الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

14 - في بيان أنّ إبليس كان أول شخص عارض النصَّ بالقياس .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

14 - في بيان أنّ إبليس كان أول شخص عارض النصَّ بالقياس .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

14 - في بيان أنّ إبليس كان أول شخص عارض النصَّ بالقياس .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

في بيان أنّ إبليس كان أول شخص عارض النصَّ بالقياس

لقد كان إبليس أول شخص أبدى تلك القياسات الواهية أمام أنوار اللَّه .
فقال : “ إنّ النار بدون شكّ خير من الطين . وأنا من النار ، وآدم من الطين الكدر .
فإذا قسنا الفرع على أصله ، فهو من الظلمة وأنا من النور المضيء “ “ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) صلى صاحب الرياء في حضور الرسول ، وبعد فراغه قال له : “ قم صلّ ، فإنك لم تصلّ “ . 
فظنّ أنه أخطأ فاستأنف معدّلًا الأركان ظاناً إتمامها فقال الرسول عليه السلام : “ لا صلاة إلا بحضور القلب “ .
( 2 ) إذا كانت أُذنك الحسيّة تلقى بالقبول كلام البشر ، وما يخوضون فيه من هراء فمعنى ذلك أن أذنك التي تستمع إلى الغيب صّماء .
( 3 ) إشارة إلى قصة إبليس ورفضه السجود لآدم . وقد ذكرت في آيات عديدة من القرآن منها : “ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين “ . ( الأعراف . 7 : 12 ) .


“ 406 “

فقال الحق :” فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئذٍ ““ 1 “ . إنّ الزهد والتقوى قد أصبحا محراباً للفضل .
 

3400 -  فهذا ( الفضل الإلهيّ ) لا يُنال بالأنساب كميراث العالم الفاني . إنه ( ميراث ) روحيّ .
إنه ميراث الأنبياء ، وأما وارثوه فأرواح أهل التقوى .
فابن أبي جهل أصبح مؤمناً واضح الإيمان ، وأما ابن نوح فكان من الضالين .
وها هو ذا سليل التراب قد أصبح منيراً كالقمر ، وأما أنت - يا ابن النار - فامض أسود الوجه .
إن العالم الورع ليستخدم تلك القياسات والأبحاث ، في اليوم الغائم أو في الدجى ليجد القبلة .
 

3405 -  ولكن إذا كانت الشمس مشرقة ، والكعبة أمامك ، فلا تنشد هذا القياس ولا ذاك التحري .
ولا تنظاهر بأنك لا ترى الكعبة ! لا تثن وجهك عنها من أجل القياس ! واللَّه أعلم بالصواب .
إنك حينما تسمع صفيراً من طائر الحق ، تحفظ ظاهره كأنما هو درس تعلمته .
ثم تنشىء قياسات من نفسك ، فتضفي الذاتية على خيالك المحض .
ولكن الأبدال لهم مصطلحات لا علم للأقوال ( الظاهرة ) بها .


3410 - لقد تعلمت من منطق الطير الصوت ( وحده ) ، فأثرت “ 2 “ مائة قياس ومائة هوس .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون “ . ( المؤمنون ، 23 : 101 ) .
( 2 ) حرفياً : فأشعلت .


“ 407 “

ولقد تألمت منك القلوب ، كما تألم ذلك المريض ، بينما الأصم قد أسكره ظن الإصابة .
وكاتب الوحي - حين سمع صوت ذلك الطائر - ظن أنه شريك له .
فضربه الطائر بجناحه فأعماه ، بل إنه ألقى به في حضيض الموت والألم .
“ فحذار ، حتى لا ينزلكما من مقامكما السماوي خيال أو ظنّ .



3415 - فمع أنكما هاروت وماروت ، ومع أنكما أرفع من كل ملائكة السماء “ 1 “ ، فلا بد لكما من الرثاء لخطايا المخطئين ! 
وإيا كما أن تحوما حول الغرور والأنانية ! حذار حتى لا تدهمكما غيرة الحق ، فتسقطا منقلبيْن إلى قاع الثرى ! 
“ فأجابا قائلين : “ يا إلهنا ! إنك صاحب الأمر . وبدون أمانك أين يكون الأمان ؟
وكيف يأتي السوء منا ونحن نعْمَ العباد ؟ “ . فهكذا كانا يتحدثان ولكن قلبيهما كانا يخفقان ( بالهوى ) !


3420  إن شوك ( الهوى ) لم يترك هذين الملكين ، حتى غرس فيهما بذور الغرور .
فأخذا يقولان : “ يا أبناء العناصر ، الذين لا علم لهم بطهارة الروحانيين ! 
إننا سوف ننسج فوق هذا الأفق أستاراً ، ثم نهبط ( بها ) إلى الأرض ونضرب مخيّماً فوقها .
وهناك نقيم العدل ، ونؤدي العبادات ، ثم نصعد كل ليلة إلى السماء .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ ومع أنكما أرفع من كل من هم فوق قمة ( نحن الصافون ) “ .
وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن الملائكة : “ وما منا الا له مقام معلوم وانا لنحن الصافون وانا لنحن المسبحون “ . ( الصافات ، 37 : 164 - 166 ) .


“ 408 “
 
وإذ ذاك نصير أعجوبة هذا الزمان ، ونرسي في الأرض الأمن والأمان !


3425 - وهذا القياس لحال الأرض على السماء لا يستقيم ، لأن بينهما فرقاً خفيّاً !
 
في بيان أن المرء يجب أن يخفي حاله وسكره عن الجاهلين


إستمع إلى قول الحكيم المستتر “ 1 “ : ضع رأسك في المكان الذي احتسيت به الخمر “ 2 “ !
فإن الثمل إذا ضلّ السبيل من الحانة ، يصير سخرية للأطفال ولعباً .
وحيثما توجه يسقط في الوحل على هذا الجانب أو ذاك ، فيهزأ منه كل أبله !
فهو يمضي على هذا النحو والأطفال يتعقبونه، غير مدركين سكره ولا مذاق الصهباء.


3430 - وجميع الخلق أطفال إلا من ثمل باللَّه ! وليس بينهم من رشيد سوى من تخلص من هواه ! 
إن اللَّه تعالى يقول :” إنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعبٌ وَلَهْوٌ “ *” 3 “ . وإنكم لأطفال ! واللَّه يقول الحق .
...............................................................
( 1 ) المقصود بالحكيم المستتر الشاعر الصوفي مجد الدين سنائي .
( 2 ) إذا سكرت فالزم مكانك ونم حتى تفيق .
( 3 ) وردت في القرآن آيات كثيرة تتضمن هذه العبارة التي اقتبسها الشاعر ، منها قوله تعالى : “ اعملوا أنما الحياة لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد “ . ( الجديد ، 57 : 20 ) ، وكذلك ( 6 : 32 ) ، ( 29 : 64 ) ، ( 47 : 36 ) .


“ 409 “

 
فإن أنت لم تقلع عن اللعب ، فأنت طفل ! وكيف تكون زكياً إن لم تكن طاهر الروح ؟
أيها الفتى ! اعلم أن الشهوة التي ينكب الناس عليها في هذه الدنيا إنما هي كجماع الأطفال !
وما جماع الأطفال ؟ إنه لعب ، إذا قيس بجماع رستم ، أو غيره من الأبطال .


3435  وما حروب البشرية إلا كصراع الأطفال ، كلّها تافهة لا معنى لها ولا لبّ .
فهم جميعاً يتقاتلون بسيوف خشبيّة . وجملة أهدافهم ليست بذات جدوى .
وقد أصبحوا ممتطين أعواد الغاب “ 1 “ ( قائلين ) : “ هذا بُراقنا أو هذا فرسنا ، الذي يخطو مثل دلدل “ “ 2 “ .
إنهم حاملون أنفسهم ، ولكنهّم - لجهلهم - يتطاولون ، إذ قد ظنوا أنفسهم محمولين فوق الطريق ! فمهلًا ، 
حتى يأتي يوم يمرق فيه من يرفعهم اللَّه ، مسرعين بخيولهم خلال السماوات التسع .


3440 تعرج الروح إليه والملك * من عروج الروح يهتز الفلك “ 3 “إنكم جميعاً كالأطفال ، تمتطون ذيول الثياب “ 4 “ . 
وكل منكم قد أمسك بطرف ثوب رفيقه ، كأنه ( عنان ) جواد .
ولقد قال اللَّه تعالى :” إنَّ الظَّنَّ لا يُغْني منَ الْحَقِّ شَيْئاً “ *” 5 “ ومتى كان مركب الظن يسارع إلى الأفلاك ؟
...............................................................
( 1 ) من عادة الأطفال في الشرق أن يمتطوا أعواد الغاب يشبهونها بالخيل .
( 2 ) “ دلدل “ اسم بغلة شهباء كانت للرسول ، وقيل اسم فرس عليّ .
( 3 ) هذا البيت عربي في الأصل .
( 4 ) إشارة إلى لعبة الأطفال التي فيها يمسك الطفل بذيل ثوب رفيقه ثم يجريان مقلدين الفارس والحصان .
( 5 ) . ( 10 : 36 ) ، ( 53 : 28 ) .

“ 410 “


أغلب الظنين في ترجيح ذا * لا تماري الشمس في توضيحها “ 1 “ فحينذاك ترون مطاياكم ، ( وتعلمون ) أنكم قد اتخذتم من سيقانكم مطايا .


3445  ألا فلتعلموا أن وهمكم وفكركم وحسكم وإدرا ككم مثل عود الغاب الذي يمتطيه الطفل ! 
إن علوم أهل الدين حاملة لهم ، وأما علوم أهل الحس فأحمال فوقهم ! 
والعلم حين ينزل على القلب فهو صديق ، وأما حين يهبط على الجسم فهو عبء .
قال تعالى :” مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْملُوها ، كَمَثَل الْحمار يَحْملُ أَسْفاراً ““ 2 “ . فكل علم لا يكون من الحق فهو عبء .
والعلم الذي لا يكون من اللَّه بدون وسيط ، فهو كأصباغ الماشطة ، لا دوام له .

3450  لكنك حين تجيد حمل هذا العبء ، يرفع عنك ، وتوهب لك السعادة .
وكن حذراً ، ولا تحمل عبء العلم من أجل الهوى . إنك بترك الهوى تصبح ممتطياً جواد العلم المنطلق .
فإذا ما أصبحت فارساً فوق جواد العلم المنطلق ، سقطت من فوق كتفيك الأعباء .
وكيف تخلص من الأهواء بدون الكأس الإلهية ، يا من قنعت من “ هو “ بلفظ “ هو “ ؟
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربي في الأصل .
( 2 )   (الجمعة ، 62 : 5 ) .


“ 411 “

 
فما الذي يتولّد من الصفة والاسم ؟ إنه الخيال . وهذا الخيال المتولد هو الدليل إلى الوصال .


3455 - وهل هناك عين دليل بدون مدلول ؟ إنه ما لم توجد الجادة فلا وجود للغول “ 1 “ .
وهل رأيت اسماً قط بدون حقيقة ( يدلّ عليها ) ؟ أم هل جنيت الورد قط من لفظة “ ورد “ ؟
لقد نطقت بالاسم ، فاذهب وفتش عن المُسَّمى ! واعلم أنّ القمر في علياء السماء ، وليس في ماء النهر .
فإذا أردت أنْ تتخلصّ من الأسماء والحروف ، فخلّص نفسك من الذاتية خلاصاً كاملا .
واخرج عن اللون كما يخرج الحديد المصقول عن لونه ! ولتكن بالرياضة مرآة برئت من الصدأ !


3460 - راجعل نفسك نقيّة من صفات الإحساس بالذات ، حتى ترى ذاتك الطاهرة الصافية .
وترى في قلبك علوم الأنبياء ، بدون كتاب ولا معيد ولا أستاذ .
لقد قال الرسول ( ما معناه ) : “ إنّ من بين أمتي ، من يكون لهم ذات جوهري وهمتي ! 
وإن أرواحهم لتراني بدلك النور الذي أراهم به “ “ 2 “ .
( وتلك الرؤية تكون ) بدون صحيحين ولا أحاديث ولا رواة ، وإنما هي عند منهل ماء الحياة .
...............................................................
( 1 ) الغول كائن خرافي ورد في الأساطير العربية ، وينسب اليه أنه يضل المسافرين في الفيافي .
( 2 ) روي عن أبي ذرّ أنه قال : قال عليه السلام : “ واشوقاة إلى إخواني يكونون من بعدي شأنهم شأن الأنبياء وهم عند اللَّه بمنزلة الشهداء ، ينظر اللَّه إليهم في كل يوم سبعين مرة . يا أبا ذرّ إني إليهم مشتاق “ . ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 630 ) .


“ 412 “


3465 - فلتعلم سر “ أمسيت كردياً “ ، ولنقرأ سرّ “ أصبحت عربياً “ “ 1 “ .
وإنْ كنت تريد مثالًا من العلم الخفي فاذكر لنا قصة الروم وأهل الصين .


قصة الجدال بين الروم وأهل الصين حول علمي النقش والتصوير

لقد قال الصينيون : “ إننا أجمل نقشاً “ . فقال الروم : “ بل نحن أصحاب الكرّ والفرّ ( في هذا الميدان ) “ .
فقال السلطان : “ أريد أن أمتحنكم في هذا ، لأرى من منكم أهل لتلك الدعوى “ .
وتباحث الصينيون والروم ، فصمد الروم في هذا البحث .


3470 - فقال الصينيون : “ فلتخصصوا لنا حجرة ، ولتختصّوا أنتم بحجرة “ .
وكان هناك غرفتان باباهما متقابلان ، فأخذ الصينيون واحدة ، منهما ، وأخذ الروم الأخرى .
وطلب الصينيون من الملك مائة لون ، ففتح لهم الملك خزائنه ليأخذوا ( ما أرادوا ) .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى ما كتبه الشاعر في مقدمة المثنوي عن تلميذه حسام الدين وفيه قال : “ أبو الفضل حسام الحق والدين . . الأرموي الأصل المنتسب إلى الشيخ المكرم بما قال : أمسيت كردياً وأصبحت عربياً . و “ الشيخ المكرم “ المشار اليه هنا مجهول . وقد حاول الشراح التعرف عليه وذكروا أسماء لا سبيل إلى التيقين من أن الشاعر يعني أياً منها . والمهم هنا أن الشاعر يشير إلى معجزة وقعت لهذا الصوفي هي أنه كان كردياً وطلب اليه أن يلقي خطاباً وعظياً فدعا ربه فأطلق لسانه بالعربية . وهذا معنى قوله : “ أمسيت كردياً وأصبحت عربياً “ .

“ 413 “


فكان من عطاء الخزينة ، في كل صباح ، حصّة من الألوان للصينيين .
أما الروم فقالوا : “ لا لون ولا صبغ يليق بعملنا ، فما هو إلا دفع للصدأ “ .

 
3475 -  لقد أغلقوا الباب وأخذوا يصقلون ، فصاروا في نقائهم وصفائهم مثل الفلك .
وإنّ من تكاثر الألوان لسبيلًا إلى انعدام اللون . إنّ اللون مثل السحاب ، وأما اللالون فمثل القمر .
وكل ما تراه في السحاب من ضوء والتماع ، فاعلم أنه من الشمس والقمر والنجوم .
وحينما فرغ الصينيون من عملهم ، قرعوا الطبول ابتهاجاً .
فدخل الملك ، ورأى النقوش هناك ، فسلبت لبّه حين وقع عليها بصره .

3480 - وبعد ذلك اتجه نحو الروم ، فرفع الروم الأستار الفاصلة .
فانعكس خيال ذلك التصوير ، وتلك الأعمال ، على تلك الحوائط الصافية المصقولة .
فكل ما رآه هناك ، رآه هنا بصورة أبهى ، كادت أن تستلب العين من محجرها ! 
إنّ الروم - أيها الوالد - هم الصوفيّة . وهم ليسوا بحاجة إلى التكرار ولا الكتاب ولا اللوذعية .
لكنهم صقلوا تلك الصدور ، فطهرت من الطمع والحرص والبخل والأحقاد .

 
3485 - وما صفاء المرآة هذا إلا القلب الخالي من الشك . فإنه قابل لتصاوير لا عداد لها .
إنّ صورة الغيب التي لا شكل لها ولا حدّ ، كانت في جيب موسى بعد أن تلقاها بمرآة قلبه .



“ 414 “

مع أنّ هذه الصورة لا يتسع لها الفلك ، ولا العرش ولا الكرسيّ ولا السمك “ 1 “ .
ذلك لأن هذه كلها محدودة معدودة . أما مرآة القلب ، فاعلم أنها ليست بذات حدود .
فالعقل في هذا المقام يكون صامتاً ، أو مضلًا . ذلك لأن القلب يكون مع الحق ، أو يكون هو الحق .


3490 - وما من صورة - حتى الأبد - يشرق لها خيال ، إلا من القلب ، سواء أكان هذا الخيال متعدداً أو واحداً .
وكل خيال جديد يجيء إليه - حتى الأبد - يتجلى فيه خالياً من ( النقص ) والقصور .
إنّ أهل الصقل قد خلصوا من الرائحة واللون ، ( ولهذا ) فإنهم لا يتخلفّون لحظة عن مشاهدة الجمال .
فهم تركوا ظاهر العلم وقشوره ، ورفعوا راية اليقين الحق .
لقد ذهب الفكر فوجدوا النور ، ( وأمسكوا ) بنحر المعرفة ، واهتدوا إلى بحرها .


3495 - إن هؤلاء الناس يهزؤون من الموت ، الذي يخشاه عامة البشر ! 
وليس يستطيع إنسان أن ينتصر على قلوبهم ! إن الضرر قد يقع على أصدافهم لا على جوهرهم .
وهم قد تخلوا عن النحو والفقه ، لكنهم حملوا ( بدلا منهما ) المحو والفقر .
ومنذ أشرقت صور الجنات الثمانية ، وجدت ألواح قلوبهم متقبلة لها .
وإنها لمتلقية مائة انطباع من العرش والكرسيّ والفضاء ! بل ، ماذا تكون هذه الانطباعات ؟ إنها لشاهدةُ اللَّه عياناً !
...............................................................
( 1 ) أي السمكة التي ترعم الأساطير أنها تحمل الأرض .


“ 415 “

كيف سأل الرسول عليه السلام زيداً ( قائلا ) : “ كيف أنت اليوم وكيف أصبحت ؟ “ وكيف أجابه زيد بقوله : “ أصبحت مؤمنا يا رسول اللَّه “
[ كلام الرسول مع زيد ]

 3500 - قال الرسول ذات صباح لزيد “ 1 “ : “ كيف أصبحت أيها الصحابي النقي الطاهر ؟ “ فأجاب قائلًا : “ ( أصبحتُ ) عبداً مؤمناً “ . فقال الرسول :
“ فأين علامة بستان الإيمان إن كان قد تفتح ؟ “ فأجاب زيد : “ لقد ظللت أعاني الظمأ أياماً ، وكان العشق ولهيبه يؤرقني خلال الليالي .
فاخترقت ( جدار ) الأيام والليالي ، كما يخترق الدرع رأس الحربة .
فهناك ( وارء الليل والنهار ) ، يتساوى المولد وامتداده “ 2 “ ، وهناك تتساوى مئات الألوف من الساعات بساعة واحدة .


3505 - وهناك يتحد الأبد والأزل . والعقل - بتفكره - لا سبيل له إلى هذا الجانب “ .
فقال الرسول : “ فأين هدية هذا الطريق ؟ أحضرْها ! وهل من مَعْلَم سبيلٍ واحد من تلك الديار الجملية ؟ “ فقال زيد : “ بينما الناس يبصرون السماء ، أرى أنا العرش وأهل العرش ! والجنات الثمانية ، والنيران السبع ظاهرة أمامي ، كالصنم أمام عابده .
...............................................................
( 1 ) الحديث هنا مروي بمعناه ، مع تفصيل هذا المعنى بأسلوب شعري . وقد ذكرنا نص الحديث في تعليقاتنا على هذا البيت .
( 2 ) ما يعقبه من وجود .


“ 416 “

وهأنذا أميّز الخلق ، واحداً واحداً ، كما أفرق بين القمح والشعير في الطاحون .


3510 - فقد تميّز أمامي أهل الجنة ، من الغرباء عنها ، كما يتميّز الثعبان عن السمكة “ .
إن يوم ( البعث ) ،” يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ““ 1 “ هو يوم الميلاد ( الحق ) للروم والزنج ، ولكل جنس “ 2 “ .
وأما قبل ذلك فمهما كانت الروح مليئة بالعيوب ، فإنها تكون مغيّبة عن الخلق طيّ الرحم .
“ السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه “ ، وكلهم يُعرفون بما وهبهم اللَّه من سمات “ 3 “ .
إن الجسم كالأم ، ، حامل بطفل الروح ، والموت هو ألم المخاض وزلزلته .



3515 - وجميع الأرواح الغابرة منتظرة لترى كيف يولد ذلك الروح البطر .
فالزنوج “ 4 “ يقولون : “ إنه منا “ ، فيقول الروم “ 5 “ : “ ليس كذلك إنه جميل “ .
...............................................................
( 1 )  ( آل عمران ، 3 : 106) .
( 2 )  يوم البعث هو اليوم الذي تنكشف فيه الألوان الحقيقية للبشر . فلا عبرة لألوان الوجوه في الدنيا ، وإنما العبرة بما يكون للإنسان من لون نتيجة لأعماله ، فيبعث أبيض الوجه أو أسود الطلعة .
( 3 ) حديث للرسول اقتبس الشاعر قسماً منه . وقد أوردناه هنا كاملًا . أما قول الشاعر : “ وكلهم يُعرفون بما وهبهم اللَّه من سمات “ ، فيشير إلى قوله تعالى : “ سيماهم في وجوههم من أثر السجود “ ( 48 : 29 ) ، وكذلك “ يعرف المجرمون بسيماهم “ ، ( 55 : 41 ) ، وغير ذلك من الآيات التي وردت عن تمييز الرجال بسيماهم .
( 4 ) من اسودّت وجوههم بالذنوب .
( 5 ) من ابيضت وجوههم بالحسنات ورضى اللَّه .
 

“ 417 “

فإذا ما ولد في عالم الروح والجود ، فإنه لا يبقى ثمة خلاف بين البيض والسود .
فإنْ كان زنجيا حمله الزنوج ، وإن كان روميّا سحبه الروم .
وهو - إلى أنْ يولد - مشكل أمام العالم . فالذين يدركون نوع الحمل قلة نادرة .


3520 - فليس هؤلاء سوى من ينظرون بنور اللَّه ، وإن بصرهم لينفذ إلى ما وراء الجلد !
إنّ ماء النطفة في الأصل أبيض لطيف . ولكنّ ظلّ روح كل من الرومي والحبشيّ ( كامن فيه ) .
إنّه يضفي على أحد الفريقين” أَحْسَن تَقْويمٍ “، على حين يردّ الآخر إلى” أَسْفَلَ سافلينَ ““ 1 “ .
وليس لهذا الكلام نهاية ، فلنعد ثانية حتى لا نتخلفّ عن قطار القافلة .
ومن ذا الذي تستوي عنده مهابة الأتراك والهنود ،” يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ““ 2 “ .

3525 - وفي الرحم لا يتبيّن الهندي من التركيّ . وحينما يولد الطفل يُرى أضعيف هو أم قويّ .
“ وإنني لأراهم جميعاً ماثلين أمامي ، جموعاً من الرجال والنساء ، وكأنّني أشهد يوم الحشر “ 3 “ ! .
فهل أتكلم أم أحبس أنفاسي ؟ “ . فعضّ الرسول على شفته مشيراً إلى زيد أن يلزم الصمت .
...............................................................
( 1 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى : “ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين “ . ( التين ، 95 : 4 - 5 ) .
( 2 ) ومن ذا الذي يستوي عنده أهل الإساءة وأهل الإحسان في يوم الحساب ؟
( 3 ) هنا يستأنف الشاعر رواية حديث زيد بأسلوب شعريّ .


“ 418 “

( فقال زيد ) : “ يا رسول اللَّه ! هل أقول سرّ الحشر ؟ وهل أكشف اليوم بهذه الدنيا أسرار النشور ؟
ألا فلتأذن لي حتى أمزّق الحجب ، وحتى يشرق جوهري كأنه إحدى الشموس !


3530 - بل حتى تصاب الشمس بالكسوف ( خجلًا مني ) ، وإذ ذاك أميز النخيل من الصفصاف “ 1 “ .
وأظهر أسرار يوم البعث ، وأبيّن النقد الصحيح من النقد الزائف .
وأكشف أصحاب الشمال “ 2 “ الذين قطعت أيديهم . وأفرق بين لون الكفر ولون السراب ( المنير الأبيض ) .
وأكشف حفر النفاق السبع ، بنور قمر لا يعتريه خسوف ولا محاق .
وأجلو سربال الأشقياء ، وأُسمع ( هدير ) طبول الأنبياء .


3535  وأظهر الجحيم والجنان ، وبينهما البرزخ عياناً أمام أعين الكفار .
وأبيّن حوض الكوثر في جيشانه ، يرش بالماء وجوه المؤمنين ، على حين أن خريره في آذانهم .
وهؤلاء الذين يجرون ظماء ، حول الكوثر ، هل أذكرهم وأسميّهم واحداً واحداً ؟
إنّ أكتافهم لتحتك بكتفيّ ، وصياحهم يرنّ في أذنيّ .
وأمام عينيّ أهل الجنة ، وكل منهم باختياره قد عانق الآخر .


3540 -  وكلّ منهم يزور الآخر في مقامه . وهم جميعاً ينهبون القبل من شفاه ( الحور ) .
ولقد أصمّ أذني هذه صوت تأوّه الأخساء ، وصراخهم “ واحسرتاه “ !
...............................................................
( 1 ) أمير المثمر من غير المثمر .
( 2 ) انظر سورة الواقعة ، 56 : 41 .
 

“ 419 “


وما هذه إلا إشارات ، وبوسعي أن أفصل القول ، ولكني أخشى أن أزعج الرسول “ .
هكذا كان يتحدث سكران ثملا ، فجذب الرسول جيب ردائه .
وقال : أفق ، واجذب عنان جوادك ، فقد أسرف في انطلاقه ، وقد أظلّك قوله تعالى :” وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيي منَ الْحَقِّ ““ 1 “ فذهب حياؤك .

 
3545  لقد أفلتت مرآتك من غطائها . فكيف تنطق المرآة والميزان بخلاف ( الحقيقة “ 2 “ ) ؟
ومتى كانت المرآة والميزان يحبسان أنفاسهما خشية إيذاء حياء إنسان ؟
فكل من المرآة والميزان محك سني ، ( يصدقان ) ولو خدمتها مائتي عام ، قائلًا : “ ليتكما تخفيان الحقيقة من أجلي ! 
ليتكما تبديان الزيادة ولا تكشفان النقص ! “ فيقولان لك : “ لا تسفّه لحيتك وشاربك ! أمرآةُ وميزان ، ثم خداع واحتيال ؟

 
3550  إن اللَّه قد أقامنا ليكون من الممكن أن تُعرف بنا الحقيقة .
فإن لم نكن كذلك ، فماذا تكون قيمتنا ، أيها الفتي ؟ وكيف نصير مقياساً ومعياراً لوجوه الحسان ؟ “ .
“ ( يا زيد ) : ادفع بالمرآة إلى غلافها ، إن كان التجلي قد جعل من صدرك طور سيناء ! “
...............................................................
( 1 ) ( الأخراب ، 33 : 53 ) .
( 2 ) حينما أقلتت مرآتك من غطائها ، أي حينما انطلقت روحك من حجاب المادة تجلت بها صور العالم الآخر . والمرآة تعكس ما تراه بصدق .
 

“ 420 “

فقال ( زيد ) : فما النهاية ؟ هل يستطيع إنسانُ قط أن يتأبط شمس الحق أو شمس الأزل ؟
إنها لتمزق الإبط ، وتبدّد الدغل ، ولا يبقى أمامها جنون ولا عقل !
 

3555 - فقال الرسول : إنك لو وضعت إصبعاً واحداً فوق عينك ، لأبصرت الدنيا خالية من الشمس “ 1 “ ! 
إن طرف إصبع واحد يغدو حجاباً للقمر . وهذا دليل على ستر اللَّه .
ونقطة واحدة تحجب الدنيا ، بأسرها . كما أن الشمس يعروها الكسوف بسقطة واحدة “ 2 “ .
فأغلق شفتيك ، وانظر إلى غور أحد البحار . إن اللَّه قد جعل البحر طوع حكم البشر .
كما أن عين السلسبيل والزنجبيل رهنُ لحكم أهل الجنة ، أُولي القدر الرفيع .

 
3560 -  والأنهار الأربعة التي تجري في الجنة هي طوع إرادتنا ، وما ذلك لقوتنا ، وإنما ذلك أمر اللَّه .
فحيثما نشاء نجريها ، كأنها السحر الذي يجري على مراد السحرة .
وكذلك هاتان العينان الجاريتان “ 3 “ ، فهما رهن حكم القلب وإرادة الروح .
( فالقلب ) - إن أراد - توجهتا إلى السم والحيّة ، وإن أراد توجهتا إلى المجد .
وإن أراد ذهبتا إلى المحسوسات ، وإن أراد انطلقتا نحو الأسرار المحجبة .


3565 - وإن أراد انطلقتا إلى الكليات . وإذا شاء بقيتا مع الجزئيات .
..............................................................
( 1 ) يستمر الشاعر هنا في رواية الحديث بأسلوبه الشعري ، مع كثير من الشرح والإطالة .
( 2 ) كان المعتقد في زمن الشاعر أن خسوف الشمس يحدث لسقوطها عن مداوها بحيث تحاذي القمر فتكشف .
( 3 ) يريد عيني الإنسان .


“ 421 “


وهكذا الحواس الخمس ، إنها ماضية وفق مشيئة القلب ، كأنها لفافة ( الخيط في يد الحائك ) .
إن الحواس الخمس تمضي ، مجرّرة أذيالها ، إلى كل جانب يشير إليه القلب .
واليد والقدم في الدنيا طوع إرادة القلب ، كتلك العصا في كف موسى .
القلب يريد فتستجيب الساقُ راقصة ، أو تمضي هاربة ، من النقص إلى الكمال .


3570 -  وإذا أراد القلب ، تحقق الوفاق بين اليد والأصابع لتكتب كتاباً .
إن اليد لفي قبضة يد خفيّة ، وهي في الداخل تحكم ظاهر الجسم ! فلو تشاء ( اليد الخفية ) تصبح ( يد الحس ) 
ثعباناً ( ينهش ) العدو ، ولو تشاء هذه تصبح تلك عوناً للصديق .
ولو تشاء تجعلها ملعقة للطعام . ولو تشاء تجعلها دّبوساً زنته عشرة أمنان “ 1 “ .
عجباً ! ماذا يقول القلب ( لهذه الأعصاء ) ؟ إنها لصلة عجيبة ! إنها لرباط عجيب الخفاء .


3575 - فلعل القلب قد وجد خاتم سليمان ، وبه قبض على أعنّة تلك الحواس الخمس .
فحواس خمس من الظاهر منقادة له ، وحواس خمس من الباطن طائعة لأمره .
فهناك عشر حواس وسبع قوائم ، وغيرها . فلتعُدَّ أنت مالم يرد في قولنا .
فيا أيها القلب ! ما دمت أنت - في عظمتك - سليمان ، فلتسلط خاتمك على الجن والشياطين .
فلو أنت برئت في ملكك هذا من الخداع ، لما استطاع ثلاثة
...............................................................
( 1 ) أي أن اليد الحسية تستخدم في الطعام، وكذلك في الحرب وفق مشيئة الإنسان.

“ 422 “

شياطين أن ينتزعوا الخاتم من يدك .


3580 - فبعد ذلك يتملك العالم اسمك ، وتصبح الدنيا والآخرة طوع حكمك كأنهما جسمك .
فإن أخذ الشيطان الخاتم من يدك ، فقد ضاع ملكك ، وهلك جدّك .
فتكون الحسرةُ - بعد ذلك - أيها العباد ، حتماً عليكم إلى يوم المعاد .
فإن أنت أنكرت خداعك ، فكيف السبيل إلى أن تُبعد روحك عن الميزان والمرآة “ 1 “ ؟

كيف اتهم الغلمان والرفقاء من الخدم لقمان بأنه أكل الفاكهة النضرة 
التي أحضروها ( لسيدهم )

كان لقمان - أمام سيده - يبدو زري الصورة بين العبيد الآخرين .


3585 - وكان السيد يرسل الغلمان إلى البستان ، ليحموا إليه الفاكهة ( متعة ) لوقت الفراغ .
وكان لقمان بين الغلمان ( بغيضاً ) كالطفيليّ ! لقد كان مليئاً بالمعاني ، ولكنه كان مظلم الصورة كأنه الليل .
فهؤلاء الغلمان - بدافع من طمعهم - التذّوا بأكل ما جمعوه من الفاكهة .
وأخبروا سيدهم بأن لقمان أكل تلك الفاكهة ، فصار السيد غاضباً عظيم السخط على لقمان .
...............................................................
( 1 ) إذا أنت كابرت وأنكرت خداعك ، فما سبيلك إلى أن تبعد روحك عن الميزان والمرآة ، وهذان يكشفان حقيقتها ، ويعرفان جوهرها وأسرارها .


“ 423 “


وحينما استفسر لقمان عن سبب الغضب ، أطلق لسانه ، بالقول معاتباً سيده .

3590 - فقال : “ يا سيدي ! إن العبد الخائن أمام اللَّه ، لا يكون ممن يشملهم رضاه .
فلتمتحنا جميعاً أيها السيد الكريم ! ( اسقنا ) ما يملؤنا من الماء الحميم .
وبعد ذلك مرنا بالجري في مرج واسع ، ولتكن أنت راكباً ونحن على الأقدام .
ثم انظر بعد ذلك إلى من ساء عمله ! وتأمل صنيع كاشف الأسرار ! فسقى السيد غلمانه ماء جميعاً ، شربوه خوفاً منه .


3595  ثم ساقهم - بعد ذلك - فوق المروج ، فانطلقوا مسرعين بين المزارع .
فأخذوا يقيئون من العناء ، وأخرج الماء الفاكهة من بطونهم .
وبينما كان لقمان يقيء من صميم جوفه “ 1 “ ، لم يكن يخرج من بطنه سوى الماء الصافي .
فإذا كان لقمان - بحكمته - يعلم كيف يكشف هذا ، فماذا تكون حكمة ربّ الوجود ؟يوم تبلى السرائر كلها * بان منكم كامنُ لا يشتهى “ 2 “

3600  إذ سُقوا ماء جميماً قُطعَّتْ * جملةُ الأستار مما أفظعت “ 3 “إن النار جاءت عذاباً للكافرين ، لأنها الفصيل في امتحان الأحجار .
وقلبنا الحجري هذا ، كم حدّثناه بلطف فلم يقبل النصح منا !
...............................................................
( 1 ) حرفياً : من سرته .
( 2 ) هذا البيت عربي في الأصل ، وفيه اقتباس من قوله تعالى : “ يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر “ . ( الطارق ، 86 : 9 - 10 ) .
( 3 ) البيت عربي في الأصل ، فيما عدا كلمة “ چون “ التي وردت بأوله ، وقد وضعنا مكانها “ إذ “ ( وفي البيت اقتباس من قوله تعالى “ وسقوا ماء حميماً فقطَّع أمعاءهم “ . ( محمد ، 47 : 15 ) .


“ 424 “

إن الجرح إذا خبث لقي العرقُ علاجاً كئيباً . وليس يليق بأنياب الكلب إلا رأس الحمار .
فما أحكم قوله تعالى :” الْخَبيثاتُ للْخَبيثينَ ““ 1 “ ، ذلك لأن أهل القبح بعضهم لبعض مجانس وقرين .


3605 - فاذهب واقترن بمن تشاء ، وامح ( وجودك ) لتصبح على صورة الحبيب وصفاته ! 
فإن كنت تريد النور فاجعل نفسك لائقة بالنور ! وإن كنت تريد العبد فكن مغرورا وابتعد !
 وإن كنت تريد مخرجاً من هذا السجن الخرب ، فلا تحول رأسك عن الحبيب ،” وَاسْجُدْ وَاقْتَربْ ““ 2 “ .
 

بقية قصة زيد وما أجاب به الرسول عليه السلام

إن هذا الكلام لا نهاية له ، “ فانهض يا زيد ، وضع قيداً على برُاق نطقك .
فالنطق إذ قد جاء فاضحاً للعيب - فإن من شأنه أن يمزق حجب الغيب “ 3 “ .

3610 - إن الحق يريد الغيب بعض الوقت ، فلتبعد قارع الطبل هذا ، ولتغلق الطريق ! 
لا تندفع ! واجذب العنان ، فالستر أجمل ! وخير لكل امرئ أن يسعد بخياله .
...............................................................
( 1 ) ( النور ، 24 : 26 ) .
( 2 ) ( العلق ، 96 : 19 ) .
( 3 ) ما دام النطق من طبيعة أن يكشف ، وهو لا يتورع عن كشف العيوب ، فكيف يتورع عن كشف أسرار الغيب ؟


“ 425 “


إن الحق يريد ألا يحوّل القانطون وجوههم عن عبادته .
فهم بأملهم في اللَّه يشرفون ، وهم بذلك يجرون بضعة أيام في ركابه .
إنه يريد أن تشرق هذه الرحمة على الجميع ، على الأخيار والأشرار وذلك لشمول رحمته .


3615 -  إنه يريد أن يكون كل أمير وأسير راجياً خائفاً حذراً .
وهذا الرجاء ، وهذا الخوف ، يكونان من وراء حجاب ، حتى يعظما وراء ذلك الحجاب .
فإذا مزقت الحجاب ، فأين الخوف والرجاء ؟ فالغيب هو الذي يعود إليه الكرّ والفرّ والابتلاء “ .
إن أحد الفتيان كان على شاطىء نهر ، فخطر له ظن ( جعله يقول ) : “ ها هو ذا سليمان يصيد لنا السمك ! 
فإن كان سليمان ، فلماذا هو مستخف منفرد ؟ وإن لم يكن هو ، فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ .


3620 -  ولقد ظل في هذا التفكر ( موزعاً بين ) قلبين ، حتى أصبح سليمان ملكاً قائماً بالملك .
فذهب الشيطان ، وفر من ملك سليمان وعرشه ، وأراق سيف جد سليمان دم هذا الشيطان .
ووضع سليمان الخاتم حول إصبعه ، فتجمع جيش الشياطين والجن .
وأقبل الرجال ناظرين ، وكان بينهم ذلك الفتى صاحب الخيال .
فحينما فتح سليمان كفه ، رأى الفتى خاتمه، فذهب عنه - في الحال - تفكره وتحريه.

 

3625 - إن الخوف يكون حيث يكون الحجاب ، وهذا التحري إنما يكون ( لكشف ) ما استتر .
لقد تضخم في صدره خيال الغائب ، فلما أصبح الغائب حاضراً مضى هذا الخيال .

 

“ 426 “


فإن كانت سماء النور لا تخو من المطر ، فكذلك الأرض المظلمة لا تخلو من الخضرة .
فلا بدّ لي من عباد” يُؤْمنُونَ بالْغَيْب ““ 1 “ ، ذلك لأنني قد أغلقت نافذة هذا العالم الفاني .
فلو أنني فتحتها ، كما ( أفتحها ) يوم البعث ، فكيف أقول :” هَلْ تَرى منْ فُطُورٍ ““ 2 “ .


3630 - ( إنها مغلقة ) لكي يتحرى الناس ( الصواب ) في هذه الظلمة ، وليتوجه كل منهم إلى أحد الجوانب .
فتظل الأمور معكوسة مدة من الزمان ، ويعلق اللصوص رجال الشرطة فوق المشانق .
ويصبح كثيرون من السلاطين ، وأُولي الهم ، عبيداً لعبيدهم مدة من الزمان .
إن الخضوع للغائب جميل ( واللَّه ) يستحسن حفظ الغيب من عابديه “ 3 “ .
فإين من يمدح السلطان في حضوره ، ممن يكون وجهه ذا حياء منه في غيابه !


3635 - إن قائد القلعة التي تكون على أطراف المملكة - وهو بعيد عن السلطان ، وظل السلطنة 
- يحافظ على القلعة من الأعداء ، ولا يبيعها بالمال الذي لا حدّ له .
...............................................................
( 1 ) الإيمان بالغيب من صفات المتقين . قال تعالى في سورة البقرة : “ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة “ . ( 2 : 2 ، 3 ) .
( 2 ) اقتباس من القرآن الكريم ( سورة الملك ) . قال تعالى : “ الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور “ . ( 67 : 3 ) .
( 3 ) يستحسن من عابديه مراعاتهم حقه وعبادته رغم أنهم لا يرونه .



“ 427 “

 
إنه غائب عن الملك إلى جانب الثغور ، لكنه يحفظ له عهد الوفاء كأنه حاضر معه .
فهو - عند الملك - خير من الآخرين الماثلين بحضرته ، يقدمون له أرواحهم .
فنصف ذرة من حفظ حق المخدوم في غيبته ، خير من مراعاة ذلك مائة ألف مرة في حضوره .


3640 -  فالطاعة الآن محمودة ، وكذلك الإيمان ، وأما بعد الموت - حين تتكشف الأمور - فهما مردودان .
ولما كان الغيب والغائب والحجاب هي الأفضل . فأغلق فمك ، فالصمت خير لنا .
أيها الأخ ! لتُحجمن عن الكلام ، فاللَّه ذاته هو الذي يكشف لنا علمه اللدنيّ .
إن وجه الشمس لشاهد بيّن ( على وجودها ) . فأي شيء أعظم لو كان الشاهد هو اللَّه “ 1 “ ؟
بل إنني لمتكلم ، ما دام اللَّه والملائكة والعلماء هم قرنائي في الإبانة عن ذلك .


3645 - يشهد اللَّه والملك وأهل العلوم أنه لا رب إلا من يدوم “ 2 “ وإذا شهد الحق فمن تكون الملائكة ؟ وماذا يكون اشتراكها في الشهادة ؟
إن ذلك لأن التماع الشمس وشهادتها البيّنة ، لا تطيق مواجهتها العيونُ الواهية ، ولا القلوبُ الخربة .
...............................................................
( 1 ) في ذلك إشارة إلى قوله تعالى : “ قل أي شيء أكبر شهادة قل اللَّه شهيد بيني وبينكم “ . ( الأنعام ، 6 : 19 ) .
( 2 ) في البيت اقتباس من الآية الكريمة : “ شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو الغزيز الحكيم “. (آل عمران ، 3 : 17) .


“ 428 “

 
فهؤلاء مثل خفاش ، لا يطيق حرارة الشمس ، فيقطع الأمل .
فلتعلم أن الملائكة أيضاً رفقاء مثلنا ، شاهدون على الشمس فوق السماء .


3650 - يقولون : “ لقد قبسنا هذا الضياء من الشمس ، وأشرقنا به كما يشرق الخليفة على الضعفاء “ .
فالهلال الجديد ، وذو الأيام السبع ، والبدر ، كل منها يمثل رتبة ملك في النور والقدر .
ولكل ملك شعاع وفق رتبته ، ( ينبعث ) من أجنحة نورية ، ( مثنى ) وثلاث ورباع “ 1 “ .
فهذه مثل أجنحة عقول البشر ، التي يكثر التفاوت بينها .
ولهذا فإن قرين كل إنسان في الخير أو الشر ، هو هذا الملك الذي يكون مساوياً له في القدر .


3655 -  والأعمش الذي لا يطيق نور البدر ، تشرق عليه النجوم لتهديه السبيل “ 2 “ .


كيف قال الرسول لزيد : “ لا تزد هذا السر إفشاء 
وكن حريصاً على المتابعة “
قال الرسول : “ إن أصحابي نجوم “ 3 “ ! إنهم شموع للمسالكين ، ورجوم للشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) قال تعالى : “ الحمد للَّه فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن اللَّه على كل شيء قدير “ . ( فاطر ، 35 : 1 ) .
( 2 ) كل يأخذ من النور على قدر ما يطيق بصره . وهكذا العلم ، كل يأخذ منه القدر الذي يطيقه قلبه وعقله .
( 3 ) نص الحديث هو : “ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم “ .


“ 429 “

فلو كان لكل إنسان هذه العين وتلك القوة ، التي بها يقتبس النور من شمس الفلك ، 
لما كانت هناك حاجة إلى القمر ، ولا إلى النجوم ، التي جاءت كالشهود على الشمس .
إن القمر يقول للتراب ، وللسحب والظلال : “ إنني بشر ! إنني مثلكم ( لكنه ) يوحى إليّ “ 1 “ !

 3660 - لقد كنت مثلكم مظلم الطبيعة ، ولكن وحي الشمس منحني هذا النور .
إنني مظلم بالقياس إلى الشموس ، لكن لديّ نوراً من أجل ظلمات النفوس .
إنني ضعيف ( النور ) لتستطيع اقتباس النور مني ، فإنك لست بأهل للشمس المشرقة .
لقد صُنعتُ كما يُصنع مزيج الشهد ، والخل . وذلك لكي أجد سبيلي إلى علة الكبد “.
فإذا ما خلصت من العلة - يا من كنت رهناً لها فدع الخل واجعل غذاءك من الشهد.



3665 - وإذا أصبح تخت قلبك عامراً ، طاهراً من الهوى ، فاقراً عليه :” الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوى ““ 2 “ .
وحينما تتحقق للقلب تلك الرابطة ، فإن اللَّه يحكمه حكماً مباشراً لا وساطة فيه .
وهذا الحديث لا نهاية له ، فإين زيد لأقدم له النصح بألا يسعى إلى فضح المستور .
...............................................................
( 1 ) في البيت اقتباس من القرآن الكريم . قال تعالى : “ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد “ . ( الكهف ، 18 : 110 ) .
( 2 ) ( طه ، 20 : 5 ) .
 

“ 430 “
عود إلى حكاية زيد


إنك لن تجد الآن زيداً فقد فرّ ، لقد قفز من موضع صف النعال ، ورمى نعله .
ومن أنت لتجده ، وزيد نفسه لم يجد ذاته ! لقد كان كنجم أشرقت عليه الشمس .


3670  فلن تجد له صورة ولا أثراً . ولن تجد قشة واحدة في الطريق التي سلكها الحاطبون ! 
إن حواسنا ، وكذلك نطقنا المحدود ، قد أصبحت فانية في علم سلطاننا ومعرفته .
وأما حواس أهل الباطن وعقولهم ، فهي أمواج ( مؤتلفة ) مع أمواج” هُمْ جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ““ 1 “ .
فإذا ما جنّ الليل فقد عاد وقت الأعباء ، فالأنجم التي كانت محتجبة تعاود عملها .
إن الحق يعيد العقول لمن فقدوا العقول . فيأتون فريقاً فريقاً ، والأقراط في آذانهم “ 2 “ .

3675  يدقون بأقدامهم ، ويصفقون بأيديهم ، ويخطرون مرحين ، وفي ثنائهم ( يقولون ) :” رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْن وَأَحْيَيْتَنَا ““ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) قال تعالى : “ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدنيا محضرون “ . ( يس ، 36 : 53 ) .
( 2 ) وقد تحلت آذانهم بالأقراط ، أي أن آذانهم طربت بما سمعت .
( 3 ) قال تعالى : “ قالوا ربنا أمتنا أمتنا اثنتين وأحيبتنا اثنتين ، فاعترفنا بذنوبنا “ . ( غافر ، 40 : 11 ) .


“ 431 “

فهذه الجلود وهذه العظام النخرة قد أصبحت فوارس يثيرون الغبار “ 1 “ .
فهم جميعاً محضرون - يوم القيامة - إلى الوجود ، سواء منهم الشكور والكنود .
فلماذا تحوّل وجهك وتتظاهر بالعمى ؟ أو لم تكن قد حولت وجهك في مبدأ الأمر وأنت بعد في العدم “ 2 “ ؟
إنك كنت قد ثبت في العدم قدمك ( قائلًا ) : “ من ذا الذي يقتلعني من مكاني هذا ؟


3680 -  أفلا ترى الآن صنع ربك الذي جرّك من شعر رأسك .
وحذبك إلى كل هذه الأحوال المتنوعة ، التي لم تكن في ظنك ولا خيالك .
وإن ذلك العدم لمسخر له على الدوام . فلتفعل ما تشاء ، أيها الجنّي ! إن سليمان على قيد الحياة .
وإن الجن لصانعون له جفاناً كالجواب “ 3 “ ، وليست لهم الجرأة على أن يرفضوا أو يعترضوا .
فانظر إلى نفسك ، كيف أنك ترتعد خوفاً ( من العدم ) . واعلم أن العدم أيضاً دائم الخوف .
...............................................................
( 1 ) هذه صورة رائعة لبعث المؤمنين أشداء أقوياء بعد موتهم وتحلل أبدانهم .
( 2 ) أو لم تكن وأنت في العدم تنكر إمكان انتقالك إلى عالم الوجود ؟
( 3 ) قال تعالى : “ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير . يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، اعملوا آل داوود شكراً ، وقليل من عبادي الشكور “ .
( سبأ ، 34 : 12 - 13 ) . وقوله : “ جفانا كالجواب “ معناه “ صحافاً كالحياض “ والجفان جمع جفته ، والجوابي جمع جابية من الجباية أي الجمع . ويقال إن الجفان التي صنعتها الجن لسليمان كانت كل جفنة منها تكفي لإطعام ألف رجل .

 
“ 432 “


3685 - وإذا أنت أطبقت بيدك على المناصب ، فما ذاك إلا لخوفك من أن تنتزع حياتك .
وكل شيء سوى عشق اللَّه رب الجمال ، ليس إلا معاناه للنزع ، حتى ولو كان ارتشافاً للسكر .
فما معاناة النزع ؟ إنها الاتجاه نحو الموت ، من غير أن يكون المرء قد اغترف بيده من ماء الحياة .
فالخلق قد ركزوا أعينهم على الأرض والممات ، على حين يعتريهم مائة شك في ماء الحياة .
فاجتهد حتى تصبح المائة شك تسعين شكاً ، وسر في الدجى ( نحو ربك ) ، فإنك إن أغفيت ضاع منك الليل .

 
3690 -  وفتش في الليل المظلم عن ذلك النهار . واجعل أمامك هذا العقل الذي يبدّد الظلمات .
فإن في قد هذا الليل القبيح اللون خيراً كثيراً . وإن ماء الحياة لقرينُ للظلام .
وكيف تستطيع أن ترفع رأسك من النعاس على حين أنك تغرس مائة نوع من بذور الغفلة ؟
وقد اقترن النعاس الميّت باللقمة الميّة “ 1 “ . لقد نام التاجر فأخذ لص الظلام يعمل .
أفلا تدري من هم أعداؤك ؟ إن الناريين “ 2 “ هم خصوم وجودك الترابيّ .
...............................................................
( 1 ) النعاس الثقيل قرين للإفراط في الطعام المادي ، وهذا - في ذاته - خلو من الحياة .
( 2 ) لقد كان إبليس المخلوق من النار عدواً لآدم المخلوق من الطين . وكل ما اتخذ طبيعة النار مثل الشهوات فهو أيضاً من أعداء الانسان .

“ 433 “


3695 -  إن النار عدو للماء وأبنائه ، وكذلك الماء خصم لروح النار .
فالماء يقتل النار ، لأنها خصم لأبناء الماء ، وعدوّ لهم .
ويلي هذا ، أن هذه النار هي نار الشهوة ، تلك التي حوت أصل الإثم والزلة .
وإن النار الظاهرة لتطفأ بالماء ، وأما نار الشهوة فإنها تقودك إلى الجحيم .
إن نار الشهوة لا تسكن بالماء ، فإن لها طبع الجحيم في ( إيقاع ) العذاب .


3700  - وما علاج نار الشهوة ؟ إنه نور الدين ! فنوركم - ( أيها المؤمنون ) - هو الذي يطفئ نار الكافرين “ 1 “ .
فماذا يطفئ هذه النار ؟ إنه نور اللَّه . فلتجعل نور إبراهيم أستاذاً لك .
حتى يتخلص جسمك الشبيه بالعود من نار نفسك الشبيهة بالنمرود .
إن الشهوة النارية لا تتناقص بدفعها ، لكنها لا بد متناقصة بتركها وإهمالها .
وما دمت تضع الحطب على النار ، فكيف تخمد ، وأنت تعذيها بالوقود “ 2 “ .

 
3705 -  فإذا ما حبست الحطب عن النار ماتت . وهكذا التقوى ، تلقي بالماء على النار .
وكيف يسودّ من النار وجه جميل ، يصطبغ بلون ورديّ من تقوى الفؤاد ؟
...............................................................
( 1 ) الشطر الثاني من هذا البيت عربي في الأصل . ونصه :
“ نوركم إطفاء نور الكافرين “ . روي عن الرسول حديث يتضمن مثل هذا المعنى ، ونصه : “ تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي “ . ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 669 ) .
( 2 ) حرفياً : “ فمتى تخمد وأنت تسحب إليها الحطب ؟ “ .


“ 434 “

كيف وقعت النار بالمدينة في أيام عمر رضي اللَّه عنه

لقد شبت نار في عهد عمر ، كانت تأكل الحجر كأنما هو خشب يابس .
واندلعت في الأبنية والمساكن ، ثم امتدت بعد ذلك إلى أجنحة الطيور وو كناتها .
لقد اشتعل نصف المدينة بألسنة اللهب ، وكان الماء يخشى هذه النار ويعجب منها .

3710 -  وكان عقلاء الرجال يلقون بقرب الماء والخل فوق تلك النار ، 
ولكن النار كانت تزداد عناداً . لقد كانت تتلقي مدداً من اللا نهاية .
فأقبل الناس مسرعين إلى عمر ، ( وقالوا ) : “ إن نارنا لا تخمد قط بالماء ! 
“ فقال عمر : “ إن هذه النار من آيات اللَّه . إنها شعلة من نار ظلمكم !
 فدعوا الماء ، وتصدّقوا بالخبز ، وتخلوا عن البخل إنْ كنتم قومي “ .
 

3715 -  فقال له القوم : “ لقد فتحنا أبوابنا ، وكنا أسخياء ، أهل فتوّة “ .
فقال عمر : “ لقد جدتم بالخبز وفقاً للرسم والعادة . لكنكم لم تفتحوا أيديكم من أجل مرضاة اللَّه .
( كان جودكم ) طلباً للفخر والتظاهر والغرور ، ولم يكن دافعه الخوف ، ولا التقوى ولا الضراعة !
 “ إن المال كالبذور ، لا تُغرس في كل أرض مالحة ، أو هو كالسيف


“ 435 “

لا يوضع في يد قطاع الطرق .
فلتميزنّ أهل الدين من أهل الضغائن . وابحث عن جليس اللَّه ثم اتخذه جليسا !


3720 - إن كل إنسان يؤثر قومه ، وحتى الأبله ، يتصور أنه - بإيثاره هؤلاء - قد أتى فعلًا عظيماً .

* * *
شرح في بيان أنّ إبليس كان أول شخص عارض النصَّ بالقياس
( 3396 ) كان إبليس أول من استخدم القياس ، حين كانت الحقائق واضحة ، تجلوها أنوار اللَّه ، المنبثقة من وحيه ، وصريح أمره . 

( 3402 ) إشارة إلى إسلام عكرمة بن أبي جهل ( وقد مات شهيداً في إحدى وقائع الشام ) ، وإلى ضلال ابن نوح ، وهلاكه في ضلاله وكفره . وقد ذكر القرآن قصته في قوله تعالى ،” وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ . 
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ “. ( هود ، 11 : 42 - 43 ) . 

( 3404 ) إن العالم الورع يستخدم القياس حين لا يكون هناك أمر إلهي صريح . 

( 3407 - 3408 ) إنك قد تستمع إلى وحي إلهي ، فتحفظ ظاهر لفظه من غير أن تدرك كنهه وجوهره . وعلى أساس هذا الإدراك الظاهري تنشىء القياسات ، التي لا صلة لها بجوهر الوحي ، بل هي قد انبثقت من خيالك المحض “ . 

( 3410 ) لقد تعلمت من الوحي الإلهي ظاهر لفظه ، ولم تفطن إلى حقيقته ، فدفعك هذا إلى أن تلتمس في القياس وسيلة لإدراك ما استغلق


“ 602 “

عليك فهمه “ . 
( 3411 ) القياس الفاسد يؤذي . وقصة الأصم الذي ذهب ليعود المريض مثال يوضح ذلك . 

( 3412 ) يشير الشاعر إلى قصة كاتب الوحي الذي ضلّ . ( انظر الأبيات 3228 - 3239 ، وتعليقاتها ) . 

( 3422 ) “ إننا سوف نعدّ لأهل الأرض نظاماً سماوياً ، ثم ننزل إلى الأرض لنقرّه فيها ، ونرسي بذلك قواعد الأمن بين الناس “ . 

( 3425 ) لقد تجلى خطأ هاروت وماورت حينما سعيا لإقرار ما يليق بالملائكة بين أبناء العالم الدنيوي . فقد كان هذا من القياس الفاسد ، فكانت نتيجته وبالا عليهما . ولعل الشاعر يهدف من وراء ذلك إلى القول بأن المعرفة الروحية يجب ألا يقصد بها الجهلاء ، الذين لم يعدّوا لتلقيها ، ولم يصبحوا أهلا لتذوقها . والعارف الذي يفعل ذلك يكون شبيها بهذين الملكين اللذين قاسا أحوال أهل الأرض بأحوالهما . 

( 3426 ) ذكر نيكولسون في تعليقه نص بيت سنائي ، الذي أشار إليه جلال الدين ، وفيه يقول :بر مدار از مقام مستي پى * سر همانجا بنه كه خوردي مي( لا تنقل قدمك من مكان سكرك وضع رأسك في المكان الذي احتسيت به الخمر ) . 
والشاعر يوجه هذه النصيحة إلى الصوفية ، الذين يغلبهم الوجد ، فيجري على ألسنتهم من الشطح ما يكون مصدراً لسخرية الناس بهم ، واتهامهم بالمروق ، وتعريضهم للأذى والاضطهاد “ . 

( 3441 - 3442 ) الشاعر يشبه الناس - الذين أوهمهم الجهل والغرور أنهم يسلكون سبيل اليقظة الروحية - بأطفال يمسك كل منهم بذيل الآخر ، ويتوهمون بذلك أنهم يمتطون الجياد . ومثل هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً ،


“ 603 “


ولا يمكن أن يوصل إلى أي هدف . 

( 3443 ) إن الشمس هي التي تجلو الظلام على أكمل وجه ، وكذلك الكشف الروحي هو الذي يزيل الظنون ويجلوها . 

( 3444 ) حين تتكشف لكم الحقائق سوف تعلمون أنكم لم تكونوا منطلقين نحو عالم الروح ، ويتضح لكم أنكم كنتم ملازمين لعالم المادة وقد علقت به أقدامكم ، على حين أنكم توهمتم الانطلاق - من غير سعي - نحو عالم الروح . 


( 3445 ) “ الوهم والتفكير العقلي المجرد والحسّ وما يرتبط به من إدراك ، كل أولئك وسائل لا توصل إلى اليقين ، فأنتم باعتمادكم عليها في السعي لإدراك اليقين ، شبيهون بأطفال امتطوا أعواد الغاب ، وهذه لا تنقلهم إلى أي مكان “ .


[ شرح من بيت 3450 إلى 3600 ] 
( 3450 ) إذا أحسن الإنسان استخدام علمه الدنيوي ، وأخلص في نفع الناس به ، متجرداً عن الهوى ، وهبه اللَّه العلم اليقيني الكامل . 
وفي الإحياء حديث يعبر عن هذا المعنى ، يروي عن الرسول قوله : 
“ من عمل بما علم ، ورّثه اللَّه علم ما لم يعلم ، ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار “ . ( الغزالي : إحياء ، ج 3 ، ص 23 ) . 


( 3451 ) من تجرّد في علمه من الهوى أصبح علمه الدنيوي سبيلًا إلى المعرفة الروحية . 


( 3453 ) وكيف السبيل إلى الخلاص من الهوى بدون المحبة الإلهية ؟ 
إنه ليس يكفي المرء أن يقنع بمعرفة أسماء اللَّه وصفاته ، بل عليه أن يسلك سبيل المحبة الإلهية . 


( 3454 ) الصفات والأسماء مخبرة عن اللَّه ، وهي تبعث في الإنسان الخيال الذي يجعل الإنسان متعلقاً بخالقه ، وعلى الإنسان حينذاك أن يتخذ من التعلق بالخالق
“ 604 “


ومحبته سبيله إلى الوصال . 
( 3456 ) لا تقف عند حدّ الاسم . بل اجعل من معرفة الاسم مجردّ بداية تنطلق منها إلى معرفة الحقيقة والجوهر . 


( 3457 ) يقول الغزالي : “ ومهما أقبل ( القلب ) على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجاباً له عن مطالعة اللوح المحفوظ . . . كما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس ، لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس “ . 
(الإحياء ، ج 3 ، ص 21 ) . 


( 3458 ) إذا أراد الإنسان أن ينطلق من العلم الحسي المحدود ، إلى العلم الروحي الذي لا حدود له ، فلا بد له أن يكون قادراً على الخلاص من الذاتية . ويتمثل ذلك في قطع روابطه بما يكدر صفاء قلبه من علائق الدنيا وهمومها ومغرياتها . 


( 3460 - 3461 ) يقول الغزالي : “ فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر ، وفاض على صدروهم النور ، لا بالعلم والدراسة والكتابة للكتب ، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها ، والإقبال بكنه الهمة على اللَّه تعالى ، فمن كان اللَّه ، كان اللَّه له “ . 
(الإحياء ، ج 3 ، ص 19 ) . 


( 3464 ) يقول الغزالي : “ فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية . فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم ، وتحصيل ما صنّفه المصنّون ، والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة ، بل قالوا : 
الطريق تقويم المجاهدة ، ومحو الصفات المذمومة ، وقطع العلائق كلها ، والإقبال بكنه الهمة على اللَّه تعالى ، ومهما حصل ذلك كان اللَّه هو المتولي لقلب عبده ، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 19 ) . 


( 3466 ) القصة التي يذكرها الشاعر في الأبيات التالية ، وردت في كتاب الإحياء للغزالي . وقد ذكرها لبيان الفرق بين عمل العلماء ، وعمل الأولياء .


“ 605 “


قال : “ حكي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور ، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صُفة لينقش أهل الصين منها جانباً ، وأهل الروم جانباً ويرخى بينهما حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ، ففعل ذلك ، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة مالا ينحصر . ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم قد فرغوا أيضاً ، فعجب الملك من قولهم ، وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ . فقيل : وكيف فرغتم من غير صبغ ؟ فقالوا : ما عليكم . ارفعوا الحجاب ، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق ، إذ كان قد صار كالمرآة المجلوة لكثيرة التصقيل ، فازداد حسن جانبهم بمزيد التصقيل . فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه ، حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين . وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم ، وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 22 ) ونلحظ أن الغزالي جعل الصينين أهل الصقل ( وهم الصوفية ) ، وجعل الروم أهل النقش والصبغ وهم العلماء . وعلى العكس من هذا نرى جلال الدين يجعل الروم أهل الصقل ، ويجعل الصينيين أهل الصبغ والنقش . ولا غرابة في ذلك فجلال الدين رومي الوطن ، أحسن الظن بقومه ، الذين عاش بينهم . ونجد جلال الدين يأخذ جانب الروم من أول القصة حين يقول : “ وتباحث الصينيون والروم ، فصمد الروم في هذا البحث “ . ( بيت 3469 ) . 


( 3476 ) إن الضوء يسقط على المرئيات فيظهر بألوان شتى . ولكنا إذا جردناه من هذه المرئيات المتعددة ، ونظرنا إليه في منبعه ، وجدناه لوناً واحداً متجانساً . 


( 3485 ) قال الغزالي : “ فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه . وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب . أما الآثار المحمودة التي ذكرناها ، فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ، ونوراً وضياء ، حتى يتلألأ


“ 606 “


فيه جلية الحق . . . وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم ، يتصاعد إلى مرآة القلب ، ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أُخرى إلى أن يسوّد ويظلم ، ويصير بالكلية محجوباً عن اللَّه تعالى “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 12 ) . ويقول أيضاً : 
“ فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها حقيقة الحق في الأمور كلها “ . 
( المصدر السابق ، ص 13 ) . 


( 3486 - 3488 ) إن قلب موسى قد اتسع لصورة الغيب ، مع أن هذه الصورة لا يحيط بها الفلك ولا العرش ولا الكرسي . 
وقد تناول الغزالي هذا الموضوع بقوله : “ وفي الخبز : قال تعالى : لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع . . . ومن ارتفع الحجاب بينه وبين اللَّه تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه ، فيرى جنة عرض بعضها السماوات والأرض ، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض ، لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة ، وهو إن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة ، وأما عالم الملكوت - وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار ، المخصوصة بإدراك البصائر - فلا نهاية له “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 15 ) . 


( 3489 ) القلب الذي صفا وأصبح خالياً من الشوائب يتجلى به اللَّه كما تتجلى الصورة في المرآة ، والمرآة إذا تجلت بها الصورة ، أصبحت عين الصورة . وفي هذا تعبير عن استغراق قلب الصوفي العارف في محبة اللَّه بصورة لا تدع مجالًا لغير اللَّه . 


( 3492 ) انظر التعليق على البيت 3485 . 


( 3493 ) يشير الشاعر هنا إلى انصراف الصوفية عن علوم الدنيا . 
وانشغالهم بتصفية القلب ، وتلقي ما يبثه اللَّه فيه من اليقين . ويرى الغزالي أن الجمع بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة “ لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه اللَّه لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم ، وهم الأنبياء المؤّيدون بروح القدس ، المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها . فأما قلوب سائر الخلق
“ 607 “


فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا ، انصرفت عن الآخرة ، وقصرت عن الاستكمال فيها “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 18 ) . 


( 3499 ) ذكر الغزالي أن عمر بن الخطاب قال : “ رأى قلبي ربي “ . 
( الإحياء ، ج 3 ، ص 15 ) . وروي عن ابن عمر : “ قيل لرسول اللَّه ، يا رسول اللَّه ، أين اللَّه ؟ في الأرض أو في السماء ؟ قال : في قلوب عباده المؤمنين “ . ( انظر المصدر السابق ) . 


( 3500 ) يشير الشاعر هنا إلى حديث عرف باسم حديث حارثة ، ذُكر في النهاية ( ج 3 ، ص 159 ) . وقد ذكره الهجويري في كشف المحبوب ، والكلاباذي في كتاب التعرف . وكل من هذين أجرى الحديث على لسان حارثة . 
فالحديث لم ينسب صراحة إلى زيد بن حارثة ، وإنما نسب إلى حارثة . 
وقد يكون من الغريب حقاً ألا يُذكر في الحديث اسم زيد ، فيعرف باسم حديث حارثة ، مع أن اسم زيد ذكر في القرآن ، وعرف الرجل باسم زيد بن حارثة ، أو باسم زيد وحده . ولعل الشاعر التبس عليه الأمر ، فاعتبر حارثة هذا زيد بن حارثة ، وتبعه في ذلك شراح المثنوي . 


ونص الحديث كما نقله الكلاباذي في التعرف ( ص 23 ) جاء على الوجه الآتي : 
“ وقال حارثة حين سأله النبي صّلى اللَّه وعليه وسلم ما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت بنفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتعادون “ . . . وقال النبي صّلى اللَّه وعليه وسلم : “ من أحب أن ينظر إلى عبد نوّر اللَّه قلبه فينظر إلى حارثة “ . 
ولعل إجماع المصادر التي ذكرناها على الإشارة إلى هذا الحديث باسم حديث حارثة يجعلنا نعتقد أن المقصود به حارثة بن سراقة . وقد كان حارثة بن سراقة هذا أحد شهداء بدر من الأنصار . 
وقد روي هذا الحديث متعلقاً به . يقول صاحب السيرة الحلبية : “ كان حارثة سأل رسول اللَّه صّلى اللَّه وعليه وسلم أن يدعو له بالشهادة فقد جاء أنه قال الحارثة يوماً وقد استقبله ، كيف أصبحت يا حارثة . 
قال : أصبحت مؤمناً باللَّه حقاً . قال : انظر ما تقول ، فإن لكل قول حقيقة . قال : 
يا رسول اللَّه ، عزلت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، فكأني


“ 608 “


بعرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعادون فيها . قال : أبصرت فالزم عبد ، أي أنت عبد بذر اللَّه الإيمان في قلبه . قال : فقلت ادع اللَّه لي بالشهادة ، فدعا رسول اللَّه بذلك “ . 
(علي برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية ، ج 2 ، ص 180 ، 181 . القاهرة ) . 


( 3512 ) وأما قبل البعث ، فإن حقيقة الروح لا تكون معروفة ، فحالها في الدنيا يخفى على عامة الخلق . 


( 3515 ) جميع أرواح الغابرين - في فترة الانتقال بين الموت والبعث - تستقبل الأرواح التي تنطلق من الأجساد . 


( 3519 ) ما دام الإنسان نزيلًا لهذه الحياة الدنيا ، فإن أكثر الناس لا يعرفون طبيعة روحه ، ولا مكانها من الخير والشر ، ذلك لأن القادرين على مثل هذا التمييز قلة نادرة . فالروح في الجسم كالجنين قبل الوضع . 


( 3520 ) هذه القلة النادرة من الناس هم الذين أوتوا الفراسة ، ويروي الصوفية أن الرسول أشار إليها بقوله : “ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه “ “ 1 “ . ( انظر السراج : اللمع ، ص 171 ) . 


( 3533 ) “ حُفَر النفاق السبع - كما أجمع شراح المثنوي - تعبير عن سبع من الخصال القبيحة ، يقابل كل منها باباً من أبواب الجحيم السبعة . 


وهذه الخصال - كما يقول صاحب المنهج القوي - هي الشرك باللَّه ، والسحر ، قتل النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات . ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 640 ) . وهذا - بطبيعة الحال - اجتهاد . ولا يمكن الجزم بأن الشاعر قصد هذه الخصال أو سواها بالذات . ومما يسند هذا الشرح ما ذكره المفسرون في بيان أبواب جهنم السبعة .
...............................................................
( 1 ) هذا الحديث كثير الورود في كتب الصوفية . وقد أخرجه الترمذي والطبراني .
“ 609 “


( 3552 ) قوله : “ إن كان التجلي قد جعل من صدرك طور سيناء “ . 
معناه “ إن كان صدرك قد شهد من التجلي ما شهده موسى حين تجلى له الخالق في طور سيناء “ . 
( 3553 - 3554 ) هل يستطيع إنسان أن يطوي قلبه على ما تكشف له من نور اليقين ؟ إن هذا النور ليبدد القلب الذي يطويه ، وليس يفنع في إيقاف ذلك جنون ولا عقل . 


( 3555 - 3556 ) إن اللَّه يحجب عن الناس الكثير من الأسرار ، وفي ذلك خيرهم . فهم لا يعلمون آجالهم . ولا يعرفون كنه مصيرهم يوم الحساب ، وبذلك يعيشون على أمل الغفران والثواب . وهذا الستر الإلهي دليل على أن اللَّه أراد لعباد ذلك . فعلى العباد أيضاً ألا يبوحوا بما يُكشف لهم من الأسرار الغيبية . وكما أن الإنسان قادر على الستر الحسي ، فهو كذلك قادر على الستر المعنوي . فهو يحجب الشمس أو القمر بطرف إصبعه . وهو أيضاً قادر على أن يحجب أسرار القلب بشيء من الإرادة وضبط النفس . 


( 3558 ) لقد فضل اللَّه الإنسان على كافة مخلوقاته . فهذا البحر الشاسع البعيد الأعماق طوع حكمة . أفلا تكون نفسه طوع حكمه ؟ 


( 3559 - 3561 ) وكما سُخرّت للإنسان مخلوقات هذه الحياة الدنيا ، كذلك سُخرّت له ينابيع الجنة وأنهارها ، يجريها كما يشاء ، فتعنو لمراده . 


( 3562 ) ينتقل الشاعر هنا من الحديث عن الإنسان ، وسيطرته على سائر المخلوقات ، إلى الحديث عن القلب ، وسيطرته على جوارح الإنسان وملكاته . 


( 3566 - 3575 ) يتحدث الشاعر هنا عن سيطرة القلب على الأعضاء والملكات الإنسانية . وهذا موضوع كتب عنه الغزالي ، وشبه القلب بملك له في الكيان الإنساني جنود وأعوان تطيع أمره . 
قال : “ وللقلب جندان ، جند يُرى بالأبصار ، وجند لا يرى إلا بالبصائر . وهو في حكم الملك والجنود في حكم الخدم والأعوان . فهذا معنى الجند . فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة ، فإن جميعها


“ 610 “


خادمة للقلب ومسخرّة له . فهو المتصرف فيها والمردد لها . وقد خُلقت مجبولة على طاعته ، لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً . فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم . وكذلك سائر الأعضاء “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) . 
وانتقل الغزالي من الحديث عن الأعضاء إلى الحديث عن قوى الإنسان وملكاته ، فقال : “ فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعث ومستحث . . . وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة . 
والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويُعبر عن هذا الثاني بالقدرة : وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء ، لا سيما العضلات منها والأونار . 
والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة ، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك . 
ومع كل واحد من هذا الجنود الباطنة جنود ظاهرة ، هي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أُعدت آلات لهذه الجنود . فقوة البطش إنما هي بالأصابع ، وقوة البصر إنما هي بالعين ، وكذا سائر القوى “ . 
(المصدر السابق ، ص 6 ) . 


( 3571 ) “ اليد الخفية “ التي تحرك اليد الظاهرة هي القلب . 


( 3576 ) الحواس الخمس الباطنية هي : الحس المشترك ، والتخيل والتفكر والتذكر والحفظ . ( الغزالي : الإحياء ، ج 3 ، ص 6 ) . 


( 3578 ) أيها القلب ، ما دمت تملك هذه القوة ، فلتكن قوياً صامداً لما يطرق بابك من الهواجس ، قديراً على الاحتفاظ بنقائك وطهرك . وليكن لك من سلطانك ما تقهر به وساوس الشيطان ، وتقصيها عن ساحتك . 


( 3584 - 3597 ) القصة التي حكاها الشاعر عن لقمان وردت بإيجاز في قصص الأنبياء للثعلبي ( ص 393 ) . قال : “ أخبرنا أبو عبد اللَّه الحسين الدينوري عن عكرمة قال : كان لقمان أهون مملوك على سيده . قال : فبعثه مولاه مع


“ 611 “


رفقة إلى بستان له ليأتوه بشيء من ثمره . فجاءوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثمرة وأحالوا على لقمان . فقال لمولاه : إن ذا الوجهين لا يكون عند اللَّه أميناً . 
فاسقني وإياهم ماء جميماً ، ثم أرسلنا لنقذفه . ففعل فجعلوا يتقيئون الفاكهة وجعل لقمان يتقياً ماء نقياً فعرف صدقه من كذبهم “ . 


( 3599 ) في يوم الحساب ، يوم تُبلى السرائر ، لا يبقى هناك سر لا ينكشف أمام الخالق ، فحينذاك يتضح العيب الذي كان الإنسان يحسب أنه قد نجا منه ، بعد أن استطاع إخفاء في الدنيا .


[ شرح من بيت 3600 إلى 3750 ] 
( 3600 ) لعل هذا البيت العربي محرّف . فالشطر الثاني منه لا يكاد يرتبط بأوله . ولعل الصواب أن نضع كلمة “ الأحشاء “ أو “ الأمعاء “ بدلًا من “ الأستار “ فيكون المعنى مقتبساً من الآية القرآنية المشار إليها وهي :” وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ “( 47 : 15 ) . ويجوز أن يفهم البيت على أساس أن الماء كشف سرهم فمزّق أستار النفاق ، وأظهر ما كانت تخفيه . 


( 3601 ) وصف اللَّه قلوب العصاة من بني إسرائيل بقوله :” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً “. ( البقرة ، 2 : 74 ) . 
ولما كانت قلوب الكفار كالحجارة ، فقد استحقت عذاب النار . ذلك لأن النار هي الفيصل في امتحان الأحجار . 
( 3610 ) إن اللَّه أراد أن يكون هناك غيب محجّب ، طيلة بقاء هذه الدنيا ، فلا تهتف بإعلان ما تكشف لك من الغيب ، ولا تفتح هذا الباب . 


( 3611 ) لا تندفع بإعلان السر . وتحكم في قلبك ولسانك . فالستر في هذه الدنيا أجمل . وخير لكل امرئ أن يسعد بما يتخيله عن حقيقة حاله . 


( 3612 ) فقد يؤدي كشف حقيقة الحال بالنسبة لبعض الناس إلى قنوط هؤلاء من رحمة اللَّه ، وانصرافهم عن عبادته . 
( 3616 ) الحجاب يزيد المهابة بالنسبة لأهل هذه الدنيا . فيجب أن تظل حقائق العالم الغيبي خافية عليهم لتزداد مهابة الغيب في نفوسهم . 
( 3617 ) الشريعة تستشير في قلوب الناس الخوف والرجاء ، وعالم الغيب
“ 612 “


المحجّب عن الأنظار هو الذي يجعل الناس يتحركون في مختلف الاتجاهات ، رجاء وخوفاً . وهو الذي يكون الإيمان به ابتلاء للعباد ، ومحكاً لمعرفة مدى تصديق أرواحهم لما بُلغوا من رسالات السماء . 


( 3618 - 3624 ) يشير الشاعر هنا إلى قصة سليمان حين سرق أحد الشياطين خاتمه فضاع بذلك ملكه ، وأصبح فقيراً ضعيفاً ، يحمل للصيادين السمك من البحر إلى السوق لقاء سمكتين ، كان يأكل إحدا هما ويبيع الأخرى . 
وقد ظل في هذه المحنة أربعين يوماً ، وذات يوم شق سمكة ليتعشى بها فوجد خاتمه في جوفها . وكان هذا الخاتم قد سقط من الشيطان في البحر ، فابتلعته هذه السمكة . وما أن وضع سليمان خاتمه حول إصبعه حتى عاد إليه ملكه . وقد رُويت هذه القصة بصور عديدة ذكر بعضها الثعلبي ( قصص الأنبياء ، 360 - 365 ) . 
وقد ترّدد ذكرها في تفسير قوله تعالى :” وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ “. ( ص ، 38 : 34 ) . 
ويم يرد في أيّ من الروايات التي اطلعت عليها إشارة إلى الفتى الذي ذكر الشاعر أنه رأى سليمان يصيد السمك على شاطىء البحر ، فحار في أمره ، وساءل نفسه : “ أهذا سليمان العظيم يصيد السمك ؟ وإن لم يكن هو فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ ، حتى إذا عاد لسليمان ملكه شهده على عرشه فانقلب الظن عنده إلى يقين . 
ومغزى القصة أن هناك من الغيب ما يتحرى الإنسان عنه ، فيهتدي - في نهاية الأمر - إلى حقيقتة ، ويصبح ظنه يقيناً . فسليمان على شاطىء البحر كان وهماً في خيال الفتى . وسليمان على عرشه - والخاتم في إصبعه - كان يقيناً لا شك فيه . 


( 3625 ) وردت في إحدى نسخ المثنوي كلمة “ وهم “ بدلًا من “ باك “ ، ومعناها الخوف . فتكون ترجمة البيت “ إن الوهم يكون حيث يكون الحجاب . . . “ ( 3627 ) إن الخيال مشتق من الحقيقة . فالسماء قد تبدو خالية من المطر ،

 “ 613 “ 
ولكن المطر يكون كامناً فيها . والأرض قد تبدو خالية من الخضرة ، ولكن الخضرة كامنة في طبيعتها . فالخيال هنا جزء من اليقين . 


( 3628 ) عامة الخلق في الدنيا لا يطلعون على الغيب ، ذلك لأن اللَّه حجبه عنهم . فلا بد لهم من الإيمان بالغيب ، لكي يصدقوا رسل اللَّه . وإن لم يفعوا ذلك فلا مجال لهذا التصديق . 


( 3629 ) لو أنني فتحت أمام الخلق نوافذ في السماء يطلون منها على الغيب ، لما كنت أخاطبهم قائلًا :” الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ “. ( 67 : 3 ) . فعالم الغيب محتجب عن شهود الخلق حتى يوم البعث . 


( 3630 ) وهذا الحجاب إنما جعل لامتحان الخلق . وقد جعلهم هذا الحجاب في ظلمة ، لا يعرف أي منهم ، ما خُبىء له ، فهم يعيشون في الدنيا بين الخوف والرجاء ، ومنهم من يهتدي ويسلك سواء السبيل ، ومنهم من يضلّ وينحرف عن الجادة . 
( 3631 ) وفي هذه الحياة الدنيا تنعكس الأمور ويعلّق اللصوص رجال الشرطة على المشانق . وقد يكون اللصوص هنا رمزاً للجلاء ، ورجال الشرطة رمزاً للعارفين . وربما يكون الشاعر هنا يشير إلى واقعة محددة من وقائع اضطهاد الصوفية كمصرع الحلاج . 


( 3632 ) تنعكس القيم في هذه الدنيا ، ويسود الجهلاء ، ويذلون العارفين والحكماء . 
( 3634 ) أين من يعبد اللَّه بعد أن يلقاه ، ممن يعبده خاشعاً في هذه الدنيا ، قبل أن يراه ؟ فمثل هذا يستحي من اللَّه لأنه عرفه ، “ والمعرفة توجب الحياء والتعظيم “ . ( القشيري ، ص 142 ) . 


( 3635 - 3636 ) مثل الوفاء للسلطان ممن يكون بعيداً عنه ، كمثل الإخلاص للَّه في الدنيا ، وقبل ملاقاته في الدار الآخرة . فحافظ الثغر يرعى
 “ 614 “ 
حق الملك وهو بعيد عنه ، والعارف يرعى حق اللَّه في هذه الدنيا ، وقبل أن يدخل رحابه في العالم الآخر . 


( 3641 ) لما كان الغيب والغائب والحجاب أفضل للخلق في هذه الدنيا ، وجب الإبقاء على قناع الأسرار . وعلى العارف أن يتجنب البوح بما يتكشف له . 


( 3651 ) الملائكة أيضاً يتفاوتون كالبشر ، ولكل ملك نوره ومنزلته التي تتفق ومدى إشراق هذا النور . 


( 3656 ) انظر اللمع للسراج ( كتاب الصحابة ، ص 166 ) . وقد استشهد هذا المؤلف - في بيان فضل الصحابة - بقوله تعالى :” وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ “. 
( التوبة ، 9 : 100 ) ، وكذلك بالحديث الذي إشارة إليه الشاعر ، ونصه : 
“ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ . 


( 3657 - 3658 ) لو كان كل إنسان قادراً على أن يتلقى الوحي من اللَّه ، الجاز لنا أن ننكر الحاجة إلى رسل اللَّه ، وإلى من سار على نهجهم من الهداة والمصلحين ، فهؤلاء جاءوا شهوداً اللَّه على خلقه . 


( 3659 ) في هذا البيت اقتباس من آية أمر اللَّه رسول أن ينطلق بها ، وذلك قوله تعالى :” قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ “ *. ( 18 : 110 ) . فقد يكون القمر هنا رمزاً للرسول ، أما التراب والسحب والظلال فرموز لكل من يهتدي به ، ويستضيء بنوره ، على اختلاف طبائعهم ، ومراتبهم الروحية ، وقدراتهم على اقتباس النور . 
( 3660 ) لولا الوحي الإلهي لما اختلف الأنبياء عن عامة البشر . 


( 3661 - 3662 ) إنني - بالقياس إلى الصفات الإلهية - خافتُ النور . 
ولكن نوري يمثل مدى الإشراق الذي يقدر على التطلع إليه عامة البشر ، فيتلقون منه الهداية . فهم لا يستطيعون تلقي النور الإلهي بصورة مباشرة ، وفي نور النبوة ما ينير نفوسهم ويخلصها من ظلمات الجهل . 


( 3663 ) كان مزيج الخل والعسل يعتبر دواء لعلاج الكبد .
 “ 615 “ 


( 3665 )  حينما يصبح القلب الإنساني طاهراً من الهوى ، ويتخلص من كافة العلائق المادية ، والآفات الحسية ، يكون مثلُ هذا القلب أهلًا لأن يتجلى به الخالق ، بل يصبح القلب وكأنه عرش اللَّه . وفي الحديث ما يؤيد ذلك ، فقد رُوي عن الرسول أنه قال : “ قلب المؤمن عرش اللَّه “ . 


( 3668 ) قوله : “ لقد قفز من موضع صف النعال ، ورمى نعله “ ، معناه أنه ترك هذه الدار الفانية ، التي لا تعدو أن تكون ممراً وضيعاً بالنسبة لما يجيء وراءها ، كما يكون موضع صف النعال بالنسبة للمسجد أو الدار . ورَمْيُ النعل كناية عن الانصراف عن الدنيا ، ونبذها . فلن تكون له عودة إلى موضع صف النعال ( الدنيا ) ليلتقط نعله ، بل هو قد تخلى عن هذه العودة ودواعيها . 


( 3670 ) إن العارفين الذين سلكوا سبيل الفناء ، لن تجد لهم سبباً يربطهم بهذه الدنيا ، مهما كان هذا السبب واهياً . 


( 3672 ) في البيت اقتباس من آية كمريمة تشير إلى البعث . ولكن الشاعر استخدم مفهوم البعث هنا للدلالة على البعث الروحي ، الذي يؤمن به الصوفية ، وفيه تتجه حواسهم وعقولهم إلى الخالق ، فتكون كالأمواج التي تعود إلى البحر الذي انطلقت منه . 


( 3673 - 3674 ) إذا أقبل ليلى الوعي الحسي ، وزال نهار التجلي ، أعاد اللَّه عقول أهل الكشف إلى وعيها ، وأخرجها من نشوتها ، لتحمل من جديد أعباء هذه الحياة . فهذه العقول كنجوم أشرق عليها النهار فاحتجبت ، فلما جنّ الليل عادت إلى الظهور . وهي لا تكاد تحل في الأجساد حتى يعود إليها وعيها وإدراكها الذي كانت عليه . 


( 3676 ) فهذه الأجساد الخاوية من العقول والأرواح ، قد أصبحت فرساناً يثيرون الغبار حين رد اللَّه عليها العقول والأرواح ، وكذلك الحال بالنسبة لمن ماتوا من المؤمنين وتحللت أجسادهم ، يعيدهم اللَّه يوم القيامة أقوياء أشداء . وهنا ينتقل الشاعر من البعث الروحي بمعناه الصوفي إلى البعث بمعناه الاصطلاحي ، وهو إعادة الموتى إلى الحياة يوم القيامة .
 “ 616 “ 


( 3679 ) في هذا البيت إشارة إلى استحالة إحداث الوجود من العدم . 
فبموجب هذا القول الذي ينطبق مفهومه على الكائنات جميعاً ، يكون إيجاد المعدوم محالًا ، أو يكون المعدوم - على حد تعبير الشاعر - مستعصياً على الوجود ، يستنكر إمكان اقتلاعه من حاله التي هو عليها . ولكن هذا المبدأ لا ينطبق على الخالق ، الذي يخلق من العدم ما يشاء بإرادته . 


( 3680 ) يصور الشاعر إحداث الموجودات من العدم بقدرة اللَّه ، بأن الخالق جرّها من شعرها فأخرجها من حالها التي كانت عليها في عالم الإمكان إلى ما أصبحت عليه في عالم الوجود . 


( 3681 ) بانتقال المعدوم من عالم الإمكان إلى عالم الوجود ، دخل في دنيا لم تكن أحوالها ولا خطوبها تخطر له على بال . 


( 3682 ) إن العدم لمطيعُ أمر ربه فيما أراد ، ولا سبيل له إلى أن يستعصي على قوة اللَّه الخالقة . ومهما كانت له من قوة سلبية كقوة الشياطين فأنى للشياطين أن تستعصي على إرادة سليمان . 


( 3684 ) إن الموجود يخاف العدم . وكذلك العدم ، يخاف أن ينتقل من حاله إلى حال الوجود . وكل من العدم والوجود لا يملك لنفسه أمراً أمام إرادة اللَّه ، التي تستطيع أن تنقله من حاله إلى عكس تلك الحال . 


( 3685 ) ينتقل الشاعر هنا إلى الحديث عن ازديار خوف الإنسان من العدم بازديار خظه من متاع الدنيا . فهذا يزيده ارتباطاً بها ، وحرصاً على البقاء فيها . 
( 3686 ) ليست هناك حياة حقيقية إلا بمحبة اللَّه . أما محبة الدنيا والإقبال عليها ، مهما بدت لذيذة لعشاقها ، فليست إلا معاناة للنزع ، لأنها احتضار للروح يؤدي في النهاية إلى هلاكها . 


( 3687 ) يعرف الشاعر معاناة النزع هنا بأنها اتجاه المرء إلى الموت قبل أن يتحقق له ارتشاف ماء الحياة . وماء الحياة هنا تعبير رمزي عن المحبة الإلهية ، وهي عند الصوفية سبيل البقاء . فإذا قضى الإنسان عمره في تعلق بالحس ورغائبه ، فقد جعل من حياته فترة احتضار روحي ، وكان باستطاعته أن يتجه نحو ماء الحياة فيكتب له الخلود .
“ 617 “


( 3688 ) الناس في هذه الدنيا لا يتفكرون إلا فيها ، ولا يخشون إلا الخروج منها ، وقد صرفهم هذا عن سبيل المحبة ، الإلهية ، واعترتهم إزاءها الشكوك ، مع أنها سبيلهم الوحيد إلى البقاء . 


( 3689 ) قوله : “ وسر في الدجى نحو ربك ، فإنك إن أغفيت ضاع منك الليل “ معناه : “ ولا تضع ليل الحياة في غفلة وسبات ، بل اقطع هذا الليل ساهراً متنبهاً ، لعلك تهتدي إلى ما يحقق لك حياة الخلود . أما من غلبه النوم في هذا الليل ، فقد فاتته الفرصة ، وضاعت حياته سدى . يقول الغزالي : 
“ وليس يمكن العبد أن يصل إلى اللَّه سبحانه ما لم يسكن الدبن ولم يُجاوز الدنيا ، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى ، فالدنيا مزرعة الآخرة “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) . 


( 3690 ) فتّش في هذه الحياة المادية المظلمة عن حياة الروح الصافية المشرقة ، واتخذ من العقل الكليّ هادياً لك في تلك الظلمات . 


( 3691 ) أنظر البيت 574 والتعليق عليه . 


( 3692 ) “ وكيف تستطيع الخلاص من هذه الغفلة ، وأنت الذي تغرس قلبك فيها ، وتجلت على روحك دواعيها ؟ “ . 


( 3693 ) هذه الغفلة الثقيلة جلبها عليك إغراقك النفس في متاع الحياة الدنيا . فقد كنت كتاجر غفل عن بضاعته ، وهي أيام عمره المحدودة ، فأخذ الشيطان يسرق منه تلك الأيام ويعطيه لقاءها ما يشغله به من مغرياته الرخيصة . وصرفتك هذه المغريات عن إدراك الضياع الذي أصابك . 


( 3701 ) “ نور إبراهيم “ هو نور الإيمان باللَّه ، الذي جعله ينجو من الاحتراق بنار الكافرين . 


( 3702 ) النفس الأمارة بالسوء تحرق الجسم كما تحرق النار عود الحطب . وليس سوى الإيمان يطفئ لهيب النفس المضطرم كنار النمرود .


“ 618 “


( 3718 ) إن المال في يد الخاطئين كبذور غرست في أرض ملْحة ، فهي لا تزكو ولا تثمر . أو هو كسيف في يد قاطع الطريق ، لا يتحقق منه سوى الغدر والإيذاء . 


( 3719 - 3720 ) من الواجب أن يميّز الإنسان بين أهل الدين وأهل الضغائن ، وأن يكون دليله في اختيار رفقائه ما يكون عليه هؤلاء من قيمة ذاتية ، وليس ما يربطه بهم من قرابة أو نسب . فالتعصب لذوي القربى لا يحتاج إلى حكمة ولا إدراك رفيع ، فهذا أمر لا يخفى على أحد ، ولو كان من أهل الغفلة .


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: