الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

24 - الهوامش والشروح الأبيات من 1557 - 1922 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

24 - الهوامش والشروح الأبيات من 1557 - 1922 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

24 - الهوامش والشروح الأبيات من 1557 - 1922 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح قصة التاجر الذي حمله ببغاءه الحبيس رسالة إلى ببغاوات الهند 
( 1557 ) : القصة التي يبدأ بهذا البيت فيما يرى فروزانفر ( مآخذ / 18 - 19 ) من القصص التي كانت شهيرة في زمن مولانا ، أشار إليها الشاعر الخاقاني في منظومة ( تحفة العراقين ) ورواها أبو الفتوح الرازي في تفسيره لعلاقات سليمان عليه السلام وحكاياته مع الطيور ، كما نظمها فريد الدين العطار في أسرار نامه بشكل يوحى بأنها كانت المصدر المباشر لمولانا جلال الدين . . .
والقصة هنا في موضعها وتتصل بالأبيات السابقة . . . فالببغاء ما دام حيا يغنى كان سجينا في القفص ، وعندما تظاهر بالموت ، نال الخلاص .
 
( 1562 - 1567 ) : يقص الببغاء آلام الفراق - مثل الناى في مقدمة الكتاب ، أو مثل مولانا جلال الدين نفسه في أكثر من موضع من المثنوى ( انظر أوضح مثال في قصة العاشق البخاري الأبيات 3690 - 3701 وشروحها من الكتاب الثالث ) تراه كان مولانا جلال الدين نفسه يحن إلى موطنه على الأرض . . . كانعكاس لحنينه إلى موطنه الأصلي في السماء ؟ ! ! لا يستبعد ، فإن تعبيراته عن سمرقند وبخارى وما وراء النهر موطنه الأصلي تفيض رقة وعذوبة وشوقا ، ومن ثم فالببغاء هنا يتحدث بلسان مولانا والهند هي الموطن الأصلي الذي يحن إليه مولانا والبيت 1574 يذكر بإحدى رباعيات الخيام إذا فعلت السوء وجازيتى بالعقاب فأي فرق إذن بين وبينك ، وإن كان جولبنارلى يرى أنها مدسوسة على الخيام ، وأنها وردت في ديوان فخر الدين العراقي

« 463 »
 
كما استشهد بها شمس الدين التبريزي في مقالاته ( 1 / 200 ) ( 1568 - 1575 ) : لا يزال الببغاء الحبيس يملى رسالته على التاجر المسافر إلى الهند ، ويزيد في وصف شوقه ومسكنته وهو في الحبس ، ويطلب منهم ان يتذكروه في خمر الصباح ، وان يشربوا كأسا على ذكراه عند شربهم من شراب الموطن ، ويهرقوا منها جرعة على الأرض مصداقا لقول الشاعر العربي :شربنا وأهرقنا على الخمر جرعة * وللأرض من كأس الكرام نصيبوتختلط رسالة الببغاء بأنظار صوفية مما يقطع بأن المشتاق هو مولانا جلال الدين ، وأن الشوق قد برح به ، بحيث يصور نفسه بأنه يحتسى الدم ، ويخاطب محبوبا جميلا مدلا : أيجزيه بالفراق على سوء العبودية فأين عفو السيادة ؟ ! ! ويتمنى منه ان يرد ولو بالرد الغليظ ، فإن مجرد سماع الصوت أكثر طربا من السماع الصوفي ومن أنين الصبح . . .
 
( 1576 - 1584 ) : الخطاب لا يمكن إلا أن يكون للمعشوق الأوحد الذي يحلو جوره وجفاؤه لأنه منه ، فنارة نور ، ومأتمه عرس ، وجوره كله ملىء باللذة - أليس - الجور في حد ذاته التفات ؟
ومن لم يرض بنار الحبيب حرمت عليه جنته ، أو كما قال ابن الفارض :وكل أذى في الحب منك إذ بدى * جعلت له شكري مكان شكايتى
وما كل بي من محنة فهو محنة * وقد سلمت من حل عقد عزيمتي
ومنك شقائى بل شقائي منة * وفيك لباس البؤس أسبغ نعمةأو كما قال الشبلي : البلاء هو الغفلة عن البلى . أو كما قال القشيري : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه : النعم الظاهرة المحبة والولاء والنعم الباطنة البلاء ، لأن البلاء يورث الفناء والفناء يورث اللقاء والبقاء ) ( انقروى 1 / 329 ) . ومن هنا فهو عاشق للقهر ، راض من البستان

« 464 »
 
بالشوك ، نائح كالبلبل إن حرم منه ! ! ! اى بلبل ؟ ! ! إن العاشق لا يمكن أن يكون بلبلا ، إنه تمساح ناري يحتمل هذا الجور وأضعافه ويرضى به ، وفي هذا الرضا ينتقل إلى الفناء التام في المعشوق ( انظر مقدمة الترجمة العربية الكتاب الثالث ، البقاء في الفناء ) .
 
( 1585 ) : يرى مولانا العقول الإلهية ( أي الباحثة عن الله سبحانه وتعالى ) بمثابة طيور ذات أجنحة تستطيع الطيران إلى الله ، وتكون جديرة بمعرفته . ويصفها هنا بأجنحة طيور العقول الإلهية ، ولا جدال في أن هذا الوصف هو وصف للشخصيات التي سوف يتحدث عنها فيما بعد ، ويعرفنا بهذا العنوان عن الروح وهي كالببغاء تريد أن تتصل ببغاوات هذا الغيب ، وتفنى حياتها الجزئية في الكل . . . والطيور هي الأرواح العاشقة للحقيقة . . . وقد جرى الحديث عنها وعن حبسها في أقفاص الأجساد عند مولانا وعند كثيرين قبله ( أبو حامد الغزالي وأحمد الغزالي لكل منهما رسالة عن الطير ) وتشبيه الروح بالطائر ورد أيضا في عينية ابن سينا الشهيرة . . . ولها جذور في المأثور العربي . . . والروح هنا جوهر مجرد حلت في الجسد حلولا مؤقتا وبعده تغادره ( شرح فروزانفر ص 628 ) ويرى المولوي ( 1 / 301 ) أن الروح المقصودة هنا هي الروح القدسية وهي مخصوصة بالأنبياء وبعض الأولياء ، فتكون فيها لوائح الغيب وأسرار التجلي ، والطيور الإلهية عبارة عنها ، والعشق والشوق والبكاء والأنين أجنحتها تطير بها من هواء الهوية إلى فضاء الأحدية ، وأدنى مراتبها التفرج في رياض جنات النعيم . أخرج مالك في الموطأ واحمد والنسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم قال « إنما قسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم بعثه " ولو كانت أرواح العشاق بعد في أجسادها لأنها لم تخرج من أبدانها بالموت الحقيقي ، لكنها بفنائها لبشريتها كانت مظهر « موتوا قبل أن تموتوا » ، فبعد موتها المجازى ولو كانت بحسب الظاهر ترى انها أسيرة قفص

« 465 »
 
الوجود الإنسانى لكن حصل لها وسعة بأنه إذا وضع جملة الكون في زاوية بقلبه لمحى وما علم بأي جهة كان » .
 
( 1586 - 1593 ) : يصف مولانا الطيور الإلهية بأنها ضعيفة في الظاهر لكنها ذات قدرة قاهرة في الباطن لا تقل عن قدرة سليمان عليه السلام ، وهي قدرة الحق التي تجلت فيه « فبى يسمع وبي يبطش وإن سألني أعطيه وإن استعان بي أعنته » ، إنه مستجاب الدعوة ، ودعوته مقرونة بلبيك من الله تعالى عند الإجابة ، وزلته أفضل من طاعة العوام ، لان طاعة العوام تقليد ، ولذا قال الشبلي ( طوبى لمن مات في كفره ) لقياس أحواله على المجانين وإلحاقه بهم ( مولوى 1 / 302 ) . . . وهو في معراج إلى الخالق في كل لحظة ، وفي معيته ، متمتع بقربه ، وإن كان جسده فوق التراب ، فإن روحه عند رب الأرباب ، تأتيه الرسائل من اللامكان الذي لا يأتيك منه إلا الأوهام والتصورات ، مما وراء السماوات السبع وفلك الأفلاك . . . لكن ما أقوله كله مجرد خيالات بالنسبة لك ، لكنها واقع محسوس بالنسبة له وتحت سيطرته ، مثلما تكون انهار الجنة الأربعة تحت سيطرة ساكن الجنان .
 
( 1606 - 1612 ) : عن اللفظ الذي يطلق خبط عشواء يتحدث مولانا جلال الدين : رب لفظ أحرق عالما ، ولفظ آخر قد يبوح به شيخ لسالك غير ناضج فيكون فيه هلاكه هو ، ورب لفظ آخر يبوح به لسالك فيحوله من ثعلب متماوت إلى أسد هصور . . . والأرواح من خاصيتها أنها تحيى الموتى مثل عيسى ، لكنها أيضا قد تقتل إن تعلقت بأدران الدنيا ، وران عليها خبثها ، ولو أن الحجاب رفع عنها لكانت محيية على الدوام . على كل حال : حتى إن كان الكلام الذي تريد ان تقوله كالسكر فاصبر . . . ولا تغرنك حلواه فبعد الحلوى تكون الحمى ( هكذا يعتقد الفرس أن أكل الحلوى بكثرة يؤدى إلى رفع الحرارة ) ، فالصبر قوة العارفين ومشتهاهم ومره حلو في أفواههم ،

« 466 »
 
وبالصبر تبلغ ما تريد ، حتى ذروة الفلك ، وإن تسرعت من أجل الحلوى أي من أجل ما يتكشف لك في الطريق تسير القهقرى في الطريق .
 
( 1613 - 1624 ) : البيت المذكور في العنوان ورد في ديوان فريد الدين العطار ( انظر مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا ) في غزلية مطلعها :
أي علم لي بأن هذا البحر الذي لا نهاية له يكون هكذا يتحول بخاره إلى سماء وزبده إلى أرض ( من ديوان فريد الدين العطار ، بتحقيق سعيد نفيسى ، ص 224 ، ط 3 ، تهران 1339 ه . ش ) .
وفكرة صاحب القلب الذي يشرب السم عيانا من الأفكار التي ترد كثيرا عند الصوفية ، من أن صاحب القلب " رجل الطريق ورجل الروح " لا يصيبه أذى مما يصيب الآخرين منه أذى . . .
فجسده تحت سيطرته تماما ، وفي ذلك أيضا إشارة إلى ما روى أنه بعد فتح المدائن حمل إلى عمر ضمن غنائمها قارورة فيها سم ، قيل له أن من شرب نقطة منه مات لتوه ، فحمل خالد بن الوليد القارورة ورفعها إلى فمه قائلًا : « بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ » وشربها ، ولم يصب بسوء ، فهو كما يقول مولانا قد وصل إلى صحته الكاملة ، أما الطالب فهو لا يزال يمرض ويصح ، والرسول صلى الله عليه وسلّم قد أمر الطالب بعدم المراء أمام مطلوبه . . . بل عليه بالطاعة الكاملة ( يشير جولبنارلي 1 / 202 إلى الحديث : لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموهم فاصبروا - والمعنى فيما يبدو بعيد ) الطالب طالب والشيخ شيخ ، واعلم أن في داخلك نفسا هي أشبه بالنمرود ملقى الأنبياء في النار ، فلا تستمع إليها ما دمت لم تصل بعد إلى مقام إبراهيم عليه السلام ، واعلم أن بحار الطريق عميقة تحتاج إلى سباح ماهر ، وأنت أدرى بنفسك ، فإن لم تكن رجل بحر لا تخاطر بإلقاء نفسك فيه ، وأن هناك فرقا بين الكمل الواصلين وبين من لا يزالون في



« 467 »
 
أوّل الطريق ، فالتراب يتحول في يد الكامل إلى ذهب ، والذهب يتحول في يد الناقص إلى تراب ، ويد الكامل هي يد الله « كنت يده التي يبطش بها » قال الشيخ الأكبر ( ولا بد من إثبات عين العبد في الفناء في الله وحينئذ يصح ان يكون الحق سمعه وبصره ولسانه ويده ، نعم قواه وجوارحه بهويته على المعنى الذي يليق به ، وهذه نتيجة قرب النوافل ، وأما قرب الفرائض أن يسمع الحق بك فتكون آلته ( عن مولوى 2 / 306 ) أما يد الناقص فهي يد الشيطان تفسد كل ما تلمسه ، والكامل يستطيع أن يخرج من الجهل ( مما يراه في الجاهلين ) علما ، أما علم الناقص فآلة فساد وإفساد وتخريب " كمصباح في يد لص " . . . وكل شئ أمام المريض يصاب بالمرض .ومن يك ذا فم مر مريض * يرى مرا به الماء الزلالاوالكفر إن سقط في يد الكامل تحول إلى إيمان . . . فحذار لا تتطامن برأسك إلى مستواهم . . .
فما ذا يفعل الراجل إلى جوار الراكب .
 
( 1625 - 1630 ) : موسى والسحرة ، علم النبوة ومعجزة النبوة والسحر ، الفرق بينهما مثل الفرق بين علم الكمل الواصلين ، وعلم الجهال الذين لا يزالون في أول الطريق . ويلتفت مولانا إلى نقطة مهمة أن السحرة قاموا بتعظيم موسى ، فدعوه إلى أن يبدأ هو« قالُوا : يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ : أَلْقُوا »( الأعراف / 115 - 116 ) وهذا القدر اليسير من الاحترام هو الذي قادهم إلى طريق التوبة وإلى طريق الدين وإلى التضحية بأيديهم وأرجلهم ( لتفصيلات أنظر الكتاب الرابع ) .
 
( 1632 - 1641 ) : يتوسل مولانا بمثال آخر لبيان الفرق بين الكامل الواصل والجاهل المبتدىء . فالسمع هو أداة التعلم ، والكامل المتصل بالحق في حكم اللسان ، وعلى من لا يزال في أول الطريق أن يستمع فحسب ، والسالك كالطفل ينبغي أن يسمع أولا حتى يتعلم بعد أن يستمع إلى



« 468 »
 
كثير من الألفاظ ، ويحاول تقليدها ، هذه كلها بدهيات ، أن تأتى البيوت من أبوابها ، أن تتعلم النطق عن طريق السمع ، وثمة كلمات ليست موقوفة على طريق هذا السمع هي كلمات الله سبحانه وتعالى ، فهو المبدع وكل ما هو موجود من إبداعه هو لم يعلمه إياه أستاذ ، وما سوى الله في الحرف وفي المقال في حاجة إلى أستاذ 
( 1642 - 1648 ) : هيا إذن وخذ منى الوسيلة ، إن لم تكن غريبا عن هذا الكلام ، فإن هذا الكلام يؤثر فيك ، وإلا لا فائدة ، تعال إذن وخشن ملبسك ، إلبس الخرقة . . . وإبك . . . فهذه كانت وسيلة أبيك آدم عليه السلام للتوبة عن ذنبه العظيم . . . ( بكى مائتي سنة وامتلأت البحار من دمعه ) ( استعلامى 1 / 199 ) . . . واستمع إلى قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( عينان لا تمسها النار أبدا ، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ) ( جامع 2 / 67 ) ( ولتفصيلات عن قيمة الدمع ، أنظر الكتاب الخامس ، الأبيات 1597 - 1609 وشروحها ) .
 
( 1649 - 1658 ) : النصيحة الثانية في طريق الكمل الواصلين : أطب مطعمك تستجب دعوتك ، والأولى أن تخلى بطنك ، فإن أخليت البطن ملأت القلب ( مولوى 1 / 311 ) ولذائذ الدنيا هي لبن الشيطان تقوى في داخلك الشهوات ، والشهوة مادة كل فتنة ، وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم « أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ، فقال : يا عيسى تجوع تراني . . . تجرد تصل إلىّ » ( منارات / 324 - 325 ) والبيت 1654 ناظر إلى قول سهل بن عبد الله التستري " لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل ، وجعل في الجوع العلم والحكمة " ( منارات / 325 ) . . . وقال صلى الله عليه وسلّم « من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه » ( إحياء 3 / 82 ط الحلبي ) ويصور مولانا أن الطعام الذي ينيم الفكرة ليس زيتا بالنسبة لمصباحنا لكنه ماء ، لكن مولانا لا ينص هنا على الجوع بقدر ما ينص على كون اللقمة حلالا " فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج



« 469 »
 
البحر " كما قال الإمام الغزالي ( إحياء 3 / 86 ) فلقمة الشبهة ظلام للقلب وقيل " من أكل الشبهة أربعين يوما أظلم قلبه ( إحياء 2 / 92 ) وقى البيت 1658 إشارة إلى قول أبى طالب المكي ( قوت القلوب 2 / 195 ) ان ملأ البطن يمنع من الذكر .
 
( 1668 - 1670 ) : يقر التاجر بأنه نقل رسالة الببغاء إلى رفاقه في الهند جهلا ، لكن اللسان أفلت :وجراحات السنان لها إلتيام * ولا يلتام ما جرح اللسانلقد أنطلق السهم ولا فائدة من الندم ، إنها اندفاع العقل والكلام حين يستحب الصمت ( بتعبير سعدى ) ( استعلامى / 1 - 301 ) .
 
( 1671 - 1678 ) : وكل فعل يبدر منا يؤدى إلى فعل آخر ، وكل حركة يقوم بها حرفى تستتبع حركة أخرى . هذه المواليد تتأتى من الغيب ، ولا سيطرة للإنسان عليها وإن نسبت إليه ( انظر 1490 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ولا يزال مولانا في كتابه هذا على الأقل المؤمن المخلص بآراء الأشاعرة ، فالعمل وآثار العمل كلاهما من خلق الله سبحانه وتعالى ويضرب مثلا : فإذا رمى زيدٌ عمر بسهم ، ثم مات لتوه - اى زيد - من الوجل ، ومات عمرو بعده بعام بآثار سهم زيد ، فهل يمكن ان تطلق على زيد صفة المميت ؟ ! وهل يتأتى فعلٌ من ميت ؟ ! ومن ثم فكل عمل يمارسه الإنسان مولود من قدرة الحق .
 
( 1679 - 1687 ) : وأولياء الحق تتجلى فيهم قدرة الحق ، ومن ثم تصدر منهم أفعال لا توزن بموازين هذا العالم المادي ، فإذا كانت الأفعال من الحق فكيف تكون لها علاقة بموازين هذا العالم الدنيوي ؟ لكن لو أن قدرة الله صرفت النظر عن إيجادها تستطيع أن يسيطر على بواطن المريدين بقوة المشايخ والرجال الكمل ، فيمحى ما قد قالوه وسمعه المريد من خاطر المريد ، والله سبحانه

« 470 »
 
وتعالى قال في كتابه العزيز «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» ( البقرة / 106 ) وقال «أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» ( المؤمنون / 110 ) فإذا كان قد أسند فعل النسيان إلى غيره ممن لم يصل إلى درجة من الكمال فما بالك بالمؤمنين والمشايخ وأولياء الله ؟ ! قال الشيخ الأكبر : من جلس مع الصوفية وخالفهم في شئ مما يتحققون به نزع الله الإيمان من قلبه ، ويعلق المولوي ( 1 / 316 ) ما كان هذا النزع إلا بتصريف الله أولياءه في قلوب عباده .
 
( 1688 - 1690 ) : وصاحب القدرة المادية مالك على أجساد الرعية ، أما صاحب القلب فهو مسيطر على القلوب ، وهو صاحب قلب ببصيرته النافذة المسيطرة ( أنظر البيت 1337 و 1416 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ويعلق مولانا بأن الأمر ما دام رؤية فليس جديرا بقلب الإنسان إلا إنسان العين على صغره ودقته ، وفي بيت من الأبيات التي زادها جعفري : إن الناس يرون صاحب القلب صغيرا كإنسان العين في حسن انه يرى عالما ( ج 1 / 726 ) وانظر هوامش النص ) وينقل أستاذنا كفافى عن ابن العربى في شأن الإنسان " وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر المعبر عنه بالبصر ، فهذا اسمى إنسانا ، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم ) ( كفافى 1 / 509 ) ويتوقف مولانا عند هذا الحد ، فبعده لن يستطيع أن يفصح ، إذ يمنعه أصحاب الصدارة ، وأصحاب الصدارة هنا قد تعنى كبار المشايخ الذين حذروا من البوح بالأسرار أمام غير أهلها ، أو أصحاب الصدارة من أرباب السلطان الذين يترصدون المشايخ ويأخذونهم بأقوالهم التي يفهمونها على ظاهرها ( انظر 1416 - 1417 من الكتاب الذي بين أيدينا ) .
 
( 1691 - 1700 ) : ذكر الإنسان ونسيانه من لدن الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة الكمل من الرجال بواسطة مباشرة ، وفي هذا يقول ابن العربى " يتجلى الحق لمرآة قلب الولي الكامل فتنعكس الأنوار من قلبه إلى العالم ، فيكون العالم باقيا محفوظا بوصول ذلك القصد إليه ، فلا يجسر أحد من



« 471 »
 
العالم على فتح الخزانة الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل ، لأنه هو صاحب الاسم الأعظم ولا يخرج من الباطن إلى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه ، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شئ إلا بأمره ، وإن كان يجهله أحيانا عند تجلية البشرية عليه ( انقروى 1 / 348 ) بواسطة مباشرة ، إذ يفرغ أوعية القلوب كل ليلة من مئات الأفكار والفكر والذكر والمشاغل والحرف والتفكير في النفع والضر ( انظر الأبيات 390 - 392 من الكتاب الذي بين أيدينا ) أي يفرغها مما يشغلها طوال النهار من هموم ومشاغل ، هذا هو النسيان ، ثم تعود كل حرفة وكل فن وكل هم إلى صاحبه بمجيء النهار ، . ولأن النوم هو أخ الموت أو الموت الأصغر فقس أحوال القيامة على ذلك " الناس كما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون " و " يبعث المرء على ما مات عليه " . . .
ويضيف مولانا أن الحرف والصنائع تعود إلى أهلها في الصباح ، بما زاد عليها في منتجعها . . .
وهي فكرة ذات دلالة عظيمة ، فإن كل صباح تضاف إلى أرباب الحرف والفنون خبرة فوق خبرة . . . فمن أين جاءت إذن ؟ ! ! 
 
( 1710 - 1714 ) : اللسان جامع المتضادات : فهو بيدر للذكر والعبادات وهو أيضا بز لله حارق لهذا البيدر ، إنه الكنز ( تحت العرش كنز مفاتيحه ألسنة الشعراء ) وهو أيضا الألم الذي لا دواء له ، " ولا يلتام ما جرح اللسان " وهو أيضا الصفير الذي يخدع به الصياد الطيور ! ! ولذا قال الإمام علي رضي الله عنه " ما سلامة الإنسان إلا في حفظ اللسان " واللسان صغير الجرم كبير الجُرم ، والبلاء موكل بالمنطق ( انقروى 1 / 352 ) فكيف الأمان منك أيها اللسان وأنت نفسك بلا أمان ؟ ! ! إن الروح تستمع إلى الكلام منك ، ولذلك فهي في تعب دائم من جرائك - وها أنت والكلام على لسان التاجر - قد ضيعت منى طائرى ، فهل ثم ظلم تلحقه بي افدح من هذا الظلم ؟ ! 
 
( 1715 - 1721 ) التفجع ليس من أجل الببغاء الذي مات في الهند ( أو على الأصح تظاهر



« 472 »
 
بالموت ) أو ببغاء التاجر الذي تظاهر بالموت أيضا عند سماعه بنبأ موت أليفه في الهند ، فمن الواضح أن مولانا ترك التاجر وطائره وانهمك في الحديث عن طيره هو . عن الروح ، المعشوق والسبيل إلى المعشوق ، الغاية والوسيلة والآلة ! ! ثم أنين الروح نفسها حين بست في هذا القفص الجاهل عاشق الكدح والذي كتب عليها الكدح إلى الأبد " لا أقسم بهذا البلد ، وأنت بهذا حل بهذا البيت ، ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد " وكتب عليها أيضا أن تعاني الكدح في هذا السجن ( القفص ، المزبلة ، جوال الطين ) وعند غيابها يزداد كبد الإنسان وتعبه وتتفرق به الأودية والمسالك فلا يبالي في أيها هلك .
 
( 1722 - 1732 ) : إن هذه التفجعات التي يطلقها هي في الحقيقة انعكاس لغيرة الحق على أسراره من أن تتعرض للبوح ووشيكا سنتعرض لحديث الغيرة . لأن مولانا هنا فسر الغيرة الإلهية بأنها قائمة لأنه " غير " الجميع فالغيرة جزء من " الغيرية " ويتضح المعنى أكثر وأكثر كلما توغل مولانا في وجده وازداد تدفقه ، إن الحديث عن طائر الروح طائر المبدء وطائر المعاد ، وحى الحق ونفثته ، ونفسه الساري في أكرم المخلوقات ، ترجمان الفكر وترجمان الأسرار ، ثم إنه موجود في كل باطن ، مختف في الداخل وكل ما تراه في هذا وذاك هو في الحقيقة انعكاس له ( إنما ترى نفسك في الآخرين ) ، يسلب منك السرور الفاني بتذكيره إياك في كل لحظة ومع ذلك تكون مسروراً به ، ويجعلك تشق على نفسك وتقف في طريق شهواتك ، ومع ذلك تقبل ذلك منه .
وأنت يا من كنت تضحى بالروح لكي تزين الجسد ، أنظر إلى أنا المحترق أترى تريد محترقا ؟ ! ! ولم ؟ ! ! ألكى تضرم به النار في كل الدنيا ؟ ! ! ألست ترى الدنيا برمتها محترقة ؟ ! ! إذن فكيف تطلب نارا أخرى ؟ ! ! 
 
( 1733 - 1739 ) : لا يزال مولانا في وجده الذي يتصاعد بيتا بعد بيت بحيث نسي التاجر



« 473 »
 
والببغاء والهند والسند وغيرها وغيرها ، ربما - والتعليق هنا لفروزانفر - ذكره العشق بشمس الدين ذلك القمر الذي اختفى خلف السحاب ( عن استعلامى / 1 - 305 ) لقد ظهر أسد الهجر ، وانتهى الأمر فكيف يكون ثمة حديث ؟ وإذا كان لا يتحمل الفراق في حال صحوه ؟ فكيف يكون في حال سكره ؟ اى مجال يحتويه ؟ أي مرج وهو أسد ثمل يعز عن الوصف ؟ أي شعر ؟ وهل ثم عقل في أن يفكر في القوافي ؟ وهل ثم وعى حتى يفكر في انتقاء الألفاظ ؟ ما أشبه هذه الألفاظ بسور شوكي حول كرمة . . . أترى هناك اى اتصال بين السور الشوكي وبين الكرمة ؟
 
( 1740 - 1745 ) : فلأحطم اللفظ والصوت والقول ، فما أريد أن أقوله لا يستوعبه لفظ أو صوت أو قول ، وما أريد أن أحدثك به جد خطير ، فهو حديث أخفيته عن آدم ، أخصك به أنت لأنك أسرار العالم ، وهو الحديث الذي لم أبثه للخليل في محنته ، بحزنك هذا وتوقك للمعرفة أيها الإنسان وهو ذلك الحزن وذلك الشوق الذي لم تعرفه الملائكة ، وذلك النفس الذي لم يتحدث به المسيح ولم يتحدث إليه به الحق غيره على أسراره المكنونة ، إلا أن مولانا لم يتحدث إلينا بهذا الذي وعد به لينصرف بعدها إلى مبحث لغوى عن وظيفة " ما " في اللغة كنفي وإثبات ، ليخلص منه إلى أن الإنسان أيضا بقاء وفناء ، وفناء في البقاء ، فإن كان ثم إثبات في اللفظ فالحقيقة تقول إنني فناء .
 
( 1746 - 1752 ) : العبودية هي التي تعطى معنى للملوكية ، العاشق مهم أهمية المعشوق ومن فُنى فيه يبحث عمن يفنى فيه ، والملك لا يزال يقرب من يبدي له الخضوع وهو أيضا نوع من الخضوع ، وكل الخلق يشعرون بالمحبة لمن يحبونهم ، فهم ثملون بمحبة الخلق لهم مثلما يثمل الخلق بمحبتهم ، والصياد لكي يصيد الطيور يجعل من نفسه صيدا لهم من البداية ، وكيف تكون هناك حسناء تشعر بحسنها دون ان يكون حولها كثير من العاشقين . أنت الصياد والصيد ، وهكذا



« 474 »
 
فالعشق شعور متبادل العاشق معشوق والمعشوق عاشق لعاشقه " يحبهم ويحبونه " فقدم حبه لهم على حبهم له وقال في الحديث القدسي « ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا أشد لهم شوقا » ( انقروى / 1 - 360 ) . ويقدم مولانا هذه الصورة : كما يطلب الظامئون الماء فإن الماء يطلب الظامئين بدوره ، فكيف تتحقق له " المائية " دون ظاميئين خلفه ( تكرر البيت في الكتاب الثالث ، البيت 1401 ويفصل الفكرة تفصيلا شديدا في الأبيات 4399 - 4423 من الكتاب الثالث ، وانظر أيضا مقدمة الترجمة العربية ص ص 27 - 29 ) فإذا كان قد ثبت انه أيضا عاشق لك ما دمت أنت عاشقا له ، فأصمت إذن ودعه يجرك ويجذبك وكن كلك أذنا .
 
( 1753 - 1761 ) : ضع سدا من الصمت أمام هذا السيل المتدفق من الكلام وإلا فضحك ودمرك ، لكن ما الحيلة والكنز في الخرابات والغارق في بحر عشق الحق لا يقنع ولا يرتوى ، بل يريد أن يزداد غرقا ، لا يهمه أن يكون صاعدا هابطا ، في قاع البحر أو على سطحه ، ممزقا بسهمه أو محميا بدرعه وحفظه ، منبسطا بطربه أو ممزقا ببلائه ، وأنت أيها القلب كريشة في فلاة تلعب بها الريح فما مرادك هنا ؟ فمتى يكون للعاشق مراد ؟ وكل نجم يتجلى من الحبيب ( بارقة فكر ) فداؤها مائة بدر ( مائة رجل كامل ) ، والعالم كله فداء للحبيب ، فهو القاتل وهو الدية ( من عشقنى عشقته ومن عشقته قتلته ومن قتلته فأنا ديته ) ( حديث قدسي ، أستعلامى 1 / 307 ) ، وحياة العشاق في موتهم ( بقاؤهم في فنائهم )من مات عشقا فليمت هكذا * لا خير في عشق بلا موتوحياة القلب في ان يكون مسلوبا له .
 
( 1762 - 1765 ) : إنني لا أزال ابحث عن رضا الحبيب ، أواجه بصده ولا يثنينى هذا عن حبه ، لكنه يتدلل على إنه يرى عزة العقل والروح في حبه هراء ، فلا يزال في نفس يتردد وعرق



« 475 »
 
ينبض - والموت هو الثمن - ( انظر حكاية في هذا المعنى في الكتاب الخامس الأبيات 1244 - 1259 وشروحها ) . . . ما هذا ؟ ! هل تطيل الحديث عن بلائك في العشق ؟ ! أي ادعاء هذا يدل على تقل الروح وانعدام الحس ؟ وهل تحسب العشق أمر هيناً لأنك مُنحته دون ان تبذل فيه شئ يذكر مهما تقول أنك بذلت ؟
 
( 1767 - 1772 ) : كل هذا وأنا غارق في عشق كالبحر يغرق فيه عشق الأولين والآخرين ، وكل ما أقوله عنه مهما فصلت قاصر لايبين عن شئ ، كل ما يقال عن العشق من شرح وبيان أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه ، ولو أبنت لاحترقت الأفهام واحترقت الألسنه ، ودعك من ظاهر أقوالي فإن قلت ساحل أو شفه فأنا اقصد ساحل بحر الأسرار الإلهية ، وان تحدثت بالنفي فإنما اقصد الإثبات ، وإن عبست فإنما افعل ذلك لأصرف الناس عن شغلى عن اللذة التي أحس بها في داخلي ، وإن صمت فمن كثرة ما لدى من أقوال مما لا يستطيع العوام فهمه أو إدراكه .
 
( 1773 - 1782 ) : البيت في العنوان منقول من ديوان سنائى ( ص 51 ، من طبعة مدرس رضوى ) وموضع الاستشهاد واضح ، ما يصدك عن طريق الحبيب وعن عشق الحبيب يستوى فيه الكفر والإيمان والقبيح والحسن ، فلا يشغلنك شيىء عنه ، والله غيور على حرمه ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وسعد المذكور في النص هو سعد بن معاذ ( انظر للإسناد أحاديث مثنوى ص 18 ) فالغيرة من الحق هي علامة الكبرياء والحكم والأمر ، وأية عبودية دون العشق بمثابة الكفر ، وأي تعبير عن هذه العبودية بغير العشق ضلال ، وأن تكون مجتبى من الإله مرزوقا بالعشق مجالا للحب مكرما باللب مسلوبا للقلب ، ثم تمضي إلى مظاهر العبادة فهو شين لا يليق بك ، وقد أعزك ورفعك ، فكيف تذل نفسك ؟ ومن ترجو بمظاهر الإيمان سواه وهو أدرى بإيمانك ، وأية درجة تريدها فوق الدرجة التي أرادها لك ؟ هذه هي غيرة الإله أن يوضع عزه في



« 476 »
 
غير موضعه ، وأن يختار المعزز به الذلة ، يقنع بالرائحة بعد المشاهدة ، غيرة الحق هي غيرة الاصطفاء ، وسواها غيرة على عرض من أعراض الدنيا .
 
( 1783 - 1792 ) : المعشوق ذو العشرة قلوب هو المعشوق كثير العاشقين ، ولأشكُ . . . لا . .
إنني أئن فحسب ، فإن هذه الحسناء تحب أن تسمع أنينى ( الحبيب سعيدٌ بأنات الساهرين ) ( حافظ الشيرازي عن استعلامى / 1 - 306 ) إنني في حلقة السكارى ولست في حلقة الواصلين ، فكيف لا أئن ؟ وأنا في ليل هجر فراقها محروم من وصالها فكيف لا أئن ؟ لكن هذا هو سر عشقى وأنا به راض ، فهذا الدمع در ، وتراب الغم كحل ، ولست اشكو من روح الروح بل أبوح ، وأنا اضحك من شكوى قلبي وأراها دليلا على نفاقه ، فما أنا متأكد منه انه سعيد في هذا العذاب راض به مستريح إليه .
 
( 1793 - 1804 ) : فخر المستقيمين كما يدل السياق هو القلب والخطاب واضح السخرية ، فكيف تلتوى هذا الالتواء ( تتظاهر بالشكوى وأنت سعيد ) وأنت صدر المعاني وموئلها ؟ وما العتبة وما الصدر هنا ؟ وما العلوا وما الدنو ؟ وما نحن وما أنا ؟ أيتها اللطيفة الروحية الموجودة عند كل الخلق من رجال ونساء ، وعندما تتحد هذه التعينات ، فالحقيقة الواحدة هي أنت وإنما خلقت الخلق لكي يعرفوك " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " اى ليعرفون و " كنت كنزا مخفيا فأحببت ان أعرف فخلقت الخلق فبى عرفوني " وكل الخليقة من أجل العشق ، من أجل ان تصير أنا وأنت واحدا ، من أجل العودة " إنا إليه راجعون " ، لكن كل هذا في انتظار أمر " كن " فتعال يا منزها عن الخطاب وعن القول فلست في حاجة إليها منا ، وإدراكك لا يتم بالإبصار « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » وهل يطوف في خيال تقليبك للقلب بين الحزن والسرور ؟ وهل القلب الذي تتقلب بين الحزن والسرور جديرٌ حقا برؤيتك . . . وهو ليس ثابتا على
 
« 477 »
 
عطائك راضيا مسرورا ببلائك ؟ ! وأليس عالم العشاق حديقة دائمة النضرة مليئة بالثمار اللدنية غير هذا الحزن والسرور وهما من امارت الدنيا ؟ ! آثمة حزن وسرور في العشق وهو أعلى منهما ؟ ! 
( 1805 - 1812 ) : القلوب التي مزقت إربا هي القلوب العاشقة ( انظر البيت رقم 3 من الكتاب الذي بين أيدينا ) فجد عليها أيها الحسن بزكاة جمالك ، فإن عينك الفاتنة تسم قلبي كل لحظة بجرح جديد وتؤجج في قلبي لهيب الشوق . . . فأجمل . . . وأقتل . . . واسفك الدم بدلا من هذا العذاب المتأجج المتجدد . . . لقد قلت لك مرارا دمى حلال لك . . . فإلى متى . . . إلى متى يظل المخلوق من تراب محزونا من فراقك . . . باكيا من الشوق إليك ؟ ! ! 
( يفسر المولوي هذه التساؤلات انها ليست على سبيل الإنكار بل لان مولانا في حال السكر - مولوى 1 / 336 ) ويستمر مولانا في مناجاته : يا من كل صبح أطل على هذا العالم وجدك فياضا مهتاجا مثل عين المشرق ( ثانية رمز الشمس ، أنظر الأبيات 120 - 125 من الكتاب الذي بين أيدينا ) أية حجج تسوقها في هذا الدلال ؟ ! ألا فلتستمع إلى أناتنا هذه المنطلقة من الأجساد لا من الأرواح والقلوب التي لا يصح بلا ان تئن وتتوجع . . . ودعك بحق الله من الحديث عن الجمال ( الورود ) وتحدث عن المعذب بهذا الجمال ( البلبل ) ! ! 
 
( 1813 - 1816 ) : يترك مولانا حال المعشوق ليعود إلى الحديث عن حال العاشق . . . لقد تحدث فيما سبق عن الحزن والسرور وارتباطهما بأمور الدنيا ، ثم يعود هنا فيقول ان أحوال العشاق ليست من الحزن والسرور أو الإشباع والحرمان أو النفع والضر وهي أيضا ليست نتيجة للوهم والخيال ، هي أحوال أخرى نادرا ما تحدث وليست قابلة للوصف ، لكنها لا تعزب عن قدرة الله تعالى ، فالجور والإحسان والحزن والسرور كلها أوصاف حادثة ، ولا يجوز ان تستخدم في
 
« 478 »
 
علاقة مع الحي الذي لا يموت والذي يرث الأرض ومن عليها .
 
( 1817 - 1824 ) : ها قد أتى الصباح . . . فانصرف يا حسن حسام الدين وامتنع عن مواصلة إملاء الكتاب المثنوى عليه ، وأنت المسيطر على العقل الكلى ، والمسيطر على الروح تصرفها أنى تشاء ، ذلك أنك روح الروح وأنت ضياء القلب ( المرجان ) . . . فها هو نور الصبح قد أشرق . . .
وصبوحنا من التوحيد ( خمر الحسين بن منصور الحلاج ) . . . وإذا كانت خمر عطاياك وتوحيدك ونورك تهبناكل هذا الغليان . . . فأي خمر دنيوية هذه حتى تشعرنى بالطرب ؟ ! إن الخمر لتسكر بنا ، والفلك أسير لعقولنا ، والجسد جسد بأرواحنا ( وإلا كان جثة ) . . . وحلاوة الروح كالعسل ، ونحن كالشمع ، وأجسادنا صورت كأنها خلايا النحل . . . ( الأصل في البيولوجيا الحديثة الخلية ! ! ) ( 1825 - 1834 ) : عودة إلى حكاية التاجر الذي تتوالى عليه الأحوال فيتخذ طبقا لها المواقف . . . 
حينا يكون في مقام الفخر ، وحينا في مقام المسكنة والضراعة ، وحينا يغرق في بحار الحقيقة ويستنبط الحكم مما جرى ( يحاول مولانا ان يوحى بأن كل ما ساقه في الأبيات السابقة قد جرى في الحقيقة على لسان التاجر ) . . . انه أشبه بالغريق ( والغريق يتشبث بكل حشيش ) انه يضرب بيديه وقدميه . . . 
فلعله ينجو ( المعنى من حديقة سنائى ) وهذا ما يريده الله منك تماما : أن تحاول ، وأن تجتهد ، والملك لا يكون عاطلا ، فالملك هو ابن آدم فهو ابن الخليفة . . . ( التعبير من حديقة سنائى أيضاً ) واعلم أن «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» ( الرحمن / 29 ) 
ومن يدرى قد تكون نجاتك موكلة إلى النفس الآخر واعبد ربك حتى يأتيك اليقين . . . قال نجم الدين كبرى : لأن حقيقة اليقين المعرفة ولا نهاية لمقامات المعرفة . فقط كن في الطريق . . . 
واعمل جاهدا «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» والله سبحانه وتعالى « لا يضيعأَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» .
 
« 479 »
 
( 1837 - 1848 ) : أدرك التاجر فجأة أن الببغاء الذي كان قد سقط ميتا في الهند إنما كان يتماوت في الحقيقة ، وأنه أرسل بذلك رسالة إلى الببغاء المقيم عنده يقول له : تريد النجاة مت قبل أن تموت ، دعك من التظاهر ، فما قيمة كل ما عندك من ميزات ؟ ما دامت ميزاتك هذه هي التي توردك موارد الهلاك ، إن كنت حبا يلتقطك الطيور ، وإن كنت برعمة يقطفك الأطفال ، لا تعرض حسنك في المزاد وإلا أصابك قضاء السوء ( انظر الأبيات 208 - 212 وشروحها من الكتاب الذي بين أيدينا ) . . . الأعداء يتربصون بك ، . . . والأصدقاء يلتفون حولك ويتلقون وقتك العزيز الشريف ، ويبعدونك عن صحبة الحق ، فيضيع ربيع العمر وأوان العمل دون غراس تغرسه ينفعك في خريف العمر وإدبار الأيام .
 
( 1849 - 1854 ) : إنما ينبغي الفرار إلى حمى الحق " ففروا إلى الله " فإن الله هو الذي يهبك الملجأ والملاذ من الأصدقاء ومن الأعداء على السواء ، وإن إصطفاك الله وكان لك الملجأ والملاذ والأنس ، فإنه يجعل الكون كله في خدمتك ، مثلما جعل الطوفان في خدمة نوح عليه السلام والبحر في خدمة موسى عليه السلام حين لم ينصرهما الخلق ، وجعل النار قلعة وحمى لإبراهيم عليه السلام ، وجعل الجبل نصيرا ليحيى عليه السلام من أعدائه ، ورد كيد خصومه إلى نحورهم . ( رواية حماية الجبل مذكورة في شأن إلياس عليه السلام وليس يحيى . أنظر قصص الأنبياء للثعلبي ط . 4 القاهرة 1954 ص 255 . ) 
 
( 1859 - 1877 ) : بوحي أيضا من قصة الببغاء الذي أراده جماله وحلاوة صوته ، وحبساه في القفص كما تحبس الروح داخل قفص الجسد ، ومن ثم كان الملامتية من الصوفية يتجنبون الشهرة " فالولي لا يكون مشهورا " ، وقال بعضهم " بل لا يكون مستورا " لأن في ستره نوعا من حبس القدوة ، على كل حال فإن مولانا يحذر في مواضع عديدة من المثنوي من مضار الشهرة ، وآفة
 
« 480 »
 
تعظيم الخلق ومدحهم ، فإن هذا هو بذور الكبرياء ، وشباك الشيطان ، وبداية البعد عن الطريق ، وتتجلى كل هذه المعاني عندما يتحدث مولانا عن فرعون ( أنظر الكتاب الثالث الأبيات : 778 - 781 و 1556 - 1558 وشروحها ) . . 
وهذا كله يكون من تلطف الدنيا معك ، ولطغها يكون لقمة حلوة ، لكنها لقمة نارية تحرق جوفك وترديك ، لذتها هي الظاهرة في بداية الأمر ، لكن نارها خفية ، سرعان ما تفتضح ويرتفع دخانها تنفجا منك وكبرياء وتصديقا لأقوال الخلق وغربة عن نفسك وجهلا بها ، فالكبرياء تنين ، والتنين لا يعيش إلا في النار ، وقال ابن الفارض :
وأحملني وهنا خضوعي لهم فلم * يزدني هوانا بي محلا لخدمتي
ومن درجات العز أمسيت مخلدا * إلى دركات الذل من بعد نخوتي
( أنقروي / 1 - 381 ) وهذا المعني وارد برمته في مقالات شمس ( ص 139 ) " أقول لك الخلاصة في كلمة واحدة ، هؤلاء القوم يرضون قلوبهم بالنفاق ويحزنون من الصدق ، قلت له : أنت رجل عظيم ، وأنت وحيد عصرك ، فسر وأخذ بيدي وقال : كنت مشتاقا لك ومقصرا في حقك ، بينما خدمته بالصدق في السنة الماضية فصار خصما لي وعدوا . عجبا ! ! أليس كذلك ؟ 
ينبغي العيش بين الناس بالنفاق ، حتى تصبح سعيدا بينهم ، وبمجرد أن تبدأ في قول الصدق ، عليك بالخروج إلى الجبل والصحراء ، فليس لك طريق بين الناس " إياك أن تتظاهر إذن بأن هذا المديح لا يهمك ، وأنك لا تحتاج إليه ، وأنك فاهم أن من يمدحونك إنما يمدحونك طمعا أو خوفا ، وأن نفسك محصنة ضد المدح ، فلو هجاك نفس مادحك ، لاحترق قلبك غضبا ولأضرمت داخلك النيران ، ولقلت أنه يهجوك لأنك رددت طمعه بالحرمان ، هذه هي طبيعة الإنسان ، قد لا تظهر عليك آثار المدح ، لكن آثار الذم تظهر عليك ، لأن المدح حلو والذم مر ، وإن شربت الدواء المر تضيق ، وإن أكلت
 
« 481 »
 
الحلوى تحس بحلاوتها على الفور ، مع أن الدواء يأتي لك بالشفاء ، والحلوى تأتيك بالحمى والبثور ، فاعرف الشيء من ضده ، واعرفه أيضا بآثاره ، والنفس من كثرة المديح تتحول إلى فرعون ، والرسول صلى اللّه عليه وسلّم قال لأحدهم يمدح آخر في غيابه " ويحك ، قصمت ظهره ، لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة " وقال عمر رضى اللّه عنه " المدح وافد الكبر " ( عن شرح فروزانفر صص 731 - 732 ) 
 
( 1878 - 1887 ) : ولا حل إلا أن تكون عبدا ، أن تشعر بعظمة الله مهما بلغت أنت من عظمة ، ألا تتوق إلى السيادة والسيطرة ، أن تصبح مجهولا لا يعرفك أحد ، متحملا للضربات كأنك الكرة من الصولجان ، : فرب أشعث أغبر تزدريه العيون مجهول من الناس ولو أقسم على الله لأبره " واعلم أن نهاية المديح معروفة ، ونهاية الشهرة معروفة ، فكم من مشهور انصرف الناس عنه وأنكروه وضاقوا به وملوه بعد انقضاء شهرته ، ومن أحبك لشيء كرهك عند زواله ، ومديح الناس فخ ، يضفي على الإنسان ما ليس فيه ، يجعل من المملوك سلطانا ، ومن الخصي سيدا ، ومن تربى في جو الخصيان وجد فيه الشيطان مرتعا خصبا ، ثم انصرف الشيطان نفسه عنه وشعر منه بالعار "كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ ، قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ" ( الحشر / 16 ) ( أنظر أيضا الكتاب الثالث الأبيات : 4039 - 4055 وشروحها ) .
 
( 1888 - 1897 ) : لكنها على كل حال مشيئتك يا إلهي ، تجريها على عبادك وإن كانوا كارهين ، وما شئت يا إلهي يكون ، وكلنا مهما بلغنا من سلطان عبيد أرقاء لسلطانك ( في الكتاب الخامس الأبيات : 3113 - 3128 تفسير آخر لمعنى ما شاء الله كان يدعو إلى العمل لا إلى كسل الجبر ) ويواصل مولانا مناجاته : لقد أوحيت لنا بهذا القدر من الإرشاد ، لكنه على كل حال قطرة من
 
« 482 »
 
محيط علمك ، فأوصلها بالبحر ، وخلصها من كدر الجسد ، ومن تشرب التراب ، أليست كل قطرة يشربها التراب تعود ثانية إليك ، تخلصها مما علق بها من أدران ثم تعيدها طاهرة إلينا ؟
( لتفصيل هذه الفكرة أنظر الكتاب الخامس الأبيات : 201 - 225 وشروحها ) .
 
( 1898 - 1905 ) : لا شيء يعدم ، فالعدم هو خزانة الوجود ، والوجود هو موضع تجل العدم ، وفيك كل لحظة موت وحياة أو موت وبعث ، وفي الليل تنعدم كل أفكارك ثم تعود إليك في الصباح ، فإلى أين تذهب ؟ تمضي عنك الحرف والفنون ثم تعود إليك ، فإلى أين تمضي ؟ العالم كله أمامك في خلق ثم موت بعث ، قوافل تترى في أثر قوافل ، خريف يلتهم كل شيء ، ثم ربيع يحيي به الله الأرض بعد موتها . ( المعنى وارد في معارف بهاء ولد : كل ما مضى يعود .
ص . 272 ) .
 
( 1906 - 1911 ) : فأعمل العقل ، وانظر إلى داخلك ، فما يفعله الله في الكون من حولك ، يفعله أيضا داخلك ، تتبع كل أفكارك وخواطرك ، وحديقة قلبك ، تراها دائما نضرة حية ندية ، لا ينقطع عنها الفكر إلا بالموت ، وهذه الكلمات التي تفوه بها ، وتتأنق في جعلها حلوة سلسة ، جميلة ريانة ، هي مجرد عبير من تلك الرياض والسنابل ، فهل يفيض الإنسان بغير ما في داخله ؟ نعم . . . هي مجرد عبير من الفيض الإلهي الأول " العقل الكلي " ، تستطيع أن تفهم إذن أن تيار الحياة والساري في الوجود يسري أيضا داخلك ، وأنك مظهرٌ للفيض وأنك تستطيع أن تتبع هذا التيار الجزئي " العبير ، الرائحة " لتصل إلى أصله ومعدنه وحقيقته وبحره ومنبعه .
 
( 1912 - 1922 ) : ألم تكن رائحة القميص " بشرى الوصال " علاجا لعين يعقوب عليه السلام من قبل الوصال ؟ هذه الكلمات هي أيضا بمثابة الرائحة تقودك إلى حانوت الوحدة وإلى نهر الجنة .
وإذا لم تكن يوسف في جمالك ، فكن يعقوب في بكائك وضراعتك وإتجاهك إلى الله وشكوى بثك

 
« 483 »
 
وحزنك ، فكما قال الحكيم الغزنوي سنائي ( ديوان : ص 851 ) مع قبحك لا يجمل بك الدلال ، مثلما يكون الألم من العين الرمداء ، فكن جميلا ثم تدلل ، وكن مبصرا ثم تألم ، ولا تتظاهر أمام مرشدك ، ولا تبد الحسن أمام معدن الحسن ، فأين حسنك المستعار المؤقت من حسنه الأزلي الأبدي ؟ وكن ميتا عن آمالك ورغباتك ، وأمام مرشدك كن كالميت بين يدي الغسال ، حتى يحييك بإرشاداته وكلماته وفيضه ، وكن ترابا ينبت عليك النبات ، ولا تكن حجرا صلدا قحلا لا تجود ، فحتى من الحجارة تتفجر الأنهار ، أتراك ترضى أن تصبح بكبريائك وتجبرك أقسى من الحجر الصلد ؟
 .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: