السبت، 29 أغسطس 2020

15 - الهوامش والشروح 781 - 1262 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

15 - الهوامش والشروح 781 - 1262 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 781 - 1262 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
شرح إنذار سليمان عليه السلام لبلقيس طالبا منها ألا تصر على الشرك ،
وألا تتأخر ( في اللحاق به )
( 781 - 797 ) : عودة إلى قصة سليمان عليه السلام وبلقيس ، وها هو خطاب سليمان في التحذير من مغبة الكفر والعناد وعقاب الابتعاد عن طريق الإيمان ، حيث يفقد المرء توازنه ، ويكون صاحب السلطان بلا سلطان ، ينقلب عليه صاحب بابه ، يأتيه الموت من حرسه ، ويكون مساعده خصما له ، يكون كجسد أعضاءوه كلها في حرب ، فإن هذا الذي جعل أساسا للتناسق بين كافة عناصر الكون ، وبين كل جوانب الإنسان قد غاب وإن غاب يتفتت الوجود الإنسانى ، يكون كل جانب من جوانب الإنسان في حرب مع الجانب الآخر ، يعتريه القلق والاكتئاب ، يحس بأن حياته لا نفع فيها ، تستعبده الطواغيث ، ثم يؤخذ أخذ عزيز مقتدر من جند الله ، تريد أن تعرفي جند الله يا بلقيس ؟ !
إنها الريح التي اقتلعت قوم عاد ، والطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والبحر الذي انشق لقوم فرعون ، والأرض التي ساخت بقارون ، والطير الأبابيل التي دقت الفيل ومزقته إِربا والبعوضة التي أهلكت النمرود ، والحجر الذي ألقاه داوود فتشقق
 
« 426 »
 
إلى ثلاثمائة قطعة وأهلك جند جالوت ، وهذه الحجارة التي أمطر بها قوم لوط حتى غرقوا في المياه السواد ، وكثير غيرها مما تظنونها جمادا لكنها كانت من جند الأنبياء ( انظر الروح الجمادية وتسبيحها الكتاب الثالث أبيات 1008 وما بعدها ) ولو تحدثت فيها لطال الحديث ولو شاء الله لأمر أعضاء جسدك نفسها بتأديبك إنها تطيعك أنت نفاقا ، ولكن طاعتها الحقيقية لله تعالى فلو أمر عينك بتعذيبك لرمدت وأدبتك ، ولو أمر أسنانك بتهذيبك لتألبت عليك وسلبت من عينك النوم . وافتح كتب الطب وأقرأ أبواب العلل . . وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو روح الروح فكيف يمكن أن تكون العداوة مع روح الروح من السهولة بمكان ناهيك عن عسكره من الجن والإنس .
 
( 798 - 805 ) : هيا يا بلقيس أتركى ملكك في البداية وإن تركت هذا الملك فقد وجدت الملك الحقيقي الذي لا ملك بعده ، سوف تعلمين أنت نفسك بمجرد أن تلحقى بي إنك كنت مجرد صورة جميلة لكن لا روح فيها ولا حياة مثل تلك الصور والنقوش التي تصور على جدران الحمامات :
لا آدم في الكون ولا إبليس * لا عرش سليمان ولا بقليس
الكل عباده وأنت المعنى * يا من هو للقلوب مغناطيس
( سبزوارى 4 / 279 )
وماذا تعنى صورتك أيا كانت الصورة دون تلك الروح ينفخها فيها ، إن زينتها ليست لها بل لغيرها ، إن تلك الصورة تفتح عينا لا ترى ، وفما لا يتحدث ، لقد فقدت نفسك جدلا وعصيانا فجعلت من نفسك مجرد شئ مع آخرين لا وجود له دون وجود آخرين وإلا فهل تستطيعين أن تؤكدى على أن هذه الصورة التي ترين أنها هي أنت . .
هي أنت بالفعل ؟ !
إنها مجرد حالة من حالاتك . . وهذا ليس إحساسك الحقيقي بل إن ما تحسين به هو ما يوحى به
 
« 427 »
 
إليك أتباعك من حولك وإلا فإنك لو ابتعدت عنهم لحظة واحدة لأحسست بالحزن وليس الحزن إلا لأنك وأنت بعيدة عنهم لا تشعرين أدنى شعور بذاتك لأن هذه الذات خاوية ، ذلك النموذج الإنسانى الموجود في كل عصر وكل زمان ، إن وجوده فارغ ، يجب دائما أن يملأ بالآخرين أما أصحاب الوجود الثرى الغنى فما يغنيهم الناس وكل منهم « عالم على قدمين » أما أصحاب الصورة أولئك الذين حرموا في الحقيقة فإنهم دائما ما يدورون حول أنفسهم .
 
( 806 - 811 ) : إن من يكون قائما بذاته ، ليس كالقشة مدفوعا بكل ريح لا يقر له قرار ، يكون جوهرا ، والجوهر ثابت الخاصية ، أما ما يكون فرعا لهذا الجوهر فإنما يكون عرضا لا بقاء له ولا ثبات ، يكون وجوده معتمدا على وجود العرض إن زال زال ، والباقي بشئ يكون بقاؤه بهذا الشئ ، وزواله بزوال هذا الشئ . فلماذا لا يكون ثباتك بالحي الذي لا يموت وبالباقي الذي لا يزول ؟ ! !
إنك إذا اعتمدت على سلطان فسلطانك هالك ، أو على جاه فجاهك إلى نهاية ، أو على مال فمالك إلى نفاد ، « وكل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون » وأنت في النهاية ابن آدم فيك كل ما في آدم ، فكن عبدا كآدم ، واعترف بالعبودية لله وحده وإياك أن تسأل : أين أنا من آدم . . إنه نبي وأنا مجرد إنسان . .
لا ليس الأمر هكذا ، فإن أقل القليل من الشئ يحتوى على خاصية الكثير جدا ممن هذا الشئ . .
فما الذي يوجد في ماء البحر ولا يوجد في القدر ؟
وما الذي يوجد في الدار غير الذي يوجد في المدينة ؟ !
بل إن العكس هو الصحيح .
إن هذه الدنيا بأجمعها هي القدر والبحر العباب هو قلب الإنسان هو المدينة العجيبة التي تسع الحقيقة الإلهية التي لا تسعها أرض وسماء ؟
فالزم عجائب مدينة القلب ، وسح في هذه المدينة ترى عجبا .
 
« 428 »
 
( 812 - 829 ) : عودة إلى خطاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس ، ها هو يعيد لها أنه يدعوها إلى الإيمان دعوة خالصة لله تعالى ، ولا دعوة تكون مخلصة إلا إذا كانت لله تعالى ، لا لغرض فيها ، ولا لشهوة إلى جمالها ، ولا لطمع في حسنها ، فكل هذه أصنام جاهلية يرتفع عنها المؤمن فما بالك بالنبي الذي هو سليل محطم الأصنام ، الأصنام هي التي تسجد له ، ولو حدث ودخل أحمد عليه السلام وأبو جهل إلى معبد الأصنام لكان هناك اختلاف كبير بين دخول ودخول ، فسوف يسجد أبو جهل للأَصنام
 
بينما تسجد الأصنام كلها لمحمد عليه السلام كما حدث بالفعل ( المولوي 4 / 115 ) وهذه الشهوات التي تسكن جسد الإنسان إنما هي على مثال معبد الأصنام . . يستوى في وجود هذه الشهوات الأنبياء والكفار ، فليس الأنبياء مبرأون من وجود الشهوة ، فهم بشر من خلقه سبحانه وتعالى ، لكن الشهوة تحت سيطرتهم ، فهم كالذهب النضار مهما تعرض للنار يزداد لمعانا ، بينما الكفار كالزيف ، يسود إن تعرض للنار ،
 
فلا تنظر إلى ملوك الدين على أنهم هم الآخرون مخلوقون من الطين ، وقد ركبت فيهم الشهوة ، فقد كانت هذه نظرة إبليس إلى آدم ، لم يكن في نظر سوى مجرد مخلوق من طين ، لم ينظر إلى ما تفوق به عليه أي نبوته وعلمه ،
وهكذا تكون نظرة العوام إلى الأولياء إنهم مجرد بشر وأنهم كلهم سواء ، ولا ينظرون إلى النور الذي اختصوا به لعظيم مجاهداتهم وارتفاعاتهم على بشريتهم ، هيا انهضى يا بلقيس ودعك من هذا الملك كما فعل إبراهيم بن أدهم ،
والخطاب هنا بالطبع لمولانا جلال الدين وليس لسليمان عليه السلام ، على أساس أنه لم يوجد في عالم الأنبياء ما حرم منه عالم الأولياء ، وأن الولاية في أوانها تقوم بما كانت النبوة تقوم به في أوانها وعلى أن المؤمنين كلهم جسد واحد .
 
« 429 »
 
( 835 - 839 ) : بعد أن يقص مولانا جلال الدين قصة توبة إبراهيم بن أدهم كما وردت في كتب الصوفية ، يقول إنه اختفى بعدها ولم يره أحد نعم لقد اختفى كما يختفى الجن عن عيون البشر ، ولكن هذا لا يعنى أنه لم يكن موجودا ، وإنه ليس موجودا إنه اختفى لأن معناه قد خفى على الخلق ، فالناس لا يرون إلا اللحية والخرقة ، وما دام إبراهيم بن أدهم لم يكن يهتم بلحية أو خرقة ، ولما غاب إبراهيم بن أدهم عن نفسه وعن ملكه وعن مظاهر ملوكيته وغاب عن أعين الخلق ، أصبح مشهورا بين الخلق كعنقاء جبل قاف التي لم يرها أحد ، لكنها أكثر شهرة من كل ما يمر به الناس كل يوم ويرونه أمام أعينهم ، إن كل الطيور ( الأولياء ) تهفو عليها وترفوف بأجنحتها شوقا إليها .
 
( 840 - 842 ) : لقد وصلت رسالة مشرق الهداية إلى سبأ ، فأحيت النفوس الميتة ، وأخرجت موتى الجسد من قبورهم ، وأخلت أرواحهم من قبور الأجساد ، أخذ كل منهم يبشر الآخر بأن البشرى قد وصلت من السماء ، هذا النداء يحيى النفوس كما يحيى المطر موات الأرض ويجعل القلوب تورق بأوراق الإيمان وثمار اليقين ، لقد كان هذا النداء من سليمان عليه وسلم كنفح إسرافيل في الصور جعل الموتى جميعا ينهضون من قبورهم . . ولتكن لك أيها المستمع سعادة كتلك التي مست أهل سبأ وأحيت موات قلوبهم ونفوسهم ، وأن تقبل رسالة سليمان عصرك وأونك . .
أي المرشد الشيخ الذي يقوم في أوانه يما كان يقوم به سليمان في أوانه .
 
( 845 - 859 ) : إن سبأ ليست سوى تلك الأرض التي مسها العشق الإلهى فبدلها وأحياها ، ومن ثم فإن مولانا مع عزمه على أن يتم القصة يعود إليها بوجد شديد كما يعود الصبا إلى مزرعة الشقائق ، وعندما يكون مولانا في
 
« 430 »
 
حال الوجد ، فإنه ينطلق بشعر عربى ، لقد التقت الأجساد بأرواحها وها هي أمة العشق الخفي ، لها السقيا دائما ، ولها البقاء فإن من عاش بالعشق لا يموت أبدا ، إن هذا النفس هو الذي رد يعقوب بصيرا وهل هناك من مرشد كامل جدير بأن يوجه رسائل العشق مثل سليمان عليه السلام ، لقد علم عليه السلام بنطق الطير ، وما الطيور التي يتحدث عنها مولانا هنا إلا أنواع من البشر تحدث إلى المؤمن بالجبر أن الجير لا يعنى اسقاط التكاليف ، وحدث كسيرى القلوب عن الصبر ، وحدث من اختار العزلة عن جبل قاف ، وحدث الضعفاء كالحمام بالاحتراز من الحكام الأقوياء حتى لا يجور وا عليهم بمخالب غضبهم وطغيانهم ، واجعل ذلك الخفاش الذي أئتلف بالظلمة وعاش فيها واستسلم لها قرينا قليلا لشئ من النور ، وعلم أولئك الذين يحيون الخصومة ويعيشون عليها مزايا العيش في سلام ، وعلم أولئك المستغفرين بالأسحار علامات الصبح الصادق . .
 
وهكذا فافعل مع كل الطيور من الهدهد إلى العقاب . . خاطب كل طائر بما يليق به ، ودل كل طائر إلى عالم العشق الأزلي بما هو جدير به من لغة ، وبما يفهمه من بيان ، فعالم العشق قابل لكل لون : الضعيف والقوى والمجادل والمسالم ، والظلماني والنوراني إنه عالم اللون الواحد وخاصة إذا عرف الطريق إليه .
 
( 860 - 868 ) : إنك تستطيع أيها الولي أن تخاطب كل إنسان على قدر عقله ، وأن تجد مدخلا إليه مما يهمه ، وأن تدق على الوتر الحساس عنده لكن هناك ممن يكون الله قد ختم على قلبه وعلى سمعه وعلى بصره ، فهو لا يستطيع أن يتقبل الرسالة اللهم إذا أسلم نفسه تماما للوحي وللولي كالميت بين يدي الغسال » ، حينئذ يستطيع أن يرد عليه سمعه وبصره وقلبه . . ثم يعود إلى قصة بلقيس لقد وجدت الرسالة صدى في قلب بلقيس ، فبطل كل ما كان أمامها ، تجلت لها حياتها السابقة بما لا يبعث إلا الندم والخزي ، وتدنت قيمة كل ما في
 
« 431 »
 
حياتها عند قبولها الرسالة ، لا بل أدركت قيمتها الحقيقة ، متاع الدنيا ، ومتاع الدنيا قليل وهكذا يكون العشق الإلهى ، يجعل كل ما تراه في الدنيا غير ذي قيمة وغير ذي موضوع ، وهذه هي قيمته الحقيقية ، وإنما يجليها العشق . .
وهذا هو ارتباط العشق بالحرف الأول من الشهادة « لا » نفى لكل شئ وسلب لكل شئ ، هي غيرة على الحقيقة الإلهية من كل شئ هذه هي الشهادة أيها السيد السند الجدير بهذه الأقوال ، هي التي تبدى لك محبوبك في سواد القدر حتى لو كان قمرا .
 
( 869 - 879 ) : يتجلى اتجاه مولانا جلال الدين الإنسانى في هذه الأبيات حقيقة أن كل إنسان يستطيع إذا قدر له وإذا تيسر له مرشد حاذق ، أن ينظر هذه النظرة إلى كل ما يحبه من أمور الدنيا ، لكن تبقى بعض الأشياء يكون من الصعب على المرء أن يتحمل فراقها أو التخلي عنها ، قد تكون شيئا صغيرا وقد تكون شيئا كبيرا . . وكل أشياء الدنيا صغيرة إلى جوار العشق الإلهى ، ومع ذلك فإن هذا الشئ الصغير يعز على المرء لارتباطه بأشياء معينة أو ربما لطول الألفة ، وهكذا فقد كان العرش عند بلقيس ، ليس العرش كرمز للسلطة ولكن العرش كعمل فنى ، كشىء ، وليس هذا ببعيد ، فإن المرء قد يألف قلما ما ويرتبط به ، لا لشئ إلا أنه مؤنس له ، إنه ليس من جنس الكاتب ، لكن المجانسة قد تحدث بين أشياء غير متجانسة ومتباينة ، إنه الميل ، ألفة القلب ، تعود العين ، طول العشرة .
 
( 880 - 896 ) : وها هو سليمان عليه السلام ، فهم كنه هذه العلاقة بين بلقيس والعرش ، وقدرها بسليقته النبوية ، وأدرك أنه بالرغم من أن الحقيقة الإلهية ، والعشق الإلهى ، سوف تقضى على كل شئ عندها حتى العرش بعد
 
« 432 »
 
فترة وجيزة من الزمان ، فإن إطلالة واحدة من الروح تقضى على كل تعلقات البدن تماما كما يجعل الدر المستخرج من قعر البحر الزبد والقذى حقيرين ، ولا قيمة لهما ، إن محبة الدنيا أشبه بذنب العقرب ، فذنب العقرب يختفى في الشمس ، تماما كما تختفى محبة الدنيا عندما تطل شمس الحقيقة . كل هذا حقيقي وكان سليمان عليه السلام يعرف حق المعرفة ، لكنه كان يعرف أيضا الضعف الإنسانى ، وأن ثمة وارد دنيوي واحد ، قد يؤخر الوصول إلى الحقيقة ، وقد يشوش فكر المريد ، ويعطل جمع خاطره ، وكان يريد أن يقدم للمريد العنيد درسا ، إنه يستطع أن يلبى له احتياجاته الدنيوية أيضا في حدود المشروع مهما بدت مستحيلة ،
فهو يريد أن يكون العرش إلى جوارها لتتذكر بها أيام ضلالها القديم ، وترى قدر نعمة الله عليها ، تماما كما كان إياز مملوك السلطان محمود الغزنوي المفصل يحتفظ بملابسه أيام الفقر في كوة مختفية بجناحه في قصر السلطان ،
وكان يخرجها كل يوم ليتذكر أيام فقره وبؤسه ، حتى يعلم أين كان وإلى أين وصل ( وردت القصة بالتفصيل في الكتاب الخامس أبيات 1857 وما بعدها ) .
فلتعلم بلقيس أيضا في أي ابتلاء كانت ، وإلى أين وصلت بعد أن تداركتها رحمة الله . . وهكذا أنت أيضا أيها الإنسان . .
 لم فخرك وقد كنت نطفة من منى يمنى ثم علقه ، ثم مضغة « ما لابن آدم وللفخر أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة »
أو كما قال تعالى في سورة المؤمنين » «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» ( المؤمنون : 14 ) .
 
وهكذا أنت أيها الإنسان : ألم تكن عاشقا لحالة كونك مضغة وعلقة ألم تكن تظن أنه لا حياة خارج هذا المضيق المسمى بالرحم ، ولا طعام سوى هذا الدم .
( انظر تفصيلات هذه الفكرة في الكتاب الثالث شروح أبيات 50 - 62 ) فلماذا لا
 
« 433 »
 
تؤمن أيضا بأن وراء نعيم الدنيا نعيما آخر ، وفوق أعظم لذاتها لذة أخرى لا تقل . . ولا تفنى ! ! لقد كنت تنكر الوصول إلى المرتبة الإنسانية ،
فلماذا بعد أن وصلت إليها تنكر ما بعدها وتجحده ؟ !
لماذا تظنها نهاية المطاف ؟ !
لماذا تنكر هذا على قدرة من صور من تراب بشرا سويا . .
نعم كنت تنكر أنذاك إذا لم يكن لك قلب أو روح ؟ ؟ ومجرد تحويلك من مرحلة الجمادية إلى مرحلة الحيوانية حشر في ذاته فلماذا الحشر بعد مرحلة الإنسانية ، ( للمراحل وتفصيلاتها انظر الكتاب الثالث شروح أبيات 3901 - 3906 ) .
 
( 898 - 902 ) : ما أشبهك وأنت تنكر الحشر بذلك الذي يدق عليه أحد بابه ، فيجيبه بصوته إنه ليس موجودا ، كيف وجوابه في حد ذاته هو الدليل على وجوده ، وهكذا فوجودك نفسه دليل على صدق ما تنكر ، وعلى أن الله يجعل الحي جمادا ومن الجماد حياة ، وهكذا في حشر متوال . .
لقد خلق أباك من تراب وأخرجك بواسطته ثم تنكر الحشر « وما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» وكم من الصنائع الإلهية قد جرت على الإنسان أيها المنكر . .
وإن كنت لا تزال تنكر فأقرأ «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» ( الإنسان : 1 / 2 )
وهكذا الإنسان المخلوق من الماء والطين ينكر كالمغفل ، يخبر عن عدم وجود ذاته وهو داخل الدار ، فكيف تنكر وأنت نفسك الدليل على ما تنكره ، وإنكاره هنا هو عين إقراره ، إنني أشرح هذه الفكرة بمائة طريق ، وأدق عليها كثيرا ، فهي بداية الأمر ، ورأس الجهاد . .
لكنه أين الخاطر المتقيظ الذكي الذي يتقبل هذه المعاني ولا ينزلق منها ، ولا تنزلق هي أيضا على وجوده ولا تستقر أو تثبت .
 
« 434 »
 
( 903 - 907 ) : يناقش هنا الفرق بين السحر والنفخة الإلهية أو القدرة الإلهية فذلك العفريت الذي قال لسيدنا سليمان «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَهذا » ( النمل : 39 ) يعتمد على السحر ، أما آصف بن برخيا وهو الذي تتفق التفاسير على أنه المقصود بالذي عنده علم من الكتاب «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» إن النفس المبارك المقتبس من الولي أو المرشد أقوى في فعله من السحر ، وما حدث هذا إلى لكي يعلم الجن أن النفس الرحماني الذي يستطيع سليمان عليه السلام أن يمنحه للبشر القابلين أقوى من قوة الجن وقوة السحر ( محى الدين بن عربى فصوص الحكم ص 46 ) .
 
( 908 - 914 ) : ها هو سليمان عليه السلام يخاطب عرش بلقيس بأنه مجرد شجرة منقوشة ، وكم خدعت هذه النقوش كثيرا من البشر فسجدوا إليها والساجد والمسجود كلاهما لا علم لهما بالروح ، كلاهما في مرحلة الجمادية ، لأن من يدعى أنه ذو روح ومع ذلك لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة بتلك الروح ، فكأن لا فرق بينه وبين الجماد ، والعضو الذي لا يعمل كأنه غير موجود ،
يضعف ويضعف ويضعف حتى يتلاشى ، ومن هنا تسمع عن من ماتت أرواحهم وأصبحت الدنيا كل همهم ومبلغ علمهم سخرية ممن يتحدثون عن الروح ، وهكذا فإن الكفرة عندما رأوا أثرا قليلا وحركة قليلة من الحجر خروا لها ساجدين ،
 وألم تكن ناقة صالح من الحجارة وعجل السامري من الذهب لمجرد أثر من الروح سجدوا لها فما بالك بالروح ( سبزوارى 4 / 282 )
 
( سيرد هذا في القصة التالية ) ، وهكذا فإنهم أبدوا خدمتهم بالعكس ، فبدلا من أن تسجد الأصنام لهم . وربما كان وهما ، فإن الإنسان عندما يوجه عشقه واهتمامه إلى أي شئ حتى وإن كان حجرا ، ويقف في مواجهته مناجيا ، ويخيل إليه ويتوهم أن
 
« 435 »
 
هذا الحجر إنما يجيبه ويتوجه إليه بالحديث ، والصوفية أنفسهم يرون أن كل موجودات الكون تتحدث إليهم بكل لسان ( جعفري 10 / 55 - 56 ) كما سجدت الأصنام عندما سمعت أسم النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدوا هم لها ، لقد ظن الأشقياء أسد الحجارة أسدا حقيقية ، والأسد الحقيقي لأنه أسد حقيقي لا يزال يلقى بالعظام أمام هؤلاء الكلاب ، أجل فإن هذه العظام لا تساوى عنده شيئا حتى يجعلها لمن يحبونه فقط ولمن يعترفون به فحسب ، ولو كانت الدنيا تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، فإياك أن تظن أن الدنيا تعطى لمن رضي الله عنه فحسب ، إنما يؤخرهم ويملى لهم ويمد لهم في طغيانهم ، حتى إذا أخذهم كان أخذه عزيزا ، إن العطاء عنده لطف عام لا يفرق بين أحد خاصة تلك الدنيا التي يظنها أهلها ذات شأن وهي مجرد ( عظام ) عنده سبحانه وتعالى .
 
( 915 - 964 ) : الإنسان يسجد للصنم لكن الصنم يسجد لخير البشر - محمد صلى الله عليه وسلم - بل يسجد لمجرد أن يسمع اسمه ، وهذا هو مولانا يفتتح الحكاية بقوله : إنه يقص حكاية عن حليمة ليذهب عن المستمع حزنا قد ألم به ، أي حزن ؟ !
إن المريد الذي يتميز بشفافية الباطن إنما يحس بالحزن عندما يرد ذكر الدنيا والتكالب عليها تكالب الكلاب حول الجيفة ، ومع ذلك فإنه عندما ينأى بنفسه عنها ، ينظر إليه هؤلاء باحتقار . .
أو أن يكون الحزن قد ألم بالمريد شوقا إلى هذا العالم الذي يتوق إليه . . وما أحراه أن يتعزى عندما يستمع إلى رواية من روايات معجزات خاتم الأنبياء والمرسلين ، والرواية واردة بتفصيل لا بأس به في دلائل النبوة للبيهقي
( ج - 1 ص 142 - 144 وطبقات ابن سعد ج 1 ص 70 وفي تفسير أبى الفتوح الرازي ج 5 / ص 546 - ص 547 انظر مآخذ
 
« 436 »
 
135 / 137 ) وفي الروايات أن حليمة السعدية رضي الله عنها تركت محمدا عليه السلام لبعض أمورها فعادت ولم تجده ، لكن مولانا بمذاقه الصوفي ، ولكن يذهب الحزن عن المريدين بمدحه للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، يروى أن حليمة سمعت وهي في الحطيم من يتغنى بمدح المصطفى عليه السلام ، لقد سطعت عليك أيها الحطيم اليوم شمس شديدة العظمة . . لقد صرت اليوم منزلا للأرواح . .
تأتيك أرواح الأنبياء والأولياء في موسم الحج ومواسم العمرة ، مليئة بالشوق ومفعمة بالعشق زمن العشق الإلهى على الأرض ، لقد أخذت حليمة رضي الله عنها تبحث عن مصدر الصوت فلما عادت لم تجد ربيبها في مكانه
ولأن هذه الأبيات تتفق أكثر مع رواية البيهقي دون تغيير يذكر نذكرها هنا « فقال الناس : رديه يا حليمة على جده عبد المطلب وأخرجيه من أمانتك قالت فعزمت على ذلك فسمعت مناديا ينادى هنيئا لك يا بطحاء مكة اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والكمال ، فقد أمنت أن تخذلين أو تحزنين أبدا الآبدين ودهر الداهرين فقالت : فركبت أنا ناقتي وحملت النبي بين يدي ، أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة ، فوضعته لأقضى حاجة وأصلح شأني فسمعت هدة شديدة فألتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبى ؟
قالوا أي الصبيان ؟ قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، وأشبع جوعتى ، ربيته حتى إذا أدركت به سروري وأملى وأتيت به أرده وأخرج من أمانتي ، فاختلس من يدي من غير أن تمس قدميه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق الجبل ،
ولأتقطعن إربا إربا ، فقال الناس : إنا لنراك غائبة من الركبان ، ما معك محمد قالت الساعة كان بين أيديكم قالوا : ما رأينا شيئا ، فلما آيسونى وضعت يدي على رأسي فقلت :
 
« 437 »
 
وا محمداه ، واوالداه ! !
أبكيت الجواري الأبكار لبكائى وضح الناس معي بالبكاء حرقة لي ، فإذا أنا بشيخ كالفانى يرى متوكئا على عكاز له ، قالت : فقال : مالي أراك أيتها السعدية تبكين وتضجين قالت فقلت فقدت ابني محمدا . قال لا تبكى ، أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء أن يرده عليك فعل ؟ !
قالت : قلت دلني عليه ، قال الصنم الأعظم : قالت : ثكلتك أمك كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها محمد ؟
قال : إنك لتهذين ولا تدرين ماذا تقولين أنا أدخل عليه وأسأله أن يرده عليك قالت حليمة : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل سبعا وقبل رأسه ونادى يا سيداه ، لم تزل منعما على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن محمدا قد ضل قال فانكب هبل على وجهه ، فتساقطت الأصنام بعضها على بعض ، ونطقت - أو نطق منها - وقالت إليك عنا أيها الشيخ ، إنما هلاكنا على يدي محمد قالت : فأقبل الشيخ لأسنانه اصطكاك ولركبتيه ارتعاد ، وقد ألقى عكازه من يده وهو يبكى ويقول : يا حليمة لا تبكى فإن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل .
قالت فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدت قصده فلما نظر إلى قال : أسعد نزل بك أن نحوس ؟
قالت : قلت نعم ، بل نحس الأكبر ، ففهمها منى وقال : لعل ابنك قد ضل منك قالت : قلت نعم ، بعض قريش اغتاله فقتله ، فسل عبد المطلب سيفه وغضب ، وكان إذا غضب لم يثبت له أحد من شدة غضبه ، فنادى بأعلى صوته : يا يسيل وكانت دعوتهم في الجاهلية ، فأجابته قريش بأجمعها ،
فقالت : ما خطبك يا أبا الحارث ؟
فقال فقد ابني محمد ، فقالت قريش : اركب نركب معك فإن سبقت خيلا سبقنا معك ، وإن خضت بحرا خضنا معك قال : فركب ، وركبت معه قريش ، فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلما أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح بثوب وارتدى بآخر وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا ثم أنشأ يقول :
 
« 438 »
 
يا رب إن محمدا لم يوجد * فجميع قومي كلهم مترددفسمعنا مناديا ينادى في جو الهواء : معاشر القوم ، لا تصيحوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه فقال عبد المطلب : يا أيها الهاتف من لنا به : قالوا :
بوادي تهامة عند شجرة اليمنى ، فأقبل عبد المطلب فلما صار في بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل ، فصاروا جميعا فبيناهم كذلك إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم - قائم تحت شجرة يجذب أغصانها يعبث بالورق فقال عبد المطلب :
من أنت يا غلام ؟ قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قال عبد المطلب فدتك نفسي ، وأنا جدك عبد المطلب ثم احتمله وعانقه ولثمه وضمه إلى صدره وجعل يبكى ، ثم حمله على قربوس سرجه ، ورده إلى مكة فاطمأنت قريش ، فلما أطمأن الناس ذبح الشاة والبقر ، وجعل طعاما وأطعم أهل مكة .
 
( 970 ) فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون بُهْما لنا حول بيوتنا ، فلما انتصف النهار إذا أنا بابنى « ضمرة » يعدو فزعا وجبينه يرشح قد علاه البهر باكيا ينادى : يا أبت ، يا أبه ، ويا أمه ، الحقا أخي محمدا فما تلحقاه إلا ميتا ، قلت : وما قصته ؟
قال : بينما نحن قيام نترامى ونلعب إذ أتاه أتاه رجل فاختطفه من أوسطنا ، وعلا به ذروة الجبل - ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ، ولا أدرى ما فعل به ، ولا أظنكما تلحقا به إلا ميتا قالت فأقبلت أنا وأبوه - تعنى زوجها - نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يبتسم ويضحك فأكببت عليه ، وقبلت بين عينيه وقلت فدتك نفسي ، ما الذي دهاك ؟
خيرا يا أماه ، بينما أنا الساعة قائم على إخوتي إذا أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة وفي يد الثاني طستين من زمردة خضراء ملؤها ثلج ، فأخذوني فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل ، فأضجعونى على الجبل إضجاعا لطيفا ثم شق صدري إلى عانتى ، وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما ، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ، ثم أعادها


« 439 »
 
وقام الثاني فقال للأول تنح ، فقد أنجزت ما أمرك الله به ، فدنا منى فأدخل يده في جوفي ، فانتزع قلبي وشقه فأخرج منه نكتة سوداء مملوءة بالدم ، فرمى بها فقال هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله ، ثم حشاه بشئ كان معه ورده مكانه ، ثم ختمه بخاتم من نور فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلى ، وقام الثالث فقال : تنحيا فقد أنجزتما ما أمر الله فيه ثم دنا الثالث منى فأمر يده ما بين فوق صدري إلى منتهى عانتى فقال الملك زنوه بعشرة من أمته ، فوزنونى فرجحتهم ثم قال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم ، ثم أخذ بيدي فأنهضنى إنهاضا لطيفا فأكبوا على وقبلوا رأسي مما بين عيني ، وقالوا : يا حبيب الله إنك لن تراع ولو تدرى ما يراه بك من الخير لقرت عيناك ، وتركوني قاعدا في مكاني هذا ، ثم جعلوا يطيرون حتى دخلوا حيال السماء وأنا أنظر إليهما ، ولو شئت لأريتك موضع دخولهما . ( البيهقي 1 / 140 - 141 ) .
 
( 996 - 1016 ) هناك إضافات لمولانا على الرواية المذكورة في المصادر الأصلية العربية فها هو النداء يأتي من داخل الكعبة بمديح للمصطفى صلى الله عليه وسلم يحتوى على أغلب ما تراه الصوفية فيه عليه السلام ،
إن النداء الإلهى يصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه محفوظ من قبل الله تعالى بإقباله وبأفواج من الملائكة ، وهو صلى الله عليه وسلم - ذو ظاهر مشهود أمام العالم هو ظاهره البشرى فهو عليه السلام بشر يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ويجلس على الأرض ولا يميز بشكل أو إشارة عن أحد من أصحابه ، لكن ما يحتويه باطنه من عجائب لا يستطيع أحد أن يدركها فلا يستطيع أحد أن يوفيه حقه من المدح ،
إنه ذهبنا إلابريز وهذا الجسد الإنسانى بالنسبة لنا كالذهب ، نجعله حينا تاجا على الرأس من علوه وعظم مقامه ، وحينا أخر نجعله خلخالا في القدم ، حينا نعز به فنجعله حمائل سيف ، وحينا نذل من دونه
 
« 440 »
 
فنجعله طوق أسد ، حينا نجعله زينة للدنيا ، وأحيانا نجعل منه وسيلة للتقرب إلى الله تعالى ، هذا بالنسبة للإنسان العادي فما بالك الإنسان الذي هو محبوب لدينا والذي نحس بالحب نحوه ، نعم فإنه متصف بالرضا والتواضع ، ومن هنا فنحن نجعل منه ملكا ، ونجعل منه عاشقا لنا مدلها في حبنا طائراً في ملكنا ،
وهو التراب ( الإنسان ) هو المخصوص بالعشق هو المخصوص بالجدل ، وهو المخصوص بالخلافة ، وهو الذي تواضع فرفع ، وهو وإن كان من التراب ظاهراً ، إلا أن باطنه ملئ بالنور ،
ولا يزال طينه ونوره في حرب وفي قتال يظن جسده أنه هو ، فيقول باطنه ، حسبك وأنظر أمامك وخلفك إلى الأجساد التي ذهبت وإلى الأجساد التي تأتى ، كلاهما ينكر الآخر الظاهر ينكر الباطن والباطن ينكر الظاهر ، لكن بالرغم من هذا الظاهر العبوس ، هناك الباطن الملئ بالسرور والضحكات ،
ونحن كاشفو الأسرار نستطيع أن نخرج ما يخبؤه هذا التراب ( الإنسان ) من معجزات : معجزات في الفنون والآداب والفكر ، معجزات في التفوق على متطلبات الجسد والسمو عنها . أتدري بماذا ؟ ؟
بأن يتعرض لقدر من الابتلاء وقدر من الألم ، ومن ثم فإن الألم هو الذي يستطيع أن ينسى الإنسان هذا الجسد ، ويجعله يتنحى ليفسح للباطن ، والفكر بأن يخرج ما عنده ، وكان مولانا جلال الدين يرى أن الطريق إلى المعجزات الإنسانية إنما يتبع في البداية من معاناة الألم والمشقة ،
إن هذه الأنواع من التراب قد أبدت من جراء حبنا وتكريمنا وتسخيرنا كل شئ لها كثيرا من أنواع الفضل والعلم ، وما هذه الفضائل والعلوم إلا من قبل الإقرار بالفضل الإلهى والعطايا الربانية ، فالإبتلاء من الله تعالى لاستخراج جواهر الأخلاق الإنسانية من معادنها كما قال مولانا نجم الدين كبرى ،
وكما ورد في قوله تعالى : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ( سورة الكهف : 7 ) .
 
« 441 »
 
( 1017 - 1029 ) إذا كانت هذه هي أنواع الفضل التي خصصنا بها البشر ، فما بالك بما خصصنا به صفوة البشر وسيد الخلق أجمعين ، لقد زاد على كل أولاد آدم ، زدته من محبتي وزدته من فضلى ، لقد ظهر من السماء والأرض ( الأب والأم )
مواليد كثيرة ، لكنهما لم يسعدا بأحد منها قدر سعادتهما بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إن السماء لتتفتح والأرض تمتلئ بالأزهار والرياحين . . ثم يعود مولانا جلال الدين فيتحدث عن الإنسان عموما ، ذلك المخلوق العجيب الذي يحتوى على كل المتناقضات ، فظاهره مع باطنه في نزاع ، وما هذا النزاع إلا من أجل أن يصل إلى الحق ، وأن يحقق مصداقية النفخة الإلهية ،
إنه يقاتل ما ركب في طبيعته من شهوات ونزوات
ومطالب جسدية وهي ما رمز إليها مولانا جلال الدين بالألوان ، إنه ظلمة ونور ، ومن كان نوره وظلمته معا في قتال فإن شمس روحه لا تغرب أبداً لأن الله سبحانه وتعالى يمدها بالنور الذي به يستطيع أن تهزم الظلمة ،
إن كل من يعاني المحن في سبيل هذا الجهاد ، يجعل الله من السماء تحت قدميه حتى يصل إلى سدرة المنتهى
وهكذا أنت يا أبن آدم مهما كنت فقيرا مسكينا متضرعا من ناحية الجسد ، فإن عالم الروح وأصلك ملك واسع ورياض متفتحة مفعمة بالسرور الروحاني لقربك من الحق ،
وما هذا الوجه العبوس إلا هبة من الله تعالى حتى لا يقترب منك كل من يريد أن يشغلك عن هذا النور داخلك ، المشايخ كالقنافذ داخل أشواكهم حتى لا يتجرأ كل عامي عليهم ويشوش أوقاتهم ،
إنهم كالحدائق التي تخفى خلف الأسوار الشركية التي تبعد اللصوص وأولئك الذين يتميزون بالجمال الظاهري والقبح الباطني الذين يقللون من كل سرور إلهي ومن كل رضا .
 
( 1035 - 1040 ) : روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام يسبح ذلك النور
 
« 442 »
 
وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه فقال :
عليه السلام : فأهبطنى الله الأرض في صلب آدم وجعلني في صلب نوح وقذف بي في صلب إبراهيم عليه السلام ولم يزل الله ينقلنى من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني من أبوى لم يلتقيا على سفاح قط . . .
وهذه الأنساب في حد ذاتها مجرد دريئة ، فإن الغرض من إيجاد كل من سبقوه في عالم الحس هو ظهوره عليه السلام فهو زبدة الكائنات وخلافة الموجودات وعزة آبائه إنما كانت بسببه ، وما كان فراره تحت الشجرة إلا ليستقبله أشراف قريش ويشهد عنه ذلك ما رواه على عن وائلة أنه عليه السلام قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفانى من بني هاشم ( مولوى 4 / 141 ) .
وأي حاجة بها صلى الله عليه وسلم إلى النسب ، وهو أطهر وأصدق وأشرف من كل نسب وروحه هي أول روح خلقت فهو أبو الأرواح لم تولد روحه من أحد كي ينتسب إليه ، ونور الحق لا يمكن أن ينتسب إلى نسب ، ولا يبحث إنسان له عن أصل ، وخلقة الله سبحانه وتعالى إلى نسب في حاجة إلى مادة نسيج وإلى خيوط ، وإن كل من طلعت عليه من هذه الخليقة فإنها تجعله فوق شمس السماء ، فما بالك بروح رسول الله وخير خلقه ؟ ؟
 
( 1041 - 1044 ) الخطاب موجه إلى بلقيس أو النفس الأمارة بالسوء التي تجعل الإنسان الأمير ابن الخليفة يقنع بالأسمال ، عودي يا بلقيس النفس إلى الملك الباقي ، فإنك إن وصلت إلى ساحل البحر الإلهى ولم تقومى بالخوض فيه فلن يكون لك نصيب من الدر الذي تلقيه أمواج بحر الحقيقة على الساحل أليس هؤلاء المريدون الذين لم يخوضوا بعد في بحر الحقيقة يتلقون الدر من الشيخ ؟
 
هيَّا فإن إخوانك اللائي امن قبلك يسكن الجنان . .
فكيف تمارسين أنت السلطة على جيفة طلابها كلاب هيا فإخوانك من النفوس التي آمنت سواء كانوا
 
« 443 »
 
ذكرانا أو إناثا لا تعلمين ما يخفى لهم من قرة أعين . . . فكيف أخذت تقرعين الطبول مفاخرة بسلطنة تنتهى وملك يبلى على هذه المزبلة ومستوقد الحمام المسمى بالدنيا ؟ !
 
( 1045 - 1064 ) مر شرح الآية الكريمة في الكتاب الثالث في شرح حكاية الدقوقى ، والحكاية نفسها وردت في الكتاب الثاني
( أنظر الأبيات 2362 - 2369 من الكتاب الثاني ) والكلب الذي يهاجم العميان في الحي وفي الطريق رمز لأولئك الذين يستخدمون قواهم الكلبية وتكالبهم على الدنيا لإيذاء الناس واستضعاف الخلق بينما هناك من هم من جنسهم ويتشابهون معهم في الخلقة لكنهم عرفوا لأنفسهم قدرها وأهموها بما هو جدير بها فكأنهم يصيدون حمر الوحش في الجبال ولا يتجرأون على العميان في الطرقات –
 
ثم يخاطب مولانا هذا النوع من المخلوقات : دعك من هذا الاحتيال أيها الشيخ ، ، إن من تحسبهم مريديك قد اجتمعوا حولك هم في الحقيقة جماعة من عميان القلب ظنوا ماءك المالح الذي يزيدهم عطشا ماء إنك أشبه بمن يقول : هؤلاء هم المريدون لي يجلسون حولى يشربون منى ويتحولون جميعا إلى عميان . .
 
وكم من الشيوخ من أمثال هذا الشيخ يوجدون في الدنيا ووجدوا فيها وسيظل هذا النموذج من البشر موجودا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ترى أحدهم في كسوة أهل العلم ، يحمل أعلى الألقاب العلمية ، شاخ في عمره لا في عقله ، تجمع حوله جمع من المخدوعين فيقودهم إلى سراب .
هؤلاء الذين ليس لهم من المشيخة أو الأستاذية إلا هيأتها الظاهرة ، هؤلاء يفرخون جهلا لا علما ، ويقودون إلى الضلال والنار حتى من كان منهم ذرب اللسان يلوك بعض المقولات ذات الألفاظ الطنانة والرنانة ، هؤلاء هم شيوخ السوء الذين لم يأخذوا العلم من لدن الحكيم الخبير ، وأخذوا علمهم من ميت عن ميت ، ،
إن أشباه هؤلاء الشيوخ كلاب الحارة يصيدون العميان ، بينما أسد الله في الجبال يصيد
 
« 444 »
 
الوحوش إنهم يثملون بصيدهم ، إنهم أسد تصيدا أسدا . . لقد تركوا الصيد وفنوا في عشق الحبيب ، إن هذا العشق هو الشبكة التي يصيدون فرائسهم القوية بها ، إنهم أشبه بالطيور الميتة التي يضعها الصياد في موقع الفخ فتنزل عليها الطيور من الجو ، وهذا الطير الفاني مضطر لا اختيار له ، إنه بين يدي الشيخ كالميت بيد يدي الغسال ترك قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء بين صفتي جماله وجلاله وقهره ولطفه ( مولوى 4 / 144 )
فإياك أن تعتبره طائرا ميتا وتشيح بالوجه عنه فإن هذا الطائر الميت هو قائدك إلى الحي الذي لا يموت ، إنه ليس ميتا وليس ميتة ، فمن مات بالعشق لم يمت أبدا . . .
إنه متحرك بالله حي به منتعش بأنفاسه هذه هي الحركة الخالدة الباقية الصحيحة . .
هذا الضعف البادى قوة هائلة جبارة تستطيع أن تقضى على العنقاء إن أبدت أي إعوجاج في الطريق . . إنه يخاطبك قائلا : لست بالميت إنني في كف المليك تحركنى أصبعاه ، وإنما يدرك هذا من كان حيا بالفعل ومن كان عبدا لله لا عبدا لسواه من طواغيت الأرض .
 
( 1065 - 1069 ) ما دام الحديث عن العشق فلا بد لجلال الدين أن ينطلق ( عن العشق أيضا انظر الكتاب الثالث شروح الأبيات 3830
وما بعدها وخاصة الواردة في قصة وكيل صدر جهان ) إن كرم الله سبحانه وتعالى على عيسى معجزة إحياء الميت ، لكني في كف خالق عيسى هذا الكف هو الذي يحركنى فقد فنيت عشقا فيه وسلبت منى كل إرادة ، فإذا كانت كف عيسى قد أحيت الميت ، فكيف أكون أنا ميتا في كف من وهب عيسى هذا المعجزة ، إنني أنا أيضا عيسى لكن ذلك الذي أحييه لا يموت بعدها أبدا ، لقد أحيا عيسى أحدهم ، لكن هذا الذي أحياه عيسى عليه السلام مات ثانية وما أسعده ذلك الذي أحياه نفس العشق وسلم روحه وقلبه للمولى وحيا به ولقى مرتبة البقاء بعد الفناء ( أنظر مقدمة الكتاب الثالث ) إن الفاني في الله في أي مرتبة يكون الة في يد الحق ،
 
« 445 »
 
كالعصا في يد موسى وإن كان موسى لا يظهر لكنني أنا الظاهر ، نعم أنا بالنسبة للمؤمنين جسر على البحر لكني بالنسبة لفرعون عقاب . . إياك أن تعتبر أن عصا موسى عصا وحيدة انتهى أمرها ، فما دام الذي كان يحرك العصا موجودا وحيا وباقيا فإن عصيه كثيرة ، وإن لم تكن في صورة عصى ألم تكن له معجزات أخرى فعلت فعل العصى في حين أنها لم تكن عصى إن طوفان نوح من قبيل العصا . . إن عصى الله لا حصر لها ولا عدد لها ، ولو أنشئت في أي صور يجلى الله سبحانه وتعالى معجزاته ، لعلم أولئك المتظاهرون بالتقوى والصلاح والمحتالون على الخلق من أين يأتيهم العذاب وفي أية صورة سوف يفضحهم الله سبحانه وتعالى ولكن دعك منهم إنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام من هذه الأعشاب المسمومة وذلك الرزق المخلوط بخوف الموت وخوف الفناء والنار مثوى لهم .
 
( 1070 - 1079 ) إن أمثال هؤلاء الناس لازمون للدنيا تماما ، هذا هو دفع الناس بعضهم ببعض الذي لولاه لفسدت الأرض هؤلاء لازمون لحركة الدنيا ولرواج هذا السوق ، كما أنهم أيضا لازمون للآخرة ، فكيف يبدو الصالح إن لم يكن الطالح ، إن لم يوجد الطغاة فلماذا خلق جهنم ومن أين تجد قوتها ؟
دع هذا الفرعون يزداد سمنة ودع من حوله ينفخون فيه كما تنفخ الدابة المذبوحة حتى تسلخ ، فإن كلاب جهنم في انتظار لحمه ، لقد خلق الله الجنة والنار ، . .
فمن أين تجد النار قوتها إن لم يوجد غضب ، إن لم يوجد الغضب لأطفأتها تلك الرحمة التي تسبق الغضب دائما ، إذن لكان هناك لطف فحسب دون قهر فمن أين إذن تتم للمليك صفاته ومن أخص سماتها أن تكون متقابلة . .
قد خلق الكون كما خلق الإنسان تماما في أحسن تقويم ، وما هذا التقويم الحسن إلا تعايش هذا المتضادات داخل الإنسان وداخل الكون وتصارعها في نوع من التناسق الرباني الذي لولاه لما كان لهذه الحياة طعم أو غاية .

« 446 »
 
( 1080 - 1088 ) فإذا أنكر عليك أحدهم ما أنت فيه ، وإذا سخر أحدهم من الطريق الذي اخترته . .
فدعه يسخر فلطالما سخر المنكرون من الذاكرين ، وطالما سخر الكفار من المؤمنين «وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» صاروا مادة للضحك والسخرية في بيوت المنكرين ،
فسوف يعلم يوم أن تنتهى حياته الدنيا أنه كان في ضلال مبين .
أما أنتم أيها المحبون فلتقيموا على هذا الباب الذي فتح لكم اليوم . . فحقيقة أنكم تعيشون مع هؤلاء المنكرين في الدنيا ، لكن ما أشبهكم بتلك الزروع والنباتات الموجودة في البستان لكن لكل منها حوضا خاصا بها ،
ولا يمكن أن تزرع نباتا في حوض مخصوص بنبات آخر ، كل نبات يروى مع جنسه ، وكذا الإنسان في بستان الحقيقة يرويه خالقه ، خلقه على أصناف وأنواع منه العاشق ومنه المنكر وكلهم يسقون بماء القدرة والحكمة
«وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ» ( الرعد : 4 )
 
فإذا كنت في حوض الطيبين الأطهار كن طاهرا طيبا ، رب نفسك على الطهر والطيبة حتى تصل إلى المقصود من خلقك في أحسن تقويم إلى الهدف من خلقك وهو العودة إلى الجنة والوصول إلى الملأ الأعلى ،
لا تختلط بالأوباش والعوام والكلاب التي تجمعت حول جيفة الدنيا ، وأنا بنفسك عنهم حتى لا تأخذ منهم عدوى الحماقة والانحطاط فالصحبة مؤثرة والطبيعة سارقة ، أنت مودع في مكان وهو مودع في آخر ، فاهجرهم مليا ،
وأرض الله واسعة وما هذه الأرض الواسعة التي توصف بأنها أرض الله إلا قلب العارف :
أصل أرض الله هي قلب العارف .
وهي في اللامكان ولا عال فيها ولا سافل .
ولا حد لريعها ولا حصر فأقل حبة تغل فيها سبعمائة حبة .
 
« 447 »
 
( 1089 - 1094 ) هذه الأرض التي قال الله عنها سبحانه وتعالى أنها واسعة ذرة في محيط كونه ، إنها واسعة لك إذا كنت مخلوقا أرضيا ، فما بالك إذا جالست أولياء الله ، وخرجت عن ريقة الجسد ، وصرت مخلوقا كونيا ، تخيل إذن تلك العوالم الواسعة التي سوف تفتح أمامك إذا دخلت عالم الحقيقة ، وما هذا العالم الذي نعيش فيه ونراه واسعا إلا مجرد صورة مصغرة له فأرض الحقيقة يتوه فيها الشيطان والجنى ، تتقطع في جبالها وصحاريها الأوهام والخيالات ، وما هذه الصحارى الشاسعة التي تراها هنا إلا كقطرة في بحر بالنسبة إلى صحارى عالم الحقيقة وفيافيه ، بل إن ماءها الراكد لأكثر حركة من أنهار هذا العالم الجارية إنه يجرى من داخله هو ، حياته وجريانه تلقائيان وما هذا الماء الراكد الباطني إلا ماء الفكر . . فهل جربت أن تجلس متأملا في أفكارك ، تترك لهذه الأفكار العنان ، فكرة وراء فكرة ، وفكرة تبث فكرة إلى ما لا نهاية . .
 
ألم تلاحظ أنها أكثر حياة من موج البحر ؟ ! تصور إذن أن هذا السير الباطني يكون على يد مرشد يهديك إلى عالم الحقيقة بصحاريه وفيافيه وجباله ووديانه ، تسير بالروح خارج الجسد تخيل هذا السير والسفر الساري في عوالم الكون .
ألن يكون بالتأكيد أكثر انطلاقا وخفة وأبعد أثرا وأكثر ثمرا من السير في عالم الدنيا ؟ ! ما هذا ؟ !
كأني بك أيها المريد قد تركت لنفسك العنان وحدك وسبحت في هذه العوالم . . ومن يدرى . . لعلى لا أستطيع أن آخذ بيدك منها . . فإنك تبدو كالنائم . .
وعلى أن أقصر هذا الخطاب . . . ما دام المستمع لا يملك يقظة تمكنه من أن يتابع هذه الإفاضات التي لا جدوى منها بالنسبة للمريد وكأنها نقش على ماء .
 
( 1095 - 1109 ) عودة إلى خطاب بلقيس أو تلك النفس التي تعرض عليها الهداية . وتكون قريبة منها ، وهي تتعلل بعرض من هذا الأدنى هيا يا بلقيس والحقي بالكسب ، فإن رواج سوق الدنيا كساد ، ونفعها خسارة وضرر ، هيا
 
« 448 »
 
أيتها النفس ولك الخيار من قبل أن يأخذ الموت بخناقك ، ويكون من وراءك برزخ إلى يوم يبعثون . .
هيَّا كفاك انغماسا في السرقات التافهة كذاك الذي يسرق سنابك الحمر ، هيا تعالى واظفرى بالياقوت وإذا سرقت فاسرقى الدرة ، أي ملك هذا الذي تتشبثين به ؟ !
أملك البؤس والظلم ، أملك إلى خراب ؟ تعالى إلى الملك الحقيقي ملك أولياء الدين ذلك الذي لا يساوى ملك الدنيا إلى جواره ذرة من تراب ، إنه بظهر الباطن في رياض من السرور والسعادة بينما يكون في الظاهر بين رفاقه ومريديه يحدوهم في طريق الحق ، وبرياض سروره وسعادته تمضى معه حيث يمضى وإن كان هنا مخفيا عن أعين الحق ،
إن ثمار بستانه المعنوي تتضرع إليه أن يأكل منها وماء الحياة ذلك الذي يهب الخلود يرجوه أن يشرب منه ، ولا تزال تلك الثمار وذلك الماء ترجوه أن يداوم تطوافه بين الأفلاك كالشمس والقمر ، إنك يا بلقيس النفس - في هذا السفر تكونين سارية في الأرواح ولا قدم آكلة للثمار المعنوية ولا فم ، فلا تمساح من الهم والحزن يهاجم سفينة وجودك ،
ولا موت يغير ملامحك ويذهب عنك هذا الجمال الذي تدلين به وتكونين الملكة والجيش ، فلا خوف يكون عندك من قبل الجيش كما يظل الحكام والملوك جميعا خائفين من جيوشهم ومن غضبة جيوشهم ومن تمركز جيوشهم ومن قول لحافظ الشيرازي سعادة امتلاك الدنيا لا يساوى لحظة من شغب العسكر ( ديوان حافظ ص 17 ) . فكأن الأمن من العسكر في رأى مولانا جلال الدين هو الملك الحقيقي ، والملك الدنيوي لا يدوم والإقبال يمضى من إنسان إلى آخر والملك عقيم والعرش الدنيوي مجرد جبيرة ساق .
 
( 1110 - 1112 ) إنك إن علقت على هذا الملك الدنيوي لبقيت في النهاية كالشحاذة ، إذ ماذا يخرج به الملك من الدنيا أكثر مما يخرج بالشحاذ ، فهيا حافظي على حظ نفسك من العلم والعمل ، ولا يمكن لك يا من تحمل هم المعنى وتترك القشور أن تضل . . كيف يمكن أن تضل ومصباحك في داخل
 
« 449 »
 
نفسك أو أن تظمأ ونهرك يجرى من داخلك . . أو أن تفتقر والملك والمال ينبعان من ذاتك أنت لا من خارجها ، هذا ديدن العظمة التي تنبع من داخل الذات . . لا يمكن أن تسلب منك .
 
( 1113 - 1121 ) يتابع مولانا جلال الدين بقية قصة بناء المسجد الأقصى على يد سليمان عليه السلام التي بدأها في البيت 389 وتركها في البيت 487 دون أن يكملها وها هو يخاطب سليمان أن يتم بناء المسجد الأقصى أي سليمان ؟ !
أو أي مسجد أقصى ؟ ! سليمان الإرشاد أي المرشد الكامل المسيطر على قلوب المريدين والعالم بدخائل أنفسهم والذي يبنى كل يوم مسجدا أقصى عن القلوب العامرة بالذكر الواسعة الرحبة التي تسع رحابة الأكوان ، كي تنزل فيها بلقيس النفس ، فتترك الهوى وتصفو من أدران الدنيا لكي تكون جديرة بالنزول في هذه القلوب ، هذا هو سليمان الإرشاد عندما يشرع في بناء القلوب ، تقوم الإنس والجن بالعمل معه ، طوعا أو كرها ، تماما كمريديهم في العبادة ، وفي الحياة وفي الكسب لقوت الدنيا ، جنونهم الدنيوي يجذبهم نحو السوق ، وما هي السلسلة التي تجر هذا المجنون وتجذبه ؟
إنها شهوة الحياة ومحبتها التي لا يخلو منها إنسان ، هناك جاذب يجذبه نحو كسبه ومن هذا قال تعالى «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» فهل كان في جيد زوج أبى لهب حبل من مسد إنه الحبل الذي يجذبها نحو ما تراه نفعا لها ( انظر تفسيرا آخر للآية في الكتاب الثالث شرح البيت 1664 ) .
هذا هو الحبل الذي يجذب الأعناق ، إن لم تكن تصدق قولي اقرأ الآية الكريمة «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ» ( يس 7 - 9 ) .
لا يوجد إنسان منغمس في الشر والرذيلة أو طرحها عن نفسه وأبل منها إلا وطائره في عنقه أي عمله الذي قدر له منذ الأزل «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» ( الإسراء : 13 ) .
 
« 450 »
 
( 1122 - 1129 ) وهكذا حرصك على العمل القبيح انظر كيف يزين لك العمل القبيح ، تماما كما تقوم النار بتجميل الفحم الأسود وتحويله إلى جمرة في لون النار ، وانظر عندما تخمد فيك الشهوة إلى هذا العمل القبيح وتنتفى عنه النار بعود الفحم المتبقى أو رماد الفحم إلى لونه الطبيعي يبدو الفعل القبيح بعيدا عن الحرص الذي يزينه لك مجرد عمل قبيح ، هذا الحرص هو الحبل الذي يجذبك نحو الفعل القبيح ، وعندما ينقضى هذا الحرص يبدو العمل مجرد فعل قبيح ،
وهذه النبتة الحامضة التي تفسد الأسنان المسماة بالغولة ويزينها الشيطان يظنها الأبله نباتا مفيدا لذيذا في حين أنه إذا ذاقها فسوف تفسد أسنانه ، هذا هو غول الحرص الذي يدعوك نحو المتاهات ويجعلك تضيع وتضل الطريق في صحراء الحياة هذه ،
وتحسب الفخاخ حبا والغول في المأثور الفارسي مخلوق خرافي يظهر في الصحارى ويضل السائرين عن الطريق المأهولة فيهلكون وهو في المأثور الصوفي رمز على المرشد المزيف ، أو الذي يدعو دعوة السوء يغلفها في إطار باهر من الخير .
 
( 1130 - 1145 ) كن حريصا فحسب في أمرين كلاهما متصل بالآخر وهما لا يتجزان : الدين والخير ، وعندما ينتفى الحرص ، تمضى خفيفا حاذ السير تستطيع أن تقطع الطرق الطويلة وتطوى المسافات الشاسعة ، يكون سير جسدك كسير الرمح لا يقف حائل أمامه ، فإن الخير في حد ذاته ليس نابعا من نفعه أو لأن أحدا زينه لك ، وإن مضت شعلة الحرص التي تضئ الطريق وتحفز على السعي فإن جمال الخير وحسنه في موضعه لا يتغير ، والحرص هذا ليس من أخلاق الرجال ، إنه من أخلاق الأطفال ، أولئك الذين يتصورون أذيال أثوابهم خيولا يركبونها ، انظر إلى نفس هؤلاء الأطفال عندما يصلون إلى مرتبة الرجولة إنهم يضحكون من الأطفال الذين يقومون بنفس العمل . .
يتذكر أيام الطفولة عندما كان الحرص يحول الأعيان عن خواصها بيدي الخل عسلا . . إن ما

 
« 451 »
 
يبينه الأنبياء هو الذي يكون خاليا من الحرص والهوى والغرض ، ومن ثم فإن أبنيتهم تزداد بهاءً وعظمة ورفعة مع مرور الزمان . . وما أكثر المساجد التي بنيت لكنها لم تحمل اسم « المسجد الأقصى » انظر أيضا إلى الكعبة هل زادها أصنام مثل اللات والعزى رونقا ومجداً ؟ !
إنما يكون مجدها وعظمتها من إخلاص إبراهيم عليه السلام ، إن شرف المسجد الحرام وحرمته ليست نابعة من حجارته ومن هيئته ومن الحجر الأسود ، بل لأن البناء قد تم على الوفاء والإخلاص في عبادة الله عز وجل ، لم يبن كبرا أو ردا أو حربا أو خصاما ، هكذا أبنية الأنبياء وهكذا مساجدهم ودورهم وأحوالهم ولا علاقة لها بما للآخرين ، وليس غضبهم ولا أدبهم ولا نكالهم ولا حرصهم ولا فعالهم كالآخرين ، بل إن طيران أرواحهم من جناح آخر ،
إنهم مختلفون عنا تماما ، فإن لأفعالهم صفرة الذهب الرنان وقيمته ، ومن ثم فقد انقشعت الظلمات أمام أرواحهم فصارت في ظلمات الليل ترى ضوء الفجر ، . . فهذه هي أرواحهم التي تضئ أمامهم ( أنظر قصة عبد الله المغربي في نفس هذا الكتاب شرح الأبيات 598 - 612 ) إن كل ما أتحدث به عن هؤلاء القوم مهما أفضت ومهما فصلت يظل ناقصا .
 
( 1146 - 1155 ) فهيا أيها الكرام هيئوا قلوبكم وهي لكم بمثابة المسجد الأقصى للمؤمنين ، فإن سليمان الإرشاد والطريقة قد أتى إليكم فاجعلوا هذه القلوب مستعدة لإفاضاته ، وإن تمردت عليك قوى النفس وأعرضت عن الطاعة فإن قوى الروح مستعدة لحصارها وقمعها وحملها على الجادة وها أنت أيها الروح السليمانية ، لو أن الشيطان إعوج لحظة واحدة ، فإن سياط العذاب الإلهى تلهب رأسه «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» ( سبأ : 12 ) .
فكن أنت في عظمة سليمان حتى تقوم قواك النفسانية أيضا بالمشاركة صاغرة في بناء إيوان قلبك ، فكما كان في الخاتم قوة لسليمان ، فإن خاتمك ومكمن قوتك ومفتاح هذه القوة هو هذا المضغة التي
 
« 452 »
 
إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ، هذا القلب ، فاحرص عليه وكن دائما مراقباً له ، حتى لا يقوم شيطان بالسيطرة على خاتمك هذا فإنه إن فعل يقوم بالسيطرة عليك سيطرة تامة ، فكن على حذر من شيطان ملك سطوة سليمان وقوته ، فإن القوة إن منحت لسليمان فإنه يستطيع أن يوظفها في الخير كله ، أما القوة في يد شيطان مريد ففيها خراب العالم كله ، انظر إلى سليمان عندما خلع الخاتم ، وسرقه الشيطان وسلب ملكه لأنه أطاع هواه مرة واحدة وتزوج من امرأة كانت تعبد الصنم في قصره ، «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» ( سورة ص 34 )
 
وهذا وإن كانت السلطة السليمانية الحقيقية قد نسخت ، فإن سلطة القلب لا تنسخ إنها بالرغم منك تظل تعمل داخلك في باطنك ، تظل تؤرقك وتخزك وتدعوك إلى العودة مهما سيطر عليك الشيطان ، وحتى إن كان الشيطان قد سرق خاتم سليمان وسرق صورته فإن ثمة فرقا هائلا وكان شديد الوضوح بين هذا السليمان المزيف وسليمان الحقيقي ( انظر هذا الكتاب البيت 1264 )
 
وهناك فرق هائل على الدوام يكون شديد الوضوح لكل ذي عينين بين أصيل في شئ ومتظاهر به ، وليس كل ناسج يستطيع أن ينسج الأطلس ، وناسج الحصير ناسج أيضا وكلاهما في الظاهر ناسج يحرك يديه ويجلس إلى نول وأمامه خيوط لكن شتان بين ما ينسجه هذا وما ينسجه ذاك ، وإن لم يكن المعنى قد وصل إليك فإليك هذه الحكاية التي تدعوك إلى البعد عن الأسماء والمظاهر والبحث عن الأفعال والقلوب والأصول .
 
( 1156 ) لم يورد فروزانفر أصل الحكاية التي تبدأ بهذا البيت ، ولعلها - وإن لم يكن الأمر يبدو كذلك - من مؤلفات مولانا جلال الدين - والحكاية هنا قائمة على التشابه بين اسمى الوزيرين الوزير الأول الجواد الذي يحض على الجود والوزير الثاني البخيل الذي يأمر السلطان بالبخل ويزين له التضييق على
 
« 453 »
 
الشعراء والتضييق على الرعية وذلك حتى لا تقف عند الأسماء بل تقف عند الأفعال وفي خلال الحكاية هناك بالطبع بعض إفاضات مولانا جلال الدين .
 
( 1170 - 1179 ) إن اسم الإله مشتق كما قال سيبويه من أن الخلق يولهون إليه ، أي يلجأون إليه في حوائجهم من أله الفصيل إذا التجأ إلى أمه وهكذا فسره بهاء ولد ( 1 / 233 ) والحق تعالى منزه عن الوصف وعن الاشتقاق وعن الأسماء وعن الإشارات ، فأي موضع للبحث عن اللفظ والعبارة ، والإشارة لا تستوعب في هذا المجال ( ولا يحيطون به علما ) أي حديث لك عن الشرح والبيان وأي بحث لك عن الاسم والصفة حينما تحل « الوحدة » لا اسم لها ولا صفة ( انقروى 4 / 243 )
وهكذا فإن آلاف العقلاء يطلبون حاجاتهم منه ، يطلبون أن يرفع عنهم الألم أي يولهون إليه ، ومن المستحيل أن يلجأ الإنسان وقت الحاجة إلى من لا يجيب هذه الحاجة ، ومن لا يرفع الضر ، فإن لم يكن الناس قد أجيبت حاجاتهم آلاف المرات ما لجأوا إلى الفرد الديان الصمد في حاجاتهم ، لا ليس فحسب بل والأسماك في قيعان البحار والطيور في السماء وكل الوحوش ، والتراب والعناصر كلها تستمد حاجاتها منه وقوام وجودها منه سبحانه وتعالى ،
وهو أيضا الذي يمسك السماء أن تزولا إن رفعها بلا عمد وعندها حفظه سبحانه وتعالى . .
كل ما هو موجود في الكون يستمد وجوده في الوجود الكلى وكل وجوده ظل من وجوده الحقيقي .
 
( 1181 - 1184 ) ومن هنا فإن الأنبياء قد طلبوا الاستعانة بالصبر والصلاة عند طلب الحاجات منه سبحانه وتعالى وأمروا أتباعهم أن يطلبوا حاجاتهم من الذي لا ترد عنده الحاجات ، ولا ينقص ملكه على كثرة عطائه ، فهو البحر الفياض العباب ، وكل المحسنين مجرد جداول جافة ، بل إنك إن لجأت إلى غيره فهو أيضا العاطى هو الذي يوحى إلى المحسنين من البشر بالعطاء أو
 
« 454 »
 
بالمنع ، فإذا كان قد أعطى لقارون وهو يعرض عنه كل هذا المال فماذا يمكن أن يفعل إن توجه إليه أحدهم بالطاعات ؟ ! فالصلاة أم العبادات ومعراج المؤمنين والمؤمنات وأهل الطاعات ، قال سهل بن عبد الله : « استعينوا بالصبر على ما أمر الله به واصبروا على آداب الله » قال الضحاك : « استعينوا بالصبر أي بالصوم واصبروا على الصلاة » ( انقروى 4 / 245 ) .
 
( 1188 - 1199 ) يفسر مولانا جلال الدين ميل الإنسان الطبيعي إلى الشهرة وإلى الظفر بمدح الممدوحين ، والوصول إلى علو الذكر ، فهو في البداية يشبع حاجات جسده ، وعندما يحدث - وهذا من النادر أن يشبع الإنسان من حاجيات البدن - ، وانظر إلى قول مولانا جلال الدين « نادرا » أي إن المستغنى عن الدنيا مهما أخذ منها نادر تماما ، عندما يستغنى الإنسان عن الخبز يبدأ في البحث عن حسن الذكر وعلو الصيت ، أي ينبغي أن يحدث الاستغناء الخبز أو لا ، ثم يأتي بعدها حب الشعر وسائر الفنون والبحث عن علو الذكر ومن يبسط الحديث عن كرمه ومحاسنه لماذا ؟ لأن الله سبحانه وتعالى جعل خلقنا وخلقنا على صورته أي على صفاته والخلاق الفرد يجب أن يحمد ويشكر ،
ومن ثم قال فابن آدم أيضا يجب أن يحمد ويشكر ، خاصة إذا كان الممدوح من عباد الله تعالى الصالحين قد سما بالعبودية ، فإنه يمتلئ بالمدح كما يمتلئ الزق الصحيح بالهواء ولا يتسرب الهواء منه كما قال عليه السلام « إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه » ( الجامع الصغير - أنقروى 4 / 249 ) . وحديث آخر « لا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولذلك مدح نفسه » ( استعلامى 4 / 256 ) .
 
أي يمتلئ قلبه بالسرور كما يمتلئ الزق بالهواء ، أما إن كان الممدوح من أهل الباطل ، فإنه يكون كالقربة الممزقة لا تمتلى ولا يربو ، وتقوى نفسه الأمارة لضعف قلبه ، إذ أثنى رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام « ويلك قطعت عنق أخيك » . . . إنني أحدثك بهذا حتى تعلم كم كان
 
« 455 »
 
المشركون مخطئين عندما عابوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - حبه للمدح . . وماذا في المدح ما دام الممدوح يمدح بما هو فيه وما دام هو أعلى وأفضل من كل ما يقول المادحون فيه وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع لحسان المنبر في المسجد فيقوم عليه فإنما كان يهجو من كان يهجو رسول الله فقال عليه السلام : إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله .
 
( 1205 - 1239 ) على عادة مولانا جلال الدين لا يترك فرصة دون أن يتحدث عن الظلمة في الأرض ، وانظر إليه وهو يصف الوزير الجديد ، ويجرى على لسانه الأحاديث التي يطلقها عادة الوزراء الذين يريدون التضييق على الشعوب والمناعون للخير في كل عصر وفي كل مكان ، وانظر إليه وهو يدبر بخسة كيف يحرم الشاعر من هبة الملك ، وكيف يسوف ، تركه منتظرا حتى يقبل ربع عشر المبلغ الذي قرره له الملك ، وها هو الشاعر ينتظر وينتظر بحيث بات كل همه أن يتلقى من الوزير الجديد « سلاخ الفقراء » السب والشتم والطرد أصبح يتمنى اليأس والمنع لا العطاء ، وانظر إلى هذه الصورة القاتمة من صور البخل والاحتيال والمكر التي يحترفها بعض السياسيين في كل عصر ومكان فيوسعون على من لا عمل له ، ويقترون على من يعمل ، وينفقون على وجوه لا لزوم لها ، ويقترون حيث يجب الإنفاق ، والصورة شديدة الحياة الطبيعية والحركة والدرس الذي يود مولانا أن يقدمه لنا ، أن الملك العادل في حاجة أيضا إلى وزير عادل . . وإلا فإن وزارة هامان جديرة بملك فروعون .
 
( 1240 - 1256 ) إن أرواح الفراعين الهشة كالزجاج هي التي تتأثر بنصائح أمثال هامان ، وإلا فإن الأنبياء مقنعون شديد والإقناع ولقد كان فرعون أحيانا يرق لقول موسى ( انظر الكتاب الثالث أبيات 1252 - 1259 ) لكن روحه لم تكن قوية لكي يتخلص من تراكمات السنين ومن الفرعونية ويؤمن بالله الواحد
 
« 456 »
 
القهار وهكذا بعض البشر ، إنما يمنعهم من الإيمان ضعف في أرواحهم ، فهم لا يستطيعون التخلص مما يسره لهم الكفر من ناحية ومن ناحية ثانية فهم لا يستطيعون الصمود بإيمانهم أمام الساخرين الهازئين ، وفضلا عن ذلك فإن الواحد من هؤلاء يكون كالقشة تتقاذفه كل ريح ، ويكون مستعدا لسماع من هم دونه يخوفونه ، ويردونه عن إيمانه ( فرعون وهامان ) فالقوة عند المؤمن قوة تنبع من الداخل ولا تنبع من السلطة ، وإلا فمن كان أقوى سلطة من فرعون من الناحية الظاهرية ، لكن من الناحية الباطنية كان ألعوبة في أيدي أمثال هامان . .
 
وعلى المستوى السياسي هكذا يكون وزير السوء الذي يكون مناعا للخير ، يعيش الخلق منه في ضنك ومسغبة ومع ذلك فهو ينقل الصورة إلى السلطان أن كل شئ على ما يرام وأن الناس يدعون له . . والوزير من السلطان بمثابة العقل من الروح ، صحيح إن البدن لا يحيا إلا بالروح ، لكن لا بد من عقل يحفظ هذه الروح ، ومن ثم فإن السلطان الذي يكون له مثل هذا الوزير يصبح سلطانا فاسدا . . . ويضرب مولانا مثلا على السلطان الحسن بسليمان ووزيره آصف وهما في الناحية المقابلة تماما لفرعون وهامان وهذا كله وارد في الحديث النبوي « إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إذا نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه » ( مولوى 4 / 170 - انقروى 4 / 255 ) وعلى مستوى البدن والوجود الإنسانى فإن الملك الذي يكون مغلوبا لرأى وزيره الفاسد يشبه تماما العقل الذي يكون مغلوبا للهوى ، وهذا يكون قاطعا للطريق إلى الله وليس معينا عليه .
 
( 1258 - 1262 ) العقل الجزئي هو ذلك العقل الإنسانى الفردى المعتمد على ما تنقله إليه الحواس والذي دائما ما يتصرف في حدود هذه الحواس ، أما العقل الكلى فهو فوائد العقل على الإطلاق وما يستدعيه العقل على الإطلاق ، وهو أقرب عند الصوفية إلى لطيفة روحانية وليس بالمعنى الفلسفي والمشهور
 
« 457 »
 
والسلطان المخاطب في الأبيات هو الإنسان على وجه العموم ، وليس المقصود هو المعنى السياسي وهو هنا يرى للإنسان وجودا سياسيا مستقلا ، سلطانا وابن خليفة ، لكن الهوى يقطع عليه طريق العبودية ( الصلاة ) والعبودية لله هي السيادة الحقة ، فعند ما يكون المرء عبدا له فحسب فإنه لا يرهب سلطانا دنيويا مهما بلغت عظمته وسطوته والهوى ابن الحال وابن اللحظة وإلا فأي شهوة تدوم ، إنه يريد أن يعيش لحظته فحسب ، ولا يحسب حسابا للعواقب أما العاقل فهو يفكر في العواقب وفي يوم الدين ، والعقل هنا هو عقل المعاد وليس عقل المعاش وهو يتحمل مشاق الطاعات ومخاطر الطريق من أجل أن يجنى ورود الآخرة ، تلك الورود الدائمة التي لا تتساقط في الخريف والتي تكون في حاجة إلى أنف خاص يشمها .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: