السبت، 29 أغسطس 2020

09 - حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيقي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

09 - حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيقي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيقي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيقي ، فصارت الآية الكريمة « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ » نقد وقته ،
فهذا التل من التراب ملوكية عند من هم في طبع الأطفال وما يسمونه الاستيلاء على القلاع، فذلك الطفل الذي يتغلب (في اللعب) يصعد علي تل من تراب..
ويصبح : هذه القلعة لي . . ويحسده الأطفال الآخرون مصداقا لـ
« التراب ربيع الصبيان » وعندما تخلص ذلك الأمير من قيد الألوان قال :
 إنني إري هذا التراب الملون هو نفس هذا التراب الوضيع ولا أعتبره حريرا واطلس وطيلسان ، لقد نجوي من هذا الطلب ومضيت إلي الناحية ذات الطرف الواحد« وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا »فلا حاجة لارشاد الحق بمرور السنين وفي قدرة «كُنْ فَيَكُونُ *» لا يتحدث أحد عن القابلية .
3085 - كان لأحد الملوك ابن صبي ، مزدان بالفضل ظاهرا وباطنا .
- فرأى فيما يرى النائم أن هذا الابن قد مات فجأة ، فتكدر صفو العالم على ذلك الملك .
- لقد تيبست قربته من حرارة النار ، بحيث لم يبق لديه دمع من حرارة نار ( الحزن )
 
« 305 »
 
- وامتلأ الملك بالدخان والألم ، بحيث لم تكن الآهة تجد طريقا من داخله .
- وأوشك على الهلاك . . وهد جسده ، لكن العمر كانت فيه بقية فعوفي من مرضه .
 
3090 - وأحس بفرحة عند يقظته . . . لم يكن قد أحسن بمثلها طوال عمره .
- بحيث كان سيهلك من الفرح ، إن هذه الروح وهذا الجسد محاصران بهما دائما .
- إن هذا المصباح يموت بنفخة حزن ، ويموت أيضا بنفخة فرح ، وما أعجبه من أمر .
- وهو حي بين هذين الموتين ، فياله من حصار هذا مضحك مثير للسخرية .
- فحدث الملك نفسه قائلا : لا بد أن لهذا السرور سببا ، لقد كان سببه ذلك الحزن الذي ابتلانى به الله .
 
3095 - فواعجباه من شئ يكون أحد وجهيه موتا ، لكن وجهه الآخر يكون إحياء وزادا .
- وهذه الحال تكون هلاكا بالنسبة لأحدهم ، ثم تكون في وجهه أخرى حياة .
- إن السرور بالنسبة للحياة الدنيا كمال ، ولكنه في الآخرة نقص وزوال - فاقرأ عن تعبير الضحك في النوم ، إنه البكاء بأسف وأحزان .
- وتعبير البكاء في النوم هو السرور والفرح ، هكذا في ( كتب ) التفسير يا صاحب المرح .
 
3100 - لقد فكر الملك : لقد مضى هذا الحزن بدوره ، لكن الروح صارت سيئة الظن من حال كهذا الحال .
 
« 306 »
 
- فإن أصابت القدم شوكة كهذى ، وتمضى عن زهرتى . . فينبغي لي ذكرى منها .
- ولما كان للفناء أسباب لا نهاية لها ، فأي طريق من طرقه نسد يا ترى ؟ ! - وهناك مائة كوة وباب تفضى إلى لدغة الموت ، تصر صريرا أثناء فتحها .
- وأذن الحريص من حرصها على الزاد ، لا تسمع الصرير المر لأبواب الموت .
 
3105 - فآلام الجسد هي صرير الأبواب ، والعداوة من ناحية الخصوم هي صرير الأبواب .
- فاذهب أيها الأخ الحبيب واقرأ فهرست كتب الطب لحظة ، وانظر إلى نيران العلل الملتهبة .
- ذلك أن لكل هذه الأمراض طريقا إلى هذه الدار ، وكل خطوة في هذا الطريق أو خطوتين مليئة بالعقارب النشطة .
- إن الإعصار شديد ومصباحى ضعيف خافت فلأسرع ولأضىء منه مصباحا آخر .
- ربما يفي أحد المصباحين ، لو أن الريح اقتلعت ذلك المصباح الآخر .
 
3110 - مثل العارف الذي أضاء من مصباح الجسد الناقص شمع القلب ، من أجل فراغ فؤاده .
- بحيث إن مات مصباح الجسد ذات يوم فجأة ، يضع أمام عينه شمس الروح .
- لكن ( الملك ) لم يفهم هذا من غروره ، فاستبدل شمعه فانية بشمعه أخرى فانية « 1 »
..............................................................
( 1 ) ج / 10 - 578 :
لقد فكر في حيلة ولا حيلة فقال : إن الخروج ( من هذا الورطة ) لا يتأتى في المراد .
 
« 307 »
 
تزويج الملك ابنه خوف انقطاع نسله
 
- إذن ينبغي البحث عن عروس له ، حتى يكون له نسل من هذا الزواج .
- فإذا مضى هذا البازي ثانية نحو الفناء ، يصبح فرخه من بعده بازيا مرة ثانية .
 
3115 - وإن مضت صورة هذا البازي من هذا المكان ، فإن معناه يبقى في ولده .
- ومن هنا قال ذلك الملك النبيه أي المصطفى : إن الولد سر أبيه .
- ومن أجل هذا المعنى أيضا فإن كل الخلق يشغفون بتعليم أولادهم حرفهم .
- حتى تبقى معانيهم في الدنيا ، عندما تغيب أجسادهم وتختفى ( تحت التراب ) .
- ولقد ألبس الله تعالى بحكمته حرصهم هذا لباس الجد، وذلك من أجل رشد كل صغير مستعد.
 
3120 - وأنا أيضا من أجل دوام نسلي ، أريد لا بنى زوجة حسنة الدين .
- إنني أريدها فتاه من نسل أحد الصالحين لا من نسل أحد الطالحين حتى وإن كان ملكا .
- وإن السلطان على وجه الحقيقة هو ذلك الصالح الحر وليس ذلك الأسير ( لشهوة ) الفرج والحلق .
- لقد لقبوا أسرى ( الدنيا ) بالملوك، ومن قبيل تسمية الضد مثلما كان اسم ذلك الأسود كافور.
- وصارت المفازة اسما على البادية المهلكة وسمى العوام ذلك الأبرص بمسعود الخظ .
 
3125 - ومن أجل أسير الشهوة والغضب والأمل وضعوا ألقابا وكتبوها : الأمير أو الصدر الأجل .
 
« 308 »
 
- لقد سمى العامي أسرى الأمل أولئك بالأمراء الأجلاء في البلاد .
- وينادون بالصدر من هو في صف النعال وروحه دنية على أساس من الجاه والمال .
- وعندما اختار الملك أحد الزاهدين ، بلغ هذا النبأ مسامع الحريم « 1 » .
 
اختيار الملك ابنة درويش زاهد لابنه واعترض الحريم
وشعورهن بالعار من مصاهرة درويش
 
- لقد قالت أم الأمير من نقص عقلها إن شرط الكفاءة موجود في العقل والنقل !
 
3130 - وإنك من البخل والشح والدهاء ، تريد أن تربط ولدنا بأحد الشحاذين .
- قال ( الملك ) : إن تسمية الصالح بالشحاذ خطأ ، فهو غنى القلب بعطاء الله .
- أنه يلجأ إلى القناعة من تقواه ، لا من اللؤم والكسل كما يفعل الشحاذون .
- وإن القلة التي تكون من القناعة والتقى ، تكون مختلفة عن القلة عند الأدنياء وفقرهم .
- فإن « الدنى » إن وجد حبة واحدة ( من الذهب ) يطأطىء رأسه لكنه « القانع التقى » يفر بهمته من كنز الذهب .
 
3135 - وإن الملك الذي يرتكب من الحرص كل حرام لا بد وأن يسميه كل ذي همة شحاذا .
- قالت : أين المدن والقلاع التي تكون ضمن جهازها وأين الجواهر التي سوف تنثرها واين ( بدرة ) الدنانير ؟
..............................................................
( 1 ) هذا البيت بعد العنوان عند جعفري ( 10 / 585 ) .
 
« 309 »
 
- قال : اذهبي ، فكل من اختار هم الدين ، فقد كفاه الله بقية هموم ( الدنيا ) .
- لقد تغلب ( رأى ) الملك وزوجه فتاة من نسل أحد الصالحين حسنى الأصل .
- ولم يكن لها نظير في جمالها ، لقد كان وجهها أكثر تألقا من شمس الضحى .
 
3140 - هذا عن حسن الفتاة أما خصالها ففيها من الحسن ما لا يستوعبه بيان .
- فصد ذات الدين حتى يصل إليك تبعا له : الحسن والمال والجاه والحظ والسعيد .
- وأعلم أن اختيار الآخرة مثله كأنك تختار قافلة من الإبل ، تكون الدنيا لها تبعا ، كما يتبع امتلاك القافلة امتلاك الشعر والصوف والبعر .
- لقد اخترت الصوف ولا إبل لك ، فإن وجدت الإبل ما قيمة الشعر ؟ !
- وعندما أتم الملك عقد ذلك النكاح . . مع نسل الصالحين الذين لا شك ( في صلاحهم ) .
 
3145 - شاء القضاء أن تكون هناك ساحرة عجوز ، كانت عاشقة للأمير صاحب الحسن والجود .
- لقد سحرته تلك العجوز الكابلية ، فهي بسحرها تبز ذلك السحر البابلي .
- فعشق الأمير العجوز القبيحة ، فانصرف عن العروس وعن ذلك العرس .
- لقد قطع شيطان أسود وعجوز كابلية الطريق على الأمير على حين غرة .
 
« 310 »
 
- وتلك العجوز ذات التسعين خريفا نتنة الفرج ، لم تترك لذلك الأمير عقلا أو تدبيرا .
 
3150 - وظل الأمير أسيرا لها طيلة عام ، وكان موضع قبله نعل حذاء تلك العجوز النتنة .
- كانت معاشرة العجوز تحصده حصدا ، حتى صار من النحول ذا نصف روح .
- لقد كان الآخرون من نحوله من قلق بالغ ، بينما هو في غفلة عن نفسه من سكر السحر .
- وصارت هذه الدنيا على الملك كأنها السجن ، وذلك الابن ضاحك ( سخرية ) من بكائهم .
- لقد صار الملك بلا حيلة في هذا النزال ، فأخذ يقدم ليل نهار الأضاحي والزكاة .
 
3155 - ذلك أن كل حيلة كان يقوم بها ذلك الأب ، كان تجعل عشق العجوز يزداد ( عند الأمير ) .
- فتيقن أن في هذا الأمر سرا مطلقا ولا حيلة له بعد هذا الضراعة والدعاء .
- فكان يسجد متضرعا قائلا : أمرك نافذ . . فلمن الأمر لغير الحق على ملكه الحق .
- لكن هذا المسكين يحترق كالعود ، فخذ بيده أيها الرحيم وأيها الودود .
- ومن دعاء الملك ومن صراخة ( على باب الله ) وصل ساحر أستاذ من الطريق «1» .
..............................................................
( 1 ) هذا البيت بعد العنوان في نسخة جعفري ( 10 / 589 ) .
 
« 311 »
 
استجابة دعاء الملك في خلاص ابنه من الساحرة الكابلية
 
3160 - كان الساحر قد سمع منى على البعد خبرا بأن الأمير صار أسيرا لعجوز .
- وأن تلك العجوز كانت في السحر بلا نظير ، وآمنة في هذا المجال من الند والشريك .
- وهناك يد فوق يد أيها الفتى في الفن وفي القوة حتى ذات الله .
- ويد الله هي منتهى كل هذه الأيدي ، والبحر بلا شك هو منتهى السيول .
- فمنه تستمد السحب ما تجود به ، وإليه تكون نهاية السيل .
 
3165 - قال له الملك : لقد ضاع ولدى . . فقال له : ها أنا قد جئت إليك علاجا شافيا ناجعا .
- فليس هناك ند لهذا العجوز في السحر ، سواي أنا الداهية القادم من تلك الناحية .
- وبأمر الخالق الفرد فإنني مثل كف موسى . . أدمر الآن سحرها تدميرا تاما وأبطله .
- فإن لي علما قادما من ذلك الطرف ، لا من التتلمذ على سحر يستخف ( بعقول الناس ) .
- لقد جئت حتى أبطل سحرها وحتى لا يبقى الأمير ( عليلا ) أصفر الوجه .
 
3170 - فاذهب إلى الجبانة وقت السحور وهناك إلى جوار السور قبر أبيض .
- واحفر ذلك القبر ثانية ناحية القبلة ، حتى ترى قدرة الله وصنعه .
 
« 312 »
 
- إن هذه الحكاية طويلة جدا وأنت أيها السامع ملول فلأ قصن عليك زبدتها وأترك الفضول « 1 » .
- وأخذ يفك هذه العقد الثقيلة وأعطى للأمير طريقا ( للخروج ) من هذه المحنة .
- فعاد الابن إلى وعيه . . وانطلق سريعا إلى عرش الملك ، وهو شديد الاضطراب .
 
3175 - وسجد ، وأخذ يحك ذقنه بالأرض ، وكان يحمل تحت إبطله السيف والكفن .
- فأقام الملك الزينات هو وأهل المدينة فرحين ، وتلك العروس القانطة التي خاب مسعاها .
- وصار عالم بأجمعه حيا من جديد مليئا بالضياء ، فوا عجبا لذلك اليوم إنه يوم واليوم أيضا يوم ( وشتان بينهما )
- وأقام له الملك عرسا . . بحيث وضع ماء الورد والسكر أمام الكلاب .
- وماتت العجوز الساحرة حزنا وأسلمت وجهها القبيح وخصالها القبيحة إلى مالك ( خازن النار ) .
 
3180 - وبقي الأمير مندهشا متسائلا : كيف اختطفت منى العقل والنظر .
- ورأى عروسا شابة كأنها القمر حسنا ، بحيث كانت تقطع الطريق من حسنها على الحسان .
- فقد رشده وسقط على وجهه ، ولأيام ثلاثة سلب الفؤاد من جسده .
..............................................................
( 1 ) ج / 10 - 589 :
لقد ذهب الملك سريعا نحو الجبانة ، * وفتح الملك القبر في تلك اللحظة فرأى سحرا مدفونها فيها ، * مائة عقدة معقودة علي شعرة واحدة


« 313 »
 
- وفقد وعيه ثلاثة أيام بلياليها . حتى ضج الخلق ( حزنا ) من فقدانه الوعي .
- ومن ماء الورد والأدوية عاد إلى وعيه ، ورويدا وريدا عاد إليه حس التمييز بين الخير والشر .
 
3185 - وبعد عام قال الملك ( مازحا ) أثناء السمر ، تذكر يا بنى ذلك الرفيق القديم .
- واذكر ذلك الضجيع وذلك الفراش ، ولا تكن إلى هذا الحد جاحدا عديم الوفاء .
- قال : دعك من هذا ، لقد وجدت دار السرور ، ونجوت من بئر دار الغرور .
- وهكذا يكون المؤمن عندما يجد الطريق إلى نور الحق ، إنه يشيح بالوجه عن الظلمة .
 
في بيان أن أمير هو ابن آدم خليفة الله : أما أبوه فهو آدم الصفي خليفة الله الذي سجدت له الملائكة وتلك العجوز الكابلية هي الدنيا التي قطعت ابن آدم عن أبيه بسحرها والأنبياء والأولياء هم أولئك الطبيب الذي تدارك الأمر .
 
- أيها الأخ إعلم أنك أنت أمير قد ولدت في هذا العالم القديم من جديد « 1 »
 
3190 - أما العجوز الكابلية الساحرة فهي الدنيا ، وهي التي جعلت الرجال أسرى للألوان والروائح .
..............................................................
( 1 ) الشطرة الثانية في نسخة جعفري ( ج - 10 / ص - 593 ) وأنت مهيأ من أجل الطريق المستقيم .
 
« 314 »
 
- وما دامت قد ألقت بك في هذا النهر الأسود ، فداوم على قراءة ( قل أعوذ » لحظة بلحظة وتنفس بها .
- ربما تنجو من هذا السحر وهذا الاضطراب ، فاطلب الاستعاذة من رب الفلق .
- ذلك أن النبي سمى دنياك بالسحارة ، تلقى بسحرها البشر في بئر ( الغرور ) .
- وهذا فإن عندها تعويذة قوية تلك العجوز النتنة ونفسها الحار جعل الملوك أسرى .
 
3195 - ونفثاتها موجودة داخل الصدور ، تقوم بإثبات عقد السحر من أجلها .
- وإن الدنيا الساحرة امرأة عالمة قوية ، وليس إبطال سحرها في قدرة العوام .
- ولو كانت العقول قد حلت عقدها ، فمتى كان الله سبحانه وتعالى يرسل الأنبياء ؟ !
- هيا واطلب ذا نفس حلو مبارك حلال للعقد ، عالم بسر « يفعل الله ما يشاء » .
- لقد بقي الأمير معلقا كسمكة في شص لسنة واحدة وأنت بقيت على هذا الحال ستين سنة .
 
3200 - ستون سنة وأنت في محنة من شصها لا أنت بالطيب ولا أنت على طريق السنة .
- فأنت فاسق سىء الحظ لا الدنيا حسنة معك ولا أنت بناج من الوبال والذنوب .
- لقد جعلت نفثاتها تلك العقد أكثر إحكاما ، فاطلب إذن نفثة الخلاق الفرد .
 
« 315 »
 
- حتى تكون تلك النفخة ( التي وردت في ) نفخت فيه من روحي هي التي تخلصك من هذا المصير وتقول لك : ارتفع .
- وليس الإبنفخة الحق تحترق نفخة السحر ، فهذا هي نفحة القهر وهذه نفحة الحب واللطف .
 
3205 - إن رحمته قد سبقت غضبه ، فإذا كنت تريد الرحمة اذهب وابحث عنها .
- حتى تصل إلى مصداق « نفوس زوجت » ، ويا أيها الملك المسحور هذا مخرجك .
- ومع وجود العجوز لا يمكن أن تتخلص من الشبكة وتصل إلى أحضان تلك الزائدة في الدلال .
- ألم يقل لك مصباح الأمة المنير إن الدنيا والآخرة ضرتان !
- ومن ثم فوصال هذه يكون فراقا لتلك ، وصحة هذا الجسد تكون سقاما على الروح .
 
3120 - وإذا كان فراق هذا الممر يبدو لك صعبا ، فاعلم أن فراق هذا المقر يكون أصعب .
- وإذا كان فراق الصورة يشق عليك ، فما بالك بمشقة الفراق عن المصور
- ويا من لا صبر لك عن الدنيا الدنية . . كيف يكون صبرك عن الله أيها الصديق كيف .
- وإن لم يكن لك صبر عن هذا الماء الأسود ، فكيف تصبر عن نبع الإله ؟ !
- وما دمت بدون هذا الشرب قليلا ما تركن إلى السكون فكيف وأنت منفصل عن الأبرار وعن ما يشربون ؟ .


« 316 »
 
3215 - وإنك إن أبصرت لحظة واحدة حسن الودود ، لألقيت في النار بالروح والوجود .
- وسوف ترى هذا الشرب جيفة فيما بعد ، عندما ترى عظمة القرب ومجده .
- تصل مثل الأمير إلى محبوبك الأصلي ، وتخرج من بعد ذلك الأشواك من قدمك .
- فجاهد حتى تحصل على ذاتك عن طريق التخلي عن ذاتك ، وذلك على وجه السرعة والله أعلم بالصواب .
- وانتبه كل لحظة ولا تكن قرين نفسك ولا تسقط كالحمار كل لحظة في الطين والماء .
 
3220 - فإن هذا العثار يكون من قصور العين ، فهي لا ترى المرتفعات والمنخفضات وكأنها عمياء .
- واجعل رائحة قميص يوسف سندا لك ، فإن رائحته تضئ العين .
- إن الصورة الخفية وذلك النور في الجبين ، جعلت عيون الأنبياء حادة النظر .
- ونور تلك الوجنة ينجى من النار ، فانتبه ولا تصر قانعا بنور مستعار .
- وهذا النور ( المستعار ) يجعل العين ناظرة ( فحسب ) إلى الحال ، ويجعل الجسد والعقل والروح مصابة بالجرب .
 
3225 - إن صورته نور لكنه في الحقيقة نار ، فإذا كنت تريد الضياء فارفع كلتا يديك عنه .
- والبصيرة والروح اللتان تكونان ناظرتين فحسب إلى الحال يكب ( صاحبها ) على وجهه كل لحظة حينما يذهب .
 
« 317 »
 
- أما حاد البصر الذي لا فضل لديه فيرى البعيد ، لكن رؤيتة هذه تشبه رؤية البعيد في النوم .
- إنك تكون نائما إلى جوار نهر لكنك متيبس الشفة ( من الظمأ ) وتجد مسرعا في طلب سراب .
- إنك ترى السراب من على البعد وتسرع ( في أثره ) وتنقلب عاشقا إلى رؤيتك هذه .
 
3230 - ولا تفتأ في نومك في نفاج مع أصحابك ، قائلا : إنني مبصر القلب مكشوف الحجب .
- إنني أرى الآن ماء في تلك الناحية فاسرعوا ، حتى نمضى إليه ويكون ( ما تراه ) سرابا .
- ومهما تهرول تكون أكثر بعدا عن ذلك الماء ، تكون مسرعا نحو السراب بغرور .
- لقد صار عزمك وشوقك في حد ذاته حجابا لك ، فهو معك دائما ومقبل إليك .
- وما أكثر الذين يمضون إلى مكان ما من مقام يكون الغرض ( المطلوب ) فيه .
 
3235 - إن رؤية النائم ونفاجه لا يجديان نفعا ، فهي ليست إلا خيال ، أقلع عنه .
- وأن كان النوم قد غلب فنم في طريقه ، فبالله عليك ، بالله عليك نم في طريق الله .
- ربما يمر بك أحد السالكين ، فيخلصك من الخيالات التي جلبها النعاس إليك .
- والنائم وإن كان دقيق الفكر عميقه فإنه لا يستطيع بهذه الدقة أن يجد الطريق إلى الحي .
 
« 318 »
 
- وفكر النائم وإن ضوعف مرتين أو ثلاثة فهو خطأ في خطأ في خطأ .
 
3240 - إن الأمواج تضربه بلا خشية أو احتراز ، بينما يكون النائم ساعيا في صحراء قاحلة شاسعة .
- وبينما يكون ذلك النائم يعاني من العطش الشديد ، يكون الماء أقرب إليه من حبل الوريد .
 
حكاية ذلك الزاهد الذي كان في سنة قحط سعيد وضاحكا برغم إفلاسه
وكثرة عياله وكان الخلق يموتون جوعا . وقيل له : أهذا أوان السرور ؟!
إنه أوان مائة حداد ، فقال : ليس بالنسبة لي
 
- مثل ذلك الزاهد في سنة قحط ، كان ضاحكا بينما كان كل الناس باكين .
- فقالوا له : أي موضع للضحك هذا ، ولقد قطع القحط حلوق المؤمنين ؟ !
- لقد صرفت رحمة الله عينها عن النظر إلينا ، واحترقت الصحراء في الشمس الحارقة .
 
3245 - واحترقت المزارع والبساتين والكروم ولا قطرة طل على الأرض لا أعلاها ولا أسفلها .
- والخلق يموتون من هذا القحط والعذاب ، ( يموتون ) بالعشرات والمئات كالأسماك حين تبتعد عن المياه .
- إنك لا تشعر بالرحمة تجاه المسلمين ، في حين أن المؤمنين إخوة ، وجسد واحد بشحمه ولحمه .
- وإذا تألم عضو واحد من هذا الجسد تألمت بقية الأعضاء ، سواء كان ذلك في وقت السلام أو عند احتدام القتال .
 
« 319 »
 
- قال : إنه يبدو لكم قحطا ، لكن هذه الأرض تبدو أمام عيني كالجنة .
 
3250 - وفي كل واد وفي كل مكان أرى السنابل المتكاثفة وقد وصلت حتى أواسط أجسادنا.
- وأرى تلك السنابل متموجة من رياح الصبا والصحراء ملأى وأكثر خضرة من نبات الكراث .
- وأنا ألمسها بيدي مجربا وأراها بعيني ، فكيف إذن أقتلع عيني ويدي ؟ ! - إنكم أعوان فرعون الجسد أيها القوم الأدنياء ، ومن هنا يبدو لكم النيل دما .
- فتحولوا إي أعوان موسى العقل على وجه السرعة ، حتى لا يبقى ما في النهر دما وترون ماءه .
 
3255 - إنك تحس ببعض الجفاء تجاه أبيك ، فيبدو لك ذلك الأب كلبا .
- وذلك الأب ليس كلبا بل هو تأثير الجفاء ، بحيث يبدو عطفه للنظر من ( صفات ) الكلاب .
- لقد كان إخوة يوسف يرونة ذئبا أمام أعينهم ، مادموا كانوا ينظرون اليه بعيون الحسد والكراهية .
- إنك عندما تصالحت مع أبيك وذهب الغضب ، مضى عنك ذلك الكلب وصار أبا شديد العطف والمحبة .
 
بيان أن مجموع العالم هو صورة العقل الكلى وعندما تسير معوجا مع العقل الكلي وتجفو ، تزيد صورة العالم في حزنك أغلب الأحوال ،
مثلما يحدث إذا جفا القلب مع الأب تزيدك صورة الأب حزنا ولا تستطيع النظر إلى وجهه بالرغم من أنه كان قبل ذلك نور العين وراحة الروح
 
- إن كل العالم هو صورة من العقل الكلى ، فهو والد لكل من هو ناطق .
 
« 320 »
 
3260 - وعندما يزيد أحد كفرانه بالعقل الكلى ، تبدو الصورة الكلية أمامه وكأنها كلب .
- فتصالح مع هذا الأب واترك العقوق حتى يبدو الماء والطين بالنسبة لك بساطا من ذهب .
- ثم يحدث لك ما لا يحدث لك إلا في القيامة وتتبدل الأرض والسماوات أمامك .
- وأنا ( الدرويش ) لأننى في سلام دائم مع هذا الأب ، تبدو هذه الدنيا مثل الجنة في ناظرى .
- وفي كل لحظة صورة جديدة وجمال جديد ، وذلك حتى يموت داخلي الملل من رؤية الجديد .
 
3265 - إنني أرى الدنيا ملأى بالنعيم ، والمياه تفور من العيون دائما .
- إن خرير مائها يصل إلى أسماعى ، فيسكر بها وعيى ووجداني .
- ( إنني أرى ) الأغصان راقصة كأنها من التائبين والأوراق مصفقة كالمطربين .
- والبرق مرآة لامعة تحت نقاب « الغمام » ، فما بالك إن تجلت من وراء الغمام ؟ ! 
- إنني أقص جزءا واحدا من آلاف الأجزاء التي أراها ، ذلك أن كل أذن ممتلئة شكا .
 
3270 - إن هذا القول يبدو أمام الوهم من قبيل البشارة لكن العقل يقول : إنها حال حاضرة .
 
« 321 »
 
قصة أبناء عزير عليه السلام الذين كانوا يسألون عن أحوال أبيهم ،
وكان هو يقول لهم : نعم رأيته وهو آت فعرفه بعضهم ففقدوا وعيهم
ولو يعرفه بعضهم فأخذوا يقولون : لقد بشرنا . .
فما سبب هذا الإغماء ؟ !
 
- إن هذا يشبه ما حدث لأولاد عزير عندما كانوا يسيرون في الطريق يسألون عن أحوال أبيهم .
- لقد صاروا شيوخا بينما كان أبوهم لا يزال شابا ، فتقدم أبوهم منهم فجأة .
- فسألوه قائلين : يا عابر السبيل هل لديك خبر عن أبينا عزير ؟ ! - لقد قال لنا أحدهم أن ذلك السيد السند سوف يصل اليوم من غيبته بعد يأس .
 
3275 - قال : نعم ، سوف يأتي بعدى ، فسر أحدهم عندما سمع هذه البشرى .
- فأخذ يصيح : أسعدك الله أيها المبشر بينما عرفه آخر فسقط مغشيا عليه .
- أية بشارة هذه يا دائر الرأس ، لقد وقعنا على منجم ذهب .
- إنها بشرى بالنسبة للوهم لكنها بالنسبة للعقل حال حاضرة ، ذلك أن عين الوهم محجوبة بالفقد .
- إنها ألم للكفار وبشرى للمؤمنين ، لكنها حال حاضرة لعين البصير .
 
3280 - ذلك أن العاشق حاضر لحظة بلحظة وثمل فلا جرم أنه أسمى ( مرتبة ) من الكفر والإيمان .
- إن الكفر والإيمان دائما واقفان على بابه ، إنه لب والكفر والدين قشران بالنسبة له .
- فالكفر قشر جاف في سبيله إلى الزوال ، والإيمان قشر أيضا لكن به شيئا من حلاوة اللب .
« 322 »
 
- إن النار هي موضع القشور الجافة لكن القشور المتصلة بلب الروح حلوة .
- أما اللب نفسه فقد جاوز مرحلة الحلاوة إنه أعلى منها لأنه باسط للذة .
 
3285 - وهذا الكلام لا نهاية له فعد ، حتى يثير موسى ( بيانى ) الغبار من قلب البحر .
- لقد قيل هذا الكلام مناسبا لعقول العوام ، لكن باقيه خبىء وصار مضنونا به .
- فإن ذهب عقلك مجرد برادة أيها المتهم ، وكيف أضع على البرادة ختم السكة ؟ !
- قد وزع عقلك على مئات المشاغل وآلاف الرغبات والمهام والوساوس .
- وينبغي جمع كل هذه الأجزاء بالعشق ، حتى تصير حلوا كسمرقند ودمشق .
 
3290 - إنك كحبات الشعير المبعثرة وعندما تتجمع من هذا الشتات ، يمكن أن تضرب عليك سكة المليك .
- وإن أخذت أيها الساذج تجمع مثقالا فوق مثقال ، لصنع منك المليك كأسا ذهبيا .
- وتصبح ( على هذا الكأس ) أسماء الملك وألقابه بل وصورته يا طالبا للوصل .
- فحتام يكون معشوقك هو الخبز وهو الماء وهو المصباح والحسناء والنقل والشراب ؟ .
- اجمع ( شتات ) نفسك فالجماعة رحمة ، حتى أستطيع أن أنقل إليك كل ما لدى .
 
« 323 »
 
3295 - ذلك أن القول يكون من أجل التصديق ، وروح الشرك بريئة من تصديق الحق .
- والروح التي قسمت على ظواهر الفلك ، تكون موزعة على ستين شهوة .
- ثم إن الصمت ( أمامها ) يهبها بعض الثبات ، ومن ثم كان جواب الأحمق السكوت .
- وهذا أمر أعرفه ، لكن سكر الجسد ، يفتح فمي بالرغم منى .
- مثلما يفتح فمك بالرغم منك عندما يعتريك تثاؤب أو عطس .
 
تفسير هذا الحديث أني لأستغفر ربي في كل
يوم سبعين مرة
 
3300 - إنني أتوب مثل الرسول عليه السلام في اليوم سبعين مرة عن القول وعن نثار ( الدر ) .
- لكن ذلك السكر يحطم التوبة ، إن سكر الجسد هذا منسى ممزق للثباب .
- إن حكمة إظهار الأسرار ظلت لفترة طويلة من الزمن ، تصيب بالسكر ذلك العالم بالأسرار .
- أيكون السر مخفيا مع مثل هذه الطبول والأعلام ؟ ! إنها جياشه كالمياه منذ « جف القلم » .
- إن رحمة ( الله ) التي لا حد لها جارية في كل آن وأنتم نائمون عن إدراكها إيها الناس .
 
3305 - وان لباس النائم يشرب من نهر الماء، والنائم مستغرق في النوم باحث عن السراب.
- إنه يسرع قائلا : هناك بعض الماء ومن هذا التفكر سد الطريق على نفسه .
 
« 324 »
 
- ولأنه قال « هناك » ابتعد عن « هنا » وأصبح مهجورا عن الحق من أجل خيال ! - انهم يتميزون بحدة البصر لكنهم نيام الأرواح تماما ، فارحموهم قليلا أيها السالكون في هذا الطريق !
- انني لم أر ظمأ يأتي بالنوم ، بل أن ظمأ من لا عقل له هو الذي يأتيه بالنوم .
 
3310 - إن العقل الحقيقي هو الذي أطعمه الحق وليس ذلك العقل الذي يستند على عطارد « 1 »
 
بيان أن العقل الجزئي لا يري أكثر مما حتى القبر
وهو فيما تبقي مقلد للأولياء والأنبياء
 
- إن نبوءة هذا العقل تكون حتى القبر ، لكن عقل صاحب القلب ( يتنبأ ) حتى نفخ الصور .
- وهذا العقل لا يتجاوز القبر والتراب ، وهذه القدم لا تطأ ساحة العجائب
- فامض عن هذا العقل وعن هذا القدم وضق بهما ، وابحث عن عين الغيب وكن ذا نصيب منها .
- فمتى يجد مثل موسى النور من الجيب ، ذلك المسخر للأستاذ وتلميذ الكتاب ؟ .
 
3315 - فمن هذا النظر ومن هذا العقل لا يتأتى سوى الدوار ، دعك من النظر ، وتخير الأنظار .
- ولا تطلب الرفعة عن طريق الكلام ، فالاستماع للمنتظر أفضل من الكلام .
..............................................................
( 1 ) هذا البيت في نسخة جعفري ( 10 / 624 ) بعد العنوان التالي .
« 325 »
 
- ومنصب التعليم نوع من الشهوة وكل خيال من الشهوة صنم في الطريق .
- وإذا كان كل فضولي قد أدرك فضله تعالى ، فمتى كان الله قد أرسل عددا من الأنبياء ؟ !
- إن العقل الجزئي مثل البرق ولمعانه ، وكيف يمكن الذهاب على ضوء البرق إلى « وخش » « 1 » .
 
3320 - وليس نور البرق من أجل أن يطوى الطريق ، بل هو أمر للسحب بمداومة البكاء .
- وهكذا برق عقولنا من أجل البكاء . . وذلك من أجل أن يبكى العدم شوقا إلى الوجود .
- وان عقل الطفل ليأمره بمداومة الذهاب إلى « الكتاب » لكنه لا يستطيع أن يعلمه بنفسه .
- وعقل المريض يأتي به إلى الطبيب ، ولكنه لا يستطيع أن يصيب في وصف الدواء .
- ألم يكن الشياطين يصعدون إلى أجواز الفلك ، وكانوا يسترقون السمع على الأسرار العالية .
 
3325 - وكانوا يختطفون قليلا من تلك الأسرار حتى تطردها الشهب سريعا من السماء .
- قائلة لها : امضوا من هنا . . فقد جاء رسول ، وكل ما تريدونه تحصلون منه عليه .
- وإذا كنتم تبحثون عن الدر الذي لا يقدر بثمن ، « أدخلوا الأبيات من أبوابها » « 2 »
..............................................................
( 1 ) اسم بلدة بالقرب من بدخشان في ما وراء النهر .
( 2 ) بالعربية في المتن .
 
« 326 »
 
- وداوموا على قرع حلقة الباب وقفوا على الباب ، فليس لكم طريق إلى الفلك من ناحية السطح .
- ولا حاجة لكم إلى هذا الطريق الطويل ، لقد وهبنا المخلوق من تراب الأسرار .
 
3330 - فهلموا إليه إن لم تكونوا خونة ( بطبعكم ) ، فمنه تصيرون قصب سكر وان كنتم بوصا .
- فإن ذلك الدليل ينبت الخضرة من ترابك ، فإنه ليس أقل ( شأنا ) من سنبك جواد جبرايل .
- إنك تصير نضرا أخضر ذا جدة وطراوة إذا صرت ترابا لجواد جبريل .
- خضرة واهبة للروح والحياة جعلها السامري في العجل حتى صار جوهرا ( ذا حياة ) .
- فنفثت فيه الروح وصار له خوار من تلك الخضرة وصار خواره فتنة للعدو .
 
3335 - فإن تقدمتم بأمانة نحو أهل السر ، فاخلعوا الغمامة من فوق رؤوسهم كالبازى .
- فإن هذه الغمامة حجاب على العين والأذن لقد ضاق البازي منها ذرعا وانعدمت حيلته .
- فهذه الغمامة سد أمام أعين البزاة لأن كل ميلهم يكون نحو جنسهم .
- لكن البازي عندما انقطع عن جنسه صار رفيقا للملك ، ففتح مدرب البازي عينه .
- لقد طرد الله الشياطين من مكمن أسراره ، مثلما يطرد العقل الجزئي من استبداده .
 
« 327 »
 
3340 - قائلا له : كفاك رئاسة ، فلست حاكما مطلق العنان ، لكنك مجرد تلميذ للقلب ذا استعداد .
- فامض نحو القلب امض نحوه فأنت جزء منه وانتبه فأنت عبد لمليك عادل .
- والعبودية لهذا المليك أفضل من السلطنة ، فإن قول « أنا خير منه » من النفس الشيطاني .
- فانظر إلى الفرق ، واختر أيها الحبيس ، بين عبودية ادم وكبر إبليس .
- ولقد قال ذلك الذي هو شمس الطريق : « طوبى لمن ذلت نفسه »
 
3345 - فانظر إلى ظل طوبى ونم هنيئا ، ضع رأسك في ظل لا ينحسر ونم .
- إن ظل « ذلت نفسه » مضجع حسن ، إنه مهجع للمستعد لذلك الصفاء .

- وإنك إن توليت عن هذا الظل نحو « الأنية » والكبر فأنت تنقلب سريعا إلى طاغية وتضل الطريق .

حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيقي، 
 
- إذن فامض وكن صامتا منقادا تحت ظل أمر الشيخ أو ( المرشد ) الأستاذ « 1 » .
- وإلا انقلبت إلى مسخ مهما كنت مستعدا وقابلا وذلك من كثرة تنفجك بالكمال .
 
3350 - بل إنك تفقد الاستعداد نفسه إذا تمردت على الأستاذ الخبير بالأسرار .
..............................................................
( 1 ) ج / 10 - 632 : ولا تجعل من وجودك الوضيع واليا وكن تابعا صامتا .


 « 328 »
 
- فاصبر في حياكة النعال فلا يزال ( متسع ) وإلا انقلبت لانعدام صبرك إلى مجرد إسكاف .
- فإن كان عند من يرتقون القديم صبر وحلم ، لصاروا جميعا من الذين يقومون بحياكة الجديد . . . من علمهم
- انك تجاهد كثيرا وفي النهاية تقول أنت نفسك نتيجة للكلال : إن العقل عقال .
- مثل ذلك الرجل المتفلسف يوم موته ، كان يرى العقل عاجزا بلا مئونة إلى ذلك الحد .
 
3355 - فأخذ يعترف في تلك اللحظة بلا غرض ، قائلا إننا سقنا الجواد جزافا من ذكائنا .
- ومن الغرور حولنا رؤوسنا عن الرجال وزاولنا السباحة في بحور الخيال .
- ولا قيمة لهذه السباحة في بحر الروح ، ولا وسيلة هنا إلا سفينة نوح .
- وهكذا قال سيد الأنبياء والمرسلين إنني أنا السفينة في هذا البحر الكلى .
- أو ذلك الذي يكون على بصيرة منى ويكون خليفة الصدق في موضعي .
 
3360 - إنني أنا سفينة نوح في البحر أيها الفتى حتى لا تحولن وجهك عن السفينة .
- ولا تمض صوب كل جبل مثل كنعان ، واستمع من القرآن « لا عاصم اليوم من أمر الله »
- ومن القيد ( الذي على قلبك ) تبدو لك هذه السفينة وضيعة حقيرة ، ويبدو لك جبل فكرك سامق العلو .
 
« 329 »
 
- فلا تنظرن باحتقار إلى هذه ( السفينة ) الضئيلة ، انظر إلى فضل الحق المتصل بها ( على الدوام ) !
 - وقلل النظر إلى علو جبل الفكر فإن موجة واحدة تجعل عالية سافله !
 
3365 - ولن تصدقني إن كنت ( مثل ) كنعان ، حتى ولو ضاعفت لك نصائحى مائتي مرة .
- ومتى تقبل إذن كنعان هذا الكلام فإن الله سبحانه وتعالى قد ختم عليا غشاوة .
- ومتى تؤثر الموعظة على ختم الحق ، ومتى يحول الحدث ما سبق من حكم .
- لكني أحدثك يا مبارك الخطى ، آملا ألا تكون مثل كنعان .
- وإنك في النهاية سوف تعترف ( بانحرافك ) فانتبه ، وانظر من البداية إلى عاقبة أمرك .
 
3370 - انك تستطيع أن تكون مقدراً للعواقب ، فلا تجعل عينيك التي ترى العاقبة عمياء مهترئة .
- إن كل من يرى العاقبة يكون كالسعيد ، لا يتعثر كل لحظة عند سيره .
- وان لم ترد هذا العثار في كل لحظة ، فقو بصرك بتراب قدم أحد الأولياء .
- واجعل من تراب قدمه كحلا للبصر ، حتى تستطيع آنذاك أن تطيح برؤوس الأوباش .
- فإنك من هذه التلمذة ومن هذا الافتقار ، حتى ولو كنت إبرة لا قيمة لها تتحول إلى سيف كذى الفقار .
 
« 330 »
 
3375 - فاجعل تراب قدم كل مختار ( من الله ) كحلا لك ، تحترق العين وتجلى في نفس الوقت « 1 » .
 
قصة شكوي البغل للجمل وفحواها : إنني أسقط كثيرا في الطريق عند السير وأنت قليلا ما تكب على وجهك فما السبب ؟ وجواب الجمل عليه
 
- رأى بغل جملا ذات يوم عندما اجتمعا معا ذات يوم في اصطبل .
- فقال له : إنني كثيرا ما أتعثر في الأرض الوعرة وفي الطريق وفي السوق وفي الحي !
- وخاصة عندما أكون هابطا من قمة الجبل إلى سفحه ، أسقط كل لحظة على رأسي من شدة الخوف .
 
3380 - وأنت قليلا ما تنكب على وجهك فما السبب ؟ . ألروحك الطاهرة في حد ذاتها حظ وإقبال ؟ .
- إنني أسقط على رأسي كل لحظة وعلى ركبتى ، وفي ذلك العار أدمى وجهي وركبتى .
- ويميل السرج والحمل من فوق ظهري وأتعرض للضرب من المكارى في كل لحظة .
- وهذا مثل أبله يعود عن توبته كل لحظة وينغمس في الذنب من عقله الفاسد .
- ويصير أضحوكة لإبليس في زمنه ، ذلك المحطم لتوبته من ضعف رأيه
 
3385 - إنه ينكب على وجهه في كل لحظة كالجواد الأعرج الذي يكون حمله ثقيلا وطريقه صخريا .
..............................................................
( 1 ) ج / 10 - 6330 : اضيء عينيك من تراب الأولياء في حتى تري كل شيء من المبدأ إلي المنتهي .
 
« 331 »
 
- وهو يتلقى من الغيب الضربات فوق رأسه من جراء عودته عن التوبة ، ذلك المعتاد على الإدبار .
- فيتوب مرة ثانية بعزم واهن ، ويبصق عليه الشيطان ، وتتحطم توبته - إنه ضعف مركب ، لكن كبره . 
يدفعه إلى النظر إلى الواصلين باحتقار - أيها الجمل ، إنك تشبه المؤمن ، قلما تسقط في الطريق وتنكب على أنفك .
 
3390 - فماذا لديك يمنع عنك الآفات إلى هذا الحد ؟ وينجيك من العثار فقلما تسقط على وجهك ؟ !
- قال ( الجمل ) بالرغم من أن كل سعادة من الله تعالى ، فإن هناك فروقا كثيرة بيني وبينك .
- إنني مرفوع الرأس وعيناي مرفوعتان والرؤية التي تشرف من عل أمان من الضرر .
- وإنني لأرى سفح الجهل وأنا في قمته وأرى كل أرض مستوية وكل حفرة ، مرحلة بعد مرحلة .
- مثلما رأى ذلك الصدر الأجل ، أمره مسبقا حتى يوم ( يحين ) الأجل .
 
3395 - ويعرف في الحال ما سوف يحدث بعد عشرين سنة ، ذلك الطيب الخصال ! 
- إنه لا يرى حاله وحده فحسب ذلك المتقى ، بل ( ويرى أيضا ) أحوال كل أهل المشرق والمغرب .
- إن النور مستقر في عينه وقلبه . . ومن أي شيء يستقر بينهما ؟! من أجل « حب الوطن » .
- مثل يوسف عليه السلام . . الذي رأى من البداية في المنام أن الشمس والقمر قد سجدا له .
 
« 332 »
 
- ومن بعد عشرة سنوات أو ما يزيد ، تحقق ما كان يوسف عليه السلام قد رآه في النوم .
 
3400 - وليست « ينظر بنور الله » من قبيل جزاف العقول ، بل يكون النور الرباني نافذا في أجواز الفلك .
- ولا يوجد هذا النور في عينيك فامض ، ذلك أنك رهين للحس الحيواني .
- إنك من ضعف عينيك ترى ( فحسب ) ما تحت قدميك ، إنك ضعيف عاجز ودليلك أيضا ضعيف وعاجز .
- إن العين هي الدليل والقائد لليد والقدم والتي ترى الموضع الطيب والموضع السيء .
 
3405 - ذلك لأنى من أولاد الحلال ، ولست من أبناء الخنا وأهل الضلال .
- وأنت من أولاد الزنا لا شك في ذلك، فالسهم ينطلق معوجا عندما يكون القوس معيوبا «1».
 
موافقة البغل على أجوبة الجمل ، وإقراره بأفضليته عليه ، وطلبه العون فيه ،
واللجوء إليه بصدق وإكرام الجمل له ، وبيانه الطريق له ،
وماونته إياه بأبوة عظيمة
 
- قال البغل : صدقت أيها الجمل ، قالها وامتلأت عيناه بالدموع .
- وبكى ساعة وسقط على قدميه ، قائلا له : يا من اختارك رب العباد .
- أي ضرر لو أنك في السعادة والاقبال قبلتني عبدا لك ؟ !
..............................................................
( 1 ) ج / 10 - 638 :
إن السيء لا يتأتي منه إلا السوء بأجمعه في الوجود ، مثلما تأتي من فرعون العنود وإبليس وإن قام بمائة طاعة ، فإنها لا تجديه نفعا فهو من الأصل فاقد الرجولة .
 
« 333 »
 
3410 - قال له : ما دمت قد أقررت بهذا أمامى فامض ، لقد نجوت من آفات الزمن .
- لقد أنصفت ونجوت من البلاء ، وكنت خصما فصرت من أهل الولاء .
- إن الخصال السيئة لم تكن أصلا في ذاتك ، فمن السوء الأصيل لا يتأتى سوى الجحود .
- وهذا السوء العارض والطاريء ( العارية ) . . هو الذي لا يلبث أن يجعل صاحب الذنب يقر بالذنب ويبحث عن التوبة .
- مثل آدم الذي كانت زلته عارية ، فلا جرم أنه تاب في التو واللحظة .
 
3415 - لكن جرم إبليس لما كان أصليا وفي ذاته ، لم يكن له طريق إلى التوبة النفيسة الغالية .
- فامض ، لقد نجوت من ذلك ومن الخصال السيئة، ومن ألسنة النيران ومن أنياب الوحوش.
- امض فقد تعلقت الآن بالحظ والاقبال ، وألقيت بنفسك في الاقبال السرمدي :
- لقد وجدت مصداق « أدخلىفِي عِبادِي» وأدركت مصداق «ادْخُلِي جَنَّتِي» .
- لقد اتخذت بنفسك طريقا بين عباده ، وذهبت إلى الخلد من طريق خفى .
 
3420 - وقلت « اهدنا إلى الصراط المستقيم » ، فأخذ بيدك وحملك إلى النعيم .
- كنت نارا فصرت نورا أيها العزيز، كنت حصرما ( فجا ) فصرت عنبا وزبيبا ( ناضجا ).
- وكنت نجمة فصرت شمسا ، فلتسعد ولتهنأ والله أعلم بالصواب .
- ويا ضياء الحق يا حسام الدين ، تعال وخذ العسل الصافي وألق به في حوض اللبن .
 
« 334 »
 
- حتى يتخلص ذلك اللبن من تغيير الطعم ، ويجد من بحر اللذة طعما فائق اللذة .
 
3425 - ويصير متصلا ببحر « ألست » ، وما دام قد اتصل بهذا البحر ، فقد نجا من كل تغيير .
- ويجد منفذا في بحر الشهد ذاك ، ولا يكون لأي آفة أدنى تأثير فيه .
- وازأر كالأسد يا أسد الحق ، حتى يصل ذلك الزئير إلى السماء السابعة .
- لكن أي علم لروح لملول الضائق ، وأي علم للفأر بزئير الأسد ؟ !
- فاكتب أحوالك بماء الذهب ، من أجل كل من قلبه ( في سعة ) البحر . . .
حسن الأصل .
 
3430 - إن هذا الحديث كماء النيل منعش للأرواح ، فاجعله يا رب دما أمام أنظار قوم فرعون .


[ حكاية تضرع أحد آل فرعون لواحد من بني إسرائيل ]
تضرع أحد آل فرعون لواحد من بني إسرائيل قائلا املأ من ماء النيل قدرا على نيتك ، وضعه على شفتى حتى أشرب ، بحق الصداقة والأخوة ، فإن القدر الذي تملأونه يا بني إسرائيل من أجل أنفسكم ماء صاف والقدر الذي نملؤه نحن آل فرعون من نفس النيل دم خالص .
 
- سمعت أن واحدا من قوم فرعون ، قد دفعه العطش إلى منزل واحد من بني إسرائيل .
- وقال له : إنني صديقك الحميم المقرب ، وصرت اليوم في حاجة إليك .
- لقد قام موسى بسحره ، وتلا تعاويذه ، حتى صار ماء النيل علينا دما
- وأتباع موسى يشربون منه نفسه الماء الصافي ، لكنه ينقلب إلى دم بالنسبة لقوم فرعون . . . من جراء السحر .
 
« 335 »
 
3435 - إن قوم فرعون يموتون الآن من الظمأ ، ربما من إدبارهم أو من سوء جبلتهم .
- فاملأ لنفسك وعاء من الماء ، لكي يشرب صاحبك القديم من مائك .
- إنك عندما تملأ هذا الوعاء من أجل نفسك ، لا يكون دما بل يكون ماء صافيا طاهرا .
- إنني متطفل عليك : فلأشرب الماء « تطفلا » ، فإن المتطفل يتخلص بالتبعية من همومه .
- قال : يا روحي ودنياي السمع والطاعة ، فلأقم برعايتك يا عينيّ المضيئتين .
 
3440 - ولأقم بما يمليه مرادك وأنا في غاية السعادة ، وأعتبر عبوديتى لك حرية لي .
- ثم ملأ وعاء من ماء النيل ، ورفعه إلى فمه وشرب نصفه .
- ثم أدار الوعاء إلى طالب الماء ، قائلا له : اشرب أنت أيضا ، فصار دما أسود .
- ثم حوله ناحيته ، فصار الدم ماء ، فانفجر الفرعونى غيظا وكدرا وغضبا .
- وظل برهة من الزمن حتى سكن غضبه ، ثم قال أيها البطل العظيم :
 
3445 - أي حل لهذه العقدة أيها الأخ العزيز ، فقال : إنما يشرب هذا الماء من كان تقيا .
- والتقى هو الذي صار ضائقا من طريق فرعون وصار مثل موسى .
- فصر أولا من قوم موسى ثم أشرب هذا الماء ، وتصالح في البداية مع القمر ، ثم انظر إلى ضوء القمر .
 
« 336 »
 
- وهناك من غضبك مئات الآلاف من (الحجب) المظلمة تقف بينك وبين النظر إلى عباد الله.
- فسكن غضبك وافتح عينيك وكن بشوشا ، وخذ العبرة من رفاقك وكن أستاذا .
 
3450 - فكيف تكون شريكا لي في اغتراف ( الماء ) ولديك من الكفر ما في ( ضخامة ) جبل قاف .
- ومتى يلج الجمل في سم الخياط ؟ ! ، اللهم إلا صار ذلك ( الجبل ) ( في نحول ) الخيط المفرد .
- فاجعل جمل كفرك بالاستغفار في نحول « القشة » . ، وخذ كأس المغفورين لهم واشرب منها سعيدا .
- وكيف تستطيع أن تشرب منه بهذا الاحتيال والمكر ، إذا كان الحق قد حرمه على الكافرين .
- ومتى يخيل مكرك هذا على خالق المكر ، ( خير الماكرين ) ؟ ! ، أيها المفترى عليه .
 
3455 - فكن من قوم موسى إذ لا نفع في المكر ، وليس مكرك هذا إلا من قبيل كيل الريح ، لا طائل من ورائه ! !
- فهل يجرؤ الماء على عصيان أمر الفرد الصمد ، وتكون له خواص الماء مع الكافرين ؟ !
- أو هل تظنن أن ما تأكله هذا خبز ؟! إنك تأكل السم الزعاف الذي ينقص العمر (ولا يزيده).
- وكيف للخبز أن يصلح تلك الروح التي تصرف القلب عن أمر الأحبة ؟ .
- أو هل تظن أنت ( الآخر ) أنك عندما تقرأ ألفاظ المثنوى أنك تدرك معانيها بالمجان ؟ .


« 337 »
 
3460 - أو أن فيض الحكمة والأسرار الخفية . . يدخل الآذان رغبة وبأدنى قيمة ( وتتداوله ) الأفواه ؟ !
- إنه ( حقيقة ) ينفذ إليها لكن كالأساطير ، إنه يبدي قشره ليس لبابه القيم .
- إن ذلك الحبيب وضع حجابا على وجهه ورأسه ، وأخفى نفسه عن عينيك .
- وهكذا فمن عتوك فإن كتابا كالشاهنامه أو كليلة ودمنة ، يبدوان أمامك كأنهما القرآن .
- وتتميز الحقيقة عن المجاز ، عندما يفتح كحل العناية عينيك ( عن آخرهما ) !
 
3465 - وإلا فإن البعر والمسك أمام الأخشم سيان ، ما لم يكن هناك ( حس ) شم .
- وإنما يكون هدفه من كلام ذي الجلال ( المجيد ) هو أن يدفع عن نفسه الملال فحسب .
- إنه يطفئ بذلك الكلام نار الوساوس والأحزان ، ويجعل منه ( مجرد ) دواء .
- ومن أجل إطفاء مثل هذه النار ( الواهية ) ، يمكن بقدر من الحيلة أن يكون الماء الطاهر والبول سيين .
- إن نار الوسواس يمكن أن تطفأ بالماء والبول ، تماماً كما ( يقضى ) قليل من النوم ( على الأحزان ) .
 
3470 - لكنك إن أدركت هذا الماء الطاهر ، وهو كلام الله المنعش للأرواح ! 
- فإن الوسوسة تنعدم تماما من الروح ، ويجد القلب طريقه إلى رياض ( الجنة ) .
 
« 338 »
 
- إنه يحلق عاليا في رياض تجرى من تحتها الأنهار، ذلك الذي يدرك قبسا من سر الصحف.
- أو أنك تظنن أن وجوه أولياء الله ، هي على نفس ذلك النسق الذي نراها عليه .
- إن الرسول عليه السلام ما فتيء يتعجب من هذا الأمر متسائلا : كيف لا يبصر المؤمنون وجهي ؟ .
 
3475 - كيف لا يبصر الخلق وجهي؟ ذلك الوجه الذي فاق شمس المشرق (نورا وبهاءا)؟.
- وإذا كانوا يبصرونه فلماذا هذه الحيرة ( والتردد ) ومن ثم نزل الوحي قائلا : إن هذا الوجه مخفى عنهم .
- إنه بالنسبة لك قمر وبالنسبة للناس سحاب ، حتى لا يرى من لا يؤمن بك وجهك بالمجان .
- إنه بالنسبة لك حب لكنه بالنسبة للآخرين فخ ، حتى لا يشرب العوام من هذا الشراب الخاص .
- قال الله تعالى : « تراهم ينظرون إليك »، لكنهم نقوش على حمام ، وهم « لا يبصرون ».
 
3480 - وهكذا تبدو لك الصورة يا عابد الصورة ، وكأن هاتين العينين الميتتين فيها تنظران .
- وأنت أمام عين الصورة هذه تراعى الأدب ، وتتساءل : كيف لا تهتم بي ويا للعجب .
- لماذا هي صامته تماما هذه الصورة الطيبة بحيث لا ترد السلام على ؟ !
- لماذا لا تحرك رأسها وشاربها جودا ، شكرا على ما قدمته لها من سجود ( كثير ) .
 
« 339 »
 
- وإن الحق وإن لم يبد جوابا لعبادته في الظاهر « 1 » ، فإنه يعطى في مقابلها لذة في الباطن .
 
3485 - فإن تحريك العقل والروح رأسيهما ( جوابا على العبارة ) ، تساوى الاستجابة التي تريدها مائتي مرة .
- وأنت إن قمت بخدمة العقل باجتهاد ، فإن جواب العقل هو أن تزداد رشاداً .
- إن الحق لا يحرك رأسه استجابة في الظاهر ، لكنه يجعلك رئيسا على كل الرؤساء .
- ويهبك الله سبحانه وتعالى عطية في الخفاء ، بحيث يسجد لك الناس أجمعون .
- مثلما جاد على حجر بالعقل ، بحيث صار جوهرا ، وأقصد به الذهب .
 
3490 - وإن قطرة من الماء لتجد لطف الحق ، فتصير درة تفوق الذهب قيمة .
- والجسم بضعة من تراب وعندما نفخ الله فيه من نوره ، صار في الاستيلاء على الدنيا أستاذا كالقمر .
- وانتبه فإن ( هذه الدنيا ) طلسم وصورة ميتة ، أضلت عينها الحمقى عن الطريق .
- إنها تبدو كما لو كانت تغمز بعينيها ، فيجعلها الحمقى والبلهاء سندا لهم .
 
طلب الفرعون ى دعاء الخير والهداية من الموسوي ودعاء الموسوي
له بالخير واستجابة الدعاء ف‌ى الكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
 
- قال الفرعونى . أدع لي ، فلست أملك فما ( للدعاء ) من السواد الذي ران على قلبي .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : تحريك الرأس : إن لم يحرك رأسه استجابة .
 
« 340 »
 
3495 - ربما يفتح قفل هذا القلب ، ويصبح للقبيح موضع في محفل الحسان .
- إن المسخ ينقلب منك إلى صاحب جمال ، ويصبح إبليس مرة ثانية في الملائكة المقربين .
- وببركة يد مريم - عليها السلام - يجد الغصن الجاف رائحة المسك والنضرة والإثمار .
- فسجد الموسوي في تلك اللحظة . . . وتضرع قائلا : يا إلهي يا عالما بالعلن وبالسر .
- وأمام من يرفع العبد يده بالدعاء إلا أمامك . . الدعاء ، منك والاستجابة منك يالله .
 
3500 - إنك في البداية تهب « العبد » الميل إلى الدعاء ، وأنت في النهاية تجازى أيضا على الدعاء .
- إنك الأول والآخر . . ونحن بينهما هباء . . . هباء . لا يتأتى في حديث أو بيان .
- وأخذ يردد هذا الدعاء حتى خارت قواه « 1 » . . . وفقد وعيه .
- ثم عاد إلى وعيه وانطلق في الدعاء فليس للإنسان إلا ما سعى .
- وبينما هو في دعائه ، إذ انطلق من قلب الفرعونى صياح وصراخ وضجة عظيمة .
 
3505 - قائلا : هيا . . أسرع . . وأعرض على الإيمان ، حتى أمزق سريعا الزنار القديم .
- لقد ألقوا النار على ( أعماق ) روحي ، فلعلهم يكرمون إبليسا ( مثلي ) هذا الكرم العظيم .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : سقط طسته من فوق السطح .
 
« 341 »
 
- إنها صداقتك . . . وهي لا تستبعد منك . . . هي التي بحمد الله أخذت بيدي في النهاية .
- لقد كانت أحاديثك كيمياء ( تبديل ) . . فلا انقطع « خطو » قدميك عن منزل القلب .
- لقد كنت غصنا من نخيل الخلد ، وعندما أمسكت به حملني إلى الخلد .
 
3510 - وكان سيلا ذلك الذي إختطف جسدي ، ووحملني هذا السيل إلى بحر الجود .
- وأنا طلبا للماء مضيت نحو السيل ، فأدركت البحر ، ونلت الدر كيلا بكيل .
- فأتى له بالوعاء قائلا : خذ الماء إذن ، فقال له : إمض في سبيلك فالمياه الآن أمامى لا قيمة لها .
- لقد شربت شربة في ماء «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى» ولا يصيبني من بعدها ظمأ حتى الحشر .
- وإن ذلك الذي أجرى المياه في الأنهار والينابيع ، فتح عين ماء في داخلي
 
3515 - وتلك الكبد التي كانت حرى طالبة الماء ، صار الماء ذليلا أمام همتها !
- إنه كان « الكافي » من أجل العباد ، هو صدق لوعده في « كهيعص » .
- أي : إنني أنا الكافي أعطيك الخير كله بلا سبب أو واسطة من عون الغير .
- إنني أنا الكافي أشبعك بلا خبز ، وأهبك الإمارة دون جيش أو عسكر .
- أهبك النرجس والنسرين بلا ربيع ، أي أعلمك بلا كتاب أو أستاذ .
 
« 342 »
 
3520 - إنني أنا الكافي أعالجك بلا دواء ، وأجعل عليك القبر والبئر ( في سعة ) الميدان .
- إنني أبث في موسى الشجاعة بعصا واحدة بحيث يضرب بسيوفه عالما بأكمله .
- وأعطى يد موسى نورا وشعاعا بحيث تزرى بنور الشمس « 1 » .
- وأجعل العصا حية ذات سبعة رؤوس ، لم تلدها من قبل حية من ثعبان ! 
- التي لا أمزج ماء النيل بالدم ، بل أحول الماء نفسه إلى دم بحولى وطولى « 2 » .
 
3525 - وأجعل سرورك حزنا مثل ماء النيل ، بحيث لا تجد سبيلا إلى السرور .
- ثم إنك عندما تجدد إيمانك مرة ثانية ، وتبدى نفورك من فرعون .
- ترى موسى الرحمة وقد أقبل إليك ، وترى نيل الدم قد فاض منه الماء .
- وعندما تحتفظ بعرورة الإيمان « 3 » في داخلك ، لا ينقلب نيل ذوقك إلى دم أبدا ! 
- لقد ظننت ( أيها الموسوي ) بأنني أو من . . حتى أشرب من طوفان الدم هذا ماء !
 
3530 - فأي علم لي أنه يقوم بالتبديل ، ويجرى نيلا من داخلي .
- وهناك أمام عيني نيل جار بالماء ، بينما أنا أمام الآخرين على طبيعتي وديدنى .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : تصفع الشمس .
( 2 ) حرفيا : بفني .
( 3 ) حرفيا : بطرف الخيط .


« 343 »
 
- مثل هذه الدنيا . . . غارقة في التسبيح أمام النبي ، لكنها أمامنا لا تفقه حديثا .
- إنها أمام عينيه عليه السلام فياضة بالعشق ، والعطاء لكنها أمام عيون الأخرين ميتة وجماد .
- إن المرتفعات والمنخفضات أمام عينيه جادة السير ، وهو مستمع لطرائف الحكمة من حجرها ومدرها .
 
3535 - لكنها أمام العوام كلها جامدة ميتة وأنا لم أر حجابا أعجب من هذا الحجاب .
- والمقابر تبدو متساوية أمامنا ، لكنها أمام عيون الأولياء إما روضة ( من رياض الجنة ) أو حفرة ( من حفر النار ) .
- كان العوام يقولون . لماذا صار النبي عبوسا ولماذا صار قاضيا على السرور ؟ !
- وكان الخواص يقولون : إنه يبدو عبوسا فحسب أمام عيونكم أيها الأميين » !
- فانظروا لحظة واحدة بعيوننا . . حتى ترون الضحكات مصداقا ل - «هَلْ أَتى» .
 
3540 - إنها تبدو لك هكذا من فوق شجرة الكمثرى، إن الصورة منعكسة فانزل أيها الشاب.
- إن شجرة الكمثرى هذه هي شجرة الوجود ، إنك ما دمت فوقها تبدى لك الجديد قديما .
- ما دمت فوقها ترى أجمة شوك ملأى بعقارب الغضب وحيات ( الحرص ) .
 
« 344 »
 
- وعندما تهبط من فوقها ترى بالمجان عالما مليئا بالحسان وبالحواضن ( الحنونات ) .
 
حكاية تلك المرأة الدنسة التي قالت لزوجها : إن تلك التصورات تبدو من قمة شجرة الكمثرى لأنها هكذا تبدو للمرء في قمة شجرة الكمثرى فاهبط من قمة شجرة الكمثرى . .
حتى تذهب عنك التصورات وإن قال أحد : إن ما كان يراه ذلك الشخص لم يكن من قبيل التصورات والوهم ، فالجواب إن هذا مثل وليس مثل وفي المثال يكفى ، ذلك أنك إن لم تتسلق قمة شجرة الكمثرى لما رأيتها قط سواء كانت حقيقة أو خيالا .
 
- كانت إحدى النساء تريد أن تتضاجع مع عشيقها أمام زوجها المخدوع .
 
3545 - فقالت المرأة لزوجها : يا سعيد الحظ ، سوف أصعد على الشجرة لقطف الثمار .
- وعندما صعدت تلك المرأة على الشجرة شرعت في البكاء عندما نظرت من علٍ صوب زوجها .
- وقالت لزوجها : أيها المأبون المنبوذ . . من ذلك اللوطي الذي يواقعك ؟ !
- وقد رقدت أنت تحته كالمرأة . . أكنت في الأصل مخنثا إذن يا فلان ؟ .
- فقال الزوج : ( لا شيء من هذا ) لعل رأسك أصابها الدوار وإلا فليس هنا غيرى أحد في الخلاء .
 
3550 - فكررت المرأة القول من صاحب القلتسوة الحمراء إذن الذي ينام فوق ظهرك ؟ .
- فقال : أيتها المرأة . هيا أهبطى من فوق الشجرة ، فلقد دار رأسك . .
فخرفت تخريفا شديدا .
- وعندما هبطت صعد زوجها . . فأخذت المرأة ، ذلك العشيق في أحضانها .
 
« 345 »
 
- فناداها الزوج : أيتها البغى . . من هذا الذي اعتلاك وكأنه القرد ؟ .
- فقالت المرأة : لا ليس هنا غيرى ، انتبه فقد دارت رأسك ولا تخرف .
 
3555 - فكرر ذلك الكلام على المرأة . . قالت إن هذا من أوهام شجرة الكمثرى .
- وأنا من فوق شجرة الكمثرى . . . كنت أراك منحرفا أيضا أيها الديوث .
- هيا إهبط حتى ترى إنه لا شيء يحدث ، وأن كل هذه الخيالات من شجرة الكمثرى .
- إن الهزل تعليم فاستمع إليه بجد ، حتى لا تصبح عاكفا على ظاهر هزله .
- وإن كل جد هزل عند الهازلين ، لكن كل هزل جد عند العاقلين .
 
3560 - إن الكسالى يبحثون ( في هذه القصة ) عن شجرة الكمثرى ، لكن هناك طريقا طويلا حتى شجرة الكمثرى ، ( تلك ) .
- فانتقل من شجرة الكمثرى فأنت الآن فوقها ، صرت أعشى العين حائر الوجه .
- إنها أنيتك ووجودك الأول . . اللذان يجعلانك أحول معوج البصر .
- وعندما تهبط من فوق شجرة الكمثرى هذه ، لا يبقى هناك إعوجاج في فكرك وبصرك ومنطقك .
- وتراها وقد تحولت إلى شجرة إقبال ، تمتد أغصانها إلى السماء السابعة .
 
3565 - وعندما تهبط من فوقها . . . وتبتعد عنها . . . يبد لها الله سبحانه وتعالى برحمته .
- ولأنك هبطت من فوقها تواضعا فإن الله يهب عينيك الرؤية الصحيحة .
- وإذا كانت الرؤية الصحيحة بالشيء السهل أو اليسير، فمتى كان المصطفى يطلبها من الله؟.


« 346 »
 
- قائلا : إبدل‌ى الأشياء مرتفعها ومنخفضها . . كما تبدو أمامك أنت يالله .
- وبعدها إصعد على شجرة الكمثرى تلك ، التي بدلت وصارت خضراء من أمر « كن » .
 
3570 - وصارت هذه الشجرة كالشجرة الموسوية ، ما دمت قد اتجهت بحاجياتك صوب موسى .
- إنه يجعل نارها خضراء سعيدة هانئة ، تصيح أغصانها : إني أنا الله .
- وفي ظلها تكون كل حاجاتك مقضية . . وهكذا تكون الكيمياء الإلهية !
- وتصير أنيتك ووجودك حلالا لك ، إذ ترى فيهما صفات ذي الجلال .
- فقد صارت الشجرة المعوجة مستقيمة مظهرة للحق « أصلها ثابت وفرعها في السماء » .
 
3575 - إذ نوديت من الوحي العظيم ، أن أتركى الإعوجاج واستقيمى الآن . « 1 »
 
بقية قصة موسى عليه السلام
 
- إن شجرة الجسد هذه هي عصا موسى ، لقد وصله الأمر أن ألقها من يدك .
- حتى ترى خيرها وترى شرها ، ثم إحملها بعد ذلك بالأمر الإلهى .
- إنها لم تكن سوى عصا قبل أن يلقيها ، وعندما أمسكها بأمره تعالى صارت طيبة .
- كانت في البداية تنثر الأوراق للحملان ، فصارت معجزة لهذه الجماعة المتكبرة المغرورة .
 
3580 - صارت حاكمة مسيطرة على رؤوس قوم فرعون ، جعلت ماءهم دما وأكفهم ضاربة لرؤوسهم .
..............................................................
( 1 ) البيت في الأصل تحت العنوان الذي يليه . لكنه ضمن الأبيات التي تسبقه .
 
« 347 »
 
- وأنتجت مزارعهم القحط والموت ، من جحافل الجراد التي كانت تأكل أوراقهم وزادهم .
- حتى دعا موسى عليه السلام دعوة بغير وعى . . عندما ألقى بنظرة على العاقبة .
- فما جدوى هذه المعجزات والسعي والجهد ، ما دامت هذه الجماعة لن تستقيم ؟
- لقد نزل الأمر : أن اتبع أسلوب نوح : ودعك من تفصيلات العاقبة وما سوف يتأتى فيها .
 
3585 - ودعك من هذا فأنت داعى طريق ، هناك الأمرب - « بلغ » ولا يكون عبثا .
- فإن أقل حكمة من الحاحك هذا وإصرارك ( على الدعوة ) هي أن يتجلى ذلك العناد وذلك العتو ويبدوان للعيان .
- وحتى تشيع هداية الحق وإضلاله وتظهران على الملأ بالنسبة لكل الفرق .
- وإذا كان المقصود من الوجود والخلق هو إظهار ( صنعه تعالى ) ، فينبغي اختباره بالإنتصاح والغواية .
- فالشيطان لا يفتأ يلح في وسوسة الغواية ، بينما يلح الشيخ في النصح والهداية . « 1 »
 
3590 - وعندما توالت هذه الأمور وأصبحت ذات شجون ، وأخذ النيل يجرى بأجمعه دما .
- جاء إليه فرعون بنفسه ، متوسلا إليه وقد انحنى ظهره .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 48 : عد وتحدث عن قصة الفرعوني ، وامح غبار الكفر عن باطنك ثم يليه عنوان هو : صعوبة الأمر علي آل فرعون وتشفع فرعون .
 
« 348 »
 
- قائلا : لا تفعل أنت ما فعلناه أيها السلطان ، وليس لنا وجه لكي نتحدث معك .
- إن كل ذرة في ممتثلة لأمرك ، ولا تذلنى ( أكثر من هذا ) وأنا معتاد على العزة .
- هيا أيها الأمين وأدع لنا بالرحمة ، حتى تسد هذه الفوهة النارية .
 
3595 - قال ( موسى ) : يا إلهي إنه يخدعني ، وإن كان يخدع فإنه يخدعك أنت .
- فهل أستجيب له أم أخدعه أنا بدوري ، حتى يعرف الأصل ذلك المتشبث بالفرع ؟ ! - حتى يعلم أن أصل كل مكر وكل حيلة عندنا نحن ، وكل ما هو على التراب أصله في السماء .
- قال الحق : إن ذلك الكلب لا يستحق حتى ذلك . بل إلق إليه بعظمة من على البعد .
- هيا حرك تلك العصا حتى يرد التراب كل ما كان الجراد قد أتى عليه .
 
3600 - بل ويتحول الجراد نفسه إلى لون التراب ، حتى يرى الخلق تبديل الإله .
- وأنه لا حاجة لي إلى الأسباب، فإن تلك الأسباب مجرد حجاب وغطاء (على الفعل الإلهى)،
- وهي من أجل أن يعرض المؤمن بالطبيعة نفسه على الدواء . ومن أجل أن يتجه المنجم إلى العلم عن طريق النجوم .
- وحتى يبكر المنافق في الحضور إلى السوق من خوفه على كساد ( تجارته ) .
- وحتى يكدح من أجل اللقمة أولئك الذين لم يحققوا العبودية ولم يغسلوا وجوههم ، وهم أنفسهم طعام الجحيم .


« 349 »
 
3605 - إن روح العامي آكلة ومأكولة ، مثله كمثل ذلك الحمل الذي يرعى في القمامة .
- إنه لا يفتأ يرعى ذلك الحمل ، والقصاب سعيد قائلا : إنما يرعى ذلك الحمل الأوراق والأعشاب من أجلنا .
- وها أنت تقوم بعمل الجحيم في كل ما تراه صالحا للأكل ، ومن أجل الجحيم تقوم بتسمين نفسك .
- فاعمل من أجل نفسك واحزم أمرك وتناول رزق الحكمة ، حتى يصبح قلبك ممتلئا سمينا بعظمة الحكمة وأبهتها .
- وإن إطعام الجسد مانع لهذا الطعام ، فالروح مثلها مثل التاجر ، والجسد مثله كمثل قاطع الطريق .
 
3610 - ويكون شمع التاجر مشتعلا ذا ضياء ورواء طالما كان قاطع الطريق محترقا كالحطب .
- وإنك بأجمعك عقل ووعى وما بقي فيك كله غطاء لهذا العقل والوعي ، فلا تفقد ( معرفتك بكنه ) نفسك ، ولا تهزل .
- وإعلم أن كل شهوة هي كالخمر وكالمخدر، فهي حجاب على الوعي والعاقل منها في ذهول.
- وليست الخمر وحدها هي سبب سكر العقل ، إن كل ما هو يتعلق بالشهوة ، يغلق العين ، ويذهب اللب .
- لقد كان إبليس ذاك متجنبا للخمر ، لكنه كان ثملا من التكبر والجحود .
 
3615 - إن الثمل هو الذي يرى ما ليس موجودا ويبدو له ذهبا الذي هو نحاس وحديد .
  
« 350 » 
 
- ويا موسى « 1 » هذا الكلام ليس له نهاية ، فهيا وحرك شفتيك ( بالدعاء ) حتى ينبثق النبات من الأرض .
- وهكذا فعل ، وفي نفس اللحظة ، إخضرت الأرض من السنابل ذات الغلال الثمينة الغالية .
- فتقاطرت تلك الجماعة على (الطعام) أولئك الذين أصابهم نفس موسى من البشر والدواب .
 
3620 - وعندما امتلأت البطون وتساقطوا على النعم ، وذهبت تلك المخمصة ، لجوا ثانية في طغيانهم .
- إن النفس فرعونية فانتبه ولا تشبعها ، حتى لا تذكر كفرها السابق .
- ولا تطيب هذه النفس إلا بحرارة النار ، وما لم يصهر الحديد كقبس من نار انتبه ولا تدق عليه .
- ولا يصير الجسد متحركا دون أن يصيبه الجوع ، وإلا فاعلم أنك تدق على الحديد البارد .
- وهي وإن بكت وضجت بالنواح ، لن تصبح مسلمة ، فانتبه إلى هذا جيدا .
 
3625 - إنها مثل فرعون ، وفي القحط ، تكون كما كان فرعون مع موسى ، شاكية باكية متضرعة .
- وعندما تستغنى تطغى ، والحمار عندما يسقط الحمل عن نفسه يبرطع .
- إنها تنسى أناتها وضراعاتها السابقة ، عندما يستجاب لدعائها وتقضى حاجتها .
..............................................................
( 1 ) هنا عنوان في نسخة جعفري ( ج - 11 / ص - 55 ) : دعاء موسي وإخضرار المزارع .
 
« 351 »
  
- إن المرء ليقضى سنوات من ( عمره ) في إحدى المدن ، وفي لحظة واحدة عندما يروح في النوم ،
- يرى مدينة أخرى بخيرها وشرها ، ولا يتذكر شيئا عن مدينته التي هو فيها بالفعل .
 
3630 - ولا يقول لنفسه : لقد كنت فيها وهذه مدينة جديدة ليست مدينتى وليس لي فيها مقام .
- بل كذلك يعتبر أنه كان دائما في هذه المدينة الجديدة المبتدعة وإن ألفته إليها .
- فأي عجب ألا تذكر الروح شيئا عن مواطنها القديمة التي كان فيها مولدها ومسكنها ، 
- ولا تعتبر أن هذه الدنيا كالحلم تغطي ذلك الموطن القديم كما يغطى السحاب النجوم .
- خاصة وقد طرقت مدنا جديدة ، ولم ينفض الغبار عن إدراكها .
 
3635 - ولم تجتهد اجتهادا خاصا من أجل أن يصبح القلب صافيا يرى ما حدث .
- فيرفع قلبها رأسه من موطن السر ، ويبصر البداية والنهاية بعين مفتوحة . « 1 »
 
.
* * *

شرح حكاية ذلك الأمير الذي اتجه اليه الملك الحقيق



( 3085 ) : هذه القصة كما يتضح من مبتكرات مولانا جلال الدين والتراب ربيع الصبيان حديث نبوي والمقصود جفت عينه فلم يعد فيها دمع وهو تعبير عن شدة الحزن .
 
( 3092 - 3093 ) : إن شعلة الروح تموت من الحزن الزائد ، كما أنها تموت من السرور الزائد . . والوجود الإنسانى حي بين موتين ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه وهو مطوق بين موتين . . إنه أمر يثير السخرية والشفقة .
 
( 3095 - 3099 ) : القبض والبسط كلاهما من الله تعالى ، فقد انقبض الملك في نومه ، ولما استيقظ أحس بانشراح لا سبب له ، وكأنه شئ واحد له وجهان وجه فيه الحياة ووجه فيه الموت ، هو حياة بالنسبة لإنسان وموت بالنسبة لآخر ، هو هلاك لإنسان وحياة لإنسان آخر كما قال سنائى :
 
« 585 »
 
السم لهذا حياة ولذاك موت هو « هلاك للروح الحيوانية بقاء للروح الإلهية » وكل شئ تراه في الدنيا له نسبتان بالنسبة لبعض الأشياء ضرر وموت وبالنسبة لبعضها حياة وفي القرآن «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» ( الحديد / 13 )
أي من ناحية المؤمنين رحمة ومن ناحية المنافقين عذاب .
( مولوى 4 / 417 ) وهكذا فسرور البدن كمال دنيوي لكنه نقص أخروي وإذا كنت تعلم أن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فاعتبروا أعمالهم هنا من قبيل الأحلام ، تعبيرها وتفسيرها وموجود في العالم الآخر ، فالضحك في النوم تعبيره البكاء والبكاء في النوم فرح وسرور .
 
( 3100 - 3112 ) : عودة إلى الملك : إن الحزن يمضى والفرح ، ولكن لا شئ يمضى دون أن يترك أثرا . . حتى وخز الشوك لا يمضى دون أثر ، وهكذا فهو يفكر في وفاة ولده التي رآها في النوم ، إن مضى الورد ( الابن ) فينبغي أن يكون له منه تذكار ، وإن من الصعب أن تقف أمام الموت ، فلا محيص عنه ولا مهرب منه . . وهناك مئات الأبواب إليه فأي باب تسد ونحن نسمع صريرها ، وإن من لا يسمع صريرها إنما يكون ذلك من انشغاله بالدنيا . . وإلا فإن هذه الأبواب وصريرها ليست مما يستبعد أو يتجاهل إلا إذا كان الإنسان شديد الغفلة شديد الانشغال بالدنيا . . أتدري ما هو هذا الصرير : إنه الآلام التي تسكن البدن . . وجفاء الخصوم وعداوتهم . . واقرأ فهرس الأمراض والعلل في كتب الطب . .
 
كلها كالعقارب كامنة في الجسد الإنسانى في انتظار الأمر أن تخرج وتلدغ . .
هذه هي الرياح الصرصر العاتية التي لا يصمد أمامها مصباح . . فما بالك والمصباح
( الابن ) شديد الضعف . . . إن الملك يفكر إن ذهب هذا المصباح فلا أن يحل محله مصباح آخر ، إنه كالعارف يشعل قلبه شمعا لكي يعوض مصباح الجسد الناقص ، حتى إذا ماتت تلك الشمعة ذات يوم . . يضع أمام عينيه شمع الروح الباقي أي يحيا بنور الحق الذي هو على صلة بهذا القلب ويستمد منه
 
« 586 »
 
هذا القلب ، هذا هو الاستبدال الحقيقي والتعويض الحقيقي ، لكن ليس كالسلطان الذي يستبدل فانيا بفان ولم يفكر في الباقي الذي لا يفنى .
 
( 3117 - 3119 ) : الناس يعلمون أولادهم حرفهم وصنعاتهم وعلمهم أو يميلون إلى ذلك في الغالب الأعم ، لكي يكون الابن استمرارية للأب ليس لمجرد الجسد بل للمعاني التي يزاولها الأب ، الله سبحانه وتعالى وضح هذا الأمر في خلقة البشر وفي جبلتهم لكي تبقى هذه الحرف في الدنيا ، والمعلم أب معنوي لتلميذه ومن هنا يكون الولد « سر أبيه الصوري وسر أبيه المعنوي » . .
وقد ركب الله تعالى فيهم الحرص على تعليم كل صغير ، . .
وليس كل صغير فحسب ، بل كل صغير « مستعد » بنص مولانا جلال الدين فاستعداد الصغير أهم من الرغبة الطبيعية الكامنة في الأب لتعليم ولده .
 
( 3121 - 3126 ) : الملك في الحقيقة هو الله ، ومن البشر الصالح الذي لا يملكه شئ . . لا قلق ولا فرح ، والرجل هو من سيطر على شهوات نفسه ، هو الأشعث الأغبر ذو الطمرين الذي لو أقسم على الله لأبره . . لكن الناس دأبوا على تسمية أسارى الدنيا وعبيد شهواتهم وطلاب الزيادة في الدنيا بالملوك من قبيل تسمية الشئ بضده كتسمية العبد الأسواد كافورا والبادية مفازة والمسافرة قافلة . .
وهكذا يسمى العوام من به ترجى الدنيا ( صاحب السعادة وصاحب السيادة ) ويسمون أسير الشهوة والأمل « الصدر الأجل » وهو إن شئت الحقيقة في صف النعال ، أما أسير الأجل فهو الأمير الأجل » .
 
( 3131 - 3136 ) : إن تسمية الصالح الدرويش بالشحاذ أمر شديد الخطأ لا يقل خطأ عن تسمية أسير الأجل والشهوة والحرص بالأمير ، وهناك فرق بين أن يكون فقرك تقى وغنى بالله وتعففا عما في أيدي الخلق ، وأن يكون هذا الفقر ناتجا عن خسة ولؤم وكسل ، فقر الدراويش قناعة وتقى لكن فقر
 
« 587 »
 
الأدنياء مختلف ، فهم إن وجدوا لا يتعففون ولا يقفون بل يضعون الدانق على الدانق والدرهم على الدرهم ، هؤلاء هم الشحاذون على وجه الحقيقة ، وليس الغنى من كثرة العرض . كل ملك يأكل من الحرام ولا يرحم الرعية ويكون عليهم وعلى أموالهم سبع ضار هو مجرد شحاذ وليس ملكا مهما كان له من الأموال وهذا المعنى ورد عند مصلح الدين سعدى الشيرازي .
 
لو أن أحدا كان ملكا على كل الآفاق صلى الله عليه وسلم عندما يأخذ المال من غنى فهو شحاذ ( كليات سعدى / بوستان ص 238 )
( 3137 ) : إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم « من جعل الهموم هما واحدا وقاه الله سائر همومه » .
 
( 3141 ) : إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم « تنكح المرأة لثلاث لجمالها ومالها ودينها فانكح ذات الدين تربت يداك « وفي تفسير »رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ« قال الإمام على رضي الله عنه « الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة والحسنة في الآخرة الزوجة المطهرة » ( انقروى 4 / 722 ) .
 
( 3142 ) : إذا ملكت الآخرة ، فقد تبعتها الدنيا كما يتبع ملكيتك لقطيع من الجمال ملكيتك للصوف والوبر ، لكن إذا ملكت الدنيا فليس من المحتم أن تتبعها الآخرة فملكيتك للصوف والوبر لا تدل على ملكيتك لقطيع من الجمال .
 
( 3154 ) : إشارة إلى الحديث النبوي الشريف « داووا مرضاكم بالصداقة فإنها تدفع عنكم الأحراض والأمراض » ( الجامع الصغير 2 / 14 )
 
( 3156 ) : قيل « إذا انقطعت الأسباب فالسبب هو الدعاء لله » .
 
« 588 »
 
( 3159 - 3163 ) : كانت العجوز ساحرة ماهرة ، ولا يفل سحرها إلا ساحر أستاذ وهكذا تطلب الأمور من أسبابها « وفوق كل ذي علم عليم » ولا يكون في أي فن إلا ويوجد من هو أعلى يدا منه ، والمنتهى إلى الله تعالى ، فكل علم العلماء قطرة من محيط علمه « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » .
 
( 3167 ) : فرق بين سحر وسحر ، وبين السحر الموسوي وسحر السحرة فرعون ( انظر الكتاب الثالث - لقاء الساحرين على قبر والدهما ) وشتان ما بين سحر للإفساد وسحر من ذلك الطرف يوهب لبعض الناس فلا يستخدم إلا في الخير .
 
( 3172 ) : واضح أن الحكاية من الحكايات الشعبية التي كانت معروفة على عهد مولانا جلال الدين وإلا ما ترك بعض تفصيلاتها لا تهم السامع في شئ أو على أساس أن معظم السامعين يعرفونها ، أو ربما لأن التفصيلات لا تخدم الرموز التي ينوى الحديث عنها فيما بعد . . كما أن عدم ذكر تفصيلات عن شفاء الأمير حتى لا يفهم المريدون أن الشفاء تم عن طريق السحر ، فالشافي حقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، والوسيلة دعاء الوالد والساحر الإلهى مجرد « دريئة » أي مجرد حجاب لإظهار السبب الحقيقي وهو بين .
 
( 3182 ) : هكذا يكون الإنسان عندما يشاهد الجمال الحقيقي ، بعد أن ينجو من القبح الذي يظنه جمالا ، والجمال الدنيوي كله لا يساوى عشر معشار الجمال الإلهى ، وهو ما هو موجود في الدنيا من جمال عارية . . فما بالك بمعدن الملاحة . . إن الأمير كان لا يزال ينظر إلى هذا الجمال الجديد بنفس تلك الحواس التي كان ينظر بها إلى الجمال . . فلم يتحمل . . ولمولانا في ديوان شمس الدين التبريزي :
في يد كل ما هو موجود فتات من الجمال * وإنما رغبتي هو معدن الملاحة وذلك المنجم غزل 441 ص 203


« 589 »
 
( 3185 - 3187 ) تذكار أيام الكفر يتذكرها المؤمن التائب حينا على سبيل الندم وحينا على سبيل السخرية والمزاح من نفسه كيف كان مدفوعا إلى هذه الحمأة دون أن يدرى ؟ ! نعم إنه لم يكن يدرى « وزين لهم الشيطان أعمالهم » .
 
( 3190 - 3198 ) : يقدم مولانا جلال الدين رموز القصة وخلاصتها والمطلوب منها فالأمير ابن الخليفة هو الإنسان ولد في العالم القديم فكل من ولد لآدم ، والسلطان هو آدم ، والعجوز الكابلية الساحرة هي الدنيا « وهي أسحر من هاروت وماروت » فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس « يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صور عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم : أتعرفون هذه ؟
فيقولون : نعوذ بالله من معرفتها فيقال لهم : الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم » ( انقروى 4 / 730 - 731 )
 
والنجاة من سحرها إنما يكون بالاستعاذة ، حتى تحل عقدها التي تزينها عما يخالف الشرع والعقل . . إنها تنفث السحر في القلوب ، ولو كان العقل يصلح لعلاج سحرها لما أرسل الله الأنبياء والأولياء ، إنها تزين كل شئ للعقل . . بحيث يكون اتباعها أحيانا من مطالب العقل نفسه ، وما هذا العقل ؟ !
أليس يقال لكل إنسان يحاول أن يقف ضد مفاسد الدنيا : إعقل . . فالعقل دنيوي ولا بد لك من نبي لينجيك منها أو ولى عظيم .
 
( 3199 - 3206 ) : هيا فإن الأمير قد مكث سنة في حبائل العجوز الساحرة ، وأنت إن لم تجتهد بقيت في حبائلها ستين عاما بل بقيت إلى آخر العمر . . فإن الستين هنا كناية عن آخر العمر مصداقا لحديث البشير النذير ( أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين ) . . وأنت عرفت أنها بهذا القبح وتعلقت بها فقد خسرت الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، وما النجاة من نفخها
 
« 590 »


الخلاق الفرد . . وذلك عن طريق الولي الكامل . . القابل للفيض ، والفياض على الخلائق فنفخة سحر الدنيا هي نفخة القهر ، ولا بد لعلاجها من نفخة اللطف الإلهي ، وإذا كانت الرحمة قد سبقت الغضب فاسع بالرياضة وابحث عن رحمته ، ابحث عن السابق إليها واقتبسها منه ففي الحديث النبوي « لكل قرن من أمتي سابقون » وجاء في القرآن الكريم «السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ( الواقعة / 10 )
وفي وصية الرسول لعلى رضي الله عنه « يا علي إذا تقرب الناس إلى خلقهم بأنواع البر فتقرب إلى الله بأنواع العقل لتسبق الناس درجة وزلفى عند الله في الدنيا والآخرة » ( انقروى 4 / 38 ) ،
وذلك حتى تنجو من العجوز القبيحة وتزوج بالحور العين بناء على قوله تعالى «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» ( التكوير / 7 ) ( نقلا عن أحاديث المثنوى ص 120 مع شئ من التصرف ) .
 
( 3207 - 3209 ) : إذن الخيار في يدك : فإما العجوز الشمطاء وإما تلك الحورية الجميلة ، ولا تظنن أنه من الممكن أن تجمع بينهما ، فهما كما يقول سيد البشرية صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة ضرتان بقدر ما ترضى أحدهما تسخط الأخرى ، ومن هنا ينبغي لك من فراق ووصال . . وصحة جسدك هنا سقام للروح .
 
( 3200 - 3215 ) : وعليك أنت أن تقارن وأن تقيس إذا كنت تحس بكل هذه المشقة للزهد في الدنيا والانصراف عنها وهي مجرد ممر ومعبر وحلم نائم ومزرعة للآخرة ودار امتحان . . فما بالك بالمقر ، وإذا كنت متعلقا هكذا بالصورة هلا فكرت في فراقك للمصور وبعدك عنه ، وإذا كنت بلا سكوت ولا صبر عن هذا الشرب . . فكيف تبتعد عن الأبرار وعما يشربون ، «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» ( الإنسان 5 / 6 ) . . إنني أقول لك كل هذه المعاني في معنى واحد :
 
« 591 »
 
إنك إن أبصرت جمال الخالق العظيم لألقيت في النار بالروح والوجود أي لفرطت في كل روحك ووجودك فداء لهذا الجمال الذي يبدو جمال دنياك كله إلى جواره قبحا .
( 3218 - 3219 ) : افناء الذات والانسلاخ عنها هو الوصول إلى البقاء الكامل ( أنظر مقدمة الكتاب الثالث ) .
 
( 3220 - 3227 ) : إن مجرد ترددك في هذا الأمر وتعثرك هكذا هو من قصور نظرك الذي لا يرى عثرات الطريق ، فاجعل دليلا إلى الحق كما كانت رائحة قميص يوسف عليه السلام تملأ أنف يعقوب في كنعان وهي التي ردت إليه بصره . . ومن الممكن أن يكون قميص يوسف هنا رمزا للمرشد والشيخ ومن الممكن أن يكون رمزا للمجاهدات ومن الممكن أن يكون رمزا للقرآن الكريم وفي رأى لاستعلامى إنه آثار عالم المقر 4 / 363 إن صورته خفية . . لكن نور وجهه أضاء وجوه الأنبياء . . وهذا هو المعنى الذي عبر عنه مولانا في ديوان شمس الدين التبريزي قوله :
إنه خفى عن الأبصار وكل ما تعبرون عنه .
ومطلبي هذا الخفي الواضح ، في صنعته ( غزل 441 ص 203 ) .
عليك إذن بطلب هذا النور ، فهو النور الحقيقي . . وكل الأنوار انعكاس أو قبس منه
( انظر مشكاة الأنوار للغزالي ) وكلها إلى جواره أنوار مستعارة . .
إن النور الذي ترى به العين إنما به ترى به للحظتها فحسب ، ويصيب العين والجسم والروح بداء الجرب ( الأجرب مشغول بحك نفسه فحسب مبتعد لآفته عن الناس ) أي يجعل الجسم والنفس والروح مشغولة بما يفيدها في اللحظة الحاضرة بعيدة عن الطريق وعن الجهاد للوصول إلى النور الأصلي إنه
 
« 592 »
 
في الصورة نور لكنه في الحقيقة نار . . فابتعد عنه . انظر إلى البصيرة والروح ، التي تكون بنت لحظتها لا ترى إلا الحاضر وإلا اللحظة وإلا المنفعة الحاضرة إنما تتعثر وتسقط على وجهها لأن الحاضر لا يدوم واللحظة لا تستقر ولا تثبت . .
انظر إلى ابن لحظته دائما يلهث . . لا يستقر على حال . . يظن كل ما يجده شيئا ثم لا يلبث أن ينصرف عنه . . كأنما يجرى أحد وراءه بسوط . . وفي النهاية يسقط وقد خسر كل شئ . . لكنه غير الباحث عن الثابت . . عن القيمة . .
عن خلود الروح بالعلم والعبادة .
 
( 3228 - 3241 ) : إن حديثي عن رؤية من نوع آخر . . لكن ليست رؤية تلك العين وحدة بصرها الحسى ، إن العين التي تكون خالية من الفضل « النور الإلهي » قد ترى على البعد لكنها مثل رؤية شئ على البعد في النوم . .
تماما كالنائم ظمآنا إلى جوار نهر . . فالنور أقرب إليك من حبل الوريد ، ليس بينك وبينه إلا الإخلاص والطلب ومع ذلك فإنك إلى جوار هذا النهر الفياض تنام ظمآنا . . ( تظل متعلقا بالدنيا ) وتسرع في إثر سراب . . أليس نعيم الدنيا كله سرابا ؟ ! ألا يتوقف كل التمتع بالحياة على فترة من الزمن . .
 
وألذ لذائذ الدنيا تدوم متعتها بعض لحظة . . ما أشبه عابد الدنيا بنائم على شاطىء جدول ويحلم بالماء ويسرع خلف السراب . . ويعجب بسعيه ، يجلس متفاخرا متعاظما يضع يده تحت إبطيه ويلعب إصبعيه من بين دخان سيجاره قائلا : لقد بنيت نفسي بنفسي . . منذ سنوات قليلة لم أكن أملك شيئا . . خفف قليلا من غلوائك ربما بعد لحظة تخرج منها عاريا ( ! ! )
 
هذا تماما ما عبر عنه مولانا في البيت 3230 يجلس أحدهم بين أصحابه . . ها لقد وصلت إلى الماء ، وعندي « خميرة » جيدة . .
افعلوا مثلي وأنت في الحقيقة تبتعد عن الماء لحظة بعد لحظة . . الماء تحت قدمك . . وعزمك هذا ورحيلك نحو الماء هو الحجاب الذي يبعدك عن الماء
 
« 593 »
 
الحقيقي ، فكأنك تضع بيدك حجابا على حجاب . . وما أكثر البشر الذين يرحلون عن موضع فيه عزهم الحقيقي . . يعيشون من خوف الفقر في فقر ، ويجهلون وهم يظنون أنهم يعلمون ، فإياك ورؤى النائمين ونفاجهم فهي لا فائدة منها . .
إنها ليست سوى خيال . . إنها ليست حقيقة ، إنها تبعدك من حيث تظن أنها وصل . . وإن كنت ولا بد عاشقا للنوم فنم . . لكن في طريق الله . . أليس هناك من النوم ما هو عبادة . . نم عن أذى الناس . . أو نم في طريق تعلم أن أهل الله يسلكونه ربما تعثر بك سالك فأيقظك من نوم عميق وأخذ بيدك . . هذا هو فيض الله الذي يمكن أن يأتيك في نومك . . إن النائم ( محب الدنيا ) مهما كان دقيق الفكر . . فإن فكره يظل محصورا في نطاق هذه الدنيا وهي ساحة ضيقة أضيق مما تظن . . إن كل فكره العظيم لا يستطيع أن يدله على طريق الحي الذي فيه المحبة والصفاء . . مهما كان فكره مضاعفا فقد تضاعف خطوه أيضا . . إن موج الرحمة ، الإلهية يتخاطفه بينما هو نائم في صحراء قاحلة لا يحس به وإن لم يكن أي حي يعتمد على حفظ الله ورحمته فعلام يعتمد ؟ ! إن الرحمة أقرب إليه من حبل الوريد بينما هو يمضى في عطش شديد .
 
( 3242 ) : يرى فروزانفر أن الحكاية التي تبدأ بهذا البيت واردة في جوامع الحكايات لمحمد عوفي في ذكر سبب توبة الصوفي شقيق البلخي ، وقال بعضهم إن سبب توبته إن الخلق ذات سنة بلغت قلوبهم الحناجر من القحط ، وصار الخبز أندر من الكبريت الأحمر ، وأمسك المطر ، وكان القوم قد خرجوا للاستسقاء كثيرا ، أخذوا يطلبون من الله المطر بضراعة وبكاء وأثناء ذلك رأى شقيق غلاما زنجيا يمرح ويضحك ، فقال له شقيق : أي مرح هذا تمرح ألا ترى هموم الناس ؟ ألا تشاهد محنتهم إذ سفك بسيف عقاب القهر دماءهم . . فقال ذلك الغلام : وأي بأس عندي عن القهر . . إن لي سيدا عنده مخزنان من الغلة وأفهم أنه لن يضيعني ( فروزانفر - مآخذ ص 150 )
 
« 594 »
 
( 3247 ) : إشارة إلى الحديث النبوي الشريف « المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله » ( انقروى 4 / 747 ) والحديث النبوي الشريف « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى » .
 
( 3249 - 3255 ) : إن الزاهد يرى أن القحط من الله ، فالبلاء على المؤمن فيض ونعمة ورحمة ، ومن ثم فإن كل مظاهر القحط تنقلب إلى ضدها ، أليس هذا هو مصيرها في النهاية ، إن صبر المؤمنون على القحط ، وراجعوا أنفسهم ، وأصلحوا ذات بالهم . . وليس هذا ببعيد أن يرى الزاهد ذلك . . ألم يكن النيل ماء لقوم موسى دما لقوم فرعون وغير هذا ألا يغضب الإنسان أحيانا حتى على أبيه . . فيراه في أسوأ صورة . . ثم يرضى فيراه أبا رحيما ؟ ! إن الناس من سخطهم يرون قحطا والزاهد من رضاه وأمله في عفو العفو الغفور يراه رحمة . .
إنهم ينظرون بعين الظاهر التي ترى اللحظة . . وهو يرى بعين الباطن ترى العاقبة :وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدى المساويا
 
( 3259 - 3262 ) : يرى المولوي ( 4 / 441 ) أن العقل الكلى هنا هو الحقيقة المحمدية كما يرى الانقروى ( 4 / 750 ) نفس الرأي ويرى السبزواري ( 4 / 318 ) أن المراد بالعقل الكلى علم الحق بالكل فصور العالم من الجبروت إلى الناسوت مسبوقة في علم الحق والمعلومات طبقا للصور العالية وهذه الصور العالية برزخية ورابطة بين الوحدة والكثرة وهذا بناء على أن علم الحق صوري كما يقول بذلك أغلب الحكماء وعلى الأخص المشاؤون ، أما الإشراقيون فيرون أن الوجود من الذرة إلى الذرة في علم الحق الحضوري ، وصفحة نفس الأمر وصحيفة الأعيان بالنسبة للحق مثل الأذهان بالنسبة للنفس
 
« 595 »
 
الناطقة . . والكل بإرادته ولم يجر خطأ على قلم الصنع . . وتفسير مولانا جلال الدين هنا شديد الوضوح : العالم كله . . الوجود كله صورة للعقل الكلى . .
جداول تنبعث من المحيط الأعظم . . ظل الشمس شمس الحقيقة ومن ثم يكون التصرف على كل ما يحدث في هذا الكون متعلقا بموقف منه سبحانه وتعالى . . ويرى الأنقروى والمولوي أن المقصود بأهل المقال . . أي كل الناطقين ( انقروى 4 / 771 - مولوى 4 / 441 ) بيما يرى السبزواري أنهم أهل خطاب الحق كالأنبياء والعلماء ذوى وراثة العلم مصداقا لقول نبينا عليه الصلاة والسلام « إن في أمتي مكلمين محدثين ( 4 / 318 ) ،
وهذا العقل الكلى بمثابة الأب الرفيق بالوجود الراعي له ، فإذا كنت ساخطا على هذا الأب فقد ضاقت بك الأرض بما رحبت ورأيت في الوجود كل ما يسخطك . . وإن كنت راضيا وفي صلح وسلام فقد ظهر لك الوجود وهو من ماء وطين وشيا منمنما على سجادة ذهبية فإن وصلت إلى مرحلة الرضا فقد قامت القيامة بالنسبة لك . . وصفت لك الجنة على الأرض ، بل وبدلت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء ، عن علي رضي الله عنه أنه قال « تبدل أرضا من فضة وسماء من ذهب » وعن ابن مسعود « ويحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة » وعن ابن عباس رضي الله عنهما « هي تلك الأرض وإنما تتغير صنعا فقط » .
 
( 3263 - 3270 ) : نادرا ما يتحدث مولانا جلال الدين بضمير الأنا ، وهو عندما يتحدث عن نفسه فإنما يقصد الولي أو المرشد الكامل على وجه العموم وربما يكون هذا إكمالا لكلام الزاهد . . فهو يقول الولي دائما في حالة صلح مع هذا الأب ومن ثم فهو يرى جنته على الأرض ، جمالها وحسنها متجددان ويراها مليئة بالنعيم . . وإذا كان هذا الجمال كلة ينعكس في اللباد ( نهر وفي رواية للسبزواري أنه الماء القليل ) ( سبزوارى 4 / 318 ) فما بالك إذا كان إنعكاسه في مرآة صافية . . إنني لن أتحدث . . فالآذان مليئة بالشك والأفكار ، إذا تحدث عن أرض وأنتم ترون بأعينكم القاصرة أرضا أخرى مليئة بالقحط
 
« 596 »
 
والكوارث والمجاعات . . إنه ليس بشارة بما سيحدث ، وليس وهما . . إنه نقد الحال . . . والحقيقة القائمة .
 
( 3271 ) : عزير في رأى المفسرين وقصاص الأخبار هو الذي ورد في الآيات الكريماتأَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ : أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ ، قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ : أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( البقرة / 259 ) .
قال أبو إسحاق الثعلبي وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي عبرة ودلالة على البعث بعد الموت ، وقال الضحاك هو أنه عاد إلى قريته وأولاده وأولاد أولاده فوجدهم شيوخا وعجائز وهو أسود اللحية ( قصص الأنبياء / ص 345 ) . . وما جاء أولاد عزير للتفحص بل دلتهم عليه أمة كانت له .
 
( 3276 - 3285 ) : هي عند الجاهل الذي ينتظر ما سيأتي بشرى ، لكنها عند ذلك الذي يعلم أن الجنة والجحيم موجودان هي نقد حال وواقع معاش . .
والذي يراها بشرى إنما حجبه الوهم . . مثل أولئك الذين يظنون من وهمهم أن الله تعالى غائب عن الأبصار فهو غائب . . وهكذا فإنه ألم بالنسبة للكفار لكنه بشرى للمؤمنين . . والعاشق فوق المؤمن والكافر ، فإنه ثمل دائما بالمشاهدة الإلهية . . الجنة والنار بالنسبة له نقد حال وواقع معاش ، لكنها وجود دائم مستمر ، الكفر والإيمان بالنسبة إليه كالقشر ،
وإن كان الكفر قشرا باليا مرا ( متصلا بثمار المر وأصل المرارة في وجوده ) والإيمان قشر حلو ( متصل بمنبع الحلاوة والجمال في وجوده ) ، لكنه قشر على كل حال ، وهذا على كل حال كلام لا يلقى على عواهنه فعد عنه وارجع « موسى الروح » إلى بحر الحقيقة وشقه حتى يرتفع الغبار منه . . فالعاشق فوق الكفر والإيمان « لأن الدنيا والآخرة حرامان على أهل الله » وفي ديوان شمس تبريز :
 
« 597 »
 
- من الذي رأى الإيمان هو في مقابل الكفر بك أيها المليك .
- إن العنقاء التي تطوى الفلك أمامك مجرد ذبابة .
- وماء حياة الإيمان وتراب الكفر الأسود .
- إلى جوارنا ( عشقك ) كلاهما كالقذى .
- وليل الكفر ، وصباح الإيمان ، سطعت الشمس .
- قال الإيمان للكفر ، لقد ضعنا وكفانا هذا .
( كليات ديوان شمس غزل 608 ص 261 - 262 ) ( 3286 - 3293 ) : إن ما قلته يكفى العوام : ولا بد أن يخفى بقيته عنهم فهم ليسوا أهلا له . . إن عقولهم أشبه بشذرات الذهب ، ليس ذهبا مسبوكا أستطيع أن أمهره بخاتم الحقائق الإلهية ، وأستطيع أن أخاطبه بهذا الكلام الذي يمكن أن يخاطب به الخواص وخواص الخواص ، أولئك الذين جمعت هممهم وأصبح همهم واحدا لا أولئك العوام الذين تفرقت قلوبهم وتفرقت هممهم وتعددت مشاغلهم ولا جامع لكل هذه الشتات إلا العشق ، فالعاشق له هم واحد ، وهو به سعيد . . كأنه سمرقند أو دمشق .
 
يحس أن العالم كله في جمال سمرقند ومجد دمشق « سمرقند جمال الموطن ، دمشق حيث كان شمس الدين » وحين يصير مجموعا لا مجرد شذرات يمكن حينذاك أن يكون ذا قلب صلب كأنه الكأس في يد المليك . . أو يجعل من وجودك موضعا للتجليات الإلهية ، تكون آنذاك من ذوى اللون الواحد الذي لا يتغير . .
ويصير حتى خبزك وشرايك ومصباحك ونقلك وكل عيشك وطربك وطعامك وشرابك هو ، تراه في كل شئ ( تراه في كل معنى دقيق رائق بهج ) .
 
« 598 »
 
( 3294 - 3299 ) : وهكذا تكون الجماعة رحمة « الجماعة رحمة والفرقة عذاب » من أحاديث المثنوى ( استعلامى 4 / 396 ) ألا تتوزع بين الهموم وتتقاذفك كالقشة ، فإن كنت مجموعا ( أي جمعت كل همتك في وقتك أو مرشدك ) ( ، شرح التعرف 4 / 65 ) قد نجوت والتفرقة أعمال البدن والجمع حصول المشاهدة ، والتفرقة حضور لكن الجمع غيبة ( شرح التعرف / 63 - 64 ) ويضرب الأفلاكى ( 1 / 552 ) حكاية عن الجمع والتفرقة يقول :
سئل أنوشيروان : ما أفضل شئ في العقل والمال والدولة قال : اتفاق الخلق واجتماع الأصدقاء أي كلما حدث اجتماع واتفاق حدثت هذه الأمور الثلاثة ، تستطيع أن تعطى كل اهتمامك للمرشد . . وأستطيع أن أحدثك آنذاك بكل ما هو موجود لأن حديثي سوف يجد منك آنذاك استعدادا للقبول . فالإنسان يتحدث من أجل أن يؤمن الناس بحديثه لا من أجل مجرد الحديث ، والروح التي تكون محلا للشرك ( ليس بمعناه المعهود بل المشاركة أي همم سوى الله ) لا موضع عندها لحديث الإيمان . . إن الروح التي توزعت على ستين رغبة في وسط الفلك ومن محتويات الفلك . . أولى بك أن تصمت أمامها حتى تثبت علي حال من الأحوال . . لأن الكلام يزيدها اضطرابا وقد لا يصادف رغبة واحدة من رغباتها . . وإني لأعرف كل هذا ومع ذلك أتحدث مع أنى أنوى الصمت . . لكن متى يستطيع ذلك الذي يغلى باطنه بهذه الأفكار أن يصمت ؟ ! إن الوجد الذي يملؤنى يجعلني أفتح فمي بهذا الحديث بالرغم منى . . إنه من الطبيعي جبرا أن أتحدث ، تماما كالعطس والتثاؤب . . تقوم بهما مرغما . . وهكذا أنا لا أستطيع أن أحبس هذه الأحاديث في باطني .
 
( 3300 - 3310 ) : الحديث الشريف « إنه ليغان قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة » ، وفي رواية « سبعين مرة » والغين حجاب رقيق ، وقال
 
« 599 »
 
 
بعض العلماء الغين هو التقليد بأحوال فئة أو الانقياد لهم ولو كانت هذه من رحمته بعباده لكنها أيضا نوع من الحجاب تمنع القلب من التلذذ بالجمال الإلهى ومن هنا طلب المغفرة ( مولوى 4 / 450 ) ، لكن هذا السكر - والحديث لمولانا - يجعلني دائما أرجع عن توبتي ، إنه ينسبنى ما أزمعت عليه ويجعلني انطلق في الحديث ، إنها الحكمة الإلهية لإظهار الأسرار ، هي التي تجعل هذا السكر الإلهى يصيب العالم بالأسرار ( أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ) حتى يبوح بهذه الأسرار ولا يضن بها ، هذه الأسرار هي ظاهرة منذ الأزل ذات طبل وعلم منذ جف القلم الإلهى من كتابة اللوح المحفوظ وقدر ما سوف يحدث إلى يوم القيامة وهذه الأسرار تفور كالماء الجاري في أودية قلوب العارفين . . ولا بد من السكر حتى تفوه بها ألسنة الأنبياء والعارفين وإلا ما عرفها أحد ، فهم في السكر مغلوبون كالمجنون لا رابط على لسانه ( شرح التعرف 4 / 145 )
وهذا في حد ذاته من رحمة الله سبحانه وتعالى بعبيده . . وهي لا تنقطع في أي زمان لكنكم نائمون عن إدراكها أيها الخلق . . وما أشبهكم بنائم على جدول ماء ( غشاه النعاس ) ثيابه تبتل من ماء وهو في نومه ( حياته الدنيوية ) يسرع في أثر سراب أوهامه وأفكاره فيغلق طريق الرحمة على نفسه ، إنه يظل يعدو في أثر السراب ويزداد بعدا عن الرحمة . .
إنهم فيما يتصل بالدنيا يتميزون بحدة النظر لكن أرواحهم نائمة ، لا ترى أبعد من هممهم ، فآتوهم بالرحمة أيها السالكون في طريق الحق العالمون بمرتفعاته ووهاده ومصاعبه . .
والعجب أنهم ينامون وهم ظمأى ، فأي ظمأ هذا الذي يجلب النوم سوى ظمأ الأحمق الذي لا عقل له . .
ولست أقصد بالحق ذلك الذي سميته أنت عقلا.. بل أقصد به ذلك الذي يرعى من فضل الإله.
 
« 600 »
 
( 3311 - 3322 ) : إن صاحب عقل المعاش أو العقل الجزئي لا يرى إلا ما يستطيع هذا العقل أن يدركه ، أما صاحب عقل المعاد فهو الذي يدرك إلى أبد الآبدين ، فابحث إذن عن عين الغيب واستفد منها في التطلع إلى ساحات الآخرة وإلى ذلك العالم الذي لا تدركه عينك الدنيوية - حينذاك يفتح عليك كما فتح على موسى عليه السلام ، وهل وجد موسى عليه السلام ما وجده من معجزات بعكوفه على الكتب أو ملازمته لأستاذ ( أي من استخدام هذا العقل الجزئي ) . .
فاستمع وانظر في صنع الله وكن مستمعا أفضل لك من أن تكون متحدثا ، فإن منصب التعليم شهوة . . والرسول عليه الصلاة والسلام يقول « الشهوة الخفية والرياء شرك » ،
هذا الكلام أو الحديث من قبيل الفضول وهو آفة الحال ، ولو أن كل فضولي عرف الطريق وحده إلى الله بهذه الشقشقة في الألفاظ إذن لما كان الله سبحانه وتعالى قد أرسل الرسول ، والمعنى قريب من بيت لسنائى الغزنوي :
متى وصل كل خسيس من تلوين الكلام إلى هذا الطريق ، ينبغي ألم محرق للعمر وأن يكون المرء موفقا ( ديوان سنائى / 458 ) .
 
إن هذا العقل الجزئي مؤقت ، ذكاؤه مؤقت ، ووميض فكره مؤقت تماما كوميض البرق ضعيف سريع الزوال ، لا يمكن السفر فيه إلى بلد بعيد ، إنه إيذان فحسب ببكاء السحاب ومن ثم فكلما أجهد هذا العقل الجزئي نفسه . .
أدرك أنه قاصر.. لا يستطيع أن يقدم حلا لكل المشكلات فيكون ذلك إيذانا ببكاء الطبيعة،..
حيث تنقشع غيوم العقل الجزئي وتطلع شمس عقل المعاد وبنورها ينجو الإنسان من ظلمات الغفلة والجهل . . ويحس المرء بضعفه إذن ويبكى . .
من كونه عدما شوقا إلى الباقي الذي لا ينعدم . . إنه وسيلة تدلك على الصلاح . .
لكنه ليس الصلاح في حد ذاته .
 
« 601 »
 
( 3324 - 3330 ) : إن عقل المعاد هذا ذو وسيلة واحدة هم الأنبياء والرسل والأولياء هم حملة الأسرار . . وحتى الشياطين نفسها كانت تسترق السمع علها تعرف بعض الأسرار فكانت تتبعها الشهب ، قال الله تعالى في كتابه العزيز «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» ( الصافات 6 - 10 ) وكان عليها أن تطلب هذا العلم من الرسل لا من استراق السمع . . وعليهم طلب العلم من بابه . . اطلبوا هذه الأسرار من الإنسان ، المخلوق من تراب والذي كرم بالأمانة وفضل بالعلم واصطفى للرسالة .
 
( 3332 - 3334 ) : ظهور الخضرة من التراب كناية عن الحياة من بعد الموت ، وأولئك الذين يبتعدون عن الرسل والأولياء أموات ، وهذه الخاصية خاصية الأحياء واخضرار الأرض القاحلة كيف تكون لحافر جواد جبريل ولا تكون للأولياء ،
 
قال الثعلبي : « لما أهلك الله فرعون وقومه قال موسى : إني ذاهب إلى الجبل لميقات ربى وآتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون وواعدهم ثلاثين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فجاء جبريل عليه السلام على فرس يقال له فرس الحياة وهي بلقاء أنثى لا تصيب شيئا إلا حيى ، فلما رآه السامري على تلك الفرس عرفه ، وقال إن لهذه الفرس شأنا عظيما ، وأخذ قبضة من تراب حافر فرس جبريل » ص 208 –
 
فإذا كانت هذه الخاصة في تراب حافر جواد الروح القدس فكيف لا تكون هذه الخاصية في أصحاب روح القدس من الأنبياء ؟
( مولوى 4 / 457 ) . لقد أخذ السامري قبضة من أثر الرسول فوضعها في قلب العجل الذي صنعه من ذهب المصريين المسروق فخار العجل «قالَ فَما
 
« 602 »
 
خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ، قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» ( طه 95 - 96 ) . .
قال نجم الدين : يشير بهذا إلى أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة فتنة واستدراج والفرق بين الفريقين أن أهل الكرامة يصرفونها في الحق والحقيقة وأهل الغرامة يصرفونها في الباطل والطبيعة ( مولوى 4 / 457 ) لقد كانت الفتنة في أن السامري أخرج لهم من الحلى ( عجلا جسدا له خوار ) .
 
( 3335 - 3338 ) : كن صامتا إذن لتسمع من الناطقين ، وكن أمينا واتجه إلى أهل السر ، فإن فعلتم رفعت عن عيونكم الغمامة التي تغطي عين الصقر وعرفه أثناء تدريبه ، وما هذه الغمامة إلا الجسد أنتم منه في نصب مثلما يكون الصقر في نصب وعذاب من هذه الغمامة التي تفصله عمن هم من جنسه ، فإذا رفعت الغمامة عنه ورأى وجه الملك أصبح متجانسا معه لا يستريح إلا على ساعده ، وهكذا البشر إذا رفعت غمامة الجسد أصبحوا من جنس سلاطين الدين .
 
( 3339 - 3347 ) : إن العقل الجزئي . . عقل المعاش . . مستبد ، لا يرى إلا في حدود ذاته . . ومن هنا كان مطرودا من الله تعالى ومأمورا بأن يكون تابعا للقلب فهو أكثر علما وساحته أكثر رحابة ، وكن عبدا لسلطان عادل خيرا من أن تكون أنت نفسك سلطانا لكنك ظالم ، فالعبودية لله تعالى أعظم من ملك الدنيا . . لا كإبليس عندما قال « أنا خير منه » أي من آدم عليه السلام . . أو طاغية متكبرا كإبليس إن المتواضع هو المقصود بقول صلى الله عليه وسلم « طوبى لمن ذلت نفسه » وأصل الحديث « طوبى لمن تواضع في غير منقصة وذل في نفسه من غير مسكنة وأنفق من مال جمعه في غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة ورحم أهل الذل والمسكنة ( الجامع الصغير 2 / ص 55 ) ، فاختر إذن بين ظل طوبى وبين الطغيان في الدنيا والضلال .
 
« 603 »
 
( 3348 - 3352 ) : البيتان المذكوران في العنوان أغلب الظن أنهما لسنائى الغزنوي وإن كنت لم أستطع العثور عليهما من الديوان أو من الحديقة ومع ذلك لم أنصرف عن الاعتقاد أنهما لسنائى ، وقد رحج عبد الباقي أيضا ( 4 / 478 - 479 ) فأرجع البيت الأول إلى سورة الحجرات «لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لكنه رأى أن البيت الثاني على وزن الحديقة وإن لم يجده في الحديقة ، والواقع أنني اكتشفت أن الشطرة الأولى من البيت الأول هي الشطرة الثانية من بيت ورد بالفعل في حديقة سنائى « فكن رجل همة لا رجل شهوة ، وما دمت لست رسولا فكن من الأمة » . ( البيت رقم 2531 من الحديقة ) عليك إذن أن تمضى صامتا ، ولا تهزل بما لا تفهم واستمع إلى قول الشيخ وعش تحت ظله ، فأنت غالب في ظلال الغالبين . .
وإلا أذهب استبدادك هذا بظنك أنك قد وصلت وتشدقك بألفاظ الكمال . . فما دمت قد أصبحت في حاجة إلى عطاء الواصلين فكيف يهبونك هم هذا العطاء . . فلا تغتر ببدايات الفتوح ، واصبر مع شيخ الصناعة حتى تستطيع أن تتقنها وإلا بقيت عند درجاتها الدنية ، فإن أولئك الدين يقومون بخصف النعال لو صبروا على الصنعة لصاروا فيها عمالا مهرة .
 
( 3353 - 3356 ) : إنك إن لم تصبر مع شيخك وأستاذك واعتمداك على عقلك فسوف تقول في نهاية المطاف « إن العقل عقال » قد عقلك عن الانطلاق في ساحات القلب الواسعة والقطاف من بساتين الصالحين من الأولياء والمرشدين ، مثل ذلك الرجل المتفلسف الذي رأى على أعتاب الموت قيمة عقله الحقيقية دون زيادة ونقصان فاعترف قائلا : لقد سقنا جيادنا على الظن قاصدا أننا اتبعنا عقولنا الجزئية والظن لا يغنى من العلم شيئا . .
ومن الغرور ابتعدنا عن رجال الله وسبحنا في بحر الخيال ، والمقصود هنا أبو النصر الفارابي الذي رأى أن السعادة لا تحدث إلا حين يموت الجسد وفي قول إنه الفخر الرازي الذي كان يردد قبل أن يسلم الروح :وكم قلت للقوم أنتم على * شفا حفرة من كتاب الشفا
فلما استهانوا بتوبيخنا * فزعنا إلى الله حتى كفى
فماتوا على دين أرسطاطاليس * وعشنا على دين المصطفى
 
« 604 »
 
 
( مآخذ / 151 - 152 . انقروى 4 / 786 . . مقالات شمس / ص 24 ) .

( 3357 - 3361 ) : لا جدوى من السباحة في بحر الخيال والاعتماد علي هذا العقل الجزئي بإمكانياته القاصرة ، وما ينفع لهذا البحر العباب إلا سفينة نوح ، وسفينة نوح هنا ممثلة في الرسالة المحمدية الشريفة مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم « مثل سنتي كمثل سفينة نوح من تمسك بها نجا ومن تخلف عنها غرق » وفي رواية أخرى « مثل أهل بيتي » وفي رواية ثالثة « مثلي ومثل علماء أمتي » ، فمن لم يتمسك بهذه السفينة غرق ولو كان في علم علي بن سينا . .
وشبيه بهذا قول شهاب الدين عمر السهروردي :
نهاية أقدام العقول عقال * وأكثر سعى العالمين ضلال
ولم تستفد من بحثنا طول عمرنا * سوى أن جميعنا فيه قيل وقالوا
وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذى ووبال
( انقروى 4 / 786 ) وهكذا فالرسول عليه الصلاة والسلام هو سفينة النجاة ومن يحكم من بعده بشريعته « قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني » .
 
( 3363 - 3376 ) : إن كنعان السيرة هو الذي يرى فكره وحوله وطوله أعظم من هذه السفينة وكثيرون جدا من أمثال كنعان يعيشون بيننا ، يرى أنه أعلى وأسمى فكرا من أن يتبع الشريعة ، ويسميها رجعية وسلفية ، ويرى أنها لا تصلح لهذه العصر ، ومهما كان جبل فكره زائد العلو فإنه لن يستطيع أن ينجو به من هذا الطوفان . .
ولكن هيهات أن يسمع كنعان نصيحة نوح . .
لقد ختم على سمعه وعى بصره غشاوة ، وإنما أواجهك بهذا الحديث علك لا تكون في باطنك من أمثال كنعان ، وأستطيع أن أوقظك ، وتستطيع أن ترى العاقبة ، فكل من نظر في أول الطريق إلى نهايته نجا . .
وإذا أردت أن تنجو يا كنعان من هذا العثار الذي يوقعك فيه ضعف بصيرتك وعقلك القاصر ، واعتمادك على حولك وطولك ، فاكتحل بتراب أقدام العارفين ، فإذا أقدامهم حيثما تطأ تهب الحياة
 
« 605 »
 
وتستطيع أن تتغلب بها على شياطين الإنس والجن . . تتحول من إبرة لا حول لها ولا طول إلى سيف في عظمة ذي الفقار ، إن هذا الكحل قد يحرق عينيك لكنه سيصلحها ، سيهب لك بدلا منها عينا ناظرة للعواقب ، متبصرة ما وراء الظواهر ، ألا ترى أن الجمل يشرف بعينه على كل الوهاد ، ويرى نهاية طريقه وهو لا يزال في أوله . . ويصبر كل هذا الصبر . . أتدري لماذا ؟! 
لأنه يقنع بالشوك ويعيش عليه ومن هنا امتاز على غيره من الدواب أيمكن أن تكون أقل حصافة من جمل ؟
 
( 3337 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت مكررة إذ وردت في الكتاب الثالث ( انظر شرح الأبيات 1746 - 1754 ) والحكاية هنا فيها إضافات جديدة .
 
( 3393 - 3406 ) : الصدر الأجل هنا هو كل من عرف الله حق معرفته وعبده حق عبادته ونور قلبه بنوره ، وصار عالما من لدنه . . تتكشف له المستورات ، وترتفع من أمام أبصاره الحجب فيرى كل ما هو آت ماثلا أمامه كأنه يراه في التو واللحظة ، فالنور ساكن في عينه وفي قلبه . . يتخذه موطنا . . ولا يغادره من حبه له . . 
وإن لم تكن تصدق ذلك فانظر إلى أحوال الماضين : ألم ير يوسف عليه السلام من البداية أن الشمس والقمر قد سجدا له . . ولم يحدث ذلك إلا بعد سنين . . ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم : « اتقوا فراسة العبد المؤمن فإنه ينظر بنور الله » . . 
أما أنت أيها الغافل ( أيها السفلى فالخطاب من الجمل إلى البغل ) ليس في عينك هذا النور ، لأنك رهين الحس الحيواني لم تتخلص من الجسد كي يسكنك النور . . وإنك لضعيف في سيرك لأنك تتبع ضعيفا ، فبصرك ضعيف ، والبصر هو القائد الذي يرى المكان الصالح للسير والمكان غير الصالح للسير ، ثم إن الجمل من أولاد الحلال . . جاء من ناقة وبعير ، أما البغل فهو لا يشبه أباه ولا يشبه أمه . . هو هجين مخلط لا هو بالحصان ولا هو بالحمار . . والأصلاب الطاهرة ذات معول عظيم . . فإن السهم إذا انطلق من قوس معوج أو من يد معوجة أخطأ هدفه وغير اتجاهه وهو مثل فارسي .
 
« 606 »
 
( 3407 - 3416 ) : من هذا البيت إضافات على الحكاية وتوسعة فيها عن الجزء الثالث لم يجادل البغل ولم تأخذ العزة بالإثم ، بل طلب من الجمل أن يكون مقتداه وهكذا ينجو المرء إذا أخذ بذيول أثواب الناجين وتبعهم ، ينجو من البلاء ويصير من أهل الولاء فإن البغل لم يكن سىء الجبلة . . فيجحد وينكر .
كآدم عليه السلام ، كانت زلته عارية ، شيئا مؤقتا ، فسرعان ما تاب على عكس إبليس كان سيئا في أصله وفي جبلته لم يتب وقال « رب بما أغويتني » وقال « إن هي إلا فتنتك » .
 
( 3417 - 3422 ) : الحديث موجه إلى التائب عموما : لقد وجدت أيها التائب مضمون قوله تعالى : «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» . . وعندما اطمأنت نفسك قلت «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» فأخذ الله تعالى بيدك وأدخلك جنة النعيم . . لقد كنت نارا فصرت نورا ، وكنت حصرم فتم نضجك وصرت عنبا بل زبيبا ، لقد كمل النقص فيك بتوبتك . . لقد كنت كوكبا صغيرا فصرت شمسا . . لقد تم نضجك تماما فاسعد وكن هانئا ، فإن ظل المرشد قد نشر على رأسك . . إن طبيعتك كاللبن قابلة للتغيير ، سريعة العطب ، أقل قذى يبدو على سطحها ويعكرها . .
ولا بد لهذا اللبن من عسل المرشد ، يمزج به فيخلصه من آفة سرعة التغير والفساد ، ويراقب أحواله ، ويدل على وقته ، ويأخذ بيده حالا بعد حال .
 
( 3423 - 3430 ) : الخطاب لحسن حسام الدين : المراد بشهد العسل المثنوى المعنوي والمراد بحوض اللبن العلم والمعرفة ( فاللبن يعبر عنه في الأحلام بالمعرفة ) ( سبزوارى 4 / 321 ) والمراد : يا حسام الدين امزج معرفتك التي هي دون معرفة المرشد بهذا الشخص الخالص الناجي من آفات التغيير والتبدل . .
وذلك حتى يكون جديرا بالاتصال ببحر العلم الإلهى الموجود منذ « يوم الميثاق » و « يوم العهد » و « يوم الإقرار » بعبودية الخلق كلهم لله سبحانه وتعالى . .
 
« 607 »
  
وبعدها لا يتأثر السالك . . وكيف يتأثر وقد صار متصلا ببحر الحقيقة مباشرة ، حينذاك يبلغ الإنسان الضعيف المتهالك حول جيفة الدنيا مرتبة أسد الحق يزأر فيصل زئيره إلى السماء السابعة ( يدعو فيصادف دعاؤه الاستجابة ) يقول فينفذ قوله من خلال الأكوان ، يسيطر بصوته على كل ما في الكون . . كل هذا يبلغه المريد السالك الواعي بقوة المرشد العظيم . . فهيا يا حسام الدين اكتب هذا المثنوى بمادة الذهب فهو أحوالك أنت ، وهو أحوال أهل الله في الحقيقة ، وأنت جامع لها فإن هذا المثنوى ما ألف إلا للخواص من أهل الحق الذين يطلبونه من حيث يوجد . . إنه كما النيل عذب زلال كما قال في الديباجة « وهو كنيل مصر شراب للصابرين وحسرة على آل فرعون والكافرين » فاجعله يا إلهي دما في عيون قوم فرعون حتى لا يقتربوا منه ويسيئوا فهمه . .
ويفسرونه بأفكارهم القاصرة .
 
( 3431 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت في قصص الأنبياء للثعالبي « فأرسل الله عليهم الدم ، وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يذهب إلى شاطىء البحر فيضربه بعصاه ففعل ذلك ، فسال عليهم النيل دما ، وصارت مياههم كلها دماء ، وما يسقون من الأنهار والآبار إلا وجدوه دما أحمر عبيطا ، فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا : إنا قد ابتلينا بهذا الدم ، وليس لنا شراب غيره فقال لهم : إنه قد سحركم موسى ، فكان يجتمع الرجلان على الماء الواحد ، القبطي والإسرائيلى يستقيان من ماء واحد ، فيخرج ماء القبطي دما وماء الإسرائيلى ماء عذبا ، وكانا يقومان إلى الجرة التي فيها ماء فيخرج للإسرائيلى ماء وللقبطى دم ، حتى أن المرأة من آل فرعون تأتى إلى المرأة من بني إسرائيل حتى يجهدها العطش فتقول : استقنى من ماءك فتسكب لها جرتها أو تصب لها من قربتها فتعود في الإناء دما حتى إنها تقول لها اجعليه في فمك ثم مجيه في فمي فتأخذ في فمها ماء فإذا مجته صار دما ( الثعالبي ص 194 ) ، والمثال ورد أيضا بنصه
 
« 608 »
 
في معارف بهاء ولد ( 1 / 37 ) .
 
( 3445 - 3452 ) : إنما يشرب من هذا الماء من هو متقى ، إنما يتلقى الإفاضات الربانية من هو جدير بها ، ويفهم هذا المثنوى من هو جدير به ، والمتقى الجدير بالإفاضات هو ذلك الذي يضيق بكل فرعون ، ولا ينضم إليه . .
ولا يأكل من فتاته ولا يتبجح بعزه الزائل الذي لا يستطيع أن يهب شربة ماء إلا إذا أرادها الله ، ولا يتكبر بكبرياء فرعون ، فأفق إذن وتصالح مع قمر الطريق ونبي الله حتى تستطيع أن تنظر إليه . . فكيف يمكن أن تعرفه وأنت تنكره ، وأن تنتفع به وأنت تنكره ، أول درجات الشفاء أن تكون معترفا بقيمة طبيبك مصدقا له ، فإن صدقته استمعت إلى تعليماته ، وإن وثقت به قرب إليك الشفاء دون أن تحس أما أن يكون المرء كافرا ويطلب مساعدة المؤمن ، فإن كفره يكون سوف يكون في ثقل جيل قاف مانعا من تلقى الفائدة ، وظلمه لعباد الله يجعلان ولوج الجبل في إبرة أيسر من ولوج ظالم الخلق إلى جنة الإله ، فاجعل هذا الجبل قشة باستغفارك عما بدر منك . . وحينذاك تمسك بكأس الإفاضات الربانية التي هي من نصيب المغفور لهم وتشرب منها .
 
( 3453 - 3458 ) : كيف تستطيع بهذا التزوير وهذا النفاق وهذا الكفر أن تشرب من ماء المتقين ؟ ! وهب إنك تتوسل بصداقتى ، فهل تغنيك هذه الصداقة عن الإيمان بالله ؟ لقد حرمه الله على الكافرين . . إن الله يعلم فيك هذا التزوير والنفاق . . وهو خير الماكرين . . وهو أعلم بمكرك منك فكيف يمكن أن يتقبل منك هذا المكر ؟ لا حيلة لك إلا أن تقبل دعوة موسى عليه السلام ، وإلا فإن سمحت أنا لك بالماء فإن الماء نفسه سوف يتحول بمجرد أن يلمس شفتيك إلى سم ، لن يخالف الماء أمر الله سبحانه وتعالى . . إن كل ما يذهب إلى جوفك في حالة عصيانك إنما يتحول إلى سم يفت في عضدك ، ينقلب خبزك إلى سم .
 
« 609 »
 
فإنما يصلح الخبز ذلك الوجود الذي يكون لله فحسب . . كن جديرا بالعطايا الإلهية . . حتى تفعل هذه العطايا الإلهية فعلها ( لتفصيلات كيف يتحول القوت إلى سم . . وكيف تضيق الروح بكل ما به الجسد . . عندما يغيب الإيمان . انظر الكتاب الثالث قصة قوم سبأ شرح الأبيات 2602 وما بعده ) .
 
( 3459 - 3463 ) : إياك أن تظن إذن إنك مجرد أن تقرأ المثنوى تكون قد فهمته وأدركته . . وأن هذا أمر يحدث لك بالمجان : هكذا دون جهاد ودون استحقاق ودون قابلية ودون صقل لمرآة قلبك ، وجلاء يزين نفسك وانصراف عن متابعة هواك ؟ ! تراك إذن بمجرد أن تقرأه قد أصبح لك ! ! إنك تقرأه لكنه يصل إليك كالأساطير ، فهكذا همتك وهكذا استحقاقك إنه يبدي لك قشره لكنه لا يسفر لك عن لبه ، لقد اختفى أمامك كما يخفى المحبوب وجهه بالبرقع والحجاب . . ذلك أنك غير خبير بأقدار الكتب ، بحيث يبدو لك القرآن من تجبرك وعنادك مجرد أساطير وحكايات كأنه كتاب الشاهنامه أو كتاب كليلة ودمنة .
 
( 3464 - 3472 ) : إن الفرق بين أن تدرك المجاز من الحقيقة ، ليس حولك أو طولك أو عقلك الجزئي بل العناية الربانية التي تكتحل بها عيناك « فبى يبصر » وهذا البصر لا يزيغ ولا يطغى ، وإلا فإن الروائح تستوى عند الأخشم ، كما تستوى المرئيات عند ذلك الذي ينظر بعين الجسد ، فإن نظر بعين الجسد فالقرآن كتاب وكليلة ودمنة أو الشاهنامة كتاب . . وكل الكتب عنده تكون لهدف واحد . . هو لمجرد قتل الوقت ودفع الملل ، وليس التفكر والتدبر فسيان لإطفاء نار الملل قدر من الماء الطاهر أو البول - كلاهما يستطيع أن يطفئ نار الوسواس والغم لكن هناك من ألوان الهموم ما لا يستطيع أي ماء أن يطفئه ، بل يلزمه الماء الطاهر الذي يقطع دابر الوسواس ، ويجد قلبك الطريق إلى رياض الجنة . .
وما هذه الكتب إلا الصحف الإلهية وإلا هذا الكتاب الذي اقتبس من هذه الكتب .
 
« 610 »
 
( 3473 - 3483 ) : وأنت لا ترى هذا الكتاب على حقيقته من إنكارك وكفرك ونفاقك تماما كنظراتك إلى وجوه الأولياء . . فهل تظن إننا نرى وجوه أولياء الله كما هي بالفعل ؟ هل نراها نحن كما تراها أنت ؟ لقد تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من أن المؤمنين لا يرون النور الذي في وجهه ويرونه بشرا كالبشر ورجلا كالرجال . . كيف لا يرون نور الحق في أوصافه في وجودي « من رآني فقد رأى الحق » ( انقروى 4 / 812 ) وإذا كانوا يرونه . . فلماذا هذه الحيرة والحق قد صار واضحا ولائحا وليس الإيمان في حاجة إلى تردد . . وهكذا حتى يرد جبريل عليه السلام : إنه بالنسبة لك نور ، وبالنسبة لهم سحاب ، وذلك حتى لا يرى الكافر هذا النور بالمجان أي دون أن يتقدم إيمانه على رؤيته . . إنه بالنسبة لك حب . . لكن الآخرين يرونه فخا . . لكيلا يكون هذا الشراب - وشرطه الإيمان - لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا . . وهكذا قال الله تعالى في شأنهم «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ( الأعراف / 198 ) وارجع الضمير إلى الأصنام فكأن الكفار والأصنام واحد ، وهم نقش حمام ، صور تبدو لك حية لكن عيونها ميتة لا تنظر ولا ترى ، خشب مسندة ، إنه لا يرد عليك تحية ، ولا يحمل منة منك من السجود له . . ولا يجازيك عليه ، وأهل الدنيا مثلهم تماما صور بلا أرواح . . فليصبك اليأس مما في أيديهم ، ولتتجه إلى ذي العطايا والمنن .
 
( 3484 - 3493 ) : لكن انظر إلى اللذة التي يهبك إياها الحق من عبادته ، إنه لا يحرك رأسا في الظاهر ، إنك لا تراه ، لكنك بعبادتك إياه تحس بلذة عطاياه تسرى في داخلك ، تزداد سرورا ، إنه لا يحرك رأسه لك لكنه يمنحك قبسا منه يجعل العالم كله يسجد لك . . إنه يضع في الحجر سرا فيصبح ذهبا ، ويجعل من قطرة الماء العذبة التي تقع في الصدفة درة يتيمة ، وكرم الإنسان المخلوق من تراب فجعله سيدا على كل الدنيا ، في حين أن هذه الدنيا تضل الآخرين ، وتجعلهم يحيدون عن الطريق ، وتجعل من سلاطينها وقادتها فتنة للمؤمنين
 
« 611 »
 
وهم صور بلا معنى ، تغمز لك الدنيا بعينها فتقع صريع هواها خادما لها . .
وقد خلقت في الأصل لتخدمك . . بشرط أن تكون عبدا لله وحده .
 
( 3494 - 3498 ) : إن الرجل من قوم فرعون لا يملك الفم الذي يدعو به ( انظر الكتاب الثالث : ادعوني بفم لم تذنب به . شروح الأبيات 180 وما بعدها ) فمن دعاء المؤمن المستجاب الدعاء تتبدل المصائر ، يفتح الله أقفال القلوب ، ويحول المسخ إلى حسن الجمال ، كما تحول الغصن اليابس بهمة مريم إلى غصن مثمر يفوح برائحة المسك .
 
( 3499 - 3503 ) : ها هو السبطى ينطلق في الدعاء ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يضع الميل إلى الدعاء عند الإنسان ، فكأنه يدعوه إلى الدعاء ، الدعاء هو عين الاستجابة ، ولبيك هي عين الدعاء ( انظر الكتاب الثالث شروح الأبيات 189 وما بعدها ) فالداعى والمدعو هو الله سبحانه وتعالى . . ونحن عدم في عدم لا يتأتى منا شئ . . وظل هكذا يدعو حتى سقط مغشيا عليه . . أي أن جسده الواهي لم يتحمل هذا الاتصال وهذا الوجد . . ثم عاد إلى وعيه ليرى آثار سعيه بالدعاء ( الدعاء هو أيضا من قبيل السعي : انظر الكتاب الثالث قصة الذي كان يطلب رزقا بلا كدح : شروح الأبيات 1450 وما بعده 2315 وما بعده ) .
 
( 3504 - 3509 ) : لقد دعا السبطى ، ومن بركة دعائه اهتدى الفرعونى فهكذا أصاب الدعاء الاستجابة ، لقد أحس الفرعونى بأن النار قد أضرمت في كل روحه ، إنه يطلب من السبطى أن يعرض عليه الإيمان ، وكأن الإيمان قد وقر في روحه في البداية دون أن يعلم له اسما ، وما دور السبطى هنا الآن إلا أن يضع ما أحس به الفرعونى في إطار الحروف ، وكم من واجد للمعنى لا يجد لسانا للحديث ، وكم من صاحب لسان منطلق لم يذق ذرة من معنى ! ! وهكذا تكون الأخوة النافعة ، والصداقة المثمرة ، وانظر إلى ذلك الفرعونى الذي كان يطمع في ماء يتحول في فمه إلى دم يجرفه سيل الإيمان حتى بحر الحقيقة يكتال منه كيلا
 
« 612 »


بكيل . . بحيث لا يصبح لماء الدنيا قيمة عنده وقد ارتوى بماء الإيمان وشرب شربة منه لا يظمأ بعدها شاربها أبدا .
 
( 3510 - 3520 ) : وها هو السبطى يعرض عليه الماء ، لكن أي ماء ؟ لقد شرى الله روحه وشرب شربة لن يصيبه من بعدها ظمأ أبدا . . لقد تفجرت عيون الماء داخله أي معرفة المقر ولن يحتاج بعدها إلى ذلك الماء الذي يأتي من الخارج ويمكن يسد عليه الماء : بل إن كبده الحرى التي يطفئ الماء حرارتها لم يعد للماء عندها أي قيمة . . فهو الكافي لعباده ، وإن لم تكن تفهم اقرأ «كهيعص» بلسان القلب . . وهذه الكاف دليل على صدق وعده . . وقد قال أصحاب التحقيق إن كل حرف مفتاح كل اسم فالكاف تدل على اسمه الكافي ، والهاء تدل على اسمه الهادي والياء تدل على بسط يده بالرزق لعباده والعين تدل على اسمه العليم والصاد تدل على صدق وعده وعن علي رضي الله عنه ( إن لكل كتاب سرا ، وسر القرآن الحروف المقطعة التي في أوائل السور وهي سر من أسرار الله استأثر الله بعلمها ) ( انقروى 4 / 821 ، ومولوى 4 / 482 ) ولابن عربى في الكاف حديث مطول فحواه « إن الكاف من عالم الغيب والجبروت ، يرفع من اتصل به عند أهل الأنوار ولا يرفع عنده الأسرار » ( الفتوحات / أول ص 68 . طعبة صادر ) وهذا هو معنى الكافي : أهبك الخير كله بلا واسطة ، اشبعك بلا خبز ، أجعلك رئيسا بلا جيش ، أقويك دون دواء . .
أجعل البئر الضيق والقبر المظلم واسعين عليك ، أعطيك النرجس والنسرين دون ربيع ، أعلمك بأن أقذف العلم اللدني في قلبك فتصير عالما دون كتاب أو أستاذ . . وهذا عطائي فأمنن أو أكثر بغير حساب .
 
( 3521 - 3528 ) : انظر إلى عطائي لموسى عليه السلام : عصا تنقلب إلى حية ، يد بيضاء تزرى بضوء الشمس . . إنني لا أخلط ماء النيل بالدم بل أحول الماء نفسه إلى دم هذا أيضا عطاء ، فبعض عبادي لا يصلح له إلا القهر ، ولا أستدعيه باللطف ، وكم من لطف خفى في ثياب القهر ، فأحول فرحك
  
« 613 »
 
وسرورك إلى غم حتى تجأر بالشكوى إلى وتدعوني أنا البر الرحيم . .
وتقوم بتجديد إيمانك وتبتعد عن فرعون وفراعنة كل عصر وتقاومهم وتفضح ظلمهم وألا عيبهم . . فترى موسى الرحمة قد حل بك . . ودعاك . . وحول لك الدم إلى ماء فينقلب حزنك إلى سرور حقيقي . . فلا سرور حقيقي إلا بي ، إن ما يبقى لك هو أن تحتفظ بطرف خيط الإيمان في داخلك ، وحذار أن ينفرط منك هذا الخيط ، فما دمت متمسكا بعروة الإيمان ، تلك العروة الوثقى ، فإن نيل ذوقك « طهرك ومعرفتك » لن ينقلب إلى دم « شهوة وغضب » أبدا ، لن يتبدل سرورك إلى حزن أبدا . . بل ستظل في فيض من الألطاف الإلهية .
 
( 3529 - 3536 ) : عودة إلى الفرعونى الذي آمن : لقد كان ظنه أن يؤمن حتى يشرب الماء . . فإذا بالألطاف الإلهية تجرى نيلا ( من الفيض في داخلي ) وأنا ثابت على حالتي الأولى أمام الآخرين . . ويعلق مولانا : إن هذا يشبه ذلك العالم الذي يبدو أمامنا صامتا وهو أمام النبي غارق في التسبيح . . أن عالم الجماد مغلق ميت أمام العوام . . وهذا لأنهم حجبوا عن الحقيقة . . والمقابر سواء أمامنا . . لكنها عند النبي صلى الله عليه وسلم « إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار » .
3537 - 3543 : حذار من الأخذ بالظاهر ، فإن الظاهر موقوف على العين الناظرة : لقد كان العوام يرون النبي صلى الله عليه وسلم عبوسا ، لكن إن نظرتم بعيوننا وجدتموه بشوشا ضاحكا رحمة للعالمين . . وتروا الضحك والاستبشار والنضرة والنعيم في الآيات الواردة في سورة هل أتى ، وترى النضرة والنعيم في اليوم العبوس القمطرير ، فها هي شجرة الكمثرى التي تنظرون من فوقها ، وشجرة الأنية والوجود الجسدي وعين الجسد التي ترى الظاهر : فانزلوا لتروا الأمر على حقيقته وتخلصوا من أنيتكم ، إنك من فوق هذه الشجرة ترى عالما دنسا مليئا بالحيات والعقارب والفاحشة لكن إن تخلصت منها ونزلت من فوقها وجدت العالم على حقيقته مليئا بالنضرة والنعيم والجمال والرعاية
 
« 614 »
 
( 3544 ) - يبدو أن الحكاية التي تبدأ بهذا البيت من المأثور الشعبي ووردت قبل المثنوى في كتاب الأذكياء لابن الجوزي ويضيف عبد الحسين زرين كوب « سرني 1 / 324 » أن قصة شبيهة بها وردت في قصص الديكاميرون لبوكاتشيو
( 1313 - 1372 م ) وفي قصص كانتربرى لتشوسر ( 1400 - 1430 م ) . وانتيه نيكلسون إلى هذا الموضوع ( استعلامى 4 / 382 ) وكان الصوفية لا يستنكفون استخدام بعض الصور والحكايات التي تسمى بمصطلح عصرنا « الخارجة » لبيان أفكارهم ، فضلا عن أن تلك العصور لم تكن تنظر إلى هذه الحكايات نظرتنا إليها اليوم وعند سنائى الغزنوي رغم جهامته بعض هذه الحكايات التي أشار إليها بقوله :
 
- هزلى ليس هزلا إنه تعليم وبيتي ليس بيتا إنه إقليم . ( الحديقة 718 سطر 9 ) ولا تكاد توجد موسوعة من موسوعات التراث العربي الإسلامي تخلو من أمثال هذه الحكايات ومولانا جلال الدين نفسه يشير من خلال الحكاية إن كل إنسان يأخذ منها ما يوافق مقتضى حاله بقوله :
- إن كل جد هزل أمام الهازلين ، وكل هزل جد عند العاقلين وهو يذكر بقول ابن الفارض :
-فلا تك باللاهى عن اللهو معرضا * فهزل الملاهي جد نفس مجدة( انقروى 4 / 841 )
 
( 3559 - 3563 ) : إن هذا الذي تظنه هزلا تعليم والبيت حرفيا مأخوذ من سنائى .
 
« 615 »


بيتي ليس بيتا بل إقليم * وهزلى ليس هزلا بل تعليم
ورواه الأفلاكى لمولانا على هذا النسق :
هزلى ليس هزلا إنه تعليم * من أجل إرشاد الحلقة والتفهيم
( مناقب 1 / 374 )
 فخذه على سبيل الجد لا على سبيل الهزل إن كنت عاقلا ، فالكسالى فقط هم الذين يقفون على ما حدث حول شجرة الكمثرى ولا يبحثون عن المغزى الذي وراءها والمقصود من روايته ، والعقلاء يعلمون أن المقصود منها هو شجرة الوجود الإنسانى التي تحجب الحقيقة أمام طالبها ، وبين طلب العقلاء لها وطلب الهازلين بون شاسع . . فدعك من شجرة الكمثرى هذه ، تخل عن وجودك وهوى نفسك وأنيتك فهي التي جعلتك هكذا ضعيف البصر تمشى على العمياء . . تخل عنها إذن ليتخلى عنك العوج .
 
( 3564 - 3575 ) : هناك غير هذه الشجرة الخبيثة شجرة أخرى طيبة تمد فروعها إلى السماء السابعة ، وهي شجرة إقبالك . . تصل إليها عندما تتخلى عن تلك الشجرة الخبيثة ، وهذا هو التبديل ، هذه هي الكيمياء الإلهية التي تبدل الإعوجاج إلى استقامة . . لقد نزلت من فوق تلك الشجرة الخبيثة تواضعا لله وطلبا للحقيقة . . فيريك الله الأشياء كما هي مصداقا لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم « اللهم أرنا الأشياء كما هي » . . وهذه الشجرة هي الشجرة الموسوية ، يظهر فيها التجلي الإلهى ، تجعلها النار خضراء نضرة ، تهتف فروعها « إني أنا الله » وتقضى كل الحاجات تحتها ، وهذه هي الكيمياء الإلهية الحقيقية التي بدلت موسى عليه السلام من طريد خائف تارك لدياره إلى حامل للقبس الإلهى ، وإلى مدمر لعرش فرعون عصره . . وحين تتبدل هكذا ، لا يبقى جسدك جسدا . .
 
« 616 »
 
بل يصير هو الآخر وجودا نورانيا حلالا عليك يتصف بالصفات الإلهية ، تصير بأجمعك روحا ، لأن صفات ذي الجلال قد تلبستك . . فتلك الشجرة المعوجة :
شجرة وجودك قد قومت وصارت موضع تجلى للحق ، لا لتلك الرؤى الذميمة الدنسة ، لقد صارت شجرة عظيمة أصلها ثابت وفروعها في السماء ( انظر تفسيرها في الكتاب الثالث في حكاية عاشق صدر جهان ) . . لم تعد مجرد شجرة معوجة ، إذ جاءها الأمر فاستقم . . إشارة إلى قوله تعالى في سورة هود «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» وقد مر تفسيرها في الكتاب الثالث في حكاية ذلك الرجل الذي كان يدهن شاربه بشحمة ( شرح الأبيات 740 وما بعده ) .
 
( 3576 - 3589 ) : عودة إلى سيرة سيدنا موسى وفرعون : إن الوجود الإنسانى بمثابة عصا موسى خيرها وشرها . . فانظر ما الذي تحولت إليه هذه العصا التي كان يسقط بها أوراق الأشجار للحملان ؟ لقد باتت مسيطرة على رؤوس آل فرعون وأتباعه . . وانظركم من المصائب والكوارث قد توالت على آل فرعون بكفرهم وصدهم عن السبيل . . بحيث رق لهم قلب موسى عليه السلام وصاح : يا إلهي لأي شئ كل هذا ، ما دامت هذه الجماعة من الكفار لن تؤمن . . لكن متى كان لرسول شأن بهداية قوم أو عدم هدايتهم ، إنما هو مبلغ ولكل قوم هاد ، وما عليه إلا البلاغ ، فالهدى والإضلال من الله سبحانه وتعالى . . إن أقل حكمة من إرسال الرسل ، ومن وعظ العارفين ، هو إلزام الناس الحجة ، حتى لا يقولوا فيما بعد ما جاءنا من رسول ، فضلا عن أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يظهر ما في الناس من بغى وعتو وضلال . . فالمقصود من الوجود كله هو الإظهار « كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفوني » ، وينبغي عجم عيدان البشر بالإغواء . . لابد أن يفعل الشيطان فعله ليفعل النبي فعله ، وليميز الله الخبيث من الطيب . . وورد عن النبي صلى
 
« 617 »
 
الله عليه وسلم « بعثت داعيا مبلغا وليس إلى من الهدى شئ ، وخلق إبليس مزينا للضلال وليس إليه من الضلال من شئ . . » وما للنبي للشيخ « فالشيخ في قومه كالنبي في أمته » .
 
( 3590 - 3604 ) : مقابلة بين الطغيان الفرعونى والرحمة الإلهية ، فها هو فرعون عندما يتضرع إلى الله . . والله يعلم إنه لكاذب ، ويعلم أنه لو رد لعاد إلى ما نهى عنه ، إلا أنه سبحانه وتعالى يأبى مع كل علمه بأن يعامل عباده كما يعاملوه ، ولا يرضى بأن يخدع موسى عليه السلام في مقابل خدعته «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ» ( النساء / 142 ) بل عليه أن يبين معجزة دون أن يتدخل موسى فهذا الفرعون لا يستحق إلحاحا في الهداية ولن يزيد ملك الله به خردلة . . ليرد التراب ثانية ما أكله الجراد دون زرع ولا رى . . ليعلم الجميع أن ملك الله كله خرق للأسباب ، وإن كل الأسباب إنما هي مجرد دريئة وغطاء على المقدرة الإلهية حتى يلتمس الناس الأسباب ، وحتى يعمل الناس ويكدحون ، لكي يلتمس الطبيب الدواء ولكي يتجه المنجم إلى النجوم وينصرف التاجر إلى دكانه وتعمر الدنيا فإنما يقوم عمرانها على الأسباب ، ولكن يكون طعام الجحيم من لم يحقق عبوديته ويتعبد وظل منصرفا إلى طلب اللقمة .
 
( 3605 - 3610 ) : فكرة أن كل شئ آكل ومأكول : انظر تفصيلات في صدر الكتاب الثالث شرح أبيات ( 18 وما بعده ) .
 
( 3611 - 3615 ) : إن الإنسان هو عقله ووعيه ، وهناك لمولانا بيت آخر .
- أيها الإنسان إنك أنت الفكر ، وما تبقى منك عظام وعروق .
ومن ثم فإن كل شهوة تفعل فعلها هي كالخمر وكالحشيش تذهب العقل . .
فليست الخمر وحدها هي التي تذهب العقل ، بل إن كل شهوة تغلق العين
 
« 618 »
 
والأذن ، وهل كان إبليس سكرانا عندما ارتكب المعصية الكبرى ، أبدا لقد كان ثملا بالكبرياء . . والسكران حقيقة هو الذي يرى نفسه معدوما ، ويخطئ في تقييم الأشياء فيرى النحاس ذهبا .
 
( 3616 - 3624 ) : عودة إلى موسى وفرعون ، الروح والجسد ، والعقل والهوى ، النبي والطاغية ، الذائب في وجود الحق والهارب من الهداية . . ثنائيات الجدلية الصوفية التي يمثلها مولانا جلال الدين دوما في هذين العلمين ، لقد نبت النبات ثانية لقوم فرعون ، فلم يفهموا تلك المعجزة التي حولت الأرض الجدباء إلى خصبة دون أسباب ، بل انطلقوا يأكلون كما تأكل الأنعام ، ونسوا تماما ثم شبعوا وطغوا ، «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» ( العلق / 6 - 7 ) وهكذا النفس داخل الإنسان ، إنها مثل فرعون ، إنها حديد بارد غير قابل للطرق فما لم يلحقها شرار الإيمان لا تدق عليها وإن بكت وأنت فإن بكاءها من أجل القوت لا من أجل الملكوت .
 
( 3629 - 3635 ) : في مقابل النفس انظر إلى الروح تنسى موطنها ، كرجل يحلم أنه في مدينة جديدة ينسى دائما مدينته القديمة ويظن أنه عاش في هذه المدينة الجديدة طول حياته ، الروح تنسى موطنها . . لقد مرت بمدن عديدة ومراحل عديدة ولم تنفض التراب عن إدراكها . . ولك أن تجتهد لكي يطالع القلب تلك الرحلة التي تكلفتها ، لقد جاءت نائمة ، ورحلت نائمة فالدنيا حلم ( انظر الكتاب الثالث - الأبيات 1535 وما بعده ) .
 .
.
* * *

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: