السبت، 13 يونيو 2020

الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه  الله عنه

الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة

قال الشيخ رضي اللّه عنه : ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من فنون العلوم ، المشار إليها في صدر الكتاب . سرّ ظهور الأجساد بالطريق المعتاد .

اعلم ، رضي اللّه عنا وعنك ، أن الصوفية فرّقوا بين الجسم والجسد ؛

فقالوا : إن الجسم هو كل صورة مرثية قابلة للأبعاد الثلاثة ، حالة كونها كثيفة الأصل طبعا .

وقالوا : إن الجسد عبارة عن كل صورة - يتشكّل بها روح - من الصور الجسمانية .

وإذ قد عرفت ذلك ،

فاعلم أن قول الشيخ - رضي اللّه عنه - « سرّ ظهور الأجساد بالطريق المعتاد » هو ليعلم أن المراد بذلك ، عبارة عن تصويرات الروح في الأشكال الحسية ، المشهودة ، الصورية .

وإنما قال الشيخ « بالطريق المعتاد » ليعلم أن المراد بذلك ، تصورات الأرواح الجزئية ؛ كما يجيء للأشخاص - في حال تفكّرهم - من تصوّر روحه الجزئية ، بالصورة الخيالية المشهودة له عينا ؛ أو كما يجري للنائم من تصوّر روحه ، بالصورة المرئية في النوم ، المشهودة له حسّا وشهادة .

ولما كان عالم الخيال وعالم المثال متشابهين ، كأنهما من جنس واحد ، وكان البرزخ أيضا شبيها لها ؛ قال تنبيها على ذلك : البرزخ ما قابل الطرفين بذاته .

 

أراد الشيخ رضي اللّه عنه ، أن يعلمك :

أن عالم الخيال برزخ ؛ لكونه قابل طرفي الجسم والروح الإنسانية ، بذاته .

وأن عالم المثال - أيضا - برزخ ؛ لكونه قابل طرفي المعنى والصورة ، بذاته .

وأن العالم الذي تصير إليه الأرواح بعد فراقها للأجسام - أيضا - برزخ ؛ لأنه قابل طرفي دار الدنيا ودار الآخرة ، بذاته .

فكلّ من هؤلاء البرازخ ، بين أحكام طرفيه - لا بدّ له من ذلك ، إذ هو ناشىء منهما .

 

فالخيال ، بين أحكام الجسم وبين أحكام الروح .

والمثال ، بين أحكام الصورة والمعنى . والمحل الذي تقيم فيه الأرواح ، بين أحكام الدنيا والآخرة .

 

وقد ذكرنا ذلك مفصلا - على ما هو عليه - صريحا ، في الجزء التاسع عشر من كتاب « الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبي صلى اللّه عليه وسلم » فمن أراد تحقيق الخيال ، والبرزخ ، والمثال ، وأرض الحقيقة - التي ذكرها الشيخ في الفتوحات - فلينظر في ذلك الجزء ، فإنما وضعت تلك الرسالة لتحقيق ذلك .

فهذه العوالم الأربعة ، قريبة بعضها من بعض ؛ وكلّ منها برزخ ، لأنه قابل الطرفين بذاته . وأبدى لذي العينين من عجائب آياته ، ما يدلّ على قوته ، ويستدلّ به على كرمه وفتوّته .

أراد بذي العينين ، كلّ من كان له نظر في عالم الأرواح ، ونظر في عالم الأجسام . احترازا ممن هو مقصود على عالم الأجسام ، فكأنه ليس له إلا عين واحدة .

ولفظة « ما يدلّ » موصولة ، وهي مفعول « أبدى » ؛

وتقديره : إن البرزخ ، ما قابل الطرفين بذاته ، وأبدى أمورا تدلّ على قوته ، كلّ من كان له عينان يبصر بهما في العالمين .

والدليل على أن هذه البرازخ المذكورة - من الخيال ، والمثال ، وأرض السّمسمة ، والبرزخ - لها قوة ، أنها شعبة من القدرة ، وأمورها منوطة بالقدرة المحضة .

 

وليست كأمور الدنيا ، موقوفة على الحكمة والأسباب ، لأن الأشياء تتكوّن فيها بالإرادة ؛ فهي قدرة محضة . 

وإذا صحّ أن لها هذه القوة والقدرة ، صحّ أن لها كرما وفتوة .

فهو القلّب الحوّل أي : البرزخ متقلّب في الصور ، متحوّل في الهيئات ؛ لسرّ مقتضيات طرفيه ، واختلاف أمورهما .

ولهذا ، لا تدوم الصور المرئية فيه للناظر ، بل تمرّ عليه ، وتذهب عنه ، ولو كانت باقية ، من حيث هي هي .

 

فلتقلّب أحوال البرزخ على أهله ؛ قال : والذي في كلّ صورة يتحوّل .

تقديره : وهو - أي البرزخ - في كل صورة من صورة طرفيه ، يتحوّل . عوّلت عليه . أي على البرزخ ؛ الأكابر .

يعني : أهل اللّه ؛ لرجوعهم آخر الأمر إليه ، فكان تعويلهم - لذلك - عليه حين جهلته . أي البرزخ ؛ الأصاغر .

وأراد بالأصاغر ، المحجوبين ؛ وبالأكابر ، أهل الكشف . فله . أي للبرزخ ؛ المعنى في الحكم ، والقدم الراسخة في الكيف والكمّ .

 

إنما كان للبرزخ هذا المعنى ، لتعلّقه بطرفه الروحاني ؛ والكيف والكمّ ، لتعلّقه بطرفه الثاني ، وهو الطرف الصوري الجسماني .

ولهذا ، كلّ برزخ : سريع الاستحالة ؛ لكون صوره قليلة الدوام ؛ عند الرائي ، لا من حيث هي هي .

يعرف العارفون حاله ، بيده مقاليد الأمور ؛ لكونه قدرة محضة ، تتكون الأشياء فيه بالإرادة .

وإليه مسانيد الغرور ؛ من أجل تحوّل صوره ، فمن ركن إلى شيء منها ، اغترّ به . له .

أي للبرزخ ؛ النّسب الإلهيّ الشريف .

أراد بالنسب هنا ، تكوين الأشياء بالقدرة ، ألا تراك تكون ما أردته في خيالك ، على حسب ما شئت ؟

وإن كنت متمكّنا ؛ كان لك ذلك في عالم المثال ، وفي العالم الذي تصير الأرواح إليه بعد الانتقال من دار الفناء والزوال .

 

ولقد جرت لي واقعة عجيبة في هذا المعنى : رأيت مرّة في المنام ، وأنا بصنعاء اليمن بتاريخ سنة خمس وثمان مائة ، امرأة كانت قد ربّتني وأحسنت إليّ في صغرى ، وكانت قد ماتت ؛ فرأيتها مسودّة الوجه ، لما تلقاه من العذاب ، لنظرها إلى النار .

فألبست النّار لها ، صورة الجنة .

وقلت : انظري إلى الجنة . فنظرت إليها ، فزال عنها السواد الذي في وجهها ، وتهلّل وجهها ، حتى صارت كالقمر في الحسن والبهاء .

 

وكثيرا ما أرى في النوم أمورا ، أعرف فيه أن تعبيرها في اليقظة غير ملائم لطبع ، فلا أقربها .

وبعض الأحيان ، أقلبها إلى غير تلك الصورة المخالفة للطبع ، فأراها كما أريد ! ولا يستطيع ذلك ، إلا من قدر على تصريف الأمور في المعنى ، وصار خرق العادة له عادة في العالم الروحاني ، لا يعرف ذلك ، إلا من مارسه من العارفين .

 

فللبرزخ : تلك الصفة الإلهية القادرية . والمنصب الكياني المنيف .

أي ، وللبرزخ : المنصب الكياني العالي ؛ وهو التعيّن بالصورة المحسوسة ، المحدودة ، الخلقية ، فهو خلق ، له وصف الحقّ .

تلطّف في كثافته وتكثّف في لطافته . لكونه بين عالمين ؛ أحدهما كثيف ، والآخر لطيف . فهو يظهر بحكم كلّ من عالمي اللطافة والكثافة ، في صورة واحدة .

 

يخرجه العقل ببرهانه . أي : يخرج العقل بالفكرة ، صور الأمور الخيالية - لأن الخيال من جملة البرازخ - ببرهانه . وهي الدلائل العقلية ، التي تنتج في الفكر صورا ؛ على حسب مقتضاها .

 

ويعدّله الشّرع ، بقوة سلطانه . أي : يصرفه الشرع إلى غير ما ظهر في العقل ، لأن المشرع مرتبط بالوحي الإلهي ، فله الحكم على كل صورة ومعنى .

فلذلك ؛ لم يكن للعقل ، في الشرع ، مجال .

فالخيال : يحكم في كل موجود . لأنك تسري بعقلك في كل شيء ، ولأن الخيال يستحضر كلّ موجود في عالمه ، وإلى صحة الأمور المشهودة بحكم الدلائل العقلية ، 

أشار بقوله : ويدلّ على صحة حكمه ، بما يعطيه الشهود ،

ويعترف به . أي : بصحة ما حكم العقل - في الخيال - به ، فيقرّ . الجاهل بقدره . أي : بقدر عالم الخيال . 

والعالم . أي بقدره . ولا يقدر على ردّ حكمه حاكم .

لأن العقل إذا اقتضى أمرا ، لا يمكن أحد من أهل المعرفة ، ردّ ذلك الحكم .

 

وقد شرحت لك بهذه النبذة ، جميع ما تضمّنه الباب الثامن من الفتوحات المكية .

فافهم ، وتأمّل ، واللّه الموفق للصواب .

*

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: