السبت، 13 يونيو 2020
الباب الثاني هيهات . . أنّى يسع الكون ذلك ! .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه الله عنه
الباب الثاني هيهات . . أنّى يسع الكون ذلك !
قال الشيخ : ومن ذلك ، أي ومن بعض ما تضمّنه هذا الكتاب من العلوم المذكورة : سرّ الظرف المودع في الحرف . سرّ الظرف ، هو المعاني الكمالية التي أودعها في الحرف . والحرف هو الاسم والصفة الإلهية ؛ وقد شرحنا ذلك في كتابنا « الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم »
وقلنا فيه إن الحروف على ثمانية أطوار :
- حروف حقيقية ؛ وهي أعيان الأسماء والصفات .
- وحروف عالية ؛ وهي ذوات معلومات العلم الإلهي ، المعبّر عنها بالأعيان الثابتة في العلم الإلهي .
- وحروف روحية ؛ وهي الأرواح النورية التي أظهر اللّه بها هذا الوجود ، كما أظهر الكلمات بالحروف الملفوظة .
- وحروف صورية ؛ وهي جوانح هذا العالم الكلّي وجوارح الإنسان ، بالحكم الجزئي .
وقد فصّلنا في كتابنا الموسوم « بقطب العجائب وفلك الغرائب » كل ما يختصّ بجوارح الإنسان من الحروف ، وقس على ذلك ما يضاهيه من العالم الكبير .
وقد ذكرنا مضاهاتها في كتابنا الموسوم « بالناموس الأعظم والقاموس الأقدم ، في معرفة قدر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم » فتفطّن لذلك ، واللّه الموفّق .
- وحروف معنوية ؛ وهي حركات الأشياء وسكناتها ، ينشأ منها حروف ، يتركب من تلك الحروف كلمات مناسبة لحال ذلك المتحرّك ، كالإنسان في حال قيامه ، يتركب منه صورة ألف ؛ وهي في حال منامه صورة الباء ، إلى غير ذلك .
حتى أنه يتصرّف صاحب هذا العلم ، بحركات جسمية كما يتصرّف بالحروف ، إن كان عارفا بكيفية التصرّف بها .
- وحروف حسية ؛ وهي ما تشاهد رقما وكتابة .
- وحروف لفظية ؛ وهي ما تشكّل في الهواء من قرع الريح ، الخارج من الحلق على مخارج الحروف .
- وحروف خيالية ؛ وهي صورة تلك الحروف في نفس الإنسان ، عند تعقّله لها .
وكلّ نوع من أنواع هذه الحروف ، ظروف لسرّ إلهيّ .
أي مظهر لظهور كماليّ ، أودعه اللّه بتجليه عليه ، حين خلقه من المحتدّ المقتضي لذلك ، بحكم ما لذلك المحتدّ من معنى الجمال أو الجلال أو الجمع أو الكمال .
ولما كانت الأسماء والصفات ، حاملة لما فيها من شؤون الذات الظاهرة عليها لذي التجليات ؛ قال : الظرف وعاء ، والحرف وطاء .
يعني بالظرف : الألوهية المفهومة عند إطلاق اسم اللّه على ذات واجب الوجود تعالى ، عند اعتبارك لما يوصف به من الكمال والجمال والجلال .
فالاسم - أعني مفهوم هذه الحروف - محلّ لتلك الكمالات المعبّر عنها بحقائق الأسماء والصفات .
وعاء ، أي : الألوهية حاملة للمعاني الكمالية الإلهية .
والحروف - يعني الإنسان - وطاء ، أي مظهر لتلك المعاني ، تختلف صورته وتحكم سورته ،
يعني : الألوهية تختلف صورتها بحسب تعيّنها في كل فرد من الكمّل الأفراد ، كما ظهرت في إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليهم وسلّم أجمعين ، وفيمن سواهم من الأنبياء والأولياء على الخصوص ، بالتعيين والوجود ، بل في كلّ ذرّة من ذرات الكائنات على العموم بالحكم والشهود ، فهي على اختلاف صورها ومظاهرها ، واحدة العين ، لا تعدّو فيها من حيثها .
وإلى ذلك أشار بقوله « وتحكم سورته »
ولهذا قال : هو . يعني الظرف الذي عبّرنا عنه باسم اللّه - وإن شئت قلت الحرف الذي عبّرنا عنه أنه الإنسان الكامل - معنى المعاني .
يصحّ أن يكون « مغنى » بالعين المعجمة ، فيكون تعبيره : أنه محل المعاني الكمالية . ويصحّ أن يكون
بالعين المهملة ، فيكون معناه : أن الاسم « اللّه » معنى معاني الأسماء والصفات ، أي مفهوم جميع الكمالات الإلهية . لأن الألوهية هي المظهر لاختلاف الأشكال والمباني .
المباني - بالباء الموحدة من تحت - تعني : أن الألوهية ، التي هي حقيقة الأسماء والصفات ، هي التي أظهرت صور الأشكال الخلقية والأوضاع الكونية . لكونها آثار تجليات « السبع المثاني » التي هي أمهات الظهور وأئمة المظاهر الحقّية ، فهي الحياة والعلم والإرادة والقدر والسمع والبصر والكلام .
وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى لنبيّه :وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ( 87 ) [ الحجر : 87 ] .
والمراد بالقرآن العظيم ، ما ترجع إليه هذه الصفات .
فكانت الألوهية - وإن شئت قلت روح الإنسان الكامل - جامعة للمظاهر الخلقية والمظاهر الحقّية عموما على الإطلاق .
ولهذا قال : يحوي اللّه وجوده . أي يحيط وجود الإنسان الكامل واسم اللّه ، بجميع معاني الألوهية تفصيلا وإجمالا .
ويغني عن شهود الحق شهوده . أي : شهودك للإنسان الكامل يغنيك عن شهودك للحق المطلق .
ويحتمل أن يكون المراد : إن شهودك لمعاني الألوهية - باستحضارها في ذهنك وتعقّلك لها ، يغنيك عن مطالعة ما نقل إليك بالكتاب والسّنّة من العلوم والمعارف ، التي هي حقّ لا ريب فيه . يعني :
أنك تنال بدوام حضورك مع معاني الاسم الإلهي ، وتعقّلك له بحكم ما يقتضيه من الكمالات ؛ تصل إلى ما لا ينال ، وتصل إلى ما لا تصل إليه بواسطة النقل والعقل ؛ على أنهما حقّ .
ولما بيّن حقيقة الإنسان الكامل ، من حيث أمره الكلّي ؛ أراد أن يكشف عن كيفية تقلّبه في الأطوار الكلية التي تتحقّق بها له ، حقائق ما هو منطو فيه من الألوهية المحضة ، فقال منازله معدودة .
وهي سبعة أطوار ، لا بد لكل كامل أن يقطع تلك المنازل ، حتى يبلغ درجة التحقيق .
الطور الأول « التوحيد الصرف »
لا بد للوليّ أن يقطع مسافة الفرق ، حتى يحصل في حقيقة الجمع ، فلا يشهد ولا يسمع ولا يعلم شيئا سوى اللّه تعالى ، وهو ما دام فانيا ، لا يسافر من هذا المنزل .
فإذا بقي باللّه ، سافر إلى الطور الثاني ، فيحصل في حقيقة جمع الجمع.
وفي هذا المشهد ، يفنى من كان باقيا بالطور الأول ، ويبقى من كان فانيا ، فيتحقّق حينئذ بالوحدة المحضة ، ويضرب له مثلا على الرقيم الحامل للمعاني الكمالية بكأس ملآن خمرا ، فشرب الخمر ، ورمي بالكأس ، فانكسر وانعدم .
ومن هذا المنزل ، يسافر إلى الطور الثالث –
وهو طور السذاجة المحضة الذاتية الصرفة - فيقبل بحقيقته وهيئته ، التصوّر بكلّ صورة من صور التجليات ، ومعنى من معاني الأسماء والصفات ، وبكلّ هيئة وحالة وشكل وحكم من سائر الموجودات .
فيكون عين كل شيء ، على ما هو عليه ذلك الشيء . ويكون متصوّرا في نفسه بصورة ذلك الشيء ، يرى نفسه فيه بنفسه ، على التفصيل ؛ جمعا وفرادى ، ظاهرا وباطنا ، حقّا وخلقا ، كونا وبونا .
ومن هذا المنزل ، يسافر إلى الطور الرابع .
فيعطى مفاتيح الغيب ، وهي الأسماء التي أظهرت صور الكائنات من الغيب إلى الشهادة .
فهي مفاتيح لأقفال خزائن الغيوب ، وهي أسماء الأفعال التي كانت المؤثّرة في ظهور عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ويسميها الشيخ : المفاتيح الثواني .
وفي هذا الطور ، يسبح في فلك الأسماء والصفات - في كل اسم وصفة على حدته - حتى يعلم مقتضياتها ، على ما هي عليه في محلها .
ومن هذا المنزل ، يسافر إلى الطور الخامس .
فيعطى مفاتيح غيب الغيب - وهي أمهات الأسماء ، وأئمة الصفات - فيصرفها بالذات ، ويتحقّق بها صورة ومعنى في جميع الأوقات .
ومن وصل إلى هذا الطور ، لا يتوارى عنه مشهوده بحال أصلا ، ولا يجوز عليه الاستتار قطعا .
وهذه الأسماء ، هي التي يسميها الإمام رضي اللّه عنه بالمفاتيح الأوّل ؛ فيتحقّق العبد بالاتصاف بها .
ومن هذا المنزل ، يسافر إلى الطور السادس ؛
فيستكمل التحقّق بالأسماء الذاتية والنعوت الصفاتية والأوصاف الفعلية ، ويتعيّن في الظهور بها جملة وتفصيلا .
وفي هذا المنزل يتدرّع بالهيبة ، ويتوّج بالعظمة ؛ فتكون له .
فلو نظر - بنظر نفسه البشرية الإنسانية - إلى جبل بالقهر ، لتدكدك من هيبته ، وتلاشى لعظمته . فكيف له لو رأى ذلك بحقيقة الإلهية .
هيهات أنّى يسع الكون ذلك ! بل لا يتجلّى عظمته - كما هو له - إلا عنده ، وفي علمه .
ولهذا قال اللّه تعالى :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ الأنعام : 91 ]
يعني : كلّ ما سواه لا يستطيع أن يقدّره ، فيعظّمه بذاته لذاته ؛ لأن الكون وجود مقيّد ، فلا يستطيع لشيء من ذلك . فلو لمحت بارقة من عظمة جلال اللّه تعالى على الأكوان ، لأعدمتها بالعين والحكم جملة وتفصيلا .
ومن هذا المنزل ، يسافر إلى الطور السابع ، المعبّر عنه بنزول الحق في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا . وعندها يطلع الفجر ، وتظهر شمس الكمال على
سائر أعضائه الجسمانية - على حسب ما كان لروحه وقلبه - فيكون جسمه روحا ، وقلبه عقلا ، بالعين والحكم والوجود جملة وتفصيلا .
وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » . . فافهم !
وما بعد هذا المنزل ، إلا العجز والحيرة في التجليات التي لا نهاية لها .
وهذا العجز ، عين الكمال والقدرة . وهذه الحيرة ، عين الثبوت . ونهاية ما يعبّر به عن هذه الحيرة وهذا العجز ،
بأن يقال : إنه يجد كمالاته الإلهية ، التي هي له ، على ما هي عليه من عدم النهاية التي يعجز العلم عن الإحاطة بها ، من حيث أنها لا نهاية لها .
فبالنظر إلى هذا العجز ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا أحصي ثناء عليك . . » وبالنظر إلى ما هو من كمال الصفة العلمية له تعالى ،
قال : « أنت كما أثنيت على نفسك » .
ولتحقّق روح الإنسان الكامل بالحقائق الإلهية ، قال : آثاره مشهودة .
يعني : آثار الإنسان الكامل مرئية بالعين ، لأنه يحيي الموتى ، ويميت من شاء من الأحياء ، وينبئ الناس إذا شاء بأسمائهم وأفعالهم وبما يأكلون وما يدّخرون إلى يوم القيامة . كلماته محدودة .
يعني : أنه يقف بالكلام على حدّ الشريعة ، فلا يخرج منه بلسان القدرة ، عن سياج الحكمة ، بل يؤدي حقّ العبودية بظاهره ، كما أدّى حقّ الربوبية بباطنه . وآياته بالنظر مقصودة .
يعني : أنه في نفسه لنفسه ، يتجلّى متى شاء بما شاء فيما شاء . فكنّى بالآيات عن التجليات الإلهية ، بحكم الأسماء والصفات ؛ يقصد منها : الظهور بما شاء ، والبطون بما شاء .
وإلى تحقيق ذلك أشار بقوله : أعطي مقاليد البيان ، فأفصح وأبان .
يعني : أنه أوتي التمكين بالبيان - أي بالظهور - فأفصح ، وأظهر كلماته .
"وأبان " عن المعاني بإرادة ذاته .
وسوف أنبّهك على علم شريف قد رمزه الشيخ في ذلك من وجه ، وصرّح به من وجه.
وهو أن جميع ما شرحناه لك في صفة هذه الروح الشريفة ، من أطوار المعاني المذكورة هنا ؛ إنما هو من حيث كون الإنسان حرفا من حروف أحد الأنواع الثمانية المذكورة في تقسيم الحروف .
فاعتبر مثل جميع هذه المعاني المذكورة وكمالها ، لكل حرف من حروف كل نوع من الأنواع الثمانية ؛ لأن الحروف « وطاء » أي محل ظهور الأسرار الإلهية .
والحروف كلها مرائي يظهر فيها معنى السرّ الإلهي ، لكن له في كل طور حكم مخصوص ومشهد منصوص وأثر منفرد ، وينسبه تحقّقه ، على أسلوب عجيب ونمط غريب ، لو أردنا أن نتكلم في ذلك ، لاحتجنا إلى مجلدات .
ولكن تفطّن ذلك وتدبّره ، فكلما قلنا لك « إن الأعيان الثابتة حروف ، وكان النوع الإنساني من جملتها » فهو بالنسبة إلى بقية الحروف ألف .
فاعتبر ذلك المعنى لكل ألف من أنواع الحروف الثمانية ؛ كالعقل الذي هو ألف الحروف الروحية ، فإنه يجمع العلوم والخصوصيات كلها ، كما يجمع الإنسان الكامل .
وكالألف الرقميّ ، فإنه يجمع المعاني المودعة في الحروف كلها ، كما يجمّل جميع الملفوظات ويوصلها إلى من أمره اللّه به .
فاعتبر هذا المعنى ، في كل قسم من هذه الأقسام الثمانية ، بما يناسب ذلك العالم ، ترى عجائب وغرائب من أسرار اللّه تعالى ، فقد فتحت لك بابا إليها .
واستعن في تحقيق ذلك ، بما ذكره الشيخ في الباب الثاني من الكتاب ، عند ذكره مراتب الحروف اللفظية وعوالمها وأطوارها وخواصها وما أودع اللّه تعالى فيها من العجائب والغرائب ، مما يطول شرحه .
وسوف أنبّهك في الأبيات المذكورة هنا ، على ما يعينك على معرفة ذلك ، إن شاء اللّه تعالى .
قال الشيخ : فمنه نثر ، ومنه نظم ، ومنه أمر ، ومنه حكم . إن للتجليات الحقيقية ، التي هي للإنسان الكامل ، نثر تجليات ذاتية منفردة ، غير متعدّد ، ليس لكل تجلّ إلا اسم واحد .
ومنه نظم تجليات صفاتية ، يجمع كلّ تجلّ أسماء متعدّدة وصفات متغايرة ؛ كتجلي القدرة - مثلا - يجمع جميع تجليات الأفعال ، وكذلك تجلي الإرادة ، وكذلك تجلي العلم ، وكذلك تجلي الجمال ، وكذلك تجلي الجلال وتجلي الكمال ، إلى غير ذلك من تجليات الصفات والأسماء التي لها الهيمنة على ما تحتها .
ولهذا قال « فمنه أمر » أي ، مما يصدر من تجلياته ، أمر بوجود أو تكوين ، أو غير ذلك من أوامر الحق تعالى على عباده . « ومنه حكم » نافذ لا يتغيّر في العالم ، لأنه الحقّ المتعيّن ؛ هذا معناه .
ولما كان ذلك للإنسان ، الذي هو حرف من الحروف العاليات ؛ كذلك هو للألف الذي هو حرف من الحروف الحقيقية أو الروحية أو المعنوية أو الصورية أو اللفظية أو الرقمية أو الخيالية .
ألا تراه يقول : « فمنه نثر ، ومنه نظم » إن اعتبرته في الحروف اللفظية ، وجدت الأمر كذلك ، « ومنه أمر ومنه حكم » كلفظة أفعل ؛ وهذه حروف مركبة .
ولفظة قول وفعل ، وغير ذلك ، كلها أمر ؛ وكلّ منها حرف واحد غير مركّب ! فاعتبر جميع الباب في أطوار الحروف ، تقع على كنز من كنوز اللّه تعالى .
وإنما ضربنا على تبيّن كل ذلك ، لئلا يفوت الغرض من تأليف هذا الكتاب ، والمراد بذلك سعادتك ، وإنما هي في معرفتك لنفسك ، فلأجل ذلك تكلّمنا على الإنسان وحده .
وقال في اللفظية والرقمية والخيالية أنها : ابن الإمام المبين . الذي هو اللوح المحفوظ ، لأنها تبرز بتلك الحقائق ، كما تبرز المعاني من القلوب . لا ، بل هي أبوه .
يعني : هي أصل لتلك الحقائق المكتوبة في اللوح ، لأنه لا بد من حروف كتبها القلم في اللوح حتى قرئت .
وتلك الحروف ، ولو كانت على غير هذه الهيئة ، فهي عين هذه الحروف الرقمية ؛ لأنها متلوّة مقروءة ، ولو بلا معنى ؛ فلا يخرجها ذلك عن كونها حروفا ، فهي - أعني الحروف - أصل للمعاني الموضوعة في اللوح المحفوظ ، إذ بها الكمال والتمام .
لكونها مشهودة صورة ومعنى ، والموضوع في اللوح المحفوظ إنما هو مشهود معنى لا غير ؛ فجمعت هذه الحروف ، حقائق المعنى والصورة . .
وليس ذلك لتلك ، فافهم .
ولكون الإنسان الكامل ، كلّي التحقيق ؛ قال : إذا أسهب ذهب . أسهب - بالسين المهملة - يعني إذا طوّل وأطنب - يقال « أسهب في الكلام وأطنب » إذا طوّل في الحديث .
المراد : إذا تمادى وأطال نظره إلى حقائق صفاته - التي لا نهاية لها ، وكلها كمالية - ذهب عن حكم الكون ، فلا يسمّى خلقا بوجه من الوجوه ، لأنه قد ذهب عن العالم وما فيه بالكلية ؛ فليس هو من العالم ، ولا هو فيه .
وإذا أوجز أعجز . الإيجاز ضدّ الإسهاب ، يعني : أن الإنسان إذا اختصر في نفسه ، فوقع نظره في صفاته ، إلى نظره لذاته ؛ أعجز غيره عن دركه
وإن شئت قلت : أظهر كلّ أمر معجز وإن اعتبرت ذلك في الحرف اللفظي والرقم ، فمعناه ظاهر . .
ومن ثم قال : فصيح المقال ، كثير القيل والقال .
يعني : أن الإنسان الإلهي الكامل ، ظاهر التكوين بالكلمة ؛ كثير الكلام ، لأن الموجودات كلها كلمات . تختلف أشكاله ومعارجه ، لأنه متصوّر بكل صورة خلقية ، ومتحقّق بكل حقيقة إلهية ؛ فهو مختلف الأشكال والمعارج .
ويخفى على المتّبع أثره ومدارجه . لأنه من وراء قوة أطوار الكون ، فيخفى أثره على كل متّبع ، لأنه لا يبلغه حدّه ، ولا يصل إليه دركه .
واعتبر تلك المعاني في الحروف ، فالحرف اللفظي تختلف أشكاله على حسب وضع كل واضع بكل لغة .
و « يخفى على المتّبع أثره » يعني : على المقتفي له ، معرفة ما جعل اللّه في كل حرف من أثر - بالخاصية والطبع والفعل - في كل معنى وصورة ، مما لكل حرف من التصرّف .
لأن الحرف ، وإن شئت قلت الإنسان الكامل : كائن بائن .
يصحّ أن يقول عن الإنسان الكامل إنه « كائن مع الحقّ ، بائن عن الخلق »
ويصح أن يقول « هو كائن مع الخلق ، بائن عما هم فيه » كما أن الحرف كائن في رتبة الإحاطة ، بائن عن حكم القيد بالإحاطة ؛ لكونه يفعل بحقيقته في الغيب ، فهو غير محصور على ما يشهده من صورته .
ومن ثمّ ، قال عن الحروف - وإن شئت قلت عن الإنسان الكامل ، بل هو الإنسان - راحل قاطن .
أي راحل عن المراتب الخلقية ، قاطن في المراتب الإلهية .
استوطن الخيال ، فأقام في عالم ؛ معناه : وهو محل العلم باللّه .
وافترش الكتاب ؛ يعني : لما كان في باطنه ساكنا مع ربه ؛ افترش الكتاب ، يعني اتخذ الصفات والأسماء الإلهية ، فرشا له في موطن كماله ، يتقلّب عليها .
واستوطأ اللسان ، بتحقيق القدرة والإرادة ، في نفوذ الأمر بكلمة :كُنْ[ النّحل : 40 ] حيث يريد .
واعتبر هذه المعاني للحروف الرقمية واللفظية والخيالية ؛ فالخيالية مستوطنة الخيال ، لأنها لا تكون إلا في عالم الخيال ، فلا تخرج عنه ؛ والرقمية افترشت الكتاب ، لأنها متلوّة ، فلا تكون إلا في الصحف ؛ واللفظية استوطأت اللسان ، فلا تظهر إلا بواسطته . وقس على ذلك ، كلّ الأقسام الثمانية .
وقد شرحنا في هذه النبذة ، جميع ما حواه الباب الثاني من كتاب الفتوحات ، في الحروف وغيرها ؛ ونبّهناك على ما هو المقصود من ذلك .
*
العودة إلى الفهرس
مواضيع ذات صله :
اشترك في قناتنا علي اليوتيوب
المشاركات الشائعة
-
كتاب تاج الرّسائل ومنهاج الوسائل . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
-
كتاب عقلة المستوفز الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي
-
كتاب إنشاء الدوائر الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي
-
مقدمة كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع في شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية د. سعاد الحكيم
-
المقالة الخامسة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2966 - 3023 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري
-
ثانيا شرح الأبيات 17 - 29 من القصيدة العينية .إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
-
الفصل الثالث في بيان رموز هذه الشجرة وما في ضمن الدائرة المذكورة من التنبيه على الحوادث الكونية . كتاب الشجرة النعمانية للشيخ الأكبر ابن الع...
-
مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
-
كتاب العظمة . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
-
الهوامش والشروح 1116 - 1488 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2020
(579)
-
▼
يونيو
(164)
- کتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام .كتاب التنزلات ال...
- كتاب القربة .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكبر م...
- فصل ذا النون المصري يزور أبا يزيد .كتاب التنزلات ا...
- كتاب المنزل القطب و مقاله وحاله .كتاب التنزلات الم...
- رسالة الانتصار .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكب...
- رسالة الوقت والآن .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ ال...
- رسالة المحبة .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكبر ...
- في بيان الصلاة الوسطى أي صلاة هي ولماذا سميت بالوس...
- الشيخ الأكبر ابن العربي في إسرائه مع المخاطبة بآدم...
- من التنزلات في معرفة النية والفرق بينهما وبين الإر...
- الباب الخامس والخمسون في معنى قوله والذين هم على ص...
- الباب الرابع والخمسون في بيان الصلاة الوسطى أي صلا...
- الباب الثالث والخمسون في أن يوم السبت هو يوم الأبد...
- الباب الثاني والخمسون في اختصاص الصبح بيوم السبت ،...
- الباب الحادي والخمسون في اختصاص المعرفة بيوم الجمع...
- الباب الموفي خمسين في اختصاص الظهر بيوم الخميس ومن...
- الباب التاسع والأربعون في اختصاص العصر بيوم الأربع...
- الباب الثامن والأربعون في اختصاص العشاء بيوم الثلا...
- الباب السابع والأربعون في اختصاص المأموم بيوم الاث...
- الباب السادس والأربعون في اختصاص الامام بيوم الأحد...
- الباب الخامس والأربعون في معرفة أسرار سبب السهو وا...
- الباب الرابع والأربعون في معرفة أسرار السلام من ال...
- الباب الثالث والأربعون في معرفة أسرار التشهد في ال...
- الباب الثاني والأربعون في معرفة أسرار الجلوس في ال...
- الباب الحادي والأربعون في معرفة أسرار الرفع من الس...
- الباب الموفي الأربعون في معرفة أسرار السجود وما يخ...
- الباب التاسع والثلاثون في معرفة أسرار الهوى إلى ال...
- الباب الثامن والثلاثون في معرفة أسرار الرفع من الر...
- الباب السابع والثلاثون في معرفة أسرار الركوع وما ي...
- الباب السادس والثلاثون في معرفة أسرار الفرق بين ال...
- الباب الخامس والثلاثون في معرفة أسرار الوقوف ، وال...
- الباب الرابع والثلاثون في معرفة أسرار التوجه في ال...
- الباب الثالث والثلاثون في معرفة أسرار رفع اليدين ف...
- الباب الثاني والثلاثون في معرفة أسرار تكبيرات الصل...
- الباب الحادي والثلاثون في معرفة أسرار إقامة الصلاة...
- الباب الموفي الثلاثون في معرفة أسرار طهارة الثوب و...
- الباب التاسع والعشرون في معرفة أسرار الانصراف من ا...
- الباب الثامن والعشرون في معرفة أسرار التشهد بعد ال...
- الباب السابع والعشرون في معرفة أسرار غسل القدمين ....
- الباب السادس والعشرون في معرفة أسرار مسح الأذنين ....
- الباب الخامس والعشرون في معرفة أسرار مسح الرأس .كت...
- الباب الرابع والعشرون في معرفة أسرار غسل اليدين إل...
- الباب الثالث والعشرون في معرفة أسرار غسل الوجه .كت...
- الباب الحادي والثاني والعشرون في معرفة أسرار المضم...
- الباب الموفي عشرين في معرفة أسرار الاستجمار .كتاب ...
- الباب التاسع عشر في معرفة أسرار الاستنجاء إن شاء ا...
- الباب الثامن عشر في معرفة أسرار صب الماء في غسل ال...
- الباب السابع عشر في معرفة أسرار غسل اليدين ثلاثة و...
- الباب السادس عشر في معرفة النية والفرق بينها وبين ...
- الباب الخامس عشر في معرفة سبب التعميم في طهر الجنا...
- الباب الرابع عشر في معرفة سبب فرض الطهارة وصفة الم...
- الباب الثالث عشر في معرفة شروط المأموم في الصلاة ....
- الباب الثاني عشر في معرفة شروط الإمام للصلاة .كتاب...
- الباب الحادي عشر في معرفة علة أسماء الصلوات الخمس ...
- الباب العاشر في بيان السبب الذي دعاني أن أختص في ه...
- الباب التاسع في معرفة تلقي الرسالة الثانية المورثة...
- الباب الثامن في تلقي الرسالة وشروطها وأحكامها .كتا...
- الباب السابع في بيان مقام الرسالة ومقام الرسول من ...
- الباب السادس في معرفة كون الرسول من جنس المرسل إلي...
- الباب الخامس في معرفة سر وضع الشريعة في العالم .كت...
- الباب الرابع في معرفة التكليف .كتاب التنزلات الموص...
- الباب الثالث في معرفة المكلف سبحانه وتعالى والمكلف...
- الباب الثاني في بيان تنزل الأملاك على قلوب الأوليا...
- الباب الأول في ذكر اسم هذا الكتاب وشرحه مجملا .كتا...
- مقدمة .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكبر محيي ال...
- كتاب إنشاء الدوائر الشيخ الأكبر محيي الدين محمد اب...
- كتاب عقلة المستوفز الشيخ الأكبر محيي الدين محمد اب...
- الباب الثاني والعشرون في الوصيّة للمريد السالك وه...
- الباب الحادي والعشرون في أسباب الزّفرات والوجبات و...
- الباب العشرون في اللوح المحفوظ الّذي هو الإمام الم...
- الباب التاسع عشر في الحجب المانعة من إدراك عين الق...
- الباب الثامن عشر في معرفة إفاضة العقل نور اليقين ع...
- الباب السابع عشر في خواصّ الأسرار المودّعة في الإن...
- الباب السادس عشر في ترتيب الغذاء الروحانىّ على فصو...
- الباب الخامس عشر في ذكر السرّ الّذي يغلب به أعداء ...
- الباب الرابع عشر في سياسة الحروب وترتيب الجيوش عند...
- الباب الثالث عشر في سياسة القوّاد والأجناد ومراتبه...
- الباب الثاني عشر في السّفراء والرسل الموجّهين إلى ...
- الباب الحادي عشر في رفع الجبايات إلى الحضرة الإلهي...
- الباب العاشر في المسدّدين والعاملين أصحاب الجبايات...
- الباب التاسع في معرفة الكاتب وصفاته وكتبه .كتاب ال...
- الباب الثامن في الفراسة الشرعية والحكمية .كتاب الت...
- الباب السابع في ذكر الوزير وصفاته وكيف يجب أن يكون...
- الباب السادس في العدل وهو قاضي هذه المدينة القائم ...
- الباب الخامس في الاسم الذي يخص الإمام وحده وفي صفا...
- الباب الرابع في ذكر السبب الذي لأجله وقع الحرب بين...
- الباب الثالث في إقامة مدينة الجسم وتفاصيلها من جهة...
- الباب الثاني في الكلام على ماهيته وحقيقته .كتاب ال...
- الباب الأول في وجود الخليفة الذي هو ملك البدن وأغر...
- خطبة الشيخ الأكبر .كتاب التدبيرات الإلهية في إصلاح...
- تمهيد الشيخ الأكبر .كتاب التدبيرات الإلهية في إصلا...
- مقدمة الشيخ الأكبر .كتاب التدبيرات الإلهية في إصلا...
- فهرس المحتويات .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إ...
- رسائل الإمام أبو القاسم الجنيد .كتاب الإمام الجنيد...
- كتب الإمام أبو القاسم الجنيد .كتاب الإمام الجنيد س...
- باب الدعاء والدعوات .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائف...
- طريق المعرفة والعارفين باللّه .كتاب الإمام الجنيد ...
- الرياضيات والمجاهدات .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائ...
- البدايات والنهايات والمقامات .كتاب الإمام الجنيد س...
- باب في تفسير ألفاظ تدور بين الطائفة من كلام سيد ال...
-
▼
يونيو
(164)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق