الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

15 - كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

15 - كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

15 - كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه
وكيف ألقى عليّ بالسيف من يده

[ جدال على مع الخصم ]


تعلَّم من علي الإخلاص في العمل . واعلم أن أسد اللَّه كان مطهراً من الغشّ والخداع ! 
لقد تغلب في إحدى الغزوات على رجل من الأبطال ، فرفع السيف مسرعاً ، مندفعاً ( للقضاء عليه ) .
فبصق هذا الخصم في وجه علي ، الذي كان فخراً لكل نبيّ وولي .
لقد بصق على هذا الوجه ، الذي كان وجه القمر يسجد أمامه ، حيث يكون السجود .


3725 -  وفي الحال ألقى علي بالسيف من يده ، وتراخى في قتاله .
فغدا المبارز حيران من هذا العمل ، ومن إظهار علي هذا العفو ، وتلك الرحمة في غير موضعهما .
وقال : “ كنت قد شهرت عليّ سيفك البتار . فلماذا رميته الآن وتركتني ؟
وأيّ شيء رأيته خيراً من منازلتي ، حتى تراخيت في اصطيادك لي ؟
ما الذي رأيته فجعل غضبك يسكن على هذا النحو ؟ لقد كان كبارق بدا ثم احتجب .
 

“ 436 “


3730 -  ما الذي رأيت ؟ إن وقعَ ما رأيت قد اضرم النار في قلبي وروحي .
ما الذي شهدته أعلى من الكون والمكان ، وكان عندك خيراً من الروح ، فوهبتني الروح .
إنك في الشجاعة أسد رباني ! أما في المروءة فمن ذا الذي يعرف من أنت ؟
إنك في المروءة كسحاب موسى في التيه ، ذلك الذي نزلت منه مائدة وخبز مالهما من شبيه .
فالسحب تنبت القمح الذي ينضجه الناس بجهدهم ، ويجعلونه حلواً كالشهد .

3735 -  وأما سحاب موسى فقد بسط جناح الرحمة ، فكان يقدّم الطعام ناضجاً حلواً بدون عناء “ 1 “ .
لقد رفعت رحمته علماً في الدنيا ، ( لدعوة ) الطاعمين إلى هذا الكرم السائغ .
وظلّت تلك الوظيفة ، وذاك العطاء ، أربعين عاماً ، بدون أن ينقطعا يوماً واحداً عن أهل الرجاء .
حتى قام هؤلاء - لخستهم - فطلبوا كُرَّاثاً وبقلًا وخساً “ 2 “ .
فيا أمة محمد ! يا من أنتم من الكرام ! إنّ هذا الطعام باق لكم حتى القيامة .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى ما أنزل على قوم موسى من المن والسلوى . وقد ذكرا في مواضع عديدة من القرآن ، منها قوله تعالى : “ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى “ . ( 2 : 57 ) . وكذلك “ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى “ . ( 20 : 80 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة حكاية عن بني إسرائيل : “ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها “ . ( 2 : 61 )


“ 437 “

3740 -  وعندما ذاع ( قول الرسول ) : “ أبيت عند ربي . . . “ كانت “ يطعمني ويسقيني “ كناية عن ذلك الغذاء ( الروحي ) “ 1 “ .
فلتقبلن هذا القول بدون تأويل ، حتى يسيغه حلقك ، كالشهد واللبن .
ذلك لأن التأويل الخاطىء يكون ردَّاً للعطاء ، فصاحب هذا التأويل يرى تلك الحقيقة خطأ .
ورؤية هذا الخطأ إنما هي من ضعف عقله ، فالعقل الكلي هو اللبّ ، وأما عقلنا فمثل القشور .
فأوّل نفسك ، ولا تؤوّل الأخبار “ 2 “ . وسبّ عقلك ولا تسبّ بستان الورد !


 3745 -“ يا علي ! يا من كلّك عقل وبصر ! حدّثنا عن قليل مما شهدت .
إن سيف حلمك قد مزّق روحنا ! وماء علمك قد طهرّ أرضنا .
ألا فلتحدّثنا ، فإني أعلم أن تلك أسراره ! فهو الذي قد دأب على أن يقتل بدون سيف .
إنه الصانع بلا آلة ولا جارحة “ 3 “ . بل إنه الواهب لتلك الهدايا الرابحة .
وهو الذي يسقي العقل آلافاً من الخمور ، لا تدري بها العينان ولا الأذنان .
...............................................................
( 1) في هذا البيت إشارة لحديث عن الرسول روي في البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه : “ إياكم والوصال ، إنكم لستم في ذلك مثلي . إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون “ . ( المنهج القوي ، ح 1 ، 673 ) .
( 2 ) الأخبار الصحاح المروية عن الرسول .
( 3 ) إن الخالق يصنع بدون آلة ولا جارحة ، ومع ذلك فهو الذي وهب الناس هذه الهبات الغالية من آلات وجوارح .


“ 438 “
 
3750  - ألا فلتتكلم يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير ! ماذا رأيت من الحق في تلك الآونة ؟
إن عينك قد تعلمت إدراك الغيب ، على حين أن أعين الحاضرين تكون مغلقة “ .
فمن الناس من يرى القمر عيانا . ومنهم من يرى العالم مظلماً ! 
ومنهم من يرى ثلاثة أقمار بحتمعة . وهؤلاء الأفراد الثلاثة يجلسون معاً في موضع واحد .
وأعين هؤلاء ، الثلاثة مفتوحة ، وآذانهم مرهفة ، وكلها متعلقة بك ، هاربة مني .

 

3755 - عجباً ! أهذا سحر العين ، أم هو لطف خفي ؟ لقد كان إزاءك متخذاً صورة الذئب واتخذ إزائي صورة يوسف “ 1 “ .
فلو كانت العوالم ثمانية عشر ألفاً أو أكثر من ذلك ، فليست هذه العوالم بمنقادة لكل عين “ 2 “ .
فلتكشف السر يا علي ، أيها المرتضى ! يا من أنت حُسن القضاء بعد سوء القضاء ! 
فإما أن تحدثني بما أدركه عقلك ، أو أحدّثك أنا بما أشرق علي .
إن ما أشرق علي منبعث منك ، فيكف تخفيه ؟ وإنك كالقمر ، تفيض نوراً من غير قول .

3760 - لكن قرص القمر - لو أنه ينطق - لسارع إلى هداية المسافرين في ظلمات الليل .
...............................................................
( 1 ) يخاطب الفارس علياً مبدياً عجبه كيف أن بصقه في وجهه قد جعله يتراجع عن قتله ، فيقول : “ ما أراه الآن من هذا الصفح ، هل هو خداع العين أم هو لطف خفي ؟ إن ما حدث مني نحو ك كان كفعل الذئاب وأما ما حدث منك نحوي فكان كفعل يوسف “ .
( 2 ) ليست كل عين قادرة على مشاهدتها .


“ 439 “
 
وإذ ذاك يصبحون في مأمن من الخطأ والذهول . فصوت القمر - لا محالة - يغلب صوت الغول .
فما دام القمر ينير السبيل بدون قول ، فإنه - حين يتكلم - يكون ضياء فوق ضياء .
وما دمت أنت باب مدينة العلم ، وكذلك شعاع شمس الحلم .
فلتكن منفتحاً - أيها الباب - أمام الباحث عن الباب ، حتى يتحقق بك وصول القشور إلى اللباب .


3765   يا باب الرحمة ! كن منفتحاً إلى الأبد . فإنك أنت السبيل إلى من” لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ““ 1 “ .
إن كل هواء ، وكل ذرّة هي في حد ذاتها منظر ( للتأمل ) .
فإذا لم ينفتح السبيل إليها فمتى يقال : “ ها هنا باب ! “ وما لم يفتح الباب حارس الباب ، فإنه لا يتحرك قط في الباطن هذا الخيال .
فإذا ما انفتح الباب أصبح ( المشاهد ) حائراً ، وتنمو فوق خياله أجنحة ، فيحلق بها .
لقد عثر غافل - فجأة - على كنز في الخراب ، فكان بعد ذلك يندفع مسرعاً نحو كل خربة !


 3770 فإنْ أنت لم تجد الجوهر عند أحد الصوفية ، فكيف كنت تبحث عنه عند صوفيّ آخر ؟
إن الظن لو جرى على قدميه سنين ، فإنه لا يستطيع أن يتجاوز فتحتي أنفه .
فهل أنت مبصر شيئاً قطّ سوى أنفك ؟ ألا فلتجب ! وكيف تبصر إذا شمخت بأنفك ؟ ألا فلتخبرنا !
...............................................................
( 1 )   ( الإخلاص ، 112 : 4 ) .

 

“ 440 “

 

كيف سأل هذا الكافر علياً كرّم اللَّه وجهه قائلًا :
“ لما كنت قد أصبحت مظفراً على مثلي فلماذا رميت السيف من يدك ؟ “


قال : “تفضل بالقول يا أمير المؤمنين ، حتى تتحرك روحي في الجسم مثل الجنين “ .



3775 -  فبينما يكون الجنين محكوماً بالنجوم ، إذا به يتجه نحو الشمس “ 1 “ .
وحينما يجيء الوقت الذي يتخذ فيه الجنين روحاً ، فانّ الشمس تصبح عوناً له حينذاك .
إن الجنين يبدأ في التحرّك بفعل الشمس ، فهي التي تسارع فتهبه الروح .
وقبل أن تشرق الشمس على الجنين ، لا يتلقى من الأنجم الأخرى شيئاً سوى الصورة .
فمن أيّ السبل تعلق - وهو كامن في الرحم - بتلك الشمس البهية الطلعة ؟


3780  - إنّ هذا يتحقق من طريق خفية ، بعيدة عن حواسنا . وإن لشمس الفلك لكثيراً من الطرق ! 
فطريق يتلقى الذهبُ منه غذاءه . وطريق يصير به الحجر ياقوتاً .
...............................................................
( 1 ) في نسخ المثنوي الأخرى ورد هذا البيت على النحو التالي .هفت أختر هر جنين را مدتي * ميكند أي جان بنوبت خدمتيومعناه : ( يا روحي ! إن الكواكب السبعة تتناوب خدمة كل جنين مدة من الزمان ) . وكان الشائع في زمن الشاعر أن الكواكب تتحكم في الأجنة . فالأشهر الثلاثة الأولى يتحكم فيها زحل والمريخ والمشتري على التوالي . أما الشهر الرابع فهو الشمس التي تبث في الجنين روح الحياة .


 

“ 441 “


وطريق يجعل الياقوت أحمر اللون ، أحمر اللون ، وطريق يهب نعل الجواد يريقاً .
وطريق يحدث نضج الثمار ، وطريق يهب الجبان قلباً “ 1 “ .
“ فلتتكلم أيها الباز الملتمع الجناح ! يا من تلقيت العلم من المليك وأنت على ساعده !


3785 - لتتكلم أيها الباز الملكي ، الذي يصيد العنقاء ! يا من تهزم جحفلا بذاتك ، لا بجيشك !
 لتتكلم فإني قد أصبحت صيداً لبازك ! يا من أنت أمة وحدك ، وواحد بمائة ألف ! 
لماذا هذه الرحمة في موضع الانتقام ؟ ومن ذا الذي يبيح سبيله مدَّ الأيدي للثعابين ؟ “

 
كيف أجاب أمير المؤمنين ( مبينا ) سبب إلقاء السيف 
من يده في تلك الحال

قال : “ إنني أضرب بالسيف في سبيل اللَّه ! إنني عبداللَّه ولست عبداً لجسدي ! 
إنني أسد الحق ، ولست أسد الهوى . وإن فعلي لهو الشاهد على ديني .
إنني في الحرب مصداق ( قول الحق )
...............................................................
( 1 ) مما هو ملحوظ أن الليل يبث الخوف في ضعاف النفوس ، فإذا ما طلع النهار وأشرقت الشمس زال عنهم الخوف .
 

“ 442 “


3790  -  ما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكنَّ اللَّهَ رَمى ““ 1 “ . فأنا كالسيف ، وأما الضارب به فشمس الحقيقة ! 
لقد أبعدتُ متاع النفس عن طريقي ، وألفيت ما سوى الحق عدما .
إنني ظلّ ، ولا سيد لي إلا الشمس ! إنني من حُجَّاب بابه ولست حجاباً دونه .
إنني سيف مرصع بجواهر الوصال . فأنا أحيي الرجال ، ولست أميتهم في القتال .
إن الدماء لا تغطي جوهر سيفي . وكيف تستطيع الرياح أن تبدّد سحبي “ 2 “ ؟


3795   أنا لست عوداً من القشّ ، بل أنا جبل من الحلم والصبر . فكيف تقتلع الجبل الرياحُ العاصفة ؟
إن القمامة هي التي تدع مكانها حين تعصف بها الرياح . وما أكثر ما يهب من الرياح المعاكسة ! 
فريح الغضب ، وريح الشهوة ، وريح الطمع ، تعصف بمن لا يكون من أهل الصلاة .
إنني جبل ، والحق هو الذي أرسى كياني . فلو غدوت قشة فلا ريح تحركني إلا ريحه .
فليس يتحرك لي ميل إلا بريحه ، ومالي من قائد سوى عشق الأحد .

 

3800 -  فالغضب سلطان على الملوك ، ولكنه غلام لنا . وهأنذا قد قيدته بسيطرة اللجام .
...............................................................
( 1 )  (الأنفال ، 8 : 17 ) .
( 2 ) وكيف تستطيع رياح الغضب أن تعصف بسحب سخائي وكرمي .

 

“ 443 “

وإن سيف حلمي قد أطاح برقبة غضبي ! فغضبي للحق جاء على شاكلة الرحمة .
إنني غريق النور رغم أن سقفي خراب ، وقد أصبحت روضاً مع أني “ أبو تراب “ “ 1 “ .
فحينما دخل بيننا ما هو غير اللَّه ، فقد أصبح من اللائق إغماد السيف .
حتى يكون حبي خالصاً للَّه ، ويكون مثل هواي للبغض أيضاً في سبيل اللَّه “ 2 “ !

 
3805 - ويكون جودي عطاء للَّه ، ويكون وجودي إمساكاً للَّه “ 3 “ .
فأنا في البخل والعطاء أنشد ( مرضاة ) اللَّه وحده . وجودي كله للَّه ، ولست لإنسان .
وذلك الذي أعمله في سبيل اللَّه ليس تقليداً ، وليس تخيلًا ولا ظناً . فما هو إلا عيان ومشاهدة !
 لقد خلصت من الاجتهاد ومن التحري ، وتعلقت “ 4 “ بأهداب الحق .

فإن كنت أطير ، فإنني أبصر مجال تحليقي ، وإن كنت أدور فإنني أرى مداري .
...............................................................
( 1 ) “ أبو تراب “ لقب لعلي بن أبي طالب قيل إن الرسول أطلقه عليه حين رآه - ذات مرة - نائماً فوق التراب .
( 2 ) حرفياً : حتى يكون اسمي ( من أحب اللَّه ) وحتى يكون ميلي ( من أبغض للَّه ) . هذا البيت والذي يليه مبني على حديث للرسول ، نصه : “ المؤمن إذا أحب للَّه وإذا أبغض أبغض للَّه ، وإذا أعطى للَّه وإذا أمسك أمسك للَّه فهو من اللَّه وللَّه وباللَّه “ .
( 3 ) حتى يكون جودي خالصاً لوجه اللَّه ، وتمسكي بالوجود لكي أجاهد في سبيل اللَّه ، وأجعل وجودي وقفاً على ذلك . وفي البيت اقتباس من الحديث الذي ذكرنا نصه في حاشية البيت السابق .
( 4 ) حرفياً : “ وربطت كمي “ .


“ 444 “


3810 -  وإذا حملت عبئاً فإنني أعرف إلى أين أحمله . إنني أنا البدر ، والشمس أمامي دليل “ 1 “ .
ولا وجه لمكاشفة الخلق بأكثر من ذلك ، فليس في ( مجرى ) النهر متسع للبحر .
إنني لأتحدث حديثاً متواضعاً على قدر العقول ، ولا عيب في هذا ، فقد كان دأب الرسول .
وأنا حر من الغرض ، فاستمع إلى شهادة الحرّ . إن شهادة العبيد لا تساوي حبتين من الشعير .
ففي الشريعة ، لا قدر لشهادة العبيد عند الدعوى والقضاء .
 

3815 -  فلو شهد لك آلاف من العبيد ، فإن الشرع لا يقبل شهادتهم ( ولا تزن عنده ) مثقال قشة .
وعبد الشهوة - عند الحق - أسوأ من العبيد والغلمان المسترقين .
فالعبد المسترق يصبح حراً بكلمة واحدة من سيده ، وأما عبد الشهوة ، فيحيى حياة حلوة ، ويموت ميتة مرة ! 
وعبد الشهوة لا يجد لنفسه من خلاص ، إلا بفضل اللَّه وإنعامه الخاص .
لقد وقع في بئر لا قرار لها ، وتلك خطيئته ، وليست جبراً إلهياً ولا جورا .

3820 -  لقد ألقى بنفسه في بئر لا أجد رسناً يوازي عمقها .
فلأ كتفين بهذا الحديث ، فإنني لو استرسلت به ، لأدمي الصخور ، فما بالك بالأكباد ؟
فإذا كانت هذه الأكباد لم تدم ، فما ذاك لصلابتها ، وإنما لحيرتها ، وانشغالها ، وسوء طالعها .
...............................................................
( 1 ) البدر يتبع الشمس ، وليس هناك مجال الخروجه عن مداره وضلاله في أجواز الفضاء .


“ 445 “

ولسوف تدمى يوماً لا تكون دماؤها فيه ذات جدوى . فلتصبح دماً في وقت لا يكون فيه الدم مردودا ! 
ولما كانت شهادة العبيد غير مقبولة ، فإن ( الشاهد ) العدل هو الذي لا يكون عبداً لغول ( الشهوات ) .


3825 - ولقد جاء في الذكر ( قوله تعالى ) :” إنَّا أَرْسَلْناكَ شاهداً “ *” 1 “ ، ذلك لأن الرسول كان - ( أمام استعباد ) الدنيا - حرّاً وابن حر .
وما دمتُ حراً فكيف يأسرني الغضب ؟ فهنا ليس لدنيا سوى صفات الحق . فادخل معنا ! 
ادخل فإن فضل الحق قد جعلك حراً ، وإن للحق لرحمةً سابقة على غضبه .
لتدخلن الآن ، فإنك قد نجوت من الخطر . لقد كانت حجراً فجعلتك الكيمياء جوهراً ! 
لقد خلصت من الكفر ومن منابت أشواكه . فتفتح الآن مثل الورد في بستان سرو الخالق .


3830 - فأنت أنا ، وأنا أنت أيها العظيم ! لقد كنتَ علياً ، فكيف أقتل ذاتي ؟
لقد ارتكبت معصية هي خير من كل طاعة ! وها أنت ذا قد ذرعت السماء في لحظة واحدة .
فلكم كانت مباركة تلك المعصية التي ارتكبها الرجل ! أو ليست أوراق الورد تنبثق من الأشواك ؟
وإثم عمر وترصده للرسول ، أو لم يجتذبه إلى جانب القبول ؟
...............................................................
( 1 ) قال تعالى : “ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً “ . ( الأخراب ، 33 : 45 ) .



“ 446 “

وكذلك السحرة ، أفلم يقربهم فرعون من أجل سحرهم ، فأصبح الجد الصاعد عوناً لهم ؟

3835 -  فلو لم يكن سحرهم وجحودهم لموسى ، فما الذي كان يقربهم من فرعون العنيد ؟
ومتى كانوا يرون العصا والمعجزات ؟ فها هي ذي المعصية قد انقلبت إلى طاعة ، أيها القوم العصاة ! 
لقد ضرب اللَّه عنق اليأس ، حينما انبثقت الطاعة من الجرم والعصيان .
فهو حين يبدل السيئات ، يجعلها طاعات ، على الرغم من الوشاة .
وبهذا أصبح الشيطان الرجيم مرجوماً . وقد انفطر من الحسد ، وانشق نصفين .


3840 - إنه يسعى ليربي الإثم فينا . وبذلك الإثم يدفعنا إلى الهاوية .
وحينما يرى أن هذا الإثم قد أصبح طاعة ، تمر به ساعة لا بركة فيها .
يقول : “ ألا فلتدخل ، لقد فتحت الباب من أجلك ! إنك تبصق عليّ وأنا أتحفك بهدية ! 
فإن كنت أعطي مثل هذا لصاحب الجفاء - ( وأنت ترى ) على أية صورة أضع رأسي عند قدمه اليسرى 
- فماذا أنا واهبُ صاحب الوفاء ؟ ألا فلتعلم أني أهبه الكنوز والملكوت الدائم “ .



“ 447 “


كيف همس الرسول عليه السلام في أذن سائس جواد أمير المؤمنين عليّ
قائلا : “ إني أخبرك أن مصرع عليّ سيكون على يديك “

3845  - إنني رجل لا يتحول رحيق لطفي إلى إبرة تنفث سم الانتقام ، حتى إزاء قاتلي “ 1 “ ! 
لقد همس الرسول بأذن خادمي ( قائلا ) ، إنه ذات يوم سيحتزّ رأسي عن عنقي !
لقد أذاع الرسول من وحي الحبيب أن هلاكي يكون في عاقبة الأمر - على يدي خادمي .
فكان الخادم يقول لي : “ بادر بقتلي ، حتى لا يقع مني هذا الخطأ المنكر “ .
وأنا أقول له : “ إذا كان موتي على يديك فكيف أستطيع أن أسعى للاحتيال على القضاء ؟ “

 

3850 - إنه يرتمي أمامي ( ضارعا ) : “ أيها الكريم ! بحق اللَّه شقني نصفين .
حتى لا تحيق بي تلك العاقبة السيئة ، وحتى لا تحترق روحي على ( من هو ) روحها “ .
وأنا أقول له : “ اذهب ، فقد جف القلم “ 2 “ ، وكم بهذا القلم قد دُك من علم .
إن روحي لا تنطوي على بغض لك قط ، ذلك لأنني أعلم أن هذا الأمر ليس منك !
...............................................................
( 1 ) الكلام هنا على لسان على .
( 2 ) هذا القضاء قد كتب ولا مجال لتغييره .


“ 448 “


إنك آلة الحق ، وأما الفاعل الحقيقي فيد الحق . فكيف أوجه الطعن والضرب لآلة الحق ؟
 

3855  -  فقال : “ فلماذا إذن يكون القصاص ؟ فقال علي : “ إنه من الحق ، وهو سر خفي ! 
“ فهو إذا أبدى الاعتراض على فعل ذاته ، ينبت الرياض من هذا الاعتراض .
وهو صاحب الحق في الاعتراض على فعله ، ذلك لأنه الواحد في قهره ولطفه .
إنه الأمير هنا ، في مملكة الحوادث ، وهو مالك التدبير في الممالك .
وإنه ما كسر أداة من أدواته إلا عاد فأصلح تلك الأداة .
 

3860 -  فلتفهم أيها العظيم مغزى الآية :” ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نُنْسها نَأْت بخَيْرٍ منْها ““ 1 “ .
فكل شريعة نسخها اللَّه كانت عشباً ، وجاء بالورد عوضاً عنه .
إن الليل ينسخ شغل النهار ، فتأمل هذا الجمود الذي ينير العقل .
ثم ينسخ نور النهار ( ظلام ) الليل . فيحرق هذا بلظاه جمود الظلام .
ومع أن هذا النوم والسبات ظلمة ، أليس ماء الحياة داخل الظلمات ؟

 

3865 - أفلا تتجد العقول بتلك الظلمة ؟ أوليس السكوت هو ذخيرة الصوت ؟
إن الأضداد يظهر بعضها ! ولقد خلق اللَّه النور الدائم في السويداء .
وحروب الرسول قد صارت مدار الصلح . فصلح آخر الزمان هذا إنما كان من تلك الحروب .
...............................................................
( 1 ) ( البقرة ، 2 : 106 ) .
 

“ 449 “

فهذا الحبيب قد قطع آلاف الرؤوس ، وذلك لكي تجد الأمان رؤوس أهل الدنيا .
والبستاني يستأصل الأغصان الضارة حتى تسمق النخيل بقاماتها وتخضل .

 

3870 - وذلك الخبير يقتلع من البستان تلك الحشائش حتى يتجلى جمال البستان والتمار .
والطبيب يقتلع الأسنان التالفة حتى يخلص ( مريضه ) الحبيب من العلة والألم .
فكم من زيادات ينطوي عليها النقصان . وإن حياة الشهداء لفي فنائهم ! 
فحينما قطعت حلوقهم التي يتناولون بها الرزق ، صارت الأرزاق الروحية سائغة لهم “ 1 “ .
وكلما قطع حلق الحيوان طبقاً للشريعة ، نما به حلق الإنسان وزاد بذلك فضل ( الحيوان “ 2 “ ) .
 

3875 - فلو قطع خلق الإنسان “ 3 “ فماذا يتولد ( من ذلك ) ؟ ألا فلتتنبه ، ولتتأمل ، ولتقس هذا على ذلك .
إن حلقاً ثالثاً يولد ، يكون راعيه شراب الحق وأنواره .
فهذا الحلق المقطوع “ 4 “ ، يتناول الشراب ، لكنه يكون قد خلص من النفي ومات في الإثبات .
فإلى متى تستمد من الخبز حياة روحك ؟ حسبك ( هذا القدر ) يا وضيع الهمة ، يا قصير البنان !
..............................................................
( 1 ) حرفياً : أصبح مضمون قوله تعالى : “ يرزقون فرحين “ سائغاً لهم .
وفي البيت اقتباس من قوله تعالى : “ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم اللَّه من فضله “ . ( 3 : 169 - 170 ) .
( 2 ) لأن الحيوان الذي يتخذه الإنسان غذاء يصبح جزءاً من الكيان الإنساني .
( 3 ) يريد بقطع حلق الإنسان إماتته .
( 4 ) كناية عن الإنسان الذي فارق بالموت هذه الحياة الدنيا .


“ 450 “

إنك عديم الثمار كشجرة الصفصاف ، لأنك أرقت ماء وجهك من أجل الخبز الأبيض .


3880 -  فإن كانت نفسك الحسية لا تصبر عن هذا الخبز ، فلتمسك بالكيمياء ولتحوّل النحاس إلى ذهب .
فإذا كنت - أيها المرء - تريد غسل ثيابك ، فلا تحوّل وجهك عن محلة الغاسلين .
ومع أن الخبز أزال صيامك ، فلا تتعلق إلا بجابر الكسور ، ولتسمون إلى العلا .
ولما كانت يده هي التي الكسور ، فإن الكسر الذي تحدثه يكون - بدون شك - جبراً .
وأما أنت فإنك إذا كسرت شيئاً يقول ذلك : “ تعال واجعل ما كسرت صحيحاً ! “ ، ولا يد لك إذ ذاك ولا قدم !

 3885 - فالكسر إذن حق له وحده لأنه هو الذي يعرف كيف يجبر الكسور .
إن الذي يعرف كيف يحيك يعرف أيضاً كيف يمزق . وكل ما قد باعه فقد اشترى خيراً منه .
إنه يهدم الدرا عاليها وسافلها ، وفي ساعة واحدة يعيدها أكثر عمرانا .
وهو إذا أطاح برأس واحد عن البدن ، فإنه ينبت في ذات اللحظة آلافاً من الرؤوس .
فلو لو لم بالقصاص من الجناة ، ولو لم يقل :” وَلَكُمْ في الْقصاص حَياةٌ ““ 1 “ ،


3890 - فمن ذا الذي كان يجرؤ على أن يضرب بالسيف - من تلقاء نفسه - من هو أسير حكم الحق ؟
فكل من فتح اللَّه عينيه ( للحقيقة ) ، يدرك أن ذلك القاتل
...............................................................
( 1 )  ( البقرة ، 2 : 179 ) .


“ 451 “

كان مسخرّاً للقدر .
وكل من صار مقيداً بهذا التقدير ، فإنه لا محالة ضارب بالسيف ، ولو أصاب رأس ابنه .
فامض ، واخش اللَّه ، وأقلل من تناول الآثمين بالطعن . وكن مدركاً لعجزك أمام حكم القضاء .

 
كيف عجب آدم عليه السلام من ضلال إبليس فأظهر بذلك الغرور

نظر آدم - ذات مرة - باحتقار وازدارء إلى إبليس الشقي .

 
3895 - لقد اغتر بنفسه ، واعتد بذاته ، فسخر من فعل إبليس اللعين .
فهتفت به غيرةُ الحق ( قائلة ) : “ أيها الصفي ! إنك لا تدرك خافي الأسرار .
فلو أن اللَّه عكس الآية “ 1 “ ، لا قتلع الجبل من أصله وأساسه .
ولمزّق في الحال قناع مائة آدم ، ولقاد مائة إبليس إلى حظيرة الإسلام ! 
“ فقال آدم : “ يا إلهي ! إنني تبت إليك من هذا النظر . ولن أتفكر بعد بمثل تلك الجسارة .



3900 - يا غياث المستغيثين اهدنا * لا افتخار بالعلوم والغنى “ 2 “
لا تزغ قلباً هديت بالكرم * واصرف السوء الذي خط القلم “ 3 “وأبعد عن روحنا سوء القضاء ، ولا تقطعنا عن إخوان الرضى !
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ فلو أنه قلب الفراء على ظهره “ ، وهذا كناية عن إظهار الغضب في مكان الرحمة .
( 2 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 3 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .



“ 452 “

فليس هناك ما هو أمرّ من فراقك . وبدون ملجئك ليس لنا سوى الحيرة والضلال .
إنّ متاعنا ( الحسيّ ) يسدّ الطريق أمام متاعنا ( الروحيّ ) ! كما أن أجسامنا تعري من الثياب أرواحنا .


3905 -  فإذا كانت يدنا تأكل قدمنا ، فكيف يستطيع إنسان أن ينقذ روحه ، بدون أمانك ؟
ولو أنه أنقذ روحه من هذه الأخطار العظمى ، فلعله لا يكون قد أنقذ إلا ذخيرة من الإدبار والخوف .
فالروح - إن لم تكن متصلة بالحبيب - فهي إلى الأبد - منطوية على نفسها عمياء تعسة “ 1 “ .
فلا حياة للروح إن لم تفسح لها سبيلا إليك ، لأنّ الروح لا تحيى إلا بك ، حتى ولو أنقذها صاحبها .
فلو أنك وجهت الطعن إلى عبادك فإن ذلك يحق لك ، أيها المستجاب الرغاب !

 

3910 - ولو أنك قلت إنّ الشمس والقمر جفاء ، أو قلت إنَّ قدّ السرو معوجّ .
أو وصفت العرش والفلك بالحقارة ، أو نعت المنجم والبحر بالفاقة ، 
فذلك كله حق بالنسبة إلى كمالك ، فإن لك الملك ( القادر ) على إكمال ما يفنى .
إنك لبريء من الخطر ، ومن العدم . وإنك لموجد المعدومات وواهبها الغنى ! 
فذلك الذي أنبت يعرف كيف يحرق ، لأنه كما يمزّق يعرف كيف يرتق “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : زرقاء . وفي هذا اللون كناية عن التعاسة وسوء الحال .
( 2 ) إن الذي أنبت النبات يعرف كيف يبيده لأنه حينما يبيده قادر على إيجاده من جديد .


“ 453 “


3915 -  فهو في كل خريف يحرّق البستان ، ثم يعود فينبت به الورود التي تصبغه بالألوان .
قائلًا : “ أيها الذابل المحترق ! اخرج الآن ، وعد إلى نضرتك ، وكن مرة أخرى جميلًا مليح الذكر “ 1 “ ! 
لقد عميت عينُ النرجس فأعاد إليها تفتحها . وقطع حلق الناي ثم عاد فدلله .
ولما كنا مصنوعين ولسنا صانعين ، فلا سبيل لنا إلا أن نكون ضعفاء قانعين .
إننا جميعاً حسَّيّون نضطرب بهذه الحسيّة ، فلو لم تدعنا إليك ، لكنا جميعاً من الشياطين .

 

3920 -  وما نجونا نحن من الشيطان إلا لأنك قد اشتريت أرواحنا من العمى ( وخلصتها ) .
إنك أنت الدليل لكل كائن حي . فمن هو هذا الأعمى الذي يكون بلا عصا وبلا دليل ؟
وكل ما سواك - سواء كان حلواً أو غير جلو - محرق للإنسان بل هو عين النار .
وكل من صارت له النار ملجأ وظهيراً فقد أصبح مجوسياً ، وغدا زردشتياً .
كل شيء ما خلا اللَّه باطل * إن فضل اللَّه غيم هاطل


عودُ إلى قصة أمير المؤمنين عليّ كرم اللَّه وجهه وصفحه عن قاتله


3925 -  الآن عد إلى حكاية علي وقاتله ، وكرمه وتساميه إزاء هذا القاتل !
..............................................................
( 1 ) حرفياً : مليح الصيت أو السمعة .


“ 454 “

قال ( عليّ ) : “ إني أرى القاتل بعينيّ في النهار وفي الليل ، ولكني لا أشعر نحوه قط بالغضب ! 
فالموت قد أصبح لي حلو المذاق كأنه المنّ . إنّ موتي قد دقّ لي بشائر البعث “ 1 “ .
فالموت بدون موت ( الروح ) حلالُ لنا ، والرزق الذي ليس من الزاد ( المادي ) نوال لنا .
فهو في الظاهر موت ولكنه في الباطن حياة ! وهو في الظاهر انقطاع ولكنه في الباطن خلود !


 3930 - إنّ ميلاد الرحم نقل للجنين ( من حال إلى حال ) . أما جنين الدنيا فميلاده ازدهار جديد “ 2 “ .
ولما كنت أستشعر عشق المنيّة وهواها ، فإن النهي في ( قوله تعالى ) :” لا تُلْقُوا بأَيْديكُمْ إلَى التَّهْلُكَة ““ 3 “ يتوجه إليّ .
والنهي يكون عن الثمرة الحلوة ، وأما الثمرة المرة فما الحاجة إلى النهي عنها ؟
فالثمرة التي تكون مرّة اللباب والقشر يقوم بالنهي عنها مرارتها وكريه طعمها .
وثمرة الموت قد أصبحت - عندي - حلوة المذاق وها هو ذا ثواب الشهداء قد اقتفى أثري “ 4 “ !
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ إن موتي قد دق لي صنج البعث “ .
( 2 ) جنين الدنيا هو الإنسان وميلاده هو موته ، لأن الموت عند الصوفية ميلاد الروح وفاتحة للحياة الحقة في العالم الروحيّ .
( 3 ) ( البقرة ، 2 : 195 ) .
( 4 ) حرفياً : وها هوذا قوله تعالى : “ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون “ . ( آل عمران ، 3 : 169 ) .


“ 455 “

 

3935 - اقتلوني يا ثقاتي لايما * إنّ في قتلي حياتي دايما “ 1 “
إنّ في موتي حياتي يا فتى * كم أفارق موطني حتى متى “ 2 “
فرقتي لو لم تكن في ذا السكون * لم يقل إنا إليه راجعون “ 3 “
فالراجع هو الذي يعود إلى المدينة ، ويتجه إلى الوحدة (متخلصاً) من دوران الدهر .


كيف جاء تابع عليّ كرم اللَّه وجهه ( قائلا )
 : " بحق اللَّه اقتلني وخلصني من هذا القضاء ! “

إن تابع عليّ قد عاد إليه ( قائلا ) : “ يا عليّ عجّل بقتلي ، حتى لا أشهد هذه اللحظة ، ولا ذلك الوقت المرير .

 

3940 -  لقد أحللت لك دمي ، فأرقه ، حتى لا ترى عيناي هذا اليوم ( المروّع ) كالقيامة “ .
فقلتُ “ 4 “ : لو أنّ كلّ ذرّة أصبحت قاتلا ، وقصدتك حاملة بيدها الخنجر ، 
ما استطاعت أنْ تقطع طرف شعرة منك ، ما دام القلم قد كتب عليك مثل هذا القدر “ 5 “ .
فلا تحزنن فإني أنا شفيعك . إني سيد لروحي ، ولست عبداً لجسدي ! 
فهذا الجسم لا قيمة له عندي . وبدون هذا الجسم أنا الفتى وابن الفتى !
...............................................................
( 1 ) هذا الأبيات عربية من في الأصل .
( 2 ) هذا الأبيات عربية من في الأصل .
( 3 ) هذا الأبيات عربية من في الأصل .
( 4 ) الكلام هنا على لسان عليّ .
( 5 ) ما دام القلم قد قدرّ عليك قتلي .


“ 456 “


3945 - إنَّ الحنجر والسيف قد أصبحا ريحاني ! والموت قد صار لي مجلس أنس ، وبستان نرجس ! 
وكيف يحرص على الإمارة والخلافة من يجعل الجسم مجرّد أثر ، على هذا النحو ؟
إنه يبذل جهده في ( النهوض ) بالسلطان والحكم ، وذلك ليبين للأمراء سبيل ( العدالة ) والحكم ( الصالح ) .
فيبثّ في الإمارة روحاً أخرى ، ويجعل نخيل الخلافة حافلًا بالثمار .

في بيان أن طلب الرسول عليه السلام
فتح مكة وغير مكة لم يكن لأنه أحب ملك الدنيا
فقد قال عنها : “ الدنيا جيفة “ وإنما كان ذلك الفتح بأمر ( من اللَّه )
 
وهكذا جهد الرسول لفتح مكة . وكيف يكون الرسول متهماً بحب الدنيا ؟
وهو الذي أغلق عينيه وقلبه - يوم الامتحان - عن خزائن السماوات السبع .

3950 -  لقد حفلت آفاق السماوات السبع بالحور والجان الذين احتشدوا لمشاهدته ، 
وكل منها قد اتخذ زينته من أجله . وأنى تكون له عناية بغير الحبيب ؟
لقد أصبح مفعم القلب بإجلال الحقّ ، إلى الحدّ الذي لم يدع للمقربين إلى الحق سبيلًا إلى قلبه .


 
“ 457 “
 
لا يسع فينا نبي مرسل * والملك والروح حقاً فاعقلوا “ 1 “
 
3955 - إنّ ( بصرنا ) ما زاغ عن ( سبيل الروح ) ، فلسنا كالغراب “ 2 “ ( ننشد الجيف ) . 
نحن سكارى بمن صبغ البستان ، ولسنا سكارى بألوانه ! ولما كانت خزائن الأفلاك والعقول قد بدت
( عديمة القيمة ) كالقشّ أمام عين الرسول ، فماذا تكون مكة والشام والعراق ، حتى يظهر في سبيلها الصراع والحرص ؟
فهذا التصوّر والظنّ إنما هما للمنافق ، الذي يتخذ من روحه الشرير قياساً .
إنك لو جعلت أمام وجهك زجاجة صفراء ترى جملة نور الشمس أصفر اللون .
 
3960 -  فلتكسرن تلك الزجاجات ذات اللون الأزرق والأصفر ، حتى تتبيّن الغبار والرجل ( المتحجب وراءه ) .
إن الغبار قد تصاعد برأسه حول الفارس ، فظننت هذا الغبار رجل اللَّه .
لقد رأى إبليس الغبار فقال : “ كيف يتفوق سليل الطين هذا عليّ ، أنا الناريّ الجبين ؟ “ فما دمت ترى الأعزاء ( من الأنبياء والقديسين ) بشراً ( كعامة الناس ) ، فاعلم أن نظرك هذا إنما هو ميراث إبليس اللعين !
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربي في الأصل . ويلحظ فيه ضعف عبارته . وقوله :
“ لا يسع فينا “ يقصد به “ لا نتسع ، أو لا مجال عندنا “ . والمعنى الكلي للبيت : “ ليس هناك مجال عندنا لنبيّ مرسل ولا ملك ولا روح ، وإنما نحن مع اللَّه وحده “ . وفي هذا البيت والبيت السابق له إشارة إلى حديث نبوي نصه :
“ لي مع اللَّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل “ .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ ما زاغ البصر وما طنعى “ . ( 53 : 17 ) ، وفيه جناس بين كملة “ زاغ “ في الآية ، وكلمة “ زاغ “ الفارسية بمعنى “ غراب “ .


 
“ 458 “
 
فلو لم تكن سليل إبليس - أيها العنيد - فكيف وصل إليك ميراث ذلك الكلب ؟
 
3965 - وإني لست بكلب ، بل أنا أسد الحق ، الذي يعبد الحق . وما أسد الحق إلا من خلص من الصورة .
إن أسد الدنيا ينشد الصيد والغذاء ، وأما أسد المولى فينشد التحرر والموت ! 
فهو حينما يرى في الموت مائة وجود ، فإنه يحرق وجوده مثل الفراشة .
لقد أصبح حب الموت قرين الصادقين ، ولقد كانت هذه الكلمة امتحاناً لليهود “ 1 “ .
لقد قال تعالى لليهود في القرآن ( ما معناه ) : “ يا قوم اليهود إن الموت للصادقين كنز وربح “ 2 “ .
 
3970 - فكما أن أمل الربح كائن ( في قلوب البشر ) ، فإن أمل الفوز بالموت خير من هذا الأمل .
أيها اليهود ! لتجروا على ألسنتكم ذلك التمني ، حتى تفوزوا بشرف الإنسانية “ 3 “ .
فلم يكن ليهودي هذا القدر من الشجاعة ، حين رفع محمد علم ( الدعوة ) .
فقال : “ إنهم لو أجروا هذا القول على ألسنتهم ، لما بقي في العالم يهودي واحد “ “ 4 “ .
...............................................................
( 1 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 2 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 3 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 4 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ لو تمنى اليهود الموت لم يبق يهودي على وجه الأرض “ . ( المنهج القوي ) . وقد أورد البيضاوي هذا الحديث في تفسيره لقوله تعالى : “ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند اللَّه خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم واللَّه عليم بالظالمين “ . ( 2 : 94 ، 95 ) .


 
“ 459 “
 
ولقد حمل اليهود المال والخراج ( إلى الرسول ) قائلين : “ لا تفضح أمرنا ، أيها السراج ! “
 
 3975 - وليس لهذا الكلام نهاية ظاهرة . فلتعطني يدك ، ما دامت عينك قد أبصرت الحبيب .
 
كيف قال أمير المؤمنين عليّ كرم اللَّه وجهه لخصمه :
“ إنك حينما بصقت في وجهي تحركت نفسي “
فلم تعد مخلصة في عملها وقد صار هذا مانعاً لقتلك “
 
قال أمير المؤمنين لذلك الشاب : “ إنه في وقت القتال ، أيها البطل .
حينما بصقت في وجهي ، تحرّكت نفسي ، ففسد طبعي .
فأصبح نصف ( قتالي ) من أجل الحق ، ونصفه من أجل الهوى ! وأنت من تصوير كف الخالق . إنك من صنع الخالق ، ولست من صنعي .
 
3980 -  وكسر تصوير الحق ، ولا يكون إلا بأمر الحق وحده . وضرب زجاجة الحبيب ، لا يكون إلا بحجر الحبيب “ 1 “ .
لقد سمع المجوسي هذا ( القول ) ، فتجلى النور في قلبه ، فمزّق زناره .
وقال : “ لقد كنت أغرس بذور الجفاء ، وكنت أحسبك نوعاً آخر ( من البشر ) ! 
على حين أنك كنت ميزان صفة الوحدانية ! بل إنك كنت اللسان المعبر عن كل ميزان .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ فاكسر تصوير الحق بأسر الحق وحده ، واضرب زجاجة الحبيب بحجر الحبيب “ .


 
“ 460 “
 
إنك كنت جنسي وأصلي وصاحب قرباي ! إنك كنت النور الذي ينبعث من شمع عقيدتي !
 
3985 - فأنا عبد لذلك السراج الذي يبحث عن العين ، ذلك السراج الذي اقتبس النور منه سراجك .
إني عبد لأمواج ذلك البحر من النور ، الذي دفع مثل هذا الجوهر إلى الظهور .
فلتعرض عليّ الشهادة ، فإني قد رأيتك مفخرة الزمان “ .
واتجه نحو الدين بمحبة واشتياق قرابة خمسين من ذوي قرباه وقومه .
فعليّ - بسيف حلمه - قد اشترى من السيف كثيراً من الرقاب ، لكثير من الخلق .
 
3990 -  وإن سيف الحلم لأحدّ من سيف الحديد ! بل إنه لأقدر على تحصيل الظفر من مائة جيش ! فوا أسفاه أن لقمة أو لقمتين قد أكلتا . فتجمد من تناولهما جيشان الفكر .
إن حبة من القمح قد كسفت شمس آدم كما أن ( سقوط ) الذنب “ 1 “ يكون خسوفاً لا لتماع البدر .
فتأمل لطف القلب ، وكيف يصير ، بَدْرُه بقبضة من الطين مقتطع النور كأنه أنجم الثور “ 2 “ .
فحينما كان الخبز معنوياً ، كان تناوله نافعاً ، ولكنه حين أصبح صورياً أثار الجحود !
...............................................................
( 1 ) عقدة الذنب وعقدة الرأس هما النقطتان اللتان يتلاقى عندهما مدار كل من الشمس والقمر . ويحدث الكسوف والخسوف عند أية نقطة من هاتين النقطتين .
( 2 ) مجموعة من النجوم الصغيرة تبدو وهي مجتمعة على صورة الثور ، وتمثل منزلا من منازل القمر . فمعنى البيت أن المطامع المادية تبدد نور القلب فتجعله يبدو مشتتاً كنور الأنجم الصغيرة المبعثرة بعد أن كان كالبدر مجتمع النور .


 
“ 461 “
 
3995 - فهو مثل الأشواك الخضراء التي تأكلها الجمال ، فتجد في تناولها مائة نفع ولذة .
فإذا ما ذهبت خضرتها وجفت ، فإن الجمال حين تأكلها في الصحراء ، تمزق أفواهها وأشداقها .
فوا أسفاه أن هذا الورد المغذي “ 1 “ قد أصبح سكيناً .
فالخبز - حينما كان معنوياً - كان شبيهاً بذلك الشواك الأخضر .
فلما أصبح صورياً فإنه الآن يابس غليظ ! وأنت على تلك العادة : فكما كنت قد أكلته من قبل ، أيها الكائن الرقيق !
 
 4000 - فإنك تأكل اليوم ذلك اليابس ، ( وفي أنفك ) ذات الرائحة ، بعد بعد أن امتزج المعنى بالتراب .
لقد أصبح ( خبزك ) مختلطاً بالتراب ، يابساً ، يمزق اللحم ، فلتعف الآن عن ذلك العشب ( اليابس ) ، أيها الجمل ! إن الكلام يجيء وهو شديد التلوث بالتراب ! وها قد تعكر الماء ، فلتغلقن فوهة البئر .
حتى يعيده اللَّه ماء صافياً عذباً . وإن الذي عكره ليجعلنه صافياً .
والصبر هو الذي يحقق الأمل ، لا التسرع . فكن صابراً ، واللَّه أعلم بالصواب .
 
(تمت ترجمة الكتاب الأول من المثنوي)
...............................................................
( 1 ) يقصد الشوك الأخضر الذي كان طعاماً سائغاً نافعاً للإبل .

* * *
شرح كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه

( 3721 ) يبدأ الشاعر هنا سرد قصة معروفة عن علي بن أبي طالب ، خلاصتها أنه كان ينازل أحد الرجال ، وتغلّب عليه فطرحه أرضاً ثم جثم على صدره ليقتله ، فبصق الرجل في وجه عليّ . وإذ ذلك ألقى عليّ بالسيف من يده وأعرض عن قتله . فلما سُل في ذلك ، قال إنه فعل ذلك لأنه خشي أن يكون من أسباب هذا القتل غضبه لأن الخصم قد بصق في وجهه . وهو لم يُرد قتله لهوى في نفسه ، وإنما كان ذلك من أجل مرضاة اللَّه . 
وقد ذكر نيكولسون بعض المصادر التي وردت بها هذه القصة ، ومنها رسالة القشيري ، وكتاب الفخري . ( انظر تعليقاته على الجزاء الأول ، ص 213 ) . 
وقد أضفى جلال الدين على القصة من فنّه ما جعلها حافلة بألوان رائعة من الحكمة ، وعلى عادته ، جعل من حكاية صغيرة ، عملًا أدبياً ينبض بالحياة . 


( 3729 ) ما الذي تجلى لك من صور الغيب ، فسكن غضبك بهذه السرعة ؟ 


( 3740 ) قال الرسول هذا الحديث ، ناهياً أصحابه عن مواصلة الصوم ( انظر الحديث في تعليقنا على هذا البيت مع ترجمته ) . وقد روي الحديث بصور مختلفة ، لكنها تحمل المعنى ذاته . وللحديث تفسير
 “ 619 “ 
صوفيّ في كتاب اللمع للسراج ( ص 132 ، 294 ) . 


( 3741 ) يجب أن تتقبل الروح مثل هذا القول من الرسول ، بدون تأويل ، وتكون متذوقة له كما يتذّوق الحلق الشهد واللبن . 


( 3742 ) فالتأويل الذي يصرف هذا القول عن معناه يكون رفضاً لهذا الكشف الإلهي الذي نقله الرسول إلينا . وتأويل القول على هذا النحو ينطوي - بصورة عامة - على اعتقاد بخطئه . 


( 3743 ) الذي يرى الخطأ في كشف إلهي ، أو خبر صادق مأثور عن الرسول فإنما فعل ذلك لأنه ضعيف العقل ، ولا مقدرة له على استيعاب مثل هذه المعاني الروحية . فلقد فاضت هذه من العقل الكليّ ، والعقل الكليّ هو لبّ الحكمة ، وأما العقل الجزئي الذي يعتد به الإنسان فليس سوى قشور . 


( 3744 ) “ إذا لم تتذوق مثل هذه الأخبار الصالح فابحث في نفسك عن الخطأ ، ولا تحسبه في هذه الأخبار فتعمل على تأويلها . والأولى بك أن تُلقي النوم على عقلك إزاء ما لا تفهم منها ، لا أن تتناولها بالنقد والتجريح “ . وقوله : “ وسبّ نفسك ولا تسبّ بستان الورد “ يحمل ذات المغزى الذي يشير إليه قول المتنبي :ومن يك ذا فم مرّ مريض * يجد مرّا به الماء الزلالا


( 3747 ) إن صفح عليّ قد قتل الغرور والاعتداد في نفس خصمه . 
والحقّ يقتل رغبات الحسّ ويخلص الإنسان من طغيانها ، وبهذا يبثّ في روحه الحياة الخالدة .


[ شرح من بيت 3750 إلى 3900 ] 
( 3750 ) قوله : “ يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير “ معناه : “ أيها الباز الذي حلّق في سماوات العالم الروحي ، وظفر منها بالصيد الوفير “ . 
والصيد الوفير كناية عما ظفر به في سياحاته الروحية . 


( 3752 - 3754 ) يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى مختلف درجات الكشف الروحي . فأهل العرفان يكون لهم من الشهود والعيان ما تؤهلهم له
 “ 620 “ 
قواهم الروحية ونفاذ بصيرتهم المتجهة إلى عالم الغيب . 


( 3754 ) يخاطب الكافر عليّاً بقوله : “ هؤلاء العارفون - على اختلاف درجاتهم - متجهون إليك ، وقد تعلقت أبصارهم وآذانهم بصنيعك ، لما تجلى فيه من جمال الكشف الروحي . فهذا الصفح قد أظهر أمامهم مثلًا رائعاً من الحلم وضبط النفس . وهم - في الوقت ذاته - منصرفون عنّي ، لم تلفت أنظارهم شناعة عملي ، لأن مبعثه الحقد والبغضاء والميل مع الهوى ، وهؤلاء لا صلة لقلوبهم بهذه الأحاسيس “ . 


( 3760 - 3762 ) المرشد يشرق نور هدايته - الذي يتجلى في سلوكه وأفعاله - فيهدي السالكين . ولكنه إذا تكلم كان أكثر هداية لهم ، وكانت أقواله تزيد أفعاله وضوحاً ، فيسهل على مريديه الاقتداء به . وقد قدم ابن العربي لحديثه عن الأولياء المرشدين بقوله :ومن عجب أني أحنّ إليهمو * وأسأل عنهم من أرى وهمو معي 
وترصدهم عيني وهم في سوادها * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي( الفتوحات المكيّة ، ج 1 ، ص 178 ) . 


( 3763 ) في هذا البيت إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول أنه قال : “ أنا مدينة العلم وعليّ بابها “ . 


( 3764 ) قوله : “ حتى يتحقق بك وصول القشور إلى اللباب “ ، معناه “ حتى تكون هادياً لمن أسارى عالم الحس الظاهر إلى عالم الروح ، وهو الهدف الأسمى لوجود الإنسان في هذا العالم . 


( 3767 ) ليس للقلب سبيل إلى الانطلاق من عالم الحس إلى عالم المعنى ما لم يفتح له الباب مرشده وراعيه . 


( 3768 ) لو انفتح أمام القلب باب يشاهد منه العالم الروحي ، لبهره جمال ما يشهد ، وكان هذا الجمال مثيراً لخياله ، باعثاً له على الانطلاق محلقّاً بأجنحة شداد في عوالم من التأمل الروحي العميق . 


( 3769 - 3770 ) المرشد الروحي بما يكون عليه من التواضع والزهد
 “ 621 “ 
والتقشف يبدو للسالك مظهراً لا خير وراء . والسالك قد يقصده فيجد عنده كنوز المعرفة على غير توقع منه ، كما قد يجد بعض الناس كنزاً في الأرض الخراب . وإذ ذاك ينجذب السالك إلى كل مرشد روحي ، كما يندفع مكتشف الكنز نحو كل أرض خراب . ولو لم يجد السالك ما يسعده من جواهر الحكمة عند أحد المرشدين الروحيين ، لما قاده ذلك إلى أن يطلب صحبة رجال التصوف ، وينشد الارتباط بهم . 


( 3771 - 3772 ) الإنسان المعتدّ بنفسه ، المبتعد عن رجال الحقيقة ، يعيش أسير ظنونه ، ولا سبيل له إلى إدراك اليقين . فالمعتدّ بنفسه لا يستطيع أن يفيد معرفة من غيره ، كمن شمخ بأنفه فلم يعد يبصر شيئاً سواها . 

( 3775 ) كان من المعروف أن الشمس هي التي تبث الروح الحيواني في الأحياء. 

( 3784 ) قوله “ الباز الذي يصيد العنقاء “ معناه “ يا من أنت قادر على الظفر بأعمق حقائق العرفان التي تستعصي على الآخرين “ . 

( 3794 ) الرياح العاصفة “ هنا رمز للأهواء والشهوات التي تذهب بثبات الرجال وتعصف بهم . 

( 3797 ) الشطر الثاني من البيت يمكن أن يقرأ على النحو التالي : 
“ ورشوم چون كاه بادم ياد اوست “ . 
ومعناه : “ ولو صرت كالقشة فلا ريح تحركني إلا ذكره “ . والقراءتان - في نظرنا - مقبولتان . 

( 3806 ) قوله “ فما هو إلا عيان ومشاهدة “ يعنى أن اليقين يحل بالقلب النقي فيكون صاحبه صادراً في عمله عن يقين تكشّف له ، وليس دافعه حينذاك التقليد ، ولا الظن والخيال . 

( 3810 ) يتحدّث الشاعر هنا حديثاً مباشراً فيقول إنه لا يجوز أن تُكشف الأسرار الروحية لعامة الخلق إلا بمقدار ، فعقولهم لا تتسع لها ،
 “ 622 “ 
كما أن مجرى النهر لا يتسع لماء البحر . 


( 3818 ) إن الذي يتبع الشهوات لا يستطيع الخلاص من سيطرتها عليه . فكأنما هو قد ألقى بنفسه في بئر عميقة القرار . والشاعر يؤكد هنا إيمانه بمسئولية الإنسان عن أفعاله فليس ارتكاب الذنوب جبراً إليهاً ، بل هو خطيئة إنسانية . 

( 3819 ) البئر التي لا رسن يوازي عمقها “ كناية عن الخطايا والشهوات التي يصعب الخلاص منها على من أصبح أسيراً لها . 

( 3821 ) إن الأكباد التي لا تتأثر ، بمثل هذا النداء الروحي ، وبهذا التحذير من الحسّ وشهواته ، لم يكن فعلها هذا ناشئاً عن صلابتها وقدرتها على الصمود أمام روعة هذا النداء ، وإنما كان بسبب غفلتها وحيرتها وانصرافها عن سبيل الحق . فهي لا تسمعه ، ولهذا لا تتأثر به . 

( 3822 ) قوله : “ فلتدْمَ في وقت لا يكون فيه دمك مردوداً “ . 
معناه : “ فلتبادر إلى الإصغاء لنداء الحق والعمل به قبل أن يأتي وقت لا ينفعك فيه الندم ، ولا يفيدك إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان “ . 

( 3824 ) إن الرسول قد أرسل شاهداً على الخلق . وإنه لأعظم الناس أهلية لهذه الشهادة ، لأنه قد تحرر من استعباد المادة تحرراً كاملًا . وعبد المادة والشهوة - كما ذكر الشاعر - أمعن في العبودية من العبد الرقيق . ( انظر 3815 ، 3816 ) . 

( 3825 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ . 

( 3826 ) في البيت إشارة إلى حديث قدسي نصّه : “ إن رحمتي غلبت على غضبي “ . 

( 3830 ) إن المعصية التي ارتكبها خصم عليّ كانت سبباً في اهتداء هذا الخصم . ذلك لأنها كشفت حلم عليّ وتجرده من الغرض أمام هذا الخصم ،
“ 623 “

فتجلى له اليقين ، وحمله الإيمان إلى أعلى سماواته . 

( 3832 ) كان عمر بن الخطاب قاصداً قتل الرسول ، فلقيه على الطريق من نهاه عن ذلك ، ونبهه إلى الالتفات إلى أهل بيته حيث أن أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو قد أسلما . فذهب قاصداً أخته وزوجها ليؤاخذهما على اتباع دين محمد . وكانت معهما صحيفة من سورة طه ، قرأها عمر فاهتدى إلى الإسلام ، وذهب إلى الرسول ثم أعلن إسلامه . 
( انظر القصة برواياتها المختلفة في سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 366 - 375 ، طبعة الحلبي . القاهرة ، 1936 ) . 

( 3836 ) إن انبثاق الطاعات من المعاصي على هذا النحو الذي وصفه الشاعر يدل على أن باب الأمل مفتوح على مصراعيه أمام الناس . إن اللَّه قد ضرب عنق اليأس ، وأراد لعباده أن يتحرروا منه . 

( 3837 ) يشير الشاعر هنا إلى قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً “. ( 25 : 70 ) .
والتوبة هنا هي البداية الجديدة لحياة من الإيمان وصالح الأعمال تجبّ ما قلبها من حياة العصيان . وفي القرآن آيات كثيرة ذكرت التوبة وبينت أنها وسيلة لغفران الذنوب . ومن هذه الآيات قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً “. ( 19 : 60 ) . 


وقوله :” وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ “. ( 7 : 153 ) . وللتوبة الحق شروط لا مجال لذكرها هنا . 
أما قول الشاعر “ على الرغم من الوشاة “ فمعناه أن اللَّه يقبل التوبة ممن يصح عزمه على الصلاح وترك العصيان ، وذلك على الرغم من قول المتشائمين ، الذين يذهبون إلى استحالة قبول التوبة من العاصي ، ويغلقون بذلك باب الأمل المفتوح أمام الناس . 


( 3841 - 3843 ) يقدم الشاعر في هذه الأبيات تصويراً لمحاولة الشيطان إغراء الناس وإيقاعهم في الخايا ، وتربية الإثم في نفوسهم .

“ 624 “

( 3844 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ . وقد ذكر في الأبيات التالية قصة عن علي خلاصتها أن الرسول كان قد أخبر خادم علي أن هلاك سيده يكون على يديه ، وأن علياً برغم علمه بذلك لم يقرب خادمه بسوء . وفي القصة عناصر لا يُعرف لها أصل ، وفيها عناصر يمكن أن تُرد إلى أصولها . 
فأما وصف عبد الرحمن بن ملجم بأنه كان خادم علي ، فهذا ما لم أعثر عليه في أي من المصادر التاريخية التي رجعت إليها . لكن هناك ما يشير في المصادر إلى أن علياً كان يعرف قاتله ، وكذلك أن الرسول تنبأ سلفاً بمقتل علي . ومما ذُكر من ذلك “ أن علياً كان يخطب مرة ويذكر أصحابه ، وابن ملجم تلقاء المنبر فسُمع وهو يقول : واللَّه لأريحنهم منك . فلما انصرف علي إلي بيته أُتي به ملبباً ، فأشرف عليهم فقال : ما تريدون ؟ فخبروه بما سمعوا . فقال : ما قتلني بعد ، فخوا عنه “ . ( الكامل للمبرد ، ج 3 ، ص 198 ، مطبعة نهضة مصر ، القاهرة ) . 
وخوطب علي في شأن ان ملجم فقيل له : “ كأنك قد عرفته ، وعرفت ما يريد بك ، أفلا تقتله ؟ فقال : كيف أقتل قاتلي ؟ “ ( المصدر السابق ) . 
وفيما رواه ابن طباطبا ما يشبه ما ورد في كتاب الكامل . ولكنه يضيف إليه قوله : “ وهذا يدل على أن رسول اللَّه أعمله بذلك في جملة ما أعمله به “ . 
(تاريخ الدول الاسلامية المعروف بالفخري ، ص 99 ، بيروت ، 1960 ) . 


( 3853 - 3854 ) القاتل ليس إلا أداة من الأدوات التي يستخدمها الحق في إماتة الناس . فهو وحده الذي يجيي ويميت . ولكن إذا كان هذا القتل من فعل اللَّه ، فلماذا يكون القصاص ؟ ويجيب الشاعر على ذلك بأن هذا القصاص من الأسرار الإلهية ، ولكنه مع ذلك لا يخرج من كونه صورة من الصور التي يتجلى فيها التضاد الظاهري فيما ينبثق عن الصفات الإلهية التي استوعبت الكون بكل مظاهره . 


( 3855 ) إن ما قد يظهر في الكون من قهر إلهي ، يعقبه لطف يمحو آثار هذا القمر ، ويشيع في مكانه الرحمة والرضى .
“ 625 “

( 3860 ) كل شريعة أنزلها اللَّه كانت أكمل مما سبقها . ولهذا فإن الخالق ما حطم شيئاً إلا صنع ما هو خير منه . 

( 3861 ) مظهر القهر قد يستر وراءه خيراً ولطفاً ، كاليل يحجب نور النهار بظلامه ، ويلف الخلق جميعاً بسكونه ، ومع ذلك ، ففي هذا الظلام والسكون ما يمكنّ العقول من التأمل والتفكر فتشرق عليها أنوار المعرفة . 

( 3863 ) قوله “ أليس ماء الحياة داخل الظلمات ؟ “ يعني أن الشدة قد تنطوي على الخير ، كما يحيط الظلام بماء الحياة . ( انظر البيت 574 والتعليق عليه ) . 

( 3865 ) إن الشر في هذه الدنيا بظهر الخير ، والآلام تظهر المسرات . 
وكل ضد يظهر ضد في الوجود . وليس للنور الدائم مقر إلا سويداء القلب . 

( 3774 ) إن موت الإنسان بداية لحياة جديدة أعظم من حياته على الأرض . 
وقد يكون قطع الخلق هنا رمزاً لإماتة الشهوات الحسية ، مما يجعل الروح قادرة على الانطلاق من إسار الجسد إلى عالمها الرحب . 

( 3875 ) “ الحلق الثالث “ هنا رمز لقدرة على التذوق من نوع آخر ، وتلك هي الذوق الصوفي . والصوفية بهذا الذوق ، “ يحتسون النور ، وينهلون شراب الحق “ كما يقولون . 

( 3876 ) إن من قُتلت فيه شهوات الحس ونزواته ، يولد له ذوق روحي ، فيكون فناء الحس سبيله لتحقيق البقاء ، ويكون نفي الذات طريقه إلى الخلود . 

( 3877 ) قوله : “ إلى متى تكون بالخبر حياة روحك ؟ “ معناه “ إلى متى تعتبر طعام الحس سر حياتك، وتحسب أن هذه الحياة ارتكزت على متاع الدنيا وملاذها؟“. 


( 3878 ) إنك أرقت ماء وجهك للحصول على المتع الحسية ،


“ 626 “

واعتبرت ذلك هدفاً لك في الحياة ، ولهذا فإنك لم تثمر ، فكأنك شجرة صفصاف . 

( 3879 ) “ فإن كنت غير قادر على التحرر من سلطان الحس فاتخذ شيخاً مرشداً ، فإن هذا المرشد قادر على أن يرتفع بنفسك من طبيعتها الحيوانية إلى طبيعة أسمى من تلك ، وأثره عليك يكون كأثر الإكسير على النحاس . 

( 3880 ) فإن كنت تريد غسل قلبك ، وتنظيفه مما علق به من شوائب المادة ، فلا تحوّل وجهك عن هؤلاء الخبراء بتنظيف القلوب وتطهيرها . 

( 3881 ) مع أن الخبر لذيذ يزيل آلام الجوع ( والخبز هنا رمز لمتع الحس التي ترضي النفس الحيوانية ) ، فإن خير الإنسان يكون في تعلقه بخالقه ، وإعراضه عن شهوات الحس ، مهما شق عليه هذا الإعراض . 

( 3882 ) كل ما يصدر عن اللَّه فهو خير . وقد يظهر للناس بعض ذلك مؤلماً ، ولكن صدوره عن الخالق يستلزم أن يكون منطوياً على الخير . 


( 3884 ) لعل الشاعر يشير هنا إلى تحريم قتل النفس ، إلا بالحق . والحق هو ما تنص عليه الشريعة الإلهية ، فالإنسان الذي يقتل ، لا يستطيع أن يحي ، لكن اللَّه يحطم حياة الجسد ، ويهب حياة أكمل منها هي حياة الروح . وإذا أخرج إنساناً من هذه الدنيا ، فهو قادر على أن يخلق من بعده كثيراً من البشر . ويؤيد هذا التفسير ما قاله الشاعر في البيتين رقم 3888 ، 3889 . 


( 3888 - 3889 ) لو لم يأمر اللَّه بالقصاص من القائل ، لما كان لإنسان أي حق في أن يقتل إنساناً آخر ، ذلك لأن الإحياء والإماتة هما من حق اللَّه وحده .


[ شرح من بيت 3900 إلى 4003 ] 
( 3900 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ “. ( آل عمران ، 3 : 8 ) .
“ 627 “

( 3904 ) الإنسان عدو لفنسه ، وكثيراً ما يجلب عليها الأضرار والمتاعب ولا سبيل إلى إنقاذ الروح مما يوقعه بها صاحبها ، إلا بلطف إلهي . وهذا اللطف هبة من اللَّه يؤتيها من يشاء من خلقه . 

( 3905 ) لو أنه أنقذ روحه من شهوات الحس ، فليس معنى ذلك أنه وصل بها إلى غايتها من الكمال . فالروح تخلص من إسار المادة ، لكي ترقى درجات الكمال حتى تبلغ في هذا السبيل أقصى الغايات . فإذا اقتصر الجهد على محاربة الأهواء والشهوات ، وبقيت الروح راكدة في ظل إحساسها الذاتي ، لا تستشعر الحنين إلى خالقها وموجدها ، كانت هذه الروح مسخرة للخوف ، مدبرة حيث كان ينبغي لها الإقبال . فانطواء الروح على إحساسها الذاتي يحول بينها وبين السعي إلى خالقها . 

( 3916 ) قوله “ وقطع حلق الناي ثم عاد فدلله “ ، معناه أنه جعل الغاب يُقطع من منبته ويثقب ليصبح آلة للعزف ، فلما صادر كذلك كرّمه بأن جعله قريناً المجلس السماع ، حيث يشغل الصوفية بذكر اللَّه . 

( 3923 ) الشطر الأول من البيت قراءة محرّفة للشطر الأول من بيت مشهور للشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة يقول فيه :ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل * وكل نعيم لا محالة زائل( 3924 ) يقول صاحب الفخري ( ص 99 ) : “ وكان علي - عليه السلام - دائماً يحسن إلى ابن ملجم “ . 
( 3925 ) انظر حاشية البيت 3844 . 


( 3930 ) قوله : “ أستشعر عشق المنيّة وهواها “ ، معناه : “ أشتاق إلى خلاص الروح من الجسد حتى تصعد إلى خالقها “ . 


( 3934 - 3935 ) في هذين البيتين اقتباس من قول الحلاج :اقتلوني يا ثقاتي * إن في قتلي حياتي 
وحياتي في مماتي * ومماتي في حياتي


( 3936 ) “ لو لم يكن في المقام بهذه الحياة الدنيا فرقتي عن عالم الروح ، لما


“ 628 “


كان يُقال” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ “. ( البقرة ، 2 : 156 ) والمؤمنون يرددون هذه العبارة القرآنية حينما تصيبهم مصيبة، أو يمر بهم ما يذكرهم بالموت ولقاء اللَّه. 

( 3944 ) ينسب إلى علي أنه قال :السيف والخنجر وريحاننا * أُف على النرجس والآس
( 3945 ) عُرف علي بالزهد والتقوى . والشاعر يصوره هنا منصرفاً عن جاء الدنيا ، وقد غلبت حياة الروح عنده على متع الجسد . 


( 3949 ) شبيه بمعنى هذا البيت قول البوصيري :وراودته الجبال الشمّ من ذهب * عن نفسه فأراها أيما شم
( 3954 ) “ إن متاع الدنيا لا يستطيع أن يصرفنا عن طريق الروح التي أخذنا أنفسنا بالسعي إليها، كما أن جمال الخلق لا يحوّل قلوبنا عن محبة الخالق المبدع “ . 

( 3958 ) إن الغرض يلوّن الحقيقة بطابعه في بصيرة الانسان ، كما يحدث حين ينظر المرء إلى نور الشمس من خلال زجاجة ملوّنة . 

( 3959 ) “ الزجاجات الملونة “ هنا رمز للأهواء المختلفة التي تصبغ الحقيقة بألوانها . وكسر هذه الزجاجات كناية عن التخلص من تلك الأهواء حتى لا تكون مدعاة لخطأ البصيرة . فالإنسان الذي يتخلص من الغرض والهوى يصدق حكمه على الناس وعلى أفعالهم . وقوله : “ حتى تتبيّن فلا الغبار والرجل “ معناه : “ حتى تتكشف لك حقيقة الرجل الصالح ، فلا تقيس أحواله ، بأحوالك وتحكم عليه من خلال ما غشي بصيرتك من ضباب الشهوات والأهواء “ . 


( 3961 ) مثل الذي يستهزيء برجل اللَّه كمثل إبليس الذي نظر إلى ظاهر آدم ، ولم ينظر إلى حقيقة . فهيكل آدم الذي صُنع من الطين خدع إبليس عن حقيقة آدم فاستهان به ، وحسب نفسه خيراً منه . 


( 3965 ) الأسد ملك الحيوانات وأقواها يمثل الحس المادي في أقوى صوره ، هذا الحس “ الذي ينشد الصيد والغذاء “ وهما يرمزان هنا إلى

“ 629 “

الحرص واللذة ، أما “ أسد الحقّ “ وهو الرجل الكامل الذي انطلق بروحه نحو خالقه ، فلم يعد للجسد ، بكل لذّاته الحسيّة ، سلطان عليه . وسبيله الذي ينشده هو التحرر الكامل من طغيان الجسد . 


( 3973 ) “ السراج “ وصف للرسول جاء في قوله تعالى :” يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً “. 
( 33 : 45 - 46 ) . 


( 3979 ) قوله : “ وكسر زجاجة الحبيب لا يكون إلا بحجر الحبيب “ ، معناه أنه لا حق لإنسان في أن يميت إنساناً آخر . فاللَّه وحده هو الذي يميت ، سواه أكان ذلك بفعل مباشر ، أو بأمر واجب الاتباع ، مما نصتّ عليه الشريعة . 

( 3984 ) “ السراج الذي يبحث عن العين “ هو الذي يهدي القلوب التي تنشد الهداية . والعبارة كلها كناية عن الرسول . ويؤكد هذا المعنى وصف الشاعر لهذا السراج في الشطر الثاني من البيت بأنه هو الذي أمدّ سراج عليّ بالنور . 
فهدْيُ عليّ مقتبسُ من هدي الرسول . 

( 3985 ) هديُ الرسول بحر من النور ، وقد كان سبباً في ظهور كل هذه الأفعال النبيلة على يد أتباعه . ومنها سلوك عليّ إزاء ذلك الكافر . 

( 3990 ) ذكر بعض الشراح أن الشاعر يشير بهذا البيت إلى حادث معيّن ، أوقف نظم المثنوي عند نهاية الكتاب الأول . والمعروف أن هذا الحادث - على ما يُذكر في سيرة الشاعر - كان وفاة زوجة حسام الدين ، تلميذه المحبوب ، الذي كان يكتب ما يمليه الشاعر من أبيات المثنوي . 
ولكني اعقتد أن الشاعر يتناول في هذا البيت أثر المادة على الروح بوجه

“ 630 “

عام . فالتمتع الحسيّ ، يوقف جيشان الفكر وانطلاقه . 


( 4001 - 4003 ) يبدو في هذه الأبيات طابع من الحزن ، ولعل الشاعر هنا يشير إلى مأساة تلميذه حسام الدين بفقد زوجته . فهذه المأساة قد عكّرت صفاء التلميذ ، وجعلته غير قادر على المضي مع أُستاذه في العمل . 
وهنا رأى الشاعر أن نبع الشعر قد اعتكر ، وأنه لا بدّ من الوقوف عند هذا الحد إلى أن يعود الصفاء من جديد . 


(تمت شروح الكتاب الأول من المثنوي )



*
تم بحمد الله تعالى رب العالمين
عبدالله المسافر بالله
.
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: