السبت، 13 يونيو 2020

الباب الخامس الأمر دوريّ يعود إلى ما بدأ ! .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الخامس الأمر دوريّ يعود إلى ما بدأ ! .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الباب الخامس الأمر دوريّ يعود إلى ما بدأ ! .كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه  الله عنه

الباب الخامس الأمر دوريّ يعود إلى ما بدأ !

قال الشيخ رضي اللّه عنه : ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمنه هذا الباب من فنون العلم المشار إليه آنفا . سرّ كن والبسملة ، فيمن علّله .

قد قلنا لك آنفا ، إن البسملة عبارة عن كلمة كُنْ[ النّحل : 40 ] ،

لأن اللّه تعالى كما أظهر الموجودات بواسطة الكلمة ، كذلك أظهر سرّ كتابه الكريم بواسطة البسملة .

فالكتاب كله ، نسخة جميع الوجود ؛ والفاتحة نسخة الإنسان ، والبسملة نسخة كلمة الحضرة .

ولهذا ، سنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البسملة في ابتداء الأمور ، ليكون التقدير فيه : كل فعل يفعله عقيب البسملة ، باللّه .

فمن بسمل عند الأكل ، كان تقدير حاله أن يقول : باللّه أشرب ، فلا بد من تقدير الفعل بعد البسملة بلسان الحال ، لتعلّق الباء من بِسْمِ اللَّهِ [ الفاتحة :

1 ] ؛ و « اسم » زائدة ، والمراد اللّه .

كما في قول :سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى( 1 ) [ الأعلى   :1]. والمراد بذلك : سبّح ربّك .

 

وقد وضعنا للبسملة كتابا ، شرحناها فيه أيام البداية ، وسميناه بالكهف والرقيم في شرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 1 ) [ الفاتحة  :1].

 

وهذا الكتاب المذكور ، أول كتاب صنّفناه في علم الحقيقة ، فالحمد لمن جعل أول تصنيفاتي في :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ] .

ليقع كمال النسبة الإلهية في إظهار الحقائق صورة ومعنى.

ولولا ما شرحناه من أمر البسملة ، لأوردنا لك ذلك كله ، على التفصيل والإجمال ، وزبدة الأمر كله ؛ رجوع أمر جميع أفعال العباد ، إلى أنها أفعال للّه .

 

فلذلك : قال الحلّاج ، وإن لم يكن من أهل الاحتجاج ، بسم اللّه منك بمنزلة كن منه . الحلاج رضي اللّه عنه ، هو الحسين بن منصور الحلاج .

 

قال الشيخ إنه ليس من أهل الاحتجاج ، لأنه لما تحدّى وقال " أنا الحقّ " قتله سيف الشريعة ؛ فلو امتنع بمقتضى صفات الحق ، لم يستطع أن يقتله أحد ؛ فكانت حجّته ثابتة ودعواه صحيحة عند الغير .

كما جرى لأبي يزيد رضي اللّه عنه في قوله : سبحاني، ما أعظم شأني وأعزّ سلطاني!

وفي قول الشيخ عبد القادر رضي اللّه عنه : معاشر الأنبياء ، أوتيتم اللقب ، وأوتينا ما لم تؤتوه !

وفي قول الشيخ أبي الغيث بن جميل رضي اللّه عنه : خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله !

وقوله حين قال له الحكمي رضي اللّه عنه : ما حالك ؟ قال : أصبحت أحيي وأميت ، وأفعل ما أريد ، وأنا على كل شيء قدير .

 

فكلّ من هؤلاء السادة ، منع بحاله أن يسطو عليه أحد ، فأقام حجّته .

وكان الحلاج دون هذه المرتبة - ولو كان على الحقّ - ولهذا أخذته سيوف الشريعة .

ولا مؤاخذة على من قام عليه ، لأنهم قاموا بالحق ؛ ولو كان حقّه أعلى من حقّهم .

ونهاية الأمر ؛ إن الذين فعلوا هذا الفعل ، إذا ظهرت عليهم الحقائق ؛ نكّسوا رؤوسهم ، وآمنوا بقوله .

ولولا الحقيقة ، ما أخذته سيوف الشريعة ؛ لأنه لما طلب ظهوره بالربوبية في عالم العبودية - وذلك أعزّ من وجود النار في قعر البحار - أطلقه لسان الوقت ، عن قيد الهيكل الجسماني ، ليتحقّق بما ادعاه في العالم اللائق بتلك الدعوى ، فجرى عليه ، ما جرى غيره من الحقائق على الحقائق ؛ لئلا يدّعي هذا المقام من ليس له ذلك .

 

ولو كان متحقّقا بذلك كمال التحقّق ، كما كان عليه غيره من الكمّل المذكورين ، لامتنع بحقّ صفات الربوبية عن تلك القتلة ، كما امتنع غيره . .

فكان الحلّاج على بيّنة من اللّه ، ولو لم يكن له شاهد تلك البيّنة ؛ وكان من ذكرناهم من الكمّل ، على بيّنة من اللّه ، ويتلوه شاهد منه .

ولهذا ، قال اللّه تعالى :إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[ لقمان : 19 ] .

يريد بذلك ، كناية عن حال المريد إذا تكلّم قبل أوان الكلام ؛ وفي المثل السائر عند الامتحان يعزّ المرء أو يهان .

فلكل مقام مقال ، لا يصح دعوى المتكلّم عن ذلك ، إلا إذا تمكّن فيه .

 

فلو كان الحلّاج رضي اللّه عنه ، واجد الحقيقة ، ما قال غير متمكّن بالحال ؛ فتعجّل وتكلّم ، ولو تأمّل في قوله تعالى لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام :لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ[ القيامة : 16 ] الآية ، لكان ، كغيره من الكمّل الذين قال اللّه في حقّهم :لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ[ الأنبياء : 27 ] الآية

فالكامل يعمل بأمر اللّه ، كلّ ما يعلمه اللّه ، والعارف يعمل باللّه مطلقا ؛ لا يعلم هذا الأمر المخصوص - الذي يتوجّه من الحقّ إلا الكامل - إلا إذا كان عارفا كاملا ، وإلا فهو محجوب عنه .

ولما كان الوليّ فاعلا باللّه ، لتحقّق ذاته بمعنى صفاته ؛ كان بِسْمِ اللَّهِ[ الفاتحة : 1 ] منه ، بمنزله كُنْ[ النّحل : 40 ] من اللّه .

إذا قارنت ذلك منه حركة إرادية لصدور ما يريد في الخارج ، كما أن كلمة كُنْ[ النّحل : 40 ] من الحقّ مقارنة لإرادته ما يكون على الوجه المخصوص المراد .

ولهذا ، قال الشيخ رضي اللّه عنه : فخذ التكوين عنه . الضمير في " عنه " راجع إلى اسم اللّه المذكور في البسملة ،

والمراد : خذ علم كيفية التكوين ، عن اللّه المكوّن ؛ فقل للشيء كُنْ[ النّحل : 40 ] فيكون ، كما هو القائل تعالى لكل شيء .

وعن ذلك عبّر بقوله : فمن تقوّى جأشه ، أي قلبه ؛ واستدار عرشه ، باستوائه بذاته على عرش أسمائه وصفاته ؛ وتمهّد فرشه ، بتمكنه من التحقّق ، صورة ومعنى ؛ فظهر أثر اسم باطنه على ظاهره ،

فكان لجسمه جميع ما هو لروحه - التي لها ما للحقّ تعالى - كان متصرّفا في العالم ، تكوّن الأشياء بكلمته لها كُنْ[ النّحل : 40 ] كرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال كن ، ولم يبسمل ؛ فكان ، ولم يحوقل .

 

أشار إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم ، لشيخ رآه من بعيد : « كن زيدا »  فكان ذلك الشيخ زيدا ، أخو عمر بن الخطّاب ، أرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وترقّب وصوله ؛ وحكايته مشهورة . "" في الحديث « كن أبا خيثمة » صحيح مسلم وصحيح ابن حبان وروى القصة غيرهما .""

 

والمراد : أن من كان متحقّقا بربه - روحا وجسما ، وصورة ومعنى - تكوّن ذلك الشيخ فصار زيدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :كُنْ[ النّحل : 40 ] .

ولم يقل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ] .

لأن بِسْمِ اللَّهِ[ الفاتحة : 1 ] مرتبة العارف ، وكُنْ [ النّحل : 40 ] مرتبة اللّه ،

والمحقّق هو اللَّهِ[ الفاتحة : 1 ] ليس المراد بهذا الاسم غير المحقّق ، ولا غير اللّه تعالى .

 

وقوله : فَكانَ[ الأعراف : 175 ] ضميره راجع إلى ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :كُنْ[ النّحل : 40 ] وفاعل « لم يحوقل » راجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أي : لم يقل لا حول ولا قوة إلا باللّه .

لأن ذلك مرتبة العارف الذي رجع إلى اللّه تعالى بالفناء عن صفات نفسه وأفعالها ، بل وعن ذات نفسه ؛ واللّه راجع إلى المحقّق ، رجوع العارف إلى اللّه .

فالعارف قائم باللّه ، واللّه قائم بالمحقّق .

فلهذا ، لم يقل المحقّق لا حول ولا قوة إلا باللّه ، كما يقول المحقّق .

فمن ذاق ، من شراب التمكين بالذات في تحقيق إظهار معاني الأسماء والصفات ؛ ضاق مسلكه ، لأنه حينئذ يسير بالذات ، والذات ظلمة لا طريق فيها لسالك .

 

وإلى هذا المعنى أشار سيدي محيي الدين عبد القادر الجيلاني ، رضي اللّه عنه ، بقوله :

كلّ الأولياء لمّا وصلوا إلى القدر وجدوه مصمتا فوقفوا ، إلا أنا ، فتحت لي فيه روزنة ، فولجت فيها ، فدافعت أقدار الحقّ بالحقّ . .

هذا معنى ؛ وإن شئت قلت : من ذاق ألوهية الحقّ في الحقّ ، ضاق عن قبوله بحكم الخلق بالكلية ؛ فإن في ذلك فقدانه للربوبية ، إذ ليس من الكمال ترك الربوبية للعبودية ، فيضيق المحقّق عن كمال التنزيل إلى العالم الخلقي من كل جهة .

فإذن :  يكون حقّا مع حقيقته بالذات ، وخلقا مع خليقته بالأسماء والصفات والشؤون والاعتبارات والنسب والإضافات ، فمعيّته مع الحق والخلق ، خير معيّة ، الحق سبحانه وتعالى ! ولم يقر بهذه النكتة - حالا - إلا كامل في هذه الدار ، وحقيقة الأمر ؛ رجوع الكلّ إلى هذا المعنى .


وقد أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى ذلك بقوله :

وإذا التفّت الساق بالساق : فإلى ربك المساق ، وإليه ترجع الأمور، إذ كان منه الصدور.

معناه : إذا التفت والتحقت الذات الإنسانية بالذات الرحمانية ، بشهودها أنها عينها - لا غيرها - من كل جهة ، وبكل اعتبار ، وعلى كل حال ، وفي كل وقت على الدوام . فإلى مقام الربوبية المحضة ، يكون مساق هذا الإنسان .

وحينئذ ، ترجع إليه - أي إلى الإنسان - الأمور ؛ لأنه الحق الذي كان منه البداية والصدور . إذ الأمر دوريّ ، يعود إلى ما بدأ .

 

ولهذا ، قال الشيخ رضي اللّه عنه : لا تبسمل ، وقل بكن ، مثل ما قاله يكن .

بكن الأولى ، بالباء الموحدة .

ويكن الأخيرة ، بالياء المثناة من تحت ؛ وهذا جزاء لقوله : قل .

والمعنى : لا ترجع بك إليه ، كما هو المقصود في البسملة ، بل ارجع بالأمر كله إليك ، وقل كُنْ[ النّحل : 40 ] .

لما تريده ، كما يقوله الحقّ ، يكن ما شئت كما شئت .

فإليه رجوعنا ، لا إلينا . أي : فإلى مقام الربوبية رجوعنا ، لا إلى مقام العبودية .

فالربوبية لازمة لذواتنا ، والعبودية عارضة بحكم المحل .

وترتيب الحكمة ، هو المقتضي للحكمين في المحلين ؛ من أجل هذه الذات الواحدة الكاملة بجميع تلك المعاني .

فكن عين الذات الإلهية من كل جهة ، وبكل اعتبار ، وعلى كل حال ، لا تخرج عن ذلك طبعا . تكن ، عينه . . بإظهار الأثر من نفوذ كل أمر ، وإدراك كل علم . وما يلقّاها إلا الذين صبروا ،وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 ) [فصّلت : 35 ] .

وقد رمزت لك في هذه النبذة ، جميع ما صرّح به الشيخ في الباب الخامس من كتاب الفتوحات المكية . فتأمله ، ترشد بمعرفته إن شاء اللّه تعالى . 

*

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: