والاستدلال والفكر نريد أن نجذب هذا وذاك إلينا ويعتقد فينا . . وهذا هو الطمع في الألوهية أي أن كلا منا يطمع في أن يكون إلها ، والحفرة المذكورة في البيت التالي هي حفرة الجهل والغفلة وهكذا أنت أيها الديوث يا من أنت في الجهل والغفلة : عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس . إنك أسير الدنيا بعناصرها المادية . وهي مؤخرة الحمار ، وأنت كالحمار لا تنظر إلا إلى مؤخرة الحمار . هذا هو كل عالمك فأين هو من عالم القلب ؟
 
( 2245 - 2282 ) في رواية للأفلاكى أن مولانا وعظ أحدهم قائلا : الزم القبلات الأربعة . قال : وما هي وعلمنا أن هناك قبلة واحد ؟ . قال : القبلة الأولى هي قبلة الصلاة وهي معلومة ، والثانية السماء قبلة الدعاء ، والثالثة أولو الأمر ما أقاموا العدل وقضوا الحاجات فالله في جانبهم ، والرابعة قلوب رجال الله وهي أسمع وأرفع ، فهي موضع نظر اللَّه ، فهو مسجد الخلق كافة لأن الله هناك
 
“ 511 “
 
( مناقب 1 / 464 ) ، ليس كل قلب إذن جديرا بعشق الحق ، فإن الذي يجعل نفسه فانيا في الحق كما يفنى الجزء في الكل هو الذي يصير قلبه جديرا بجذب العناية الإلهية ، “ فإن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأفعالكم ، والقلب الذي ينظر إلى الدنيا الدنية ليس قلبا ، بل هو أشبه بالرطوبة الموجودة في الطين “ الجسد “ لا تصلح للوضوء ، والقلب عندما يصل إلى مرتبة “ البحرية “ يكون جديرا بجذب الحق ، وماؤنا أي قلوبنا وأرواحنا حبيسة في الطين “ الجسد “ وأسيرة في الحياة الدنيا . ويتجه مولانا بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى أن يخلص روحه من سجن الجسد . ولكن الله سبحانه وتعالى لا يجذب إلا القلب المتجه إليه لا القلب الذي يدعى أنه “ ماء عذب “ ، وهذا الادعاء هو الذي يجعل المرء محروما ويرده عن الباب ويؤذيه .
ويجعله دائما رهين الدنيا ، يحزنه مفقودها ، ويفرحه موجودها ، مع أن الخوف والفرح ينبغي أن يكونا بالله فحسب ولله . أما وأنك هكذا وتعاند وتدعى أنك من أصحاب القلوب ، ولا تبحث عن المدد من أصحاب القلوب الحقيقيين ، لأن قلبك معلق بالدنيا فهو أعمى . والقلب موضع نظر الله فهل يتفق أن يكون موضع نظر الله أعمى ؟ إياك أن تعتبر هذه القطعة الصنوبرية من اللحم قلبا ، فأي اتساع لها للعالم الأكبر وأقصى همها لذات هذه الدنيا التي هي مجرد انعكاس للذة الكلية . هذه القطعة الصنوبرية من اللحم عند الناس جميعا ، لكن القلة القليلة هي التي ظفرت بالقلب الذي هو موضع سر الله ، وبين أصبعي الله ، وموضع يتسع للحق ، هو القلب الذي يعرض عن الغير وعن الإعراض ويفنى بالحق ، يحيط بالوجود وينشر إحسانه على الجميع جودا ، لكنك مشغول كالأطفال تملأ حجرك بالحصى والحجارة وتظنها ذهبا ( كليات ديوان شمس تبريز غزلية 1353 بيت 9 ص 525 ) فهذه المعارف ليس بالعمر وتقدم السن بل هي بالإدراك . . ولا يدركها إلا الرجال .

“ 512 “
 
( 2283 - 2295 ) عودة إلى قصة الدقوقى : والمقصود بهذه الجماعة الأبدال ، والدقوقى ، ويرى بعض المفسرين أن إنكار الجماعة على الدقوقى أن السفينة كانت في سبيلها إلى الغرق في الفناء الإلهى ( ! ) وأن دعاء الدقوقى رد المشيئة الإلهية ( ! ) وهذا التفسير بعيد عن سياق المثنوى الذي ينسى أحيانا لدخول مولانا في تشعبات معنوية عديدة ، فالسياق كان عن الأولياء الذين لا يدعون .
فهم - كما عبر مولانا هنا - لا يبدون الاعتراض على المشيئة . وقصة الدقوقى مع الأبدال فيها كثير من روح قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام فهو لم يستطع معهم صبرا . وكانت النتيجة أنهم اختفوا عن نظر الدقوقى الذي كان رغم مكانته يحمل كثيرا من “ هم الدنيا ومن فيها “ . . لقد صاروا في “ قباب الحق “ ( أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيرى ) .
 
( 2296 - 2307 ) تنتهى حكاية الدقوقى عند هذا الحد ويضيف مولانا عليها بعض التعليقات القصيرة ، ولعل أحد المريدين أو الحاضرين قد اعترض على تجلى الحق في صورة البشر ، ويتساءل مولانا : إنك تعترض على أساس أنه كيف يلتفت رجل الحق إلى البشر بينما هو في مشاهدة الحق ؟ أقول لك : إنك تراهم موجودات بشرية مع أنهم ليسوا كذلك . والحمار هو الذي يقف على هذا الاستنتاج ويستريح إليه . وهذا قياس إبليسى : لقد ضل إبليس لأنه لم ير من ادم إلا الطين ( ولم ير النفخة الإلهية ) . . وها هو يخاطب الدقوقى ، “ وكل من يبحث عن الحق “ بألا يتوقف عن الطلب ، فإن الاستجابة مرهونة بالطلب .ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( المؤمن / 60 ) ومن ثم فرجل الحق ليس أقل من الفاختة التي تهدل في سيرها قائلة ( كو . . كو : أين أين ؟ ) وهذا المثل ورد عند سنائى في الحديقة ( ص 12 ) وفي رباعيات الخيام .
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: