السبت، 13 يونيو 2020

الباب الثالث ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الثالث ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الثالث ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه  الله عنه

الباب الثالث ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم


قال الشيخ رضي اللّه عنه : ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من العلوم المذكورة : سرّ التنزيه النزيه . التنزيه النزيه ، هو تنزيه الحقّ تعالى لنفسه ، كما يعلمه لذاته . وهذا التنزيه لا يقابله تشبيه ، بل هو منزّه عن مقابلة التشبيه .

فتنزيهه لا نعلمه ولا نعقله ، لأن كل تنزيه ننزّهه به ، إنما هو منوط بضدّية التشبيه . فهو إذن يتعالى عن تنزيهنا له ، فتنزيهه منزه عن التنزيه والتشبيه .

 

ولأجل ذلك ، قال : التنزيه تحديد المنزّه . لأنك عندما تريد أن تنزّهه عن معنى التشبيه ، ليحصل بذلك ما تريده من التنزيه ؛ وبهذا الفعل تحصره على ما يضاد التشبيه ، فتحدّه وتقيّده بذلك المعنى ؛ فالتنزيه تحديد وتقييد .

والتشبيه تثنية المشبّه ، لأنك إذا قلت « هو كذا وكذا » على التقييد بصورة واحدة دون غيرها ، فقد أشركته مع تلك الصورة في معنى واحد ؛ وهذا هو عين التثنية .

فكلا الأمرين على انفرادهما ، خطأ ؛ والصواب جمعهما بحيث أن تنزّهه في عين التشبيه ، وتشبّهه في حكم التنزيه .

 

وإلى هذا أشار ونبّه بقوله : فيا ولدي . يخاطب تلميذه بدر الحبشي بقوله ، ليسمع غيره : تنبّه وتفكّر فيمن نزّه وشبّه . يعني : تأمّل فيمن جمع بين الوصفين ؛ هل حاد عن سواء السبيل ؟ كلمات الاستفهام إذا صدرت عن العارف بما يستفهم عنه ، تكون إما نفيا وإما إثباتا ؛ لأن المتكلّم يعرف المعنى ، فلا فائدة للاستفهام .

و « هل » هنا بمعنى النفي ،

يعني : أن كل من جمع بين التشبيه والتنزيه ، ما حاد عن سواء السبيل .

أي ، ما مال عن طريق اللّه ، الذي هو صراط اللّه في نفسه .

وذلك هو المعبّر عنه بتجليات ذاته في حقائق أسمائه وصفاته ؛ فما حاد عن ذلك ، من كان على هذا الوصف ؛ لأنه عرفه على ما هو الأمر عليه .

وهل هو من علمه في ظلّ ظليل . ولفظة « هل » هنا بمعنى الإثبات ،

وتقديره : نعم هو من علمه أن الحقّ هو المنزّه في التشبيه والمشبّه في التنزيه ، في ظلّ .

يعني : في ستر مانع ، مستور بصفات الحق عن صفات الخلق ؛ ولهذا كان ظلّه ظليلا ، وإلى هذا أشار القائل ، بقول  أبو نواس الحسن ابن هانئ:

تستّرت في دهري بظلّ جناحه * فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيّام ما اسمي ما درت * وعن موضعي لم تدر أين مكاني

 

فمن هو بهذه الصفة على التحقيق : هو في خير مستقر وأحسن مقيل . لأنه يتنعّم بتجليات ربّه بين الصورة والعروج والمعنى .

فلا يخرج عنها بوجه من الوجوه ، بل يجدها في كل حال من الغيبة والحضور ، والنزول والصعود ، والعروج والهبوط ؛ على اختلاف الظهور ، فأمره نور على نور .

ولما فرغ الشيخ من تعريف حال من له الجمع ، رجع إلى تعريف حال من له الفرق ، ليميّز بينهما . فقال : المنزّه يخلي ، بالخاء المعجمة ،

يعني : يخلّي الحق عن صفة التشبيه ، فيعطّله . والمشبّه يحلي ، بالحاء المهملة ، المعنى : أنه يلبس الحقّ حلية غيره ، فيقصره على صورة الخلق .

والذي بينهما لا يخلي ولا يحلي .

يعني : والعارف الذي بين التشبيه والتنزيه ، لا يخلي الحقّ عما هو له ، ولا يحليه بصورة غيره .

بل يقول : هو عين ما بطن وظهر ، وأبدر واستتر.

يعني : إن العارف بوصفه ، يصف البطون والظهور ؛ فبصفة الكمال الحكمي له البطون ، وبصفة تعيّن الوجود له الظهور .

فهو - أي الحق - عين ما أبدر ، أي صارت بدرا بالكمال والجمال والجلال ؛ وعين ما استتر ، أي استتر باللباسات الخلقية .

فهو ، أي الحقّ تعالى . الشمس والقمر ، أي العبد والرب . والعالم له ، أي للّه تعالى . كالجسد للنفس ، وكالصورة للمعنى ، فالخلق صورة الحقّ ، والحقّ معنى الخلق ؛ فلا خلو للمعنى عن الصورة ، ولا للصورة عن المعنى .

ولهذا ، قال : فما ثمّ إلّا جمع .

يعني : ما ثم ظهور للحقّ إلا بالخلق ، ولا ظهور للخلق إلا بالحقّ ؛ فلا وجود إلا لصورة الجمعية بينهما ، لأن اللّه عين كلّ موجود . .

ولمّا لم يوجد في الوجود خلق خال عن وجود الحقّ ، ولا حقّ خال عن وجود الخلق ، قال : ما في الكون صدع . الصدع في اللغة ، هو الشقّ الفاصل بين جزئيّ الجدار ؛ استعاره هنا ، للثنوية المتوهّمة بين الخلق والحق .

وتقديره : ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم ، بل هو عين العالم والعالم عينه ! فإن توهّمت فاصلا ، فإنما هو من حيث وهمك لا غير . لأن العالم له ، كهيكل الإنسان للنفس الناطقة .

إن لم يكن الأمر كذلك . يعني : إن لم تكن حقيقة الأمر ، على أنه عين العالم ، وأن العالم عينه .

فما ثمّ شيء هنالك ، فما ثمّ شيء زائد على العالم وحقيقته ؛ فاترك ما توهمته من أنه خارج عن حقيقة العالم ، وأن وجوده أمر زائد على الكون ؛ واعلم أنه عينك وأنت عينه .

والأمر موجود . يعني : ذات الباري تعالى - أحديّ العين - « موجود » في جميع ما يتصوّره من صفتي الحقّ والخلق ، فهو واحد العين في كثرة تعدادات الأين .

لا بل وجود . نفى الكثرة ، لأنه عين الوجود المطلق ، فلا تعدّد في الوجود .

ومن هنا نكّره فقال « وجود » ولم يقل « الوجود » لكون الكثرة عين الواحدية ، من غير تعقّل مباينة ، لأنه عين التباين والتطابق .

والحكم . يعني : آثار الصفات الإلهية في الذوات المخلوقة . مشهود لا بل شهود ؛ يعني : أنها مرئية وهي عين الرؤيا التي نراها بها ، فهي المشهود والشاهد والشهود .

وبالنّسب صحّ النّسب .

أي : بالربوبية وجدت العبودية ، وبالعبودية وجدت الربوبية ، فلا تعقّل لإحداهما إلا بالأخرى - كالمعلومية ؛ لا تحقّق بها إلا بالعالمية ، ولا تحقّق للعالمية إلا بالمعلومية . . وكلا المرتبتين لا وجود لهما إلا بتعقّل الصفة العلمية ، ولا وجود للصفة العلمية إلا بتعقّلهما .

وكلّ واحد من العلم والعالم والمعلوم نسبة ؛ فما وجدت النّسب إلا بالنّسب .

ولولا المسبّب ، ما ظهر حكم السّبب .

المسبب يجوز أن يكون بالفتح والكسر ؛ فإن قلنا بالكسر ، كان اسم الفاعل ، وتقديره : « لولا اللّه الذي أوجد الأسباب ، لما ظهر حكمها » وإن قلنا إنه بالنصب ، كان اسم المفعول ،

يعني : « المسبّب ، الذي هو مفعول السبب ، أعطي السبب حكم السببية » فكما أن القلم ، الذي هو سبب الكتابة ، علة لوجود المكتوب ؛ كذلك المكتوب علة لنسبة السببية إلى الكتابة ، كما أن كلا منهما علة لنسبة السببية إلى الكاتب .

وكذلك الكاتب علة لنسبة السببية إلى القلم ، كنسبة السببية إلى المكتوب - فبالمسبّب - الذي هو فاعل - وبالمسبّب - الذي هو مفعول - ظهر حكم السبب عنهما ؛ فكان هذا به فاعلا ، وكان هذا به مفعولا . . فارتبط الأمر بعضه ببعض .

ولهذا قال : فإن قلت :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] زال الظلّ والفيء ، والظلّ ممدود بالنص ، فعليك بالفحص .

 

إعلم أيّدنا اللّه وإيّاك ، أن الشيخ - رضي اللّه عنه - ذكر في غير موضع من مؤلفاته ، أن الكاف فيلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] يحتمل أن تكون زائدة ،

 

فيكون المعنى : ليس مثل الحق شيء ، لأنه عين الوجود كله ، فلا مثل للوجود - لأنه لو كان للوجود مثل ، لصحّ أن يطلق عليه اسم الوجود - فالواجد أمر واحد ، لا مثل له على الحقيقة .

ويحتمل أن تكون الكاف تشبيهية ، فيكون معناه : ليس كالإنسان ، الذي هو مثل الحقّ ، شيء .

لأن الإنسان نسخة الحق والخلق ، واللّه تعالى عين الحق والخلق . فهو - أي الإنسان - موصوف بكل ما يوصف به الحق ، ومنعوت بكل ما ينعت به الخلق .

فهو المثل الذي لا مثل له ، وهذا معنى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] .

فإن غلب عليك شهود الأحدية المنزّهة عن الكثرة ، انعدم وجود الخلق عندك ، وزال الظلّ والفيء .

لأن العالم ظلّ اللّه ، فيزول ؛ لأنك لم تشهد شيئا سوى الوحدة المحضة ، فلا ظهور للظلّ ، لأن الظلّ يحتاج إلى نور مفيض وظلام قابل للصورة المتوسطة بين النور وبين المحل ، وبظهور الوحدة ، ينعدم ذلك ؛ فلا كثرة بوجه من الوجوه ، لقولنا إن الوجود شيء واحد في كل موجود ، فلا تعدّد للوجود ، وإذن فلا تعدّد للموجودات .

 

لأن الوجود على الحقيقة ، هو عين الموجودات ؛ فظهرت الواحدية ، وبظهورها بطنت الكثرة ، فزال الظل والفيء المعبّر به عما سوى اللّه .

 

والسوى موجود ، والظلّ ممدود . فعليك بالفحص والبحث ، لتجمع في الحقيقة بين القول بأن الأمر لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] وبين أنه "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"[ الشّورى : 11 ]

وحينئذ تجمع بين التنزيه والتشبيه . 

فعليك بالكشف عن هذه النكتة ، لتجدها إن شاء اللّه تعالى ، 

وقد شرحنا لك في هذه النبذة ، جميع ما في الباب الثالث من كتاب الفتوحات ؛ 

واللّه الموفق ، لا ربّ غيره .

*

 العودة إلى الفهرس

الموضوع التـالي  .... الموضوع الســـابق

الباب الثالث على منتدى إتقوا الله ويعلمكم الله

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: