الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 905 - 1199 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 905 - 1199 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 905 - 1199 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 905 - 1199



شرح كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي
[ شرح من بيت 900 إلى 1050 ] 

( 899 ) قصة كليلة ودمنة التي اقتبسها الشاعر هنا هي قصة “ الأرنب التي صرعت الأسد “ ، وهي قصة صغيرة خلاصتها أن أسداً كان يعيش بالقرب من أحد المروج ذات الماء والعشب الكثير ، وأن ذلك المرج كان

“ 502 “

مرتعاً لكثير من وحوش البرية ، تعيش فيه مستمتعة بمائه وعشبه . 

ولكن الأسد كان يفسد عليها عيشها بمهاجمتها لاقتباص غذائه . وقد رأت هذه الوحوش أن تخلص من شرّ الأسد بأن تقدم له كل يوم فريسة يأكلها على أن يكف الأسد عن مهاجمتها . 

وكانت الفريسة التي تُرسل إلى الأسد تختار بطريق الاقتراع . وذات يوم أصابت القرعة أرنباً ليذهب إلى فتأخر عن الموعد الذي اعتاد الأسد أن يتلقى فيه فريسة ، ثم ذهب إلى الأسد . إلى الأسد ، بعد ذلك ، وأخبره بأنه تأخر ، لأن أسداً آخر اعترض طريقه ، وأخذ منه غذاء الملك ، وكان أرنباً آخر سميناً أرسله إليه الوحوش . 

ودعا الأسد إلى أن يطهّر الطريق من ذلك الأسد الدخيل حتى يصله طعامه دون تأخر . فطلب الأسد من الأرنب أن يدله على مكان ذلك العدو . فأخذه الأرنب إلى بئر تطلع فيها ، فرأى خياله ، فظنه عدوه ، فوثب إليه ليقاتله ، فغرق في البئر وخلصت الوحوش من شره . ( كليلة ودمنه ، ص 116 ، 117 . المطبعة الأميرية القاهرة ، 1931 ) . 

وقد اتخذ الشاعر من هذه القصة - التي استغرقت رواية وقائعها خمسين بيتاً - هيكلًا صاغ حوله الكثير من آرائه وأفكاره . فتناول موضوعات كالجبر والاختيار ، والاجتهاد والتوكل ، وعالم الروح ، وعالم الظاهر ، وطبيعة الشر وغير ذلك . واستغرقت القصة بكل ما أداره حولها من حوار فلسفي خمس مائة من الأبيات .

( 905 - 906 ) الشاعر في هذين البيتين يبيِّن كيف أن الإنسان يمكن أن يكون ضحية لغدر سواه من بني البشر . ولكن عليه أن يتنبه لغدر نفسه . فالنفس بطبيعتها ذات أهواء وميول قد تودي بصاحبها . 


( 908 - 911 ) عبر الشاعر في هذه الأبيات - التي أجراها على لسان الوحوش - عن مبدأ التوكل الكامل على اللَّه . وأن على الإنسان ألا يبذل أي جهد في الحياة ، بل يعبرها كالميت تاركاً كل أموره لخالقه ، يفعل


“ 503 “


بها ما يشاء . وهذا القول بالامتناع الكامل عن بذل الجهد في الحياة يتمشى مع مفهوم التوكل عند بعض الصوفية السلبيين . ومن أمثلة من عبر عن هذا المفهوم سهل بن عبد اللَّه ، فقد روى عنه أنه قال : “ أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي اللَّه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء لا يكون له حركة ولا تدبير “ . ( انظر رسالة القشيري ص 76 ) . ولكننا نجد أقوالًا أخرى منسوبة إليه تفيد أن السعي سنة النبي . قال : “ التوكل حال النبي والكسب سنته ، فمن بقي على حاله فلا يتركن سنته “ . ( القشيري ، ص 77 ) . وللصوفية أقوال كثيرة حول هذا الموضوع ، تشغل أبواباً واسعة من كتبهم . ومما يتفق ومعنى الحديث “ اعقلها وتوكل “ ما يروى من قول عمر للرسول عليه السلام : 
“ يا رسول اللَّه ، أرأيت ما نعمل فيه ، أعلى أمر قد فرغ منه ، أو أمر مبتدأ ؟ “ فقال : “ على أمر قد فرغ منه “ ، فقال عمر : “ أفلا نتكل وندع العمل ؟ “ فقال : “ اعملوا فكل ميسر لما خلق له “ . 
( الكلاباذي : التعرف لمذهب أهل التصوف - القاهرة ، 1960 ). 


( 912 - 914 ) يدافع الشاعر هنا بلسان الأسد عن مبدأ بذل الجهد والسعي في الحياة ، وأن مثل هذا لا يتنافى مع مبدأ التوكل على اللَّه . 
وهذا الفهم للتوكل هو ما يتمشى مع عقيدة أهل السنة . ويعبر القشيري عن ذلك المعنى بقوله : “ واعلم أن التوكل محله القلب ، والحركة بالظاهر لا تنافى التوكل بالقلب ، بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل اللَّه تعالى ، وإن تعسر شيء فبتقديره ، وإن اتفق شيء فبتيسيره “ . ( رسالة القشيري ، ص 76 ) .
وهذا هو المفهوم الأصوب لفكرة التوكل عند أهل السنة . وممن قال بهذا المعنى الجنيد الذي عرّف التوكل بأنه “ اعتماد القلب على اللَّه “ . ( أبو نصر السراج : اللمع ، ص 79 . القاهرة ، 1960) . 


( 919 - 920 ) إشارة إلى قصة فرعون مع موسى في طفولته . فقد


“ 504 “


كان يقتل الذكور من أطفال بني إسرائيل خشية أن يظهر من بينهم من يزلزل ملكه . ولكنه - مع ذلك - أبقى على موسى ، وهو الطفل الذي كان مقدراً له أن يقضي على ملك فرعون . قال تعالى :” وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ “. ( 28 : 7 - 9 ) . 
فحذر فرعون - الذي دفعه إلى قتل كل من وُلد من الذكور لبني إسرائيل - لم يُنجه مما كان يخشاه ، بل كان هو الذي رعى في المهد موسى ، فكان زوال ملكه على يديه . 


( 921 - 922 ) الإنسان لا يستطيع أن يدرك الأسرار ، ولا أن يرى الحقائق ببصيرته وحدها . ولا بد له - لكي يكتمل إدراكه - أن يفني بصره في بصره الحبيب . وعند ذلك يصبح بصر الحبيب بصراً له ، فيحسن إدراك المبصرات ، وتقدير الأمور ، ولا يقع له ما وقع لفرعون بنظره القاصر ، وإدراكه الباطل . 


( 925 ) أرواح البشر قبل حلولها في الأجساد كانت منطلقة في جو الصفاء . 


( 926 ) وعندما صارت الأرواح أسيرة الأجساد ، بعد أن قضى اللَّه على بني البشر أن يهبطوا إلى هذه الأرض ، صارت هذه الأرواح مسخرة لما يعتلج في نفوس البشر من غضب وحرص ورضى . 

( 930 ) الطمع الساذج هو ذلك الطموح المبني على غير أساس . 


( 931 ) على الإنسان أن يفيد من الوسائل والأسباب . فاللَّه قد وهبه هذه الجوارح المختلفة ليستخدمها . 


( 938 ) ينتقل الشاعر هنا ببراعة من موضوع التوكل والسعي إلى الجبر


“ 505 “

والاختيار . فالسعي لشكر النعمة قدرة ، وأما إنكار النعمة فهو جبر . . 
والنعمة المشار إليها هنا هي تلك الجوارح التي تُقدر الإنسان على السعي . 


( 941 ) فسر بعض شراح المثنوي “ الشجرة المثمرة “ المذكورة في البيت بأنها رمز للمرشد ، فهو وحده الذي يجب على المرء أن يسلم إليه إرادته . ولعل الأصوب أن تُفهَم “ الشجرة المثمرة “ على أنها رمز لقدرات الإنسان التي تعود عليه بمختلف الثمار . فعلى الإنسان أن يؤمن بالتوكل - وهو ما يرمز له هنا بالنوم - ولكن يجب أن يكون هذا التوكل مقترناً بالسعي المثمر . 


( 944 ) التعالي على أوامر الخالق ونواهيه ليس من علائم القوة والشجاعة التي يرمز إليها بالرجولة ، بل هو عنوان الضعف والحماقة . فقوله : “ فأنت لو تحققت الأمر امرأة . . “ معناه : “ لو تحققت الأمر فإنك ضعيف أحمق . . “ ذلك لأن القوة هي في المقدرة على الاستجابة لأوامر اللَّه . 
أما التخلي عنها ، والتهرب منها فهو الضعف ، وإن خيل لمرتكبيه أن قوة . 


( 956 - 968 ) هذه القصة التي تروى عن عزرائيل يمكن أن تعد الآن إحدى القصص الشعبية . فهي معروفة للعامة في وقتنا هذا ، ولكنها لا يعرف لها مصدر محدّد ، ولا مؤلف معين . وقد وردت في مصادر عدة ، إلى جانب المثنوي . ذكرها البيضاوي في تفسير قوله تعالى :” وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ “( 31 : 34 )  . كما ذكرها محمد عوفي في “ جوامع الحكايات “ . 


ولا تزال هذه القصة تروى في معرض الحديث عن الأجل المحتوم ، وكيف أنه محدد الزمان والمكان بالنسبة لكل إنسان ، ولا مجال لأن يقع به أدنى تغيير أو اختلاف . 


( 978 ) يسخر الشاعر من الجبر فيخرج به عن معناه الفكري المعروف ويصرفه إلى أحد معانيه الحسية ، وهو جبر الكسور . فيخاطب القارئ قائلًا : “ إنك لست مكسور الرأس فلا تعصب رأسك “ .



“ 506 “


( 985 ) المال إذا سيطر على الإنسان وتملك قلبه وحواسه كان سبباً لهلاكه . فإذا نجح الإنسان في أن يتعالى على سلطان المال ، واعتبره عرضاً ، يفيد منه فيما ينفع ، كان المال دعامة له وسنداً ، يغنيه عن الناس ، ويمكنه من أن ينفق فيما ينفع الناس . 


( 986 ) النبي سليمان مثال للغنى والقدرة ، ومع ذلك ، لم تُبطره كثرة المال ولا عظم المقدرة ، بل ظلّ يعدّ نفسه مسكيناً ، لأنه لم يدع الغرور بالمال والجاه ينسبه ضعفه أمام خالقه . وفي سيرة سليمان - كما يصورها صاحب قصص الأنبياء - أنه كان يجالس المساكين . يقول : 
“ وكان خاشعاً متواضعاً يخالط المساكين ويجالسهم ويقول : مسكين يجالس مسكيناً “ . ( ص 325 ) . 


( 988 ) المسكنة هنا هي إحساس الإنسان بضعفه وضآلته أمام اللَّه . 
( 990 ) أخرج من قلبك حب الدنيا والافتتان بها ثم املأه بهواء الكبرياء والتعالي المنبعث من عالم الملكوت . 


( 1004 ) النبي قد يظهر ضعيف الجسم في أعين معانديه ، لكن عظمته تخفى عليهم ، لأنهم لا يؤمنون بتلك القوة الهائلة التي يؤيده بهاربه . 


( 1008 ) الفضل ليس بالصورة الظاهرة ، ولا هو يتبع ضخامة الأبدان . فقد يتحقق منه للضعيف مالا يتحقق للقوي . وقد أورد الشاعر أمثلة متعددة لذلك في الأبيات التالية ، وخلص من كل ذلك إلى أن الإنسان يجب عليه أن يفتش عن جوهر الأشياء ، ويقيس الأمور على أساس تقديره لحقيقتها وجوها ، وليس على أساس نظراته السطحية إلي تلك الأمور . 


( 1014 ) في رأيي أن في هذا البيت إشارة إلى أثر إبليس على آدم ، ذلك الأثر الذي أدى إلى سقوطه . فهذا الزاهد خلال آلاف السنين ( عزازيل ، الذي أصبح بعد سقوطه معروفاً بإبليس ) ، لم يكتف بعصيان ربه ، بل هو قد عمل على إضلال آدم وظل دائباً على السعي لإضلال ذريته من بعده . هذا الأثر الذي كان لإبليس على آدم هو أنه أقنعه بتأويل


“ 507 “


الأمر الإلهي الصريح ، الذي نهى به اللَّه آدم عن أكل ثمار الشجرة المحرمة . 
فهذا النهي سر إلهي وقد كان صريحاً ، ولا سبيل لتأويله . فالتساؤل الذي وسوس به الشيطان لآدم ، كان سبب الخطيئة . فسقطة آدم كانت نتيجة للنظر العقلي إزاء نص صريح . وقد أصبحت هذه رمزاً لكل نظر عقلي ، بني على معارف الحس ، وأنكر الوحي والإلهام ، فناقش صريح الأمر ، والتمس في نقاشه العلل والأسباب ، وهذه تعجز عن إدراك الخفايا والأسرار الكامنة وراء صريح الأمر . 
ولهذ عبر الشاعر عنها بأنها أصبحت خطاماً على فم البشر يعوقهم عن ارتشاف لبان علم الدين . 
واستخدم العجل رمزاً لآدم ، وقصد بذلك أنه كان حديث الميلاد ، ساذج القلب بالقياس إلى إبليس الذي ظل آلاف السنين ملكاً من كبار الملائكة ، ثم ضل في النهاية ، نتيجة لتأويله صريح الأمر الإلهي بالسجود لآدم .
 وها هوذا قد وسوس لآدم بما جعله يسلك ذات السبيل إزاء الشجرة المحرمة . ويجب ألا ننسى هنا أن الصوفية يعدون النظر العقلي عاجزاً عن إبصال البشرية إلى العلم اليقيني . 
فسقطة آدم رمز لتمسك البشرية واعتدادها بالنظر العقلي وحده ، وإنكارها الروح وما يوحى إليها . 


( 1016 ) هذه العلوم العقلية البحتة ، صرفت الناس عن الإيمان بالعلم الروحي ، ذلك العلم الذي يكشفه اللَّه لمحبيه . فأصبحت هذه العلوم الحسية خطاماً وقيداً ، يعوقهم عن الانطلاق في ميادين المعرفة الروحية . 


( 1017 ) هذه الجوهرة هي مركز الإيمان في القلب الإنساني ، يشع منها ، فيغمر الكيان الإنساني ، ويجعل الإنسان وهو في هيكله المادي مرتبطاً بعالم الروح . 


( 1018 ) الصورة رمز للمادة ولكل ما هو حسي . وعابد الصورة هو الذي يعتد بالمادة اعتداداً كلياً ، ويكاد لا يرى للروح شأناً بالقياس إليها . وقد يبلغ بالإنسان اعتداده بالمادة أن يدعها تطغى على روحه وتكبلها بالقيود .


“ 508 “


( 1020 ) لو كانت المادة وحدها هي كل ما يُعتد به في الوجود لكان أي تصوير للإنسان مساوياً للإنسان ذاته . 


( 1022 ) عندما أراد اللَّه ، صار كلب أصحاب الكهف الذي ارتبط بهؤلاء الصلحاء أعظم من كل أسود الدنيا . 


( 1024 ) حين يبعث الإنسان برسالة إلى إنسان آخر فإنه لا ينعته إلا بصفاته المعنوية كأن يصفه بأنه عالم أو عادل . فالمعتاد في المراسلات ألا يخاطب إنسان صديقه بقوله : “ صديقي الوسيم الوجه “ أو “ صديقي الطويل القامة “ بل هو يخاطبه بقوله : “ صديقي العالم أو الفاضل “ . 


( 1025 ) ومثل هذه الصفات لا تتجسد لأنها معان مطلقة . 


( 1028 ) “ الأذن الحمارية “ هي أذن الحس التي لا تقدر على إدراك الرموز والاستماع إلى الأسرار . 


( 1033 ) مما هو شائع حتى الآن بين العامة أن الجن والشياطين . 
تسكن شواطئ البحار النائية والبقاع الخزبة . وهذا من بقايا أوهام القرون الوسطى . 


( 1035 ) هوا حبس الشيطان والنزوات والأوهام تطرق باب القلب ، وتحاول أن تتملكه . وهذه الهواجس لا ترى بالعين ، ولكنها مع ذلك محسوسة الأثر . 


( 1039 ) تستطيع حين يتبدل حسك المادي ، ويتحقق لك الحس الروحي أن تدرك كنه هذه الهواجس والأوهام ، وتستطيع التغلب عليها ، وتتمكن من إقصائها عن قلبك وروحك . وإذ ذاك تحل مشكتلك ، ويتضح لك السبيل . 


( 1040 ) وحين تبلغ هذا الحد من الإدراك الروحي ، تعلم حقيقة من خالفتهم من أنبياء ومرشدين روحيين ، ويتضح لك جوهر من كنت توليهم قيادك قبل أن تبلغ هذه المنزلة من الإدراك الروحي القويم .


“ 509 “


( 1049 ) يتضمن هذا البيت مصراعاً من بيت عربي شائع هو :كل علم ليس في القرطاس ضاع * كل سر جاوز الاثنين شاعوينسب هذا البيت أحياناً إلى علي بن أبي طالب .


[ شرح من بيت 1050 إلى 1200 ] 
( 1050 - 1051 ) الإشارات إلى منطق الطير وتسبيحها متعددة في القرآن الكريم ، وخاصة فيما يتصل بقصص داوود وسليمان . ومن الإشارة إلى ترابط الطير قوله تعالى :” وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ “. ( 6 : 38 ) . 


( 1061 ) قد يضيع عمر الإنسان في الاستماع إلى ألفاظ حلوة الوقع ، لكنها لا طائل وراءها . والأولى به أن ينفق هذا العمر في تحري الحقائق ، وترقية النفس وتهذيبها . 


( 1064 ) اللوح الحافظ - علي ما يبدو - يعني هنا العقل المفعم بالمعارف ، فإذا أصبح العلم بالنسبة لطالب الحكمة “ لوحاً محفوظاً “ فمعنى ذلك أنه قد بلغ أسمى مراتب المعرفة الروحية ، ففي اللوح المحفوظ علم كل شيء كان ويكون . وأما قوله : “ وعقله يغدو ذا حظّ من الروح “ فمعناه أنّ المعرفة لا تقف عند حدّ العقل ومدركاته ، بل تصبح الروح مصدراً للمعرفة ، ومبنعاً لها ، تمدّ العقل بما تتلقاه من كشف وإلهام . 


( 1065 ) حينما يبدأ المريد في ارتقاء سلّم المعارف يكون العقل بالنسبة له هو المعلّم والمرشد ، لكنّه حين يصبح من الواصلين ، فإنّ المعارف تأتيه عن طريق الكشف والإلهام ، فيتجلى للعقل حينذك ما لم يكن له سبيل إلى فهمه بالفكر المجرّد . 


( 1066 ) في هذا البيت إشارة إلى عروج الرسول إلى السماء في صحبة جبريل . وقد وردت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى :” ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى “. ( 53 : 8 - 15 ) .



“ 510 “


وسدرة المنتهى - كما يقول الجيلي - “ هي نهاية المكانة التي يبلغها المخلوق في سيره إلى اللَّه تعالى ، وما بعدها إلا المكانة المختصة بالحقّ تعالى وحده ، ليس لمخلوق هناك قدم ، ولا يمكن البلوغ إلى ما بعد سدرة المنتهى لأنّ المخلوق هناك مسحوق ممحوق . . . وإلى ذلك الإشارة في قول جبريل عليه السلام للنبيّ : لو تقدمت شبراً لا حترقت ( الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 8 ) . 


( 1068 - 1070 ) إنّ الإيمان بالجبر إحساس بالعجز ، واستسلام كامل يصرف صاحبه عن بذل أيّ جهد . فهو عند الشاعر حالة مرضية ، يتجلّى فيها ضعف النفس ، ذلك الضعف الذي يقضي عليها في نهاية الأمر . إنّ اعتقاد يؤدي بالضرورة إلى انعدام القدرة ، أي أنه يصبح مرضاً حقيقياً ، ينتهي بصاحبه إلى العجز الكامل ، الذي هو موت محقق . 


( 1073 ) لا بد من بذل الجهد في الحياة . فإذا أدى الإنسان واجبه وأخلص في أدائه ، فإنه لا بد مدرك غايته رغم ما يلاقيه من صعاب . 


( 1074 - 1075 ) المرء بتركيزه على بذل الجهد في تنقية النفس وتنزيهها عن الخطايا ، وفي سعيه إلى خالقه بقلب محب مخلص في محبته ، يصبح من الواصلين . وبعد أن يكون حاملًا أعباء السعي والجهاد لتنقية النفس ، يصل إلي مقام تكون فيه إرادته هي إرادة اللَّه . وبعد أن كان يتلقى الأوامر ، الإلهية ويعمل على مسايرتها ، أصبحت إرادته متمشية مع تلك الأوامر ، وأصبح هو الذي يحملها إلى الناس ويدعوهم إليها . 


( 1076 ) من اتحدت إرادته مع إرادة اللَّه لا يبقى للكواكب


“ 511 “


سلطان عليه . وكان المعتقد في القرون الوسطى أن الكواكب تتحكم في مصائر الناس . ولا يزال أثر ذلك الاعتقاد باقياً إلى اليوم . 


( 1098 ) العبرة ليست بالظاهر ، بل بالحقيقة والجوهر ، فالظاهر الحسن قد يكون وراءه بالطل ، وقد يكون وراءه حق . 


( 1099 ) إذا كان عمل الإنسان مجرد ظاهر لا حقيقة له ذهب هباء . 


( 1105 ) كانت النقود الإسلامية تحمل شهادة “ لا إله إلا اللَّه ، محمد رسول اللَّه “ . فكان اسم الرسول يطبع دائماً على النقود رغم تغير أسماء الملوك . 


( 1110 - 1111 ) يصور الشاعر البشر في هذا العالم بكؤوس طافية فوق بحر الوجود المطلق ، تبقى طافية ما دامت خاوية الجوف ، فإذا ما امتلأت بمائه غرقت فيه . والظاهر أن الشاعر كان مولعاً بهذا التشبيه ، ففي أحد أحاديثه المجموعة في كتاب “ فيه ما فيه “ شبه البشر بالكؤوس فوق صفحة الماء .
قال : “ إننا مثل كأس فوق صفحة الماء . وليست حركة الكأس فوق الماء مما تتحكم به الكأس ، بل إن الماء هو الذي يحكم هذه الحركة “ . ( ص 153 ، طبعة فروزانفر ) . 
وقد أراد بهذه الصورة أن يبين أن الخالق هو المحرك للبشر ، وإن كان الظاهر أنهم متحركون بإرادتهم . 


( 1112 ) العقل هنا هو العقل الكلي ، وهذا من المصطلحات التي يرمز الشاعر بها أحياناً إلى الخالق . فهذا العقل الكلي لا يرى ، أما ما نراه فهو هذا العالم المادي ، الذي هو فيض من أشعة شمس العقل الكلي ، أو موج ورذاذ من بحره . وهذا تعبير عن مذهب وحدة الوجود . 


( 1115 - 1119 ) قدم الشاعر هنا صورة لغفلة الإنسان عن الروح ، على الرغم من أن كل حياته مقتبسة منها ، فكأنه يمتطي حصانا ويحثه على الانطلاق به ، وهو مع ذلك غافل عن وجود هذا


“ 512 “


الحصان ، رغم أن الحصان يحمله ويمضي به مسرعاً فوق الطريق . 
( 1121 ) الروح تملأ كيان الإنسان ، وبعض الناس لا يعلم شيئاً عنها ، فهذه الغفلة تجعل الإنسان شبيهاً بإبريق امتلأ جوفه بالماء ، على حين أن حلقه قد جف ، فلا خبر له عما به من الماء . 


( 1122 ) لا سبيل إلى الوصول إلى الحقائق ، وإداراك تفصيلاتها ، ما لم يتوفر للإنسان أساس هذه المعرفة الحقيقة ، وهو عند الصوفية الكشف والهداية الإلهية . فحين يتوفر هذا للإنسان يصبح سبيله إلى المعارف المحققة . أما الانشغال بالجزئيات قبل التحقق بأساس المعرفة الأول فلا يؤدي إلى علم يقيني . فالهداية الإلهية كالنور ، وهي الوسيلة لتمييز الألوان . والألوان هنا ترمز إلى تفصيلات المعارف ، ولا سبيل إلي التيقن منها بدون النور ، أساس الهداية الأول . 


( 1126 ) الإنسان الذي أضاء بالمعرفة قلبه ، يكون نور عينيه مستمداً من نور قلبه . وبهذا يفترق نور العين عند الإنسان العاقل عن نور العين عند الحيوان الأعجم . فالحيوان يبصر ولكنه لا يميز تمييز العقلاء ، ولكن الإنسان يبصر ، ويدرك معنى المبصرات بنور قلبه . 


( 1127 ) الشاعر يفرق هنا بين نور القلب ، وبين نور الحس ونور العقل . فتور القلب هبة يلقيها اللَّه في قلوب الملهمين من عباده . 
والغزالي لا يفرق بين نور القلب ونور العقل حيث يقول : “ واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني ، ودع عنك العبارات ، فإنها إذا كثرت أو همت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني ، فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون . 
ولنسمه عقلا متابعة للجهور “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 43 ) . 


( 1129 ) عرّف الغزالي النور بقوله : “ النور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 42 ) .


“ 513 “


( 1131 ) إنّ اللَّه هو الكل لا ضد له ، ولا ندّ ، ولهذا لا يمكن إدراكه على ذات الوجه الذي تدرك به المحسوسات ، تلك التي تتميز للناس بضدها . 


( 1133 ) يشير الشاعر في هذا البيت إلى أنّ التمييز الحقيقيّ لا بدّ أن يكون مبنياً على الإدراك الواعي ، لا على مجرد الإحساس بالأشياء . 
فقوله : “ كل ضد يبيّن ضدّه في الصدور “ إيماء إلى أنّ المعرفة الحق هي ما يدركه العقل والقلب ، وبهذا يفترق إحساس الإنسان العاقل عن إحساس الحيوان . 


( 1148 ) إنّ اللَّه يخلق الزمن بسرعة تفوق تصور الآدميين ، فيبدو الزمن أمامهم متطاولًا ، وهو لا يعدو أن يكون لحمة من قدرة اللَّه الخالقة . 
ومقاييس الزمن - بالنسبة لسكان الأرض - اعتبارية محضة ، يحكمها دوران الأرض حول الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة . ولهذا تغيرت هذه المقاييس بالنسبة لمن رحلوا إلى القضاء الخارجي ، وخرجوا من مجال الجاذبية الأرضية . أما فكرة الزمن ذاته فقد شغلت الفلاسفة على مرّ العصور ، ولسنا نرى مجالًا هنا لمثل هذا البحث . 


( 1189 ) إشارة إلى هلاك النمرود بن كنعان ، الذي يُذكر أنه كان من الملوك الجبابرة الطغاة ، أصرّ على الكفر ، وادعى لنفسه الألوهية . 
وقد ذكر المفسرون أنه هو المقصود في قوله تعالى :” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ “. 
( البقرة ، 2 : 258 ) . وقد ذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قصة هلاكه بقوله : “ فبعث اللَّه إليه بعوضة فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه ، فمكث أربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق ، فأرحم الناس به من جمع يديه ثم يضرب بهما رأسه . وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه اللَّه أربعمائة سنة كمدة ملكه ، ثم إن البعوضة أكلت دماغه ، وأهلكه



“ 514 “


اللَّه سبحانه وتعالى “ . ( قصص الأنبياء ، ص 97 ) . 


( 1191 ) اقترن اسم هامان بفرعون في القرآن الكريم قال تعالى :” وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ “. ( القصص ، 28 : 6 ) . 
وقال :” إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ “. ( القصص ، 28 : 8 ) وقد ذكر المفسرون أنّ هامان كان وزيراً لفرعون . 


( 1199 ) إنّ الذين ركنوا إلى الدنيا وعدّوها وجوداً حقيقياً خالداً ، هم في واقع الأمر ضالون ، أسكرهم قهر الحق ، فظهر لهم العدم وجوداً فعاشوا في هذا الوهم منصرفين عن الحق .

.

* * *
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: