السبت، 13 يونيو 2020

مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه  الله عنه

مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية


ومن ذلك ، سرّ الافتتاح بالنكاح ؛ من الباب الأحد عشر :

أنا في الوجود باب * وعليه منه قفل

فأنا بعل بوجه * وبوجه أنا أهل

 

القول - من القائل - في السامع ، نكاح . فعين المقول ، عين ما تكوّن من السامع ، فظهر . .

ظهور المصباح ، لتوجه سبب القول والتكوين - على التعيين - في المحل الظاهر ، لنزول الباطن إلى الظاهر . وهذا نكاح بين المعنى والحسّ ، والأمر المركّب والنّفس ؛ ليجمع بين الكثيف واللطيف ، ويكون به التمييز والتعريف .

وإن خالف تركيب المعاني ، تركيب الحروف ؛ فهو كخلاف المعرفة والمعروف .

 

ثم ينزل الأمر النكاحيّ ، من مقام الافتتاح ، إلى مقام الأرواح ؛ ومن المنازل الرفيعة ، إلى ما يظهر من نكاح الطبيعة ؛ ومن بيوت الأملاك ، إلى نكاح الأفلاك لوجود الأملاك ؛ ومن حركات الأزمان ، إلى نكاح الأركان ؛ ومن حركات الأركان ، إلى ظهور المولّدات التي آخرها جسم الإنسان ، ثم تظهر الأشخاص ، بين مباض ومناص.

فالنكاح ثابت مستقر ، ودائم مستمر .

 

ومن ذلك ، سرّ إطفاء النبراس بالأنفاس ، من الباب الخامس عشر :

لما كان القائل له مزاج الانفعال ، كان للنّفس الإطفاء والإشعال . فإن أطفأ أمات ، وإن أشعل أحيا ، فهو الذي أضحك وأبكى .فينسب الفعل إليه ، والقابل لا يعوّل عليه .

 

وذلك لعدم الإنصاف في تحقيق الأوصاف ، مع علمنا بأن الاشتراك معقول في الأصول . للقابل الإعانة ، ولا يطلب منه الاستعانة . فهو المجهول المعلوم ، عليه صاحب الذوق يحوم ، وحكمه في المحدث والقديم .

يظهر ذلك ، في إجابة السائل ، وهذا معنى قولنا القابل .

لولا نفس الرحمن ، ما ظهرت الأعيان . ولولا قبول الأعيان ، ما اتصفت بالكيان ، ولا كان ما كان .

الصبح إذا تنفّس ، أذهب الليل الذي كان عسعس .

 

فلولا الصّيد ما نفر الغزال * ولولا الصّدّ ما عذب الوصال

ولولا الشّرع ما ظهرت قيود * ولولا الفطر ما ارتقب الهلال

ولولا الجوع ما ذبلت شفاه * ولولا الصّوم ما كان الوصال

ولولا الكون ما انفطرت سماء * ولولا العين ما دكّت جبال

ولولا ما أبان الرّشد غيّا * لما عرفت هداية أو ضلال

ولا كان النّعيم بكلّ شيء * ولا حكم الجلال ولا الجمال

أرى شخصا له بصر ويرمي * ولا قوس لديه ولا نبال

فسبحان العليم بكلّ أمر * له العلم المحيط له الجلال

إذا نظرت إليه عيون قوم * بلا جفن بدا لهم الكمال

ووقتا لا يرون سوى نفوس * مبعّدة وغايتها اتصال

 

ومن ذلك :

سرّ من منح ليربح ، فلنفسه سعى ، فكان لما أعطي وعا ، من الباب السابع عشر :

إذا ما كنت ميدانا * فجل فيه إذا كانا

فإنّي لست أنفيه * لذا سمّيت إنسانا

 

ومن ذلك : سرّ النافلة والفرض ، في تعلّق العلم بالطول والعرض ، من الباب العشرين :

من كان علته عيسى ، فلا يوسي . فإنه الخالق المحيي ، والمخلوق الذي يحيي .

عرض العالم في طبيعته ، وطوله في روحه وشريعته .

وهذا النور ، من « الصّيهور والدّيهور » ، المنسوب إلى الحسين بن منصور .

لم أر : متّحدا رتق وفتق ،

وبربّه نطق ،

وأقسم بالشّفق ، واللّيل وما وسق ، والقمر إذا اتّسق

وركّب طبقا عن طبق ، مثله

. . فإنّه نور في غسق .

منزلة الحق لديه ، منزلة موسى من التابوت ؛ ولذلك كان يقول باللاهوت والناسوت . وأين هو ، ممن يقول : العين واحدة ، ويحيل الصفة الزائدة ؟ وأين فاران من الطور ؟ وأين النار من النور ؟

العرض محدود ، والطول ظلّ ممدود ، والفرض والنفل : شاهد ومشهود .

 

 ومن ذلك ، سرّ الجرس ، واتخاذ الحرس . . من الباب الخامس والثلاثين :

الجرس كلام مجمل ، والحرس باب مقفل . فمن فصّل مجمله ، وفتّح مقفله ؛ اطّلع على الأمر العجاب ، والتحق بذوي الألباب ، وعرف ما صانه القشر من اللباب ، فعظّم الحجاب والحجّاب .

الإجمال حكمة ، وفصل الخطاب قسمة .

لإزالة غمّة ، في أمور مهمّة ، محجوبة بليال مدلهمّة .

والحرس عصمة ، فهم أعظم نعمة ، لإزالة نعمة ، لإزالة نقمة .

صلصلة الجرس ، عين حمحمة الفرس .

*

ومن ذلك ، سرّ وجود النّفس في العسس . . من الباب التاسع والأربعين :

بالعسس يطيب المنام ، وبالنّفس تزول الآلام . إن أضيف إلى غير الرحمن ، فهو بتان . ظهور حكمه ، فزال عن المكروب غمّه .

من قبل اليمن جاء ، وبعد تنفيذ حكمه فاء . وإليه يرجع الأمر كله ، لأنه ظلّه ، لا ينقبض الظّلّ ، إلا إلى من صدر عنه ؛ فإنه ما ظهر عينه ، إلا منه . فالفرع لا يستبد ، فإنه إلى أصله يستند .

في الفروع يظهر التفصيل ، وتشهد له الأصول ، في قضية العقول .

 

ومن ذلك ، سرّ الحيرة والقصور ، فيما تحوي عليه الخيام والقصور . . من الباب الخمسين :

الخيمة والقصر ، يؤذن بالقهر والقسر . لولا الحيرة ما وجد العجز ، ولا ظهر سلطان العزّ ، وبالقصور ، علم بحدوث الأمور .

القصور يلزم الطرفين ، لعدم الاستقلال بإيجاد العين . لولا القبول والاقتدار ، وتكوير اليل والنهار - بالإقبال والإدبار - ما ظهرت أعيان ، ولا عدمت أكوان ، فسبحان المتفضّل بالدهور والأمور .

 

ومن ذلك ، سرّ الهرب من الحرب ، من الباب الأحد والخمسين :

من مال ، متحيّزا إلى فئة أو متحرّفا لقتال ، فما مال . فالهرب من الحرب ، وهو من الخداع ، في الفزاع ، كن قارّا ، ولا تتّبع فارّا .

لا تضطره إلى ضيق ، فيأتيك من تكرهه من فوق . كلّ يجري في قربه إلى أجل ، فلا تقلّ بجلّ . إذا نزل القدر ، عمي البصر . نزول الحمام ، يقيّد الأقدام .

لا جناح ، لمن غلبه الأمر المتاح .

من راح ، استراح ، إلى مقر الأرواح .

من فتح له باب السماء ، استظلّ بسدرة الانتهاء .

الشهيد حيّ ، وإنجازه ليّ .

 

ومن ذلك ؛ سرّ عبادة الهوى ، لماذا تهوى . . من الباب الثاني والخمسين :

لا احتجار على الهوى ، ولهذا يهوى . بالهوى يجتنب الهوى . وحقّ الهوى ، إنّ الهوى سبب الهوى . ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ، بالهوى يتّبع الحق .

والهوى يقعدك مقعد الصدق .


 

الهوى ملاذ ، وفي العبادة به التذاذ ، وهو معاذ لمن به عاذ .وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ( 1 ) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى( 2 ) [ النّجم : 1 ، 2 ] .

فبهوي النجم وقع القسم ، بعد ما طلع ونجم ،* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ( 76 ) [ الواقعة : 75 ، 76 ] فلولا علوّ قدره ، ما عظّم من أمره .

 

ومن ذلك ، سرّ تعشّق القوم بالنوم ، من الباب السادس والتسعين :

الخيال عين الكمال . لولاه ما فضّل الإنسان على سائر الحيوان ؛ به جال وصال وافتخر وطال ،

وبه قال من قال : سبحاني ؛ وإنني أنا اللّه ، وبه كان الحليم الأوّاه . فله الشتات والجمع بين أضداد الصفات حكم على المحال والواجب ، بما شاءه المذاهب .

يخرق فيهما العادة ، ويلحقهما بعالم الشهادة ، فيجسّدها في عين الناظر ، ويلحق الأول - في الحكم - بالآخر .

لا يثبت على حال ، وله الثبوت على تقلّب الأحوال . فله من آي القرآن ، ما جاء في سورة الرحمن ، من أنه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ( 30 ) [ الرّحمن : 29 ، 30 ]

 . . ولا بشيء من آلائك ربنا نكذّب ، فإنّا من جملة نعمائك !

 

ومن ذلك ، سرّ العلم المستقر في النّفس بالحكم ، من الباب الأحد ومائة :

العلم حاكم ، فإن لم يعمل العالم بعلمه ، فليس بعالم العلم . لا يمهل ولا يهمل . العلم أوجب الحكم ، لمّا علم الخضر حكم ؛ ولمّا لم يعلم ذلك صاحبه ، اعترض عليه ، ونسي ما كان قد ألزمه ، فالتزم !

لما علم آدم الأسماء ، علم وتبرّز في صدر الخلافة ، وتقدّم ، العلم بالأسماء ، العلامة على حصول الإمامة .

العلم يحكم والأقدار جارية * وكلّ شيء له حدّ ومقدار

إلّا العلوم الّتي لا حدّ يحصرها * لكن لها في قلوب الخلق آثار

فحدّها ما لها في القلب من أثر * وعينها فيه أنجاد وأغوار

فلو تحدّ بحدّ الفوز ناقضه * حدّ لنجد ، ففي التّحديد إصرار

إفهم قوله تعالى :حَتَّى نَعْلَمَ[ محمّد : 31 ] فتعلم ، إن كنت ذا فهم ، من أعطاه العلم ؟ من علم الشيء قبل كونه ، فما علمه من حيث كونه ، وإنما علمه من حيث عينه ، من أين علم أنّ العين يكون ، وليس في العدم مكون ؟

هذا القدر من العلم ، أعطاه جوده ، وحكم به وجوده .

 

ومن ذلك ، ولاية البشر عين الضرر ، من الباب الخمسين ومائة :

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] يؤمن به من كل خيفة ، أعطاه التقليد ، ومكّنه من الإقليد ؛ فتحكّم به في القريب والبعيد .

وجعله عين الوجود ، وأكرمه بالسجود ؛ فهو الروح المطهّر ، والإمام المدبّر .

 

شفّع الواحد عينه ، وحكم بالكثرة كونه . وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ، ولكنه ليس بظلّ . . فلهذا انفرد بالخلافة ، وتميّز بالرسالة ؛ فشرّع ما شرع ، وأتبع - فهو واسطة العقد ، وحامل الأمانة والعهد .

 

حكم فقهر ، حين تحكّم في البشر ؛ فظهر النفع والضرر . فأول من تضرّر هو - كما ذكر - ثم إنه لم يقتصر ، حتى آذى الحق وسبّه ؛ وأعطاه قلبه ، وعلم أنه ربّه ، فأحبّه ، ولمّا حسده وغبطه ، أغضبه وأسخطه .

ثم بعد ذلك هداه ، وأرضاه ، واجتباه .

فلولا قوة الصورة ما عتى ، ولرجوعه إلى الحق سمي فتى . بالجود في إزالة الغرض ، وأزال بزواله المرض .

وقام الأمر على ساق ، وحصل القمر في اتساق ،وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ( 30 ) [ القيامة : 29 ، 30 ] .

 

إن اللّه يزع بالسلطان ، ما لا يزع بالقرآن . فإن السلطان ناطق خالق ، والقرآن ناطق صامت ! فحكمه حكم المائت ، لا يخاف ولا يرجى ، ولا يطرد ولا يزجى . وما استند الصّدّيقون إليه ، ولا عوّل المؤمنون عليه ؛ إلا لصدق ما لديه .

 

فالقرآن أحقّ بالتعظيم من السلطان ، لأنه الكلام المجيد الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( 42 ) [ فصّلت : 42 ] .

لا رادّ لأمره ، ولا معقّب لحكمه . يصدّق في نطقه ، ويعطي الشيء واجب حقّه . فهو النور ، والسلطان قد يجور .

 

ومن ذلك ، مراتب الأحبة في منزل المحبة ، من الباب ( 185 ) :

الأحباب أرباب ، والمحبوب خلف الباب ، المحبّ ربّ دعوى ، فهو صاحب بلوى . لولا دعوى المحبة ، ما طلبنا الجزاء من اللطيف .

المحبوب إن شاء وصل ، وإن شاء هجر ؛ فإذا ادّعى محبّه محبّه اختبر . المحبّ في الاختبار ، والحبيب مصان من الأغيار ، ولهذا لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ[ الأنعام : 103 ] .

للأحبة منزل في المحبة ؛ فحبيب جنيب ، وحبيب قريب . فالمحبّ إذا كان ذا جنابة ، فما هو من القرابة ، وإذا لم يكن جنيبا ، كان قريبا !

قرب الحبيب بالاشتراك في الصفة ، وجنابته في عدم الاشتراك فيها ، كما أعطت المعرفة : « تقرّب إليّ بما ليس لي » لما طلب القرب الولي ،

والذي ليس له : الذّلة والافتقار ؛ فهو الغنيّ العزيز الجبار ، والمتكبر خلف باب الدار .

أنظر إلى ما أعطاه الاشتراك والدعوى ، من البلوى ! هو في النزوح بالجسم الصوري والعقل والروح ، ولهذا لا يتجلى - لمن هذه صفته - إلا القدّوس السّبوح .

فالنزيه للعين ، لا يقول بالاشتراك في الكون .

 

ومن ذلك ، الشوق والاشتياق للعشاق ، من الباب ( 187 ) :

الشّوق يسكن باللّقاء ، والاشتياق يهيج بالالتقاء

لا يعرف الاشتياق إلّا العشّاق .

من سكن باللّقاء ، فما هو عاشق ، عند أرباب الحقائق .

من قام بثيابه الحريق ؛ كيف يسكن ؟

وهل مثل هذا يتمكّن !

للنار التهاب وملكة ، فلا بدّ من الحركة .

والحركة قلق . فمن سكن ، ما عشق

كيف يصحّ السّكون ؟ وهل في العشق كمون ، هو كلّه ظهور . ومقامه نشور

العاشق ما هو بحكمه ، وإنّما هو تحت حكم سلطان عشقه .

ولا بحكم من أحبّه .

هكذا تقتضي المحبّة .

فما حبّ محبّ إلّا نفسه ؛ أو ، ما عشق عاشق إلّا معناه وحسّه ! لذلك ،

العشّاق يتألّمون بالفراق ، ويطلبون لذّة التّلاق .

فهم في حظوظ نفوسهم يسعون

وهم في العشّاق الأعلون .

فإنّهم العلماء بالأمور ، وبالّذي خباه الحقّ خلف السّتور .

فلا منّة لمحبّ على محبوبه ، فإنّه مع مطلوبه ،

ولا عنده محبوب ومرغوب .

سوى ما تقرّ به عينه ، ويبتهج به كونه .

ولو أراد المحبّ ، ما يريده المحبوب من الهجر

هلك . . بين الإرادة ، والأمر ! وما صحّ دعواه في المحبّة

ولا كان من الأحبّة . .

ففكّر ، تعثر !

 

ومن ذلك ، الشّطح من الفتح ، من الباب ( 202 ) :

من شطح عن فناء شطح ! وهذا من أعظم المنح ؛ إلا أنه يلتبس على السامع ، فلا يعرف الجامع من غير الجامع ، ولهذا الالتباس ، جعله نقصا بعض الناس ، من باب سدّ الذريعة ، لما فيها - بالنظر إلى المخلوق - من الألفاظ الشنيعة التي لا تجيزها لهم الشريعة .

فمن تقوّى في هذا الفتح ، وعلم من نفسه أنه ليس بشاطح ، لم يظهر عليه شيء من الشطح . فلا يظهر الشطح ، من صاحب هذا الصف ، إلا إذا كان في حاله ضعف . .

ألا إن تبيّن ذلك ، عند الواصل والسالك . .

ألا ترى إلى ما قال صاحب القوة ، والتمكين في إنفاذ الأمر : « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » فانظر إلى أدبه في تحلّيه ، كيف تأدّب مع أبيه ، وما ذكر غير إخوته.

فالأديب من أخذ بأسوته ، فإن ربّه أدّبه . ومن أدّبه الحقّ ؛ أنزل الناس منازلهم ، لمّا تحقّق .

 

ومن ذلك ، الجامع واسع ، من الباب ( 229 ) :

لو لم يكن في الجامع اتساع ، ما كان جامعا بالإجماع . قلب المؤمن جامع للوسع ؛ فغاية اتّساعه على مقداره ، واتّساعه على قدر أنواره ، فتجوّل الإبصار ، على قدر ما تكشف له الأنوار ؛ ويكون السرور على قدر ما يحصل لك من الكشف بذلك النور .اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[ النّور : 35 ] فقد عمّ الرفع والخفض .

فصاحب البصر الحديد ، يدرك به ما يريد ؛ ولهذا ، إرادة المحدث قاصرة ، ودائرته ضيقة متقاصرة !

ألا تراه ألبسه على ما قلناه في الخبر : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

وهي جنّة محصورة ، والأمور فيها مقصورة ؛ فكيف بمن لا يأخذه حصر ، ولا يسعه قصر ؟ كيف ينضبط شأنه ، أو يحدّ مكانه من مكانه ، عينه جهل ، ولو عرف كونه !

 

ومن ذلك ، المريد من يجد في القرآن ما يريد ، من الباب ( 235 ) :

كان شيخنا أبو مدين يقول : المريد ، من يجد في القرآن كلّ ما يريد ! ولقد صدق - في قوله - الشيخ العارف ؛ لأن اللّه يقول :ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ[ الأنعام : 38 ] فقد حوى بجميع المعارف ، وأحاط بما في العلم الإلهي من المواقف . .

وإن لم تتناهى ، فقد أحاط علما بها ، وبأنها لا تتناهى . فاسترسل عليها علمه ، وأظهرها عن التتالي حكمه إلى غير أمد ، بل لأبد الأبد .

فالمريد المكين ، من يقول - لما يريد -كُنْ فَيَكُونُ[ الأنعام : 73 ] . . فمن لم يكن له هذا المقام ، فما هو مريد ، والسلام !

من كانت إرادته قاصرة ، وهمّته متقاصرة ، لا يتميّز عن سائر العبيد ؛ فهذا معنى المريد . . فإن احتججت بقوله :إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ[ القصص : 56 ] فما أصبت . العلّام ، من ينتقل من مقام إلى مقام ؛ ذلك حكم الدار ، وأين دار البوار من دار القرار ؟

 

ومن ذلك ، الاغتراب تباب . . من الباب ( 237 ) :

الغربة مفتاح الكرب ، ولولاها ما كانت القرب . القريب هو الغريب ، وهو الحبيب ، ولا يقال في الحبيب أنه غريب ، هو للمحب عينه ، وذاته ، وأسماؤه ، وصفاته . لا نظر له إليه ، فإنه ليس شيئا زائدا عليه .

ما هو عنه بمعزل ، وما هو له بمنزل .

قيل لقيس ليلى : من أنت ؟

قال : ليلى !

قيل له : من ليلى ؟

قال : ليلى !

فما ظهر له عين في هذا البين ، فما بقي اغتراب ، فإنه في تباب ؛ فقد عينه ، وزال كونه .

العشّاق ، لا يتصفون بالشوق والاشتياق ، الشوق إلى غائب ، وما ثمّ غائب . من كان الحقّ سمعه ، كيف يطلبه ؟ ومن كان لسانه ، كيف يعتبه ؟

فأين تذهبون ، وما ثمّ أين عند من تحقّق بالعين .

 

ومن ذلك ، من شرب طرب . . من الباب ( 256 ) :

لا يطرب الشارب ، إلا إذا شرب خمرا ، وإذا شرب خمرا فقد جاء شيئا إمرا ؛ لأنه يخامر العقول ، فيحول بينها وبين الأفكار ، فيجعل العواقب في الأخبار ، فيبدي الأسرار برفع الأستار . فحرّمت في الدنيا لعظم شأنها ، وقوة سلطانها . . وهي لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ[ محمّد : 15 ]

حيث كانت ، ولهذا ، عزّت وما هانت . في الدنيا محرّمة ، وفي الآخرة مكرّمة .

هي ألذّ أنهار الجنان ، ولها مقام الإحسان . عطاؤها أجزل العطاء ،

 

ولهذا يقول من أصابه حكمها ، وما أخطأ للشاعر الجاهلي المنخّل بن مسعود اليشكري:

فإذا سكرت فإنّني * ربّ الخورنق والسّدير

وهو صادق . . وإذا فارقه حكمها ، وعفا عنه رسمها ، يقول - أيضا - ويصدق ،

وقال الحق :

وإذا صحوت فإنّني * ربّ الشّويهة والبعير

وهذا المقام أعلى ، لأنه ربّ الحيوان ، فتفطّن لهذا الميزان .

 

ومن ذلك ، التنزيه تمويه . . من الباب ( 280 ) :

إنّ الوجود لأكوان وأشباه * فلا إله لنا في الكون إلّا هو

جلّ الإله فما يحظى به أحد * فلم يقل عارف بربّه ما هو

للّه قوم إذا حفّوا بحضرته * يبغون وصلتههم بذاته تاهو

قد موّه القوم بالتّنزيه وهو هم * في كلّ حال ، فعين القوم عيناه

واللّه ما ولد الرّحمن من ولد * وما له والد ، ما ثمّ إلّا هو

وكلّ ما في الوجود الكون من ولد * ووالد هو في تحقيقنا ما هو

دليلنا : ما رمى بالرّمل حين رمى * محمّد ، وهو قولي : ما هو إلّا هو

فالحمد للّه لا أبغي به بدلا * لأنّه ليس في الأكوان إلّا هو

 

 ومن ذلك ، الدليل في حركة الثقيل ؛ من الباب ( 293 ) :

الأمر جليل ، من أجل حركة الثقيل ؛ لا يتحرّك إلا عن أمر مهم ، وخطب ملم . .

 

كزلزلة الساعة المذهلة عن الرضاعة ، مع الحبّ المفرط في الولد ، ولا يلوي على أحد .

وقد ذهب بعض الأوائل ، أن العالم أبدا نازل ، يطلب بنزوله من أوجده ، حين وحّده . . والحقّ لا ينتهي ، فمن أول حركة ، كان ينبغي أن يعتكف عليه ، لأنه جلّ أن تقطع إليه المسافات المحقّقة ، فكيف المتوهّمة ؟

رسوم معلّمة ، وأسرار مكتّمة

بيوت مظلمة ، وألسنة غير مفهمة

لأن الخيال ، يخيّل العلم به والمقال !

فأين تذهبون ، أو ماذا تطلبون ؟

يقول العارف لأبي يزيد : « الذي تطلبه تركته ببسطام » فدلّه على المقام . فإن العبد يسار به في حال إقامته ، إما إلى دار إهانته ، وإما إلى دار كرامته .

 

ومن ذلك الإيثار ليس من صفات علماء الأسرار من الباب ( 333 ) :

ما هو لك ، فما تقدر على دفعه . وما ليس لك ، فما لك استطاعة على منعه ، فأين الإيثار ؟ والأمر أمانة ، فأدّها إلى أهلها قبل أن تسلبها وتوصف بالخيانة .

فاعطها عن رضى قلبك ، تفز برضى ربّك ، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا :

للّه قوم وجود الحقّ عينهم * هم الأحياء إن عاشوا وإن ماتوا

هم الأعزّ ألا يدرون أنّهم * هم ولا ما هم إلّا إذا ماتوا

للّه درّهم من سادة سلفوا * وخلّفونا على الآثار إذ ماتوا

لا يأخذ القوم نوم لا ولا سنة * ولا يؤدهم حفظ ولو ماتوا

فكيف بالشّمس لو أبدت محاسنهم * أقسمت باللّه إنّ القوم ما ماتوا

وكنت تصدق ، إنّ اللّه أخبرنا * عن مثلهم ، أنّهم واللّه ما ماتوا

أحياء لم يعرفوا موتا وما قتلوا * في معرك وذووا رزق وقد ماتوا

فلو تراهم سكارى في محاربهم * لقلت إنّهم الأحيا وإن ماتوا

اللّه كرّمهم ، اللّه شرّفهم * اللّه يحييهم به إذا ماتوا

لقد رأيتهم كشفا وقد بعثوا * من بعد ما قبروا ، من بعد ما ماتوا

 

ومن ذلك ، من وعظه النوم من القوم ؛ من الباب ( 374 ) :

قال : من أراد أن يعرف حاله بعد الموت ، فلينظر في حاله إذا نام هو ، وبعد النوم . فالحضرة واحدة ، وإنما ضرب اللّه لنا ذلك مثلا ؛ وكذلك ضرب اليقظة من النوم ، كالبعث من الموت ، لقوم يعقلون .

وقال : الدنيا والآخرة أختان ، وقد نهى اللّه عن الجمع بين الأختين ، والجمع يجوز بين الضّرّتين ، فما هما ضرّتان ! لكن لما كان في الإحسان إلى إحدى الأختين بالنكاح ، إضرار بالأخرى ؛ لذلك قيل فيهما ضرّتان ، فتنبّه .

 

وقال : سفينتك مركبك ، فاخرقه بالمجاهدة .

وغلامك هواك ، فاقتله بسيف المخالفة .

وجدارك عقلك - لا ، بل الأمر المعتاد في العموم - فأقمه تستر به كنز المعارف الإلهية عقلا وشرعا ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، إذا بلغ عقلك وشرعك فيك أشدّهما ، وتوخّيا ما يكون من المنفعة في حقّهما ، وما أريد بالشرع إلا الإيمان ، فإن العقل والإيمان : نور على نور .

 

ومن ذلك ، ما يحصّل : صاحب الرّحلة عن كل نحلة ؛ من الباب ( 375 ) :

قال : الرحلة من الأكوان إلى اللّه تعالى ، جهل به تعالى . فلو رأى وجه الحق في كل شيء ، لعرف قوله تعالى :وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها[ البقرة : 148 ] وقوله :فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ[ البقرة : 115 ] وقوله :لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً[ المائدة : 48 ] على الاعتبارين في قوله :وَمِنْهاجاً[ المائدة : 48 ] .

وقال : الظلمة دليل على علم الغيب ، والنور دليل على عالم الشهادة . فالليل لباس ؛ فأنت الليل ، والنهار للحركة ، فهو للحق . شؤنة الحركة حياة ، وهي حقّية ؛ والسكون موت ، فهو خلقيّ ، ومع هذا ، فله ما سكن بالوجهين - من السكون والثبات - ولك ما تحرّك بالوجهين : من ، وإلى ، ولا اعتبار لليل ولا لنهار ، فله ما فيها من حكم الإيجاد ؛ ولك ما فيها من الانتفاع . والنوم راحة بدنية ، ومكاشفات عينية غيبية .

وقال : إرداف النعم وتواليها ، إرفاد الحق ومنحه لعباده ، فمن اتقى اللّه فيها سعد ، ومن لم يتّق اللّه فيها شقي .

وقال : مواهب الحقّ لا تحجير عليها ، فلا تقل : لم نعط ،

فإن الحقّ يقول : لم تأخذ . الدليل ما ورد من التكليف . .

قيل لك " لا تفعل " فعلت ، قيل لك " افعل " لم تفعل ، هكذا الأمر !

 

ومن ذلك ؛ الفرق في الوحي ، بين التّحت والفوق . . من الباب ( 376 ) :

قال : إذا قام المكلّف بما خاطبه به رسوله ، من حيث ما بلّغه عن ربّه - لا من حيث ما سنّ له - فما دخل له ، مما أتحفه الحقّ به في ميزان قيامه ، 

فذلك : العلم المكتسب ، وما خرج عن ميزانه ، ولا يقبله ميزان عمله ،

فذلك : علم الوهب الإلهي .

فالعلم الكسبيّ نصر اللّه ، والوهبيّ فتحه . .

فإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ( 1 ) [ النّصر : 1 ] ، علم أنه قد قام بحقّ ما كلّف ؛ وإذا انقادت إليه قواه - الحسّيّة والعقلية -

فمشت معه على طريقه ، الذي هو صراط اللّه ، لا صراط الرّبّ ؛ فليشكر اللّه على ما خوّله به وحباه .

وقال : خفي عن الناس طاعة إبليس ، بلعنة اللّه إياه ، كما خفي عنهم موافقة الملك ربّه - في خلافة آدم - بثناء اللّه عليهم ورضاه عنهم .

 

ومن ذلك ؛ الاستقصاء ، هل يمكن فيه الإحصاء . . من الباب ( 383 ) :

قال : إذا رأيت من يتبرأ من نفسه ، فلا تطمح فيه ، فإنه منك أشد تبرؤا . فافهم !

وقال : ما ثمّ ثقة بشيء ، لجهلنا بما في علم اللّه . . فيا لها من مصيبة !

وقال : ما ثمّ إلّا الإيمان ، فلا تعدل عنه . وإيّاك والتأويل فيما أنت به مؤمن ، فإنك ما تظفر منه بطائل ، ما لم يكشف لك عينا .

وقال : اجعل أساس أمرك كله على الإيمان والتقوى ، حتى تبين لك الأمور ، فاعمل بحسب ما بان لك ، وسر معها إلى ما يدعوك إليه .

وقال : اجعل زمامك يد الهادي ، ولا تتلكأ ، فيسلّط عليك الحادي ، فتشقى شقاء الأبد .

وقال : من كانت داره في الدنيا الجنان ، خيف عليه ، وبالعكس ! .

 

ومن ذلك ، من خيّرك ، فقد حيّرك ، من الباب ( 400 ) :

قال : ما دعا الملأ الأعلى إلى الخصام ، إلا التخيير في الكفّارات .

التخيير حيرة ، فإنه يطلب الأرجح أو الأيسر ، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل ، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أواسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة .

وقال : إذا خيّرك الحقّ في أمور ، فانظر إلى ما قدّم منها بالذكر ، فاعمل به ، فإنه ما قدّمه حتى تهمم به وبك ، فكأنه نبّهك على الأخذ به .

ما تزول الحيرة عن التخيير ، إلا بالأخذ بالمتقدّم . تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أراد السعي في حجّة الوادع :إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ[ البقرة : 158 ] ثم قال : « أبدأ بما بدأ اللّه به » فبدأ بالصفا . .

وهذا عين ما أمرتك به لإزالة حيرة التخيير ؛لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21 ] .


ومن ذلك ؛ مزلّة الأقدام ، في بعض أحكام العقول والأحلام . . من الباب ( 407 ) :

قال : العارف من عبد اللّه من حيث ما شرع ، لا من حيث ما عقل من طريق النظر .

وقال : العقل قيّد موجده ، والشرع والكشف أرسله ، وهو للّه الحق ! .

وقال : للهوى في العقل حكم خفيّ ، لا يشعر به إلا أهل الكشف والوجود .

وقال : أثر الأوهام في النفوس البشرية ، أظهر وأقوى من أثر العقول ، إلا من شاء اللّه .

وقال : من رحمة اللّه بنا ، أنه رفع عنا المؤاخذة بالنسيان ، والخطأ ، وما نحدث به أنفسنا ، فلو أخذنا بما ذكرنا لهلك الناس .

وقال : ما سمّيت العقول عقولا ، إلا لقصورها على من عقلته - من العقال - فالسعيد من عقّله الشرع ، لا من عقّله غير الشرع .

 

ومن ذلك ، تنبيه : لا تضاهي النور الإلهي . . من الباب ( 420 ) :

قال : الحقّ لا يضاهي ، لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] إنما اللّه إِلهٌ واحِدٌ[ البقرة : 163 ] فأين المضاهى ؟ .

وقال : صفات التشبيه مضاهاة مشروعة ، فما أنت ضاهيت ! .

وقال : العقل ينافي المضاهاة ، والشرع يثبت وينفي ، والإيمان بما جاء به الشرع هو السعادة ، فلا يتعدى العاقل ما شرّع اللّه له ! .

وقال : العاقل من هجر عقله ، واتّبع شرعه بعقله من كونه مؤمنا .

وقال : أكمل العقول ، عقل ساوى إيمانه ، وهو عزيز .

وقال : لو تصرّف العقل ما كان عقلا ، فالتصريف للعلم لا للعقل .

وقال :

للعقل لبّ وللألباب أحلام * وللنّهى في وجود الكون أحكام

تمضي اللّيالي مع الأنفاس في عمه * للخوض فيه ، وأيّام وأعوام

وما لنا منه من علم ومعرفة * إلّا القصور وأقدام وإيهام

العلم باللّه نفي العلم عنك به * فكلّ ما نحن فيه فهو أوهام

وقال : العاقل ، من لعقله أعقل أنه لا يعقل ، فمتى عقلت جهلت .

 

ومن ذلك ، من أبى أن يكون من النقباء . . من الباب ( 456 ) :

قال : النقيب ، من استخرج كنز المعرفة باللّه من نفسه ، لما سمع قوله عزّ وجلّ :سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ[ فصّلت : 53 ] وقوله :وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ( 21 ) [ الذّاريات : 21 ] وقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من عرف نفسه عرف ربّه » .

وقال : من أبى أن تكون له مثل هذه المعرفة . . لم يكن من النقباء .

وقال : لما علم أن بين الدليل والمدلول وجها رابطا ، زهد في العلم باللّه من حيث نظره في الدليل - وليس سوى نفسه - وكان ممّن عرف نفسه باللّه . .

وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب النظر ، مثل أبي حامد ، ولكن لنا في ذلك طريقة غير طريقتهم .

فإن الذي ذهبوا إليه في ذلك لا يصحّ ، والذي ذهبنا إليه يصحّ ؛ وهو أن نأخذ العلم به إيمانا ، ثم نعمل عليه ، حتى يكون الحقّ جميع قوانا فنعلمه به ، فنعلم عند ذلك نفوسنا به ، بعد علمنا به . .

وهذه طريقة أهل اللّه في تقدّم العلم باللّه .

 

ومن ذلك : دين الأنبياء واحد ، ما ثمّ أمر زائد ؛ وإن اختلفت الشرائع ، فثمّ أمر جامع :

الدّين عند الأنبياء وحيد * ومقامه بين الأنام شديد

فإذا الرّجال تفطّنوا لرحيله * عنهم وقام لهم بذاك شهيد

جاؤوا إليه مهطّعين لعلّه * يوما بقصدهم إليه يعود

 

قال : هو إقامة الدين ، وأن لا يتفرّق فيه . ما خلق اللّه أبغض إليه من الطلاق ، وهو بيد من أخذ بالساق ، فلماذا يقصد إلى البغيض مع هذا التعريض ؟ .

نكاح عقد وعرس شهدوا ، بتنا ببكر صهبا ؛ في لجّة عمياء .

نفوس زوّجت بأبدانها ، ولم يكن ناكحها غير أعيانها .

ثم أنه مع التكدّر والانتقاص ،وَلاتَ حِينَ مَناصٍ[ ص : 3 ] .

ثم مع هذا يدعو ويجاب إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] وأعجب من ذلك ؛ "جبال سيّرت" فَكانَتْ سَراباً "ووسماء فتحت فَكانَتْ أَبْوابا"ً ذات "حبك " وبروج ، وأرواح لها فيها نزول وعروج ، ووَما لَها مِنْ فُرُوجٍ[ ق : 6 ]

فأين الولوج وأين الخروج ، وأين النزول ، وأين العروج .

هذا موضع الاعتبار ،فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ[ الحشر : 2 ] .

واللّه ، إن أمرا نحن فيه لمريج ، وإن زوجا زوّجنا به لبهيج .

سقف مرفوع ، ومهاد موضوع .

ووتد مفروق ، ووتد مجموع .

ظلمة ونور ،

وبيت معمور ،

وبحر مسجور ،

ومياه تغور ، ومراجل تفور

فار التّنّور ، واتّضحت الأمور

نجوم مشرقة ، ورجوم محرقة .

شهب ثواقب ، وشهب ذات ذوائب .

كلّما نجمت ، ذهبت ! .

يا ليت شعري : ما الذي أنارها ، وما الذي أوجب شرارها .

وأخواتها ثوابت لا تزول ،

في طلوع وأفول .

ليل عسعس ، فظهرت كواكبه .

وصباح تنفّس ، فضحه راكبه .

جوار خنّس في مجاريها ، وظباء كنّس لتحفظ ما فيها .

ليل ونهار ، أنجاد وأغوار ، إبدار وإسرار .

 

يا أهل الأفكار :

أقسم نجيّكم قسما لا لغو فيه ولا ثنيا ، إن الذي جاء بهذا كله لصادق .

يؤمن به - لا بل يعلمه - الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق ؛ شخص من الجنس ، أيّد بروح القدس .

قيل له : بلّغ ، فبلّغ . وذكر ، فأبلغ

وقذف بالحقّ على الباطل ، فدمّغ ! .

فزهق الباطل ، وتحلّى العاطل .

نشأة الآخرة ، ردّه في الحافرة .

كيف يكون التّجسّد . . مع التّقيّد ؟ !

إن كان نفس الأمر انقلاب عين ، فقد جهل الكون .

وإن كان في النظر ، فهو من مغالط البصر . .

فإذا انبهم الأمر ، وأشكل ، فما لك إلا أن تتوكّل ! .

فأسلم وجهك إلى اللّه وأنت محسن ، تكن ممّن استمسك بالعروة الوثقى ، فإنه خير لك وأبقى .

وكن مع الرعيل الذي خطب بقوله :وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى[ طه : 73 ] . .

تكن السعيد ، الذي لا يشقى .

فإن نزلت عن هذه الدرجة ، فانزل إلى :وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى( 17 ) [ الأعلى :

17 ] . .

فإنهم ، وإن كانوا سعداء ، فإنه لا يستوي المؤمنون الميّتون على فرشهم ، والشهداء .

فلكل علم رجال ، ولكل مقام حال .

ولكل بيت أهل ، ومع كل صعب سهل .

وهذا القدر كاف في هذا الباب ، لمن علم فطاب ، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب .

انتهى الباب ، بانتهاء المجلدة الخامسة والثلاثين من هذا الكتاب والحمد للّه ، وصلّى على محمد رسوله . بخط منشىء هذا الكتاب .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: