الاثنين، 3 أغسطس 2020

05 - حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

05 - حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

05 - حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي


“ 119 “

حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى بسبب تعصبه

[عناد الملك للنصارى ]

كان لليهود في سالف الزمان ملك ظالم ، وكان عدوّاً لعيسى ، ومهلكاً للنصارى .


325 - وكان العهد عهد عيسى ، والدور دوره ، وليس عيسى إلا روح موسى وموسى روحه .

ولكنّ هذا الملك الأحول فرّق بين هذين الرفيقين الإلهين في طريق اللَّه .

لقد قال أستاذ ( لتلميذ ) أحول : “ تقدَّم واذهب ، واحضر من الغرفة تلك الزجاجة “ .

فقال الأحول : “ أيِّا من هاتين الزجاجتين أحضر لك ؟ ألا فلتوضّح لي ذلك الأمر “ .

فقال الأستاذ : “ ليس هناك زجاجتان ، فاذهب ودع الحول ، ولا تشاهد الأشياء أكثر من حقيقتها “ .


330- فقال التلميذ : أيها الأستاذ ! لا توجّه هذا الطعن إليّ . فقال الأستاذ : “ اكسر إحدى هاتين الزجاجتين “ .

لقد كانت هناك زجاجة واحدة ، ظهرت في عينيه اثنتين ، فلما كسرها 


“ 120 “


لم تبق أمامه زجاجة أخرى .

فهو حين كسر تلك الزجاجة مضت الزجاجتان من أمام عينيه .

وهكذا يصير المرء أحول من الهوى والغضب ! فالغضب والشهوة يجعلان الرجل أحول ، وهما يصرفان الروح عن استقامتها .

فإذا حلّ الغرض احتجب الفضل ، وغشى العين مائة حجاب من القلب .


335 - ومتى يميز القاضي بين الظالم والمظلوم إذا ترك الرشوة تستقرّ في قلبه ؟

لقد صار الملك من الحقد اليهودي أحول على تلك الصورة ، فالأمان يا رب الأمان .

فقتل مائة ألف من المؤمنين المظلومين ( قائلًا ) : “ إنّني أنا الملجاً والظهير لدين موسى“.

الوزير يعلّم الملك المكر


وكان لهذا الملك وزير كافر مخادع ، كان يستطيع أن يربط في الماء عُقداً ! 

فقال للملك : “ إنّ النصاري يعملون للمحافظة على أرواحهم ، ولهذا فهم يخفون دينهم عن الملك .


340 - فلا تقتلهم ، فما في قتلهم فائدة ، فالدين لا رائحة له ، فلا هو مسك ولا هو عود !


“ 121 “


فسرُّهم مطويّ في مائة غلاف ، وظاهرهم مثلك حين يكونون معك ، وأما باطنهم فعلى خلافك “ .

فقال له الملك : “ قل لي ما التدبير ؟ وما الحيلة في هذا المكر وذلك التزوير ؟

حتى لا يبقى في هذا العالم نصرانيّ يتبع هذا الدين في الظاهر أو في الخفاء “ .

فقال الوزير : “ أيها الملك ! اقطع أذنيّ ويديّ ، وشقّ أنفي بحكم مرّ ( تصدره ) .


345   وبعد ذلك أوقفني تحت حبل المشنقة ، حتى يشفع لي أحد الشفعاء ! 

وليكن فعلك هذا في مكان عام ، على رأس طريق تتفرع منه الطريق إلى أربع جهات .

وحينذاك أخرجني من حضرتك إلى مكان بعيد ، حتى أوقع بينهم الشرّ والفتنة .

 

خداع الوزير للنصارى


وسوف أقول لهم : “ إنّني في السرّ نصرانيّ . إنك تعرفني يا إلهي ! 

يا عالم الأسرار ! وقد علم الملك بإيمانى ، فقصد بتعصبه أن يقضي على حياتي .


350  لقد أردتُ أن أخفي ديني عن الملك ، فأظهرت أنني أدين بدينه .

ولكنّ الملك تنسم رائحة أسراري ، فأصبحت أقوالي أمامه موضع الشك والتهمة .

 

“ 122 “


فقال لي : “ إنّ قولك هذا كخبز به إبرة ، وإنّ بين قلبي وقلبك نافذة .

وقد اطعلت على ( حقيقة ) حالك من تلك النافذة ، فرأيت حالك ، فلم يعد يخدعني مقالك“.

ولو لم تكن روح عيسى ملجئي ، لقطعني الملك إرباً ، على طريقة اليهود .


355 - وإني - من أجل عيسى - أهب روحي ، وأقدّم رأسي ، فإني مدين له بمائة ألف من المنن .

ولست أبخل على عيسى بروحي ، ولكنيّ ملم غاية الإلمام بدينه .

فأدركت أن من الحيف أنَّ هذا الدين الطاهر يلقي الهلاك بين الجهلاء .

فالشكر للَّه ولعيسى ، إذ أصبحتُ لهذا الدين الحقّ هاديا .

ولقد خلصت من اليهود واليهودّية ، حتى عقدت الزِّنار حول وسطي .


360 - إن الدور دور عيسى أيها الناس ، فاستمعواً بأرواحكم إلى أسرار دينه “ .

فصنع الملك بالوزير ما أشار به عليه ، وبقي الخلق في عجب لهذا الأمر .

ودفع به إلى النصارى ، فشرع الوزير بعد ذلك في الدعوة .


كيف تقبّل النصارى مكر الوزير


فاتجه إليه الآلاف من النصارى ، وأخذوا يجتمعون في داره .

فأوضح لهم في الخفاء سر الإنجيل والزّنار والصلاة .


“ 123 “


365 -فقد كان في الظاهر واعظ أحكام ، ولكنّه كان في الباطن صفيراً وفخّاً .

ولمثل تلك الحال التمس بعض الصحابة من الرسول أنْ يبين لهم مكر النفس التي هي كالغول.

فسألوه : “ ماذا يختلط من الأغراض الخفيّة بالعبادات وبإخلاص الروح ؟

 “ ولم يستفسروا منه عن فضل الطاعة ، كما لم يسألوه عن مكان العيب الظاهر “ 1 “ .

فعرفوا منه كل دقائق مكر النفس ، كما يُعرف الوردُ من الكرفس .


370  فكان أن أثار وعظه القلق والحيرة حتى في نفوس المتشدّدين من الصحابة .متابعة النصارى للوزير

لقد تبعه النصارى بكلّ قلوبهم ، فما أعظم ما تكون قوة التقليد العام ! وغرسوا حبّه في صدورهم ، وكانوا يظنونه نائباً لعيسى !

...............................................................

( 1 ) هذا ترجمة نص البيت كما ورد في طبعة نيكولسون . وهو يبدو غامضاً وسط البيت السابق عليه واللاحق له . وقد أورد نيكولسون في الحاشية رواية وردت في أحد المخطوطات القديمة يقرأ البيت فيها على النحو التالي :فضل طاعت را بجستندي ازو * عيب طاهر را بجستندي كه كوفتكون الترجمة : “ لقد كانوا يستفسرون منه عن فضل الطاعة ، كما سألوه عن العيب الظاهر وأين يكون “ .


وفي رأبي أن هذه الرواية أصدق وأبعد عن التحريف .


“ 124 “


كان هذا الرجل في السرّ هو الدجّال الأعور اللعين ! يا إلهي ! إنّك للضارعين نعم المعين.

ربّاه ! إنّ أمامنا مائة ألف من الشباك والحبّ ، ونحن كالطيور الحريصة الجياع .


375  فنحن في كلّ لحظة نقع في حبالة جديدة ، حتى ولو صار كلّ منا بازاً أو عنقاء .

وأنت - يا من لا حاجة بك إلينا - تخلّصنا في كل لحظة، ولكننا نعود ، فنقع في حبائل أُخرى.

فنحن نضع القمح في هذا المخزن ، بيد أننا لا نكاد نجمع القمح حتى نفقده .

وليس ينتهي بنا التفكر آخر الأمر إلى أن هذا الخلل، الذي يقع بالقمح، جاء من مكر الفأر! 

فمنذ صنع الفأر جُحراً في مخزننا ، خرِّب بخداعه هذا المخزن .


380 - فاعملي أيتها النفس أولًا على دفع شر الفأر ، ثم اجتهدي - بعد ذلك - في جمع القمح .

واستمعي من أخبار صدر الصدور “ 1 “ إلى قوله : “ لا صلاة إلا بحضور القلب “ .

ولو لم يكن في مخزننا فأر سارق فأين قمح أعمالنا طوال أربعين عاماً ؟

ولمَ لا يتجمع صدقنا كل يوم رويداً في مخزننا ؟

...............................................................

( 1 ) محمد رسول اللَّه .


“ 125 “


فكم من شرر ينطلق من الحديد فيتقبّله ذلك القلب المحترق ويجتذبه “ 1 “ !


385 - ولكنّ في الظلمة لصِّاً خفيّاً يضع إصبعه على تلك الشهب فيطفئها شهاباً شهاباً “ 2 “ ، حتى لا يشرق سراج من الفلك .

ولو أمسكت بأقدامنا آلاف الفخاخ ، فلا ضير علينا حين تكون أنت معنا .

فأنت في كل ليلة تطلق الأرواح من أسر الجسد ، وتقتلع ألواح ( العقول الواعية ) .

فتنطلق الأرواح كلّ ليلة من هذا القفص ، وتستريح من الحكم والقول والقصص .


390 - وفي الليل لا يشعر بالسجن نزلاؤه ، كما لا يحسّ أهل السلطان بسطوتهم ! 

وليس ( عند النوم ) همّ ، ولا تفكير في الخسارة ولا الربح ، وليس فيه خيال هذا الإنسان أو ذاك .

وتلك حال العارفين ، دون نوم ، وقد قال تعالى :

...............................................................

( 1 ) إن احتكاك الأرواح الصادقة بعضها ببعض يوّلد الشرر ، كما يتوّلد الشرر من احتكاك الحديد والصخر . والقلب يتقبل الشرر الذي يتولد من تلك الاحتكاكات الروحية ، ويسعى إلى اجتذابه . لكنّ هذا الشرر لا يصل إليه ، لأنّ لصّاً خفيّاً كامناً في الظلام ( هو الشهوات المادية ، والانصراف عن الروح والتعلق بما سواها ) يطفئ ذلك الشرر ولا يمكنه من الوصول إلى القلب ، فيكون سبباً في حرمان القلب من تلك الإشراقات الروحية .

( 2 ) إن احتكاك الأرواح الصادقة بعضها ببعض يوّلد الشرر ، كما يتوّلد الشرر من احتكاك الحديد والصخر . والقلب يتقبل الشرر الذي يتولد من تلك الاحتكاكات الروحية ، ويسعى إلى اجتذابه . لكنّ هذا الشرر لا يصل إليه ، لأنّ لصّاً خفيّاً كامناً في الظلام ( هو الشهوات المادية ، والانصراف عن الروح والتعلق بما سواها ) يطفئ ذلك الشرر ولا يمكنه من الوصول إلى القلب ، فيكون سبباً في حرمان القلب من تلك الإشراقات الروحية .


“ 126 “


“ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ““ 1 “ فلا تكن منكرا .

فهم نائمون عن أحوال الدنيا بالنهار وبالليل ، وهم كالقلم في قبضة الرب .

فمن لا يرى القبضة عند الكتابة ، يظن الكتابة من حركة القلم .


395 - فتلك لمحة من حال العارف بيّنها ( اللَّه ) ، وأما ( عامة ) الخلق فقد غلبهم النوم الحسّي .

فمضت نفوسهم في صحراء لا مثيل لها ، واستراحت أرواحهم وأبدانهم .

ولكنّك بالصفير تمدّ شبالك من جديد ، فتقودهم جميعاً إلى العدالة والقاضي “ 2 “ .

إن فالق الإصباح يعيدهم من تلك الديار إلى عالم الصورة كما يصنع إسرافيل “ 3 “ .

فيجعل للأرواح المنطلقة أجساماً ، ويجعل الأجسام من جديد حبالى بأرواحها .


400 - فهو ( في النوم ) يجعل جواد الروح عارياً من سرجه ، وهذا هو السر في قول القائل “ النوم أخو الموت “ .

ولكي تَرجمع هذه الأرواحُ من جديد عند طلوع النهار فإنَّه يضع في أقدام جيادها وثاقاً طويلًا .

حتى يجرّها عند الصباح من ذلك المرج ، ويقتادها من مرعاها لتحمل

...............................................................

( 1 ) سورة الكهف ( 18 : 18 ) .

( 2 ) أي ترجعهم ثانية إلى عالم التكليف وتجعلهم من جديد مسئولين عن أعمالهم .

والصفير هنا هو الصوت الذي يحدثه الصياد ليقود الطيور نحو الشباك .

( 3 ) هو الملك الذي ينفخ في الصور يوم الحشر .


“ 127 “


أعباءها من جديد .

فليت اللَّه احتفظ بأرواحنا ، كما صنع بأهل الكهف ، أو كما حفظ سفينة نوح .

حتى يتخلّص من طوفان اليقظة والوعي ذلك الضمير وهذه العين وتلك الأذن .


405   وكثيرون هم أصحاب الكهف في هذه الدنيا ، وهم الآن إلى جانبك أو في مواجهتك .

فالغار معهم ، والرفيق يسامرهم ، ولكنّ اللَّه ختم على بصرك وسمعك ، فأيّ جدوى لك من وجودهم ؟


قصة رؤية الخليفة لليلى

لقد قال الخليفة لليلى : « أأنت التي صار المجنون من أجلك ذاهل الفكر غويّا ؟

إنّك لست أفضل من الحسان الأخريات ! » فقالت له ليلى : « صه فإنّك لست المجنون » .

فكل من كان منتبهاً ( للعالم الماديّ ) ، فهو في غفوة ( عن عالم الروح ) ، ويقظته أسوأ من نومه .


410   وعندما لا تكون أرواحنا مستيقظة للحق ، فإنّ يقظتنا تكون مثل إغلاقنا الباب « 1 » .

...............................................................

( 1 ) يقصد سد الطريق أمام التأثيرات الإلهية .


“ 128 “


والنفس كل يوم من لكز الخيال وضربه ، ومن الضرّ والربح وخوف الزوال لم يبق لها صفاء ولا لطف ولا بهاء ، ولا طريق سفر نحو السماء .

وإن الذي يعقد أملًا على كان خيال ويناجيه ، فهو إنسان قد استغرق في النوم .

فالشيطان يرى الحور في منامه ، فيصبّ ماء شهوته على ذلك الوهم .


415 - وهو إذ قد نثر بذور نسله بتلك التربة المالحة “ 1 “ يثوب إلى رشده وقد مرّ منه ذلك الخيال .

ويصيبه لذلك ألم في الرأس وتلوث في الجسد ، فواهاً لتلك الصورة الظاهرة الخفية “ 2 “ .

إن الطائر يحلّق في السماء وظله يجري على الأرض مرفرفاً كأنه طائر .

والأبله يسعى لصيد ذلك الظلّ ، فيعدو وراءه حتى تنفد قواه .

فهو لا يدري أنه يطارد ظلًا لطائر الجوّ ، ولا يعلم أين أصل هذا الظلّ .


420 - وهو يرمي بالسهام نحو هذا الظلّ حتى تفرغ جعبته لطول السعي والطلب .

وقد فرغت جعبة عمره فمضى العمر ، وهلك ( الصياد الأبله ) من الجري سعياً وراء صيد الظلّ .

فلو كان ظلّ اللَّه راعيه الخلّصه من الخيال وظلّه .

...............................................................

( 1 ) أضاعها هباء .

( 2 ) أي صورة الحور التي تراءت له المنام بدون أن تكون لها حقيقة .


“ 129 “


وليس ظلّ اللَّه سوى عبد اللَّه الذي يكون ميتاً بالنسبة لهذا العالم ، حيّاً باللَّه .

فسارعْ إلى التعلّق بذيله - من غير أنْ يخامرك في ذلك ريب - حتى تنجو في آخر الزمان .


425 - والظلّ في قوله تعالى :” كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ““ 1 “ صورة أولياء اللَّه ، وهذه هي الدليل المنبىء عن نور شمس اللَّه .

فلا تمش في ذلك الوادي من غير أن يرشدك هذا الدليل ، وقل” لا أُحبُّ الْآفلينَ ““ 2 “ مثلما قال الخليل .

دع الظلّ واقصد الشمس ، وتعلّق بذيل شمس تبريز “ 3 “ .

وإذا لم تكن تعرف السبيل إلى هذا السور وذلك العرس فسل ضياء الحق حسام الدين .

فإذا أمسك الحسد بختاقك وأنت في الطريق ( فاعلم ) أن إبليس ذو غلوّ في الحسد .

 


430   فهو من الحسد يزدري آدم ، وهو من الحسد يشنّ الحرب على السعادة .

وليس في الطريق عقبة أصعب من الحسد ، فما أسعد من لم يتِّخذ منه رفيقاً !

...............................................................

( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً “ ( الفرقان ، 25 : 45 ) .

( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : “ فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين “ ( الانعام ، 6 : 75 ) .

( 3 ) يقصد شمس الدين التبريزي .


“ 130 “


واعلم أنّ هذا الجسد منزل الحسد ، ولهذا تلوَّث ساكنوه بالحسد .

ومع أنّ الجسد منزل الحسد فإن اللَّه طهرّه وزكّاه .

وقوله تعالى :” طَهِّرا بَيْتيَ ““ 1 “ بيانُ لطهر الجسد ، فهو كنز النور وإن كان سرّه من التراب .


435 - فإن أنت سلّطت المكر والحسد على من كان بريئاً من الحسد فإن حسدك هذا يجلّل قلبك بالسواد .

فكن تراباً تحت أقدام رجال اللَّه ، واحث التراب على رأس الحسد مثلما نفعل .


بيان حسد الوزير


لقد كانت طبيعة هذا الوزير الصغير من الحسد ، ولذلك ضحىّ في سبيل الباطل بأذنيه وأنفه .

وكان أمله أن يسيري سمه من إبرة الحسد إلى نفوس هؤلاء المساكين .

وإنّ من يجدع أنفه من جرّاء الحسد يجعل نفسه بدون أذن ولا أنف “ 2 “ .


 


440  فالأنف هي التي تتنسم الأريج ، فيقودها ذلك الأريج إلى جانب الديار .

ومن لم يدركه الأريج فهو بلا أنف ، والأريج المقصود هنا دينيّ لا دينويّ .

..............................................................

( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود “ . ( البقرة ، 2 : 125 ) 

( 2 ) يفقد الإدراك النفسيّ إلى جانب فقدانه للادراك الحسي .


“ 131 “


فإذا اشتمّ المرء الأرجَ ، ولم يقم بالشكر عليه ، كان ذلك منه كفراً بالنعمة ، وصار كمن أكل أنفه .

فكُنْ شاكراً ، وكُنْ للشاكرين عبداً ، وكن في حضرتهم كالميت ولا تُبد حراكاً .

ولا تجعل ذخيرتك من قطع الطريق كما فعل الوزير ، ولا تصرف الخلق عن الصلاة .


445 - إنّ ذلك الوزير الكافر صار ناصحاً في الدين ، فكان من مكره أن وضع الثوم في اللوزينج .


كيف فهم حذاق النصارى مكر الوزير


لقد كان كلّ صاحب ذوق يجد في قول هذا الوزير لذة مقترنة بالمرارة .

كان يقول كلاماً لطيفاً ممتزجاً بكلام خبيث ، فقد صبّ السم في شراب الورد .

كان في الظاهر يدعو الأرواح إلى الجدّ في السير على الطريق ، ولكنه كان يعود فيحثها على التراخي .

وهكذا ظاهر الفضّة ، فهو إن كان أبيض جديداً إلا أنه يلوّث بالسواد اليد والثياب .


450 - والنار ترى وجهها أحمر من الشرر ، ومع ذلك ، فانظر كيف ينشأ السواد من فعلها .

والبرق يبدو نوراً لمن نظر ، مع أنّ من طبيعته أن يخطف البصر .


“ 132 “


فكل من لم يكن عارفاً صاحب ذوق (من النصارى)، أصبح أسيراً لكلمات ذلك الوزير “ 1 “.

ولقد ابتعد ذلك الوزير عن الملك ست سنين ، كان في أثنائها ملجاً لأتباع عيسى .

فأسلم له الخلق دينهم وقلوبهم ، وكانوا يبذلون الروح وفق أمره ، وطوع حكمه .


المراسلة في الخفاء بين الملك والوزير


455 - لقد جرت بين الملك وبين الوزير الرسائل ، وطمأنه الوزير في الخفاء .

فكتب الملك يقول : “ لقد حان الوقت - أيّها العزيز - فسارع ، وطمئن خاطري “ 

فأجاب الوزير قائلًا : “ ها أنذا في هذا العمل ، أيها الملك ! وإني لموقع الفتن في دين عيسى “ .

 

بيان الأسباط الاثني عشر الذين تبعهم النصارى


لقد كان لقوم عيسى اثنا عشر أميراً يحكمونهم ويتولوّن أمورهم .

وكان كل فريق تابعاً لأميره ، وقد جعل منه الطمع عبداً لذلك الأمير .


460  وهؤلاء الأمراء الإثنا عشر ، وأتباعهم صاروا عبيداً لذلك الوزير القبيح السمات .

...............................................................

( 1 ) الترجمة الحرفية : “ صارت كلمات ذلك الوزير طوقاً في عنقه “ .

“ 133 “


فكانوا جميعاً يثقون بقوله ، وكلهم كانوا يهتدون بسيره .

وكان كلّ أمير يرضى بأن يضحّي بالروح في التوّ واللحظة إذا طلب منه الوزير ذلك .


تخليط الوزير في أحكام الإنجيل


فأعدّ طومار باسم كل منهم وكتب في كلّ طومار خلاف ما كتب في الآخر .

فكان كل طومار ينطوي على أحكام تخالف ما جاء في غيره خلافاً يمتدّ من البداية إلى النهاية.


465 - ففي أحدهما جعل طريق الرياضة والجوع ركناً للتوبة وشرطاً للرجوع .

وفي طومار آخر قال: “ إنّه لا جدوى من الرياضة، وإنّه لا نجاة في ذلك الطريق إلا بالجود“.

وفي طومار ثالث قال : “ إنّ جوعك وجودك إشراك منك بمعبودك .

وكل ما جاوز التوكل والتسليم التام في حالي الغم والسرور فليس إلا مكراً وخداعاً “ .

وفي طومار قال : “ إنّ العبادة هي الواجب ( المفروض على العبد ) أما التفكر في التوكلّ فهو تهمة “ .


470 - وفي طومار قال : “ إنه ليس المقصود بأوامر اللَّه ونواهيه أن يتبعها الناس ، وإنما هي بيان لعجزنا وبرهان عليه ! 

فإذا ظهر لنا عجزنا عن اتباعها ، أدركنا - إذ ذاك - قدرة الحقّ “ .


“ 134 “


وفي طومار قال : “ لا تنظر إلى عجزك ! إنّ هذا العجز كفران بالنعمة ، فاحذره ! 

وانظر إلى قدرتك ، فإنّ هذه القدرة من اللَّه ، وهي نعمة منه جلّ شأنه “ .

وفي طومار قال : “ دعك من هاتين الصفتين ( القدرة والعجز ) فكلّ ما أتسمع له البصر فإنّه وثن “ .


475  وفي طومار قال : “ لا تطفئ شموع الإبصار ، فإنّ البصر هو الشمع الذي ( ينير الطريق ) للتأمل الباطنيّ .

وإذا أنت تركت النظر ، وتركت الخيال ، كنت كمن أطفأ في منتصف الليل شمع الوصال “ .

وفي طومار قال : “ لا تخفْ وأَطفىء هذا البصر ، تَلق عوضاً عنه مائة ألف من المشاهد ! 

فأنت بإطفائك شَموع البصر تقوّي شموع روحك وتصبح ليلاك - لا صطبارك عنها - مجنونة بك .

فكل من ترك الدنيا زُهداً فيها ، أقبلت عليه الدنيا رويداً رويداً “ .


480 - وفي طومار قال : “ إنّ ما وهبك إياه الحق جعلك تجد مذاقه حلواً عندما أوجده لك .

لقد يَسّر لك ما أعطاك فخذه ، وأنعم به ولا تُلق بنفسك إلى الآلام ! “ وفي طومار 

قال : “ دع عنك كلّ ما يتصل بنفسك ، فإنّ قبولك طبع نفسك أمر لا يجوز وشر .

فهناك طرق مختلفة أصبح من اليسير طرقُها ، وكلُ غدا يعتزّ بملته

 


“ 135 “


اعتزازه بروحه .

ولو كان السير في طريق الحق يسيراً ، لكان كلُ يهودي ومحبوسى عارفاً باللَّه “ .


485 - وفي طومار قال : “ إنّ ( الطريق ) الميسّر هو الذي تكون فيه حياة للقلب وغذاء للروح .

فكل ما يوافق طباعنا الحسيّة - عندما يمضي - لا يترك محصولًا ولا ثمرة ، شأن الأرض المالحة .

وليس لذلك من حاصل سوى الندم ، ولا يجيء بيعه بشيء سوى الخسارة .

وكل ما لم يكن مُيسّر العاقبة فاسمه إذن يكون معسّر العاقبة “ .

فتعلمّ ( كيف تميز بين ) المُيَسّر والمُعَسَّر ، وتأمل في عاقبة الأمر جمال كل منهما ! “ .




490 - وفي طومار قال : “ اطلب مرشداً ، فلن يتحقق لك إدارك العاقبة بما لك من حسب .

فجميع أنواع الملل رأت العاقبة ( على هواها ) ، فلا جرم أن أصبح أتباعها أسارى الزلل .

وليس إدراك العاقبة ( يسيراً ) كإدارة نول يدويّ ، وإلا فكيف وقع الخلاف بين الأديان ؟ “ .

وفي طومار قال : “ إنّك أنت المرشد لأنك تعرف المرشد ! 

فكن رجلًا ولا تكن مُسُخّراً لغيرك من الرجال ، وامض ، وكن رابط الجأش ، وتخلصَّ من حيرتك “ .


“ 136 “


495   وفي طومار قال : “ إنّ تلك الكثرة التي نراها شيء واحد ، وكلّ من رآها شيئين فهو رجل صغير أحول “ .

وفي طومار قال : “ كيف تكون المائة واحدا ؟ إنّ من يتصور ذلك ليس إلا مجنوناً “ .

فكل قول قاله ، كان مناقضاً لأقواله الأخرى ! وكيف تتفق ( هذه الأقول ) ؟ أيكون السم والسكرّ شيئاً واحداً ؟

فإنْ أنت لم تكن قد انتهيت من التمييز بين السمّ والسكرّ ، فكيف تستطيع أنْ تتنسم عبير التفرد والوحدانية ؟

وهكذا كتب ذلك العدوّ لدين عيسى اثني عشر دفتراً من هذا النوع ، على تلك الوتيرة .


بيان أن هذا الخلاف إنما هو صورة السير وليس في حقيقة الطريق


500 - إنّه لم يكن مدركاً لوحدة اللون عند عيسى ، ولم يكن يميل إلى ذلك المزاج ( اللونيّ ) الذي احتواه وعاؤه .

فمن ذلك الوعاء الصافي صُبغ ثوب ذو مائة لون ، فصار ذا لون واحد متجانس ، كأنه الضياء “ 1 “ ! .

وليست هذه الوحدة اللونية من النوع الذي يجلب الملال ، بل هي على مثال السمك وهو في الماء الزلال .

ومع أن الأرض اليابسة تشتمل على آلاف من الألوان ، فإن ألاسماك

...............................................................

( 1 ) الضوء يمكن تحليله إلى ألوان عديدة ومع ذلك يبدو لوناً واحداً .


“ 137 “


في حرب دائمة مع الجفاف .

وما السمك وما البحر في ذلك المثل الذي ضربناه حتى نشبه بهما المليك عز وجل 


505   ففي هذا الوجود مائة ألف بحر وسمكة ، تسجد أمام ذلك الإكرام والجود ! 

فكم من غيث عطاء همى ، فأصبح البحر بذلك الغيث ينثر الدرّ .

وكم شمس كرم أشرقت ، فتعلّم منها الحساب والبحر معنى الجود .

وشمس الحكمة قد ضربت أشعتُها التراب والطين، فأصبحت الأرض تتقبل البذرة ( وتنبتها ).

والأرض أمينة ، فكل مازرعته فيها تجني ثمرة من جنسه دون غش أو خديعة .


510   وقد أخذت الأرض أمانتها عن تلك الأمانة ( العلوية ) ، فقد أشرقت عليها شمس العدل ( الإلهي ) .

وما لم يجئ الربيع بعلامة من الحق فإن الأرض لا تذيع أسرارها .

فهذا الجواد الذي وهب الجماد تلك المعرفة ، وهذه الأمانة ، وذاك السداد .

يجعل جُوُده الجماد خبيراً ، ويجعل قهره العاقل ضريراً .

إن روحي وقلبي لا طاقة لهما بذلك الجيَشان، فمع من أتحدث وليس في هذا العالم أذن تسمع؟ 


515 - فالأذن - أينما كانت - تصبح ( بفضله ) عيناً ، والحصى - حيثما كان - يصير ( بفضله ) دُرّاً !


“ 138 “

إنه الكيماويُّ الحقّ ! فما الكيمياء ( بجانب كيميائه ) ؟

وهو مانح المعجزاته ، فما السحر ( بجانب معجزاته ) ؟

وهذا الثناء منّي هو تركُ للثناء ! فهو دليل على وجودي ( المنفصل )، ومثل هذا الوجود خطأ.

فأمام وجوده لا بد أن يكون ( كل شيء عدما ) فما الوجود أمامه ؟ إن أعمى تعس كئيب اللون ! “ 1 “ .

فلو لم يكن أعمى لانصر أمامه ، ولأدرك حرارة تلك الشمس ( الإلهية ) .


520 - ولو لم يكن أزرق اللون في ثياب الحداد، لما كان ذلك الجانب منه يبقى جامداً كالثلج.


بيان خسارة الوزير في هذا المكر

 

إنّ هذا الوزير كان جاهلًا غافلًا مثل الملك ، فكان يوجّه ضرباته نحو القديم الذي لا خلاص منه .

نحو هذا الإله ، الذي له من القدرة ، ما يجعله يخلق بنفخة منه مائة عالم كعالمنا !

 فهو يُظهر لعينك مائة عالم كعالمنا ، حينما يجعل تلك العين مبصرة بنوره .

فإذا كان هذا العالم يبدو أمامك عظيماً لا أول له ولا آخر “ 2 “ ،

...............................................................

( 1 ) حرفياً : أزرق اللون .

( 2 ) ترجمنا كلمة “ بيبن “ بعبارة لا أول له ولا آخر ومعناها الأصلي لا قاع له ولا قرار .


“ 139 “


فاعلم أنّه لا يساوي ذرة أمام قدرة اللَّه .


525 - إنّ هذا العالم سجن لأرواحكم ، فتنبهوا ، وسيروا نحو تلك الناحية ، فهناك أرضكم الرحبة ! “ 1 “ .

فهذا العالم محدود ، وتلك بلا حدود ، ولكنّ الظواهر المادية ، والصور ، تقف حائلًا أمام تصوركم ذلك المعنى .

لقد كانت لفرعون آلاف من الرماح ، ولكنّ موسى حطمها جميعاً بعصا واحدة ! 

وجالينوس كانت له في الطب آلاف من طرق العلاج ، وكلها - أمام عيسى ونَفَسه - لم تكن إلا خرافة ! 

وكانت هناك آلاف من دفاتر الشعر ، ولكنّها جميعاً باءت بالعار ، أمام حرف من ( النبيّ ) الأميّ .


530 - فإذا لم يكن المرءُ خسيساً ، فكيف لا يموت أمام مثل هذا الإله الغالب ؟

فكم من قلب راسخ كالجبل بدّده ، ولم من طائر ذكيّ علقه من قدميه “ 2 “ .

إنّ الطريق ( إلى اللَّه ) لا يكون بشحذ الفهم والخاطر ، فلن ينال

..............................................................

( 1 ) الأرض الرحبة هنا ترجمة لكلمة “ صحراء “ في النَّص. فنحن لا نظن أنه يقصد هنا الصحراء بمعناها الضيق وانما هر يعني فيما نعتقد الأرض الواسعة المنبسطة.

ويتضح هذا المعنى أيضاً في الشطر الأول من البيت التالي وفيه يقول : “ فهذا العالم محدود وتلك بلا حدود “ .

( 2 ) يريد بهذا البيت أن الذكاء وسعة الحيلة لا يفيدان صاحبهما أمام اللَّه ما لم يصحبهما الإيمان .


“ 140 “


فضل اللَّه سوى الكسير “ 1 “ .

فكم من كانزين للذهب والفضة - يحفرون الأرض سعياً وراء الكنوز - أصبحوا ( أسارى ) ذلك الخيال ، كأنهم لحية ثور !

فما الثور حتى تصبح لحية له ؟ وما الأرض حتى تصبح عشباً لها ؟


535 - لقد مسخ اللَّه امرأة ، وجعل منها كوكب الزهرة عندما أصفرّ وجهها لفعلة سوء ( اقترفتها ) “ 2 “ .

فإذا كان مسخاً ما أصاب تلك المرأة - إذ أصبحت كوكب الزهرة - فماذا يكون تحول الإنسان إلى تراب وطين ، أيها العنيد ؟

إن الروح كانت تسمو بك إلى الأفق الأعلى ، ولكنّك اتجهت إلى الماء والطين في أسفل سافلين ! 

فمسخت نفسك بذلك التسفل، و ( خرجت ) عن ذلك الوجود ( الروحي ) الذي تحسده العقول.

فانظر إلى المسخ الذي عانيته ، كيف يبدو بالغ الحطة ، إذا قورن بالمسخ الذي أصاب تلك المرأة .


540 - لقد اندفعت بجواد الهمة نحو النجوم ، ولم تدرك أنّ آدم سجدت

...............................................................

( 1 ) ليس المقصود بالكسير هنا الذليل أمام الناس وإنما المقصود به العبد الخاضع أمام خالقه.

( 2 ) إشارة إلى قصة وردت في تفسير قوله تعالى : “ وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين “ .

يقال إن هذين الملكين صارا مثل البشر وركبت فيهما الشهودة ، فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على الشر والمعاصي ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما وقد حُكي هذا عن اليهود .


“ 141 “

 

له الملائكة ! “ 1 “ .

إنك ان آدم آخر الأمر فإلى متى تظن الحطة شرفاً أيها الخلف السيء ؟

وإلام تقول : “ لسوف أملك العالم ، وأجعل نفسي ملء الدنيا على الدوام “ .

فلو امتلأ العالم بالثلج من أقصاه إلى أقصاه ، فإنّ حرارة الشمس تصهر ذلك الثلج كله بلفحة واحدة منها ! 

وإنّ شرارة واحدة من ( رحمة ) اللَّه تمحو وزر هذا الوزير ، ومائة مثله ، بل ومائة ألف من أمثاله .


545 - إنه هو الذي يجعل من الوهم حكمة ، ويجعل من الماء المُسمّم شراباً ( طهورا ) .

وهو الذي يجعل الظنون يقيناً ، وينبت المحبة من أسباب العداوة والبغضاء ! 

وهو الذي رعى إبراهيم في النار ، وهو الذي يُحملّ الأمن في الروح محلّ الخوف ! 

وإني الحائر من إعدامه للأسباب والوسائل ، ( وإخفائها عني ) فأنا كالسوفسطائية في خيالاتي عنه ( لست متحققّاً من شيء ) .

كيف دبر الوزير مكراً آخر لاضلال هؤلاء القوم


لقد دبَّر هذا الوزير في ذهنه مكراً آخر ، فترك الوعظ وجلس في الخلوة .

...............................................................

( 1 ) يعنى أن الانسان أهم من كل ما يحيط به من مظاهر الوجود المادي حتى ولو كانت أفلاك السماء . فهو يعظم أموراً هو ذاته أهم منها .


“ 142 “


550 - فألقى بنار الشوق في قلوب مريديه ، وكان مقامه في الخلوة أربعين أو خمسين يوماً .

فجُنّ الخلقُ لشوقهم إليه ، ولا فتراقهم عن أحواله وأقواله وذوقه .

فكانوا يتضرعون إليه ويبكون ، وأما هو فقد انثنى ظهره من الرياضة في الخلوة .

فقالوا له : “ ليس لنا نور بدونك . وكيف تكون أحوال الأعمى إذا حرم من عصاه ؟

فمن أجل إكرامك لنا ، وبحقّ اللَّه ، لا تُبقنا مفترقين عنك أكثر من ذلك .


555 - فنحن كالأطفال ، وأنت لنا المربِّي ، وظلُّك وارف منبسط فوق رؤوسنا “ .

فقال لهم : “ إنّ روحي ليست بعيدة عن مريديّ ، ولكنيّ لا أملك إذناً بالخروج ! 

“ فأقبل هؤلاء الأمراء للشفاعة ، وجاء أولئك المريدون في حالة سيئة .

وقالوا : “ أيّ طالع سوء حاق بنا أيها الكريم ! لقد أصبحنا بدونك أيتاماً ، ( محرومين ) من قلوبنا وديننا .

إنك تقدم الأعذار ، ونحن من الألم تتصاعد زفراتنا الباردة ، من قلوبنا المحترقة .


560 - فقد اعتدنا على قولك الجميل ، واغتذينا من لبان حكمتك .

فبحق الإله لا تلتزم معنا هذه الجفوة ، واصنع الخير بنا اليوم ، ولا تؤجّله إلى الغد .


“ 143 “



أفيرضى قلبك ، لمن منحوك قلوبهم ، أن يعودوا في النهاية أصفار اليدين بدونك ؟

إنهم جميعا يتلوون ( من الألم ) ، كالسمك على اليابسة ، فارفع ذلك السدّ وأطلق الماء من النهر ! 

يا من ليس له في الدنيا نظير ! بحقّ الإله كن للخلق عوناً “ .


كيف رفض الوزير طلب مريديه .


565 - قال : “ حذار يا أسارى القول والبيان ! يا من تنشدون الوعظ ( المبنيّ على ) حديث اللسان واستماع الأذن .

وضعوا القطن في أُذن حِّكم الأسفل ، وحُلُّوا رباط الحس من أمام أعينكم .

إن أُذن الرأس حجاب لأذن الباطن ، فما لم تُصمّ أُذن الحسّ بقيتْ أُذن الباطن صماء .

فلتخلِّصوا أنفسكم من الحسّ والأذن والهوا جس ، حتى تسمعوا نداء” ارْجعي ““ 1 “ .

فما دمت مشغولًا في اليقظة بالقيل والقال ، فكيف يتأتى لك أن تدرك نفحة من حديث المنام ؟


570 - إن قولنا وفعلنا هما السلوك الظاهر ، وأما السلوك الباطن فمكانه أعالي السماء .

فالحس لم ير إلا اليابس، لأنه ولد من اليابس ، وأما عيسى الروح ، فقد مر بقدميه على الماء!

..............................................................

( 1 ) نداء العودة إلى عالم الروح . وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية “ . ( 89 : 27 ، 28 ) .


“ 144 “


فالجسم اليابس ، من شأنه أنْ يسير على اليابسة ، وأما الروح فمجراها في صميم البحر .

وما دمت قد قضيت عمرك في طرق اليابسة ، تارة في الجبل ، وتارة في البحر ، 

وأُخرى في الصحراء ، فمن أين لك أن تجد ماء الحياة ، وأنَّى لك أن تشق عباب بحر ( الروح ) ؟


 


575 - إنّ الموج الأرضي هو وهمنا وفهمنا وفكرنا ، وأما الموج المائيّ فهو المحو والسكر والفناء .

فإذا بقيت في سكر ( ماديّ ) ، فأنت بعيد عن السكر الروحي .

وإنْ ظللت ثملًا بالمادة ، فأنت أعمى عن كأس الروح ! إنّ قول الظاهر وحديثه مثل الغبار “ 1 “ ،

فالجعل الصمت من طباعك برهة من الزمن ، وكن يقظاً “ .


كيف كرَّر المريدون دعوة الوزير إلى قطع الخلوة فقالوا جميعاً .


 “ أيُّها الحكيم الذي يتلمس الأعذار ! لا تلق إلينا بذلك الحديث الخادع القاسي .

ولا تُحمِّل الدابة ، ما لا طاقة لها به ، واعهد إلى الضعفاء بالعمل الذي يلاثم قوتهم .


580 - فالحَّبة التي يغتذي بها كل طائر ، تكون على قدر طاقته ، وإلا فمتى كان التين يصلح غذاء لكل الطيور ؟

...............................................................

( 1 ) يذهب هباء .



“ 145 “


وإذا أنت أعطيت الطفل الخبز بدلًا من اللبن فاعلم أن الطفل المسكين سيقتله الخبز .

ولكنّ الطفل يطلب الخبز بنفسه ، عندما تنبت أسنانه .

والطائر الذي لم يكتمل بعد نمو جناحيه ، يصبح - حين يطير - لقمة لكل قطة ضارية .

فإذا ما اكتمل جناحاه ، طار وحده بلا تكلف ، وبدون صفير ( قد يريد به ) الخير أو الشرّ .


585  إنّ نطقك يلزم الشيطان الصمت ، وحديثك يجعل من آذاننا عقولا !

 فآذاننا عقول حين تحدثنا ، ويبسنا يظفر بالماء حينما تكون أنت البحر !

 والأرض ونحن معك خيرلنا من الفلك، يا من أضاء بك الكون من السماك إلى السمك “1 “!

 وبدونك تغشانا الظلمة ونحن في الفلك ! وما الفلك إلى جانبك أيها القمر ؟

إنّ صورة الرفعة تنتمي إلى الأفلاك ، وأما معنى الرفعة فينتمي إلى الروح الطاهر .


590   وصورة الرفعة تتعلق بالأجسام ، والأجسام أمام الجوهر ليست إلا مجرد أسماء “ .


كيف أجابهم الوزير بأنه لن يقطع خلوت


فقال ( الوزير ) : “ أقصروا من جدالكم ودعوا النصح يجد سبيله إلى أرواحكم وقلوبكم .

...............................................................

( 1 ) في عقائد القدماء أن الأرض السابعة تحتها ثور يحمل الأرضين السبع وتحت الثور سمكة تحمل الثور وفوقه الأرضين .


“ 146 “


فإذا كنتُ أميناً فالأمين لا يُتهم ، حتى ولو قلت لكم إن السماء هي الأرض .

وإذا كنت كاملًا فما إنكاركم هذا لكمالي ؟ وإن لم أكن كذلك فما الداعي لمضايقتي وإيلامي “ 1 “ .

إنني لن أخرج من هذه الخلوة ، ذلك لأنني مشغول بأحوال باطنية ! “ .اعتراض المريدين على الخلوة


595 - فقالوا جميعاً : “ أيها الوزير ! إننا لسنا ( لكمالك ) منكرين ! وليس قولنا هذا مثل قول الغرباء .

إنّ دموع العين جارية لفراقك ، والآهات تتصاعد من صميم نفوسنا .

فالطفل لا ينارغ مربيه ، ولكنه يبكي ، وإن لم يدرك شرّاً ولا خيراً .

فنحن كالعود وأنت العارف ، فالأنغام الحزينة ليست منا وإنما أنت صانعها .

ونحن كالناي ، ولكنّ أنغامنا منك . ونحن كالجبل ، ولكن الصدى ( المتردّد ) فينا رجعُ لصوتك .



600 - بل نحن كقطع الشطرنج ، نمضي بين النصر والهزيمة ، ونصرنا وهزيمتنا منك أيها الطيّب الصفات ! 

فمن نحن حتى يكون لناً وجود بجانبك ؟ يا من أنت روحُ لروحنا !

...............................................................

( 1 ) المراد “ لماذا تضايقونني وتؤلمونني بإصراركم على إخراجي من خلوتي ؟ “ .


“ 147 “


نحن ووجودنا عدم ، وأنت الوجود المطلق ، وقد اتخذ مظهر الفاني ! ونحن جميعاً أسود ،

ولكنْ من النوع المصورّ على الأعلام ، وتلك يحركها الهواء في كل لحظة .

فحركاتها ظاهرة ، ولكن الهواء غير ظاهر ، فلا حُرمنا من ( هذه القوة ) التي لا تُرى .



605 - فهواؤنا “ 1 “ ، وكياننا من عطائك ، بل إنّ كلّ وجودنا من إيجادك ! لقد أبديت للعدم لذة الوجود ، 

وذلك ( بعد أن ) جعلت العدم عاشقاً لك ! فلا تحبس ( عنا ) لذة إنعامك ، ولا تمسك عنا نقلك وخمرك وكأسك .

وإذا أنت حبستها ، فمن الذي يجرؤ على البحث عنها ؟ وهل للنقش من قوة أمام النقاش ؟

فلا تنظر إلينا ، ولا تسدّد بصرك نحونا ، ولكنْ انظر إلى كرمك وسخائك !


610 - إننا لم يكن لنا وجود ، ولم تكن لنا مطالب ، ولكنّ لطفك أصغى إلى ما لم ننطق به ( فأوجدنا ) .

فالنقش يكون عاجزاً أمام النقاش والقلم ، كأنه الطفل في الرحم .

وجملة الخلق في بلاط الانتظار “ 2 “ عاجزون أمام القدرة كالوشى أمام الإبرة .

فتارة ترسم بالوشى صورة الشيطان ، وتارة صورة آدم ، وحيناً تصور السرور ، وحيناً تصور الحزن .

وليس لأحد قوة ، تجعله يحرّك يداً للدفاع ، ولا نطق ينبس بكلمة عن الضر والنفع .

...............................................................

( 1 ) هواؤنا معناه القوة المحركة لنا .

( 2 ) بلاط الانتظار هو الدنيا .


 148 “


615 - فاقرأ في القرآن تفسير البيت ( السابق ) ، فاللَّه تعالى يقول :” وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكنَّ اللَّهَ رَمى ““ 1 “ .

فإذا رمينا بسهم فليس اندفاع السهم منا ، فنحن القوس ، وأما الذي يلقي بالسهم فهو اللَّه .

وليس ذلك قولًا بالجبر ، وإنما هو معنى الجبروت . وذكر الجبروت ( جاء ) لكي نستشعر الذلة .

وذُلّنا دليل اضطرارنا ، وأما خجلنا ( من الآثام ) فهو دليل اختيارنا .

ولو لم يكن هناك اختيار ، فما هذا الخجل ( من الإثم ) ؟ وما ذلك الأسف والتحرج والحياء ؟



620 - ولما ذا يكون زجر الأساتذة للتلاميذ ؟ ولماذا ينصرف الخاطر عما استقر عليه من تدبير ؟

فإن قلت : “ إنّ الغافل عن جبر اللَّه يصير قمرُ الحق مختفياً وراء سحابه “ “ 2 “ .

فإنّ لذلك جواباً مقنعاً ، لو استمعت إليه ، تركت الكفر ، وأمنت بالدين إنّ السحرة والذلّة تكونان في وقت المرض ، فذلك الوقتُ يكون كلّه يقظة ( للضمير ) .

فأنت حين يصيبك المرض ، تستغفر اللَّه لجرمك .


625 ويتجلى أمام عينيك قبح الإثم ، فتعتزم العودة إلى الطريق ( السويّ ) .

فتقسم وتعاهد ( اللَّه ) أنّك - بعد هذا - لن يكون لك من

...............................................................

( 1 ) سورة الأنفال ، 8 : 17 ، وفيها يخاطب اللَّه الرسول بعد غزوة بدر .

( 2 ) يصير حجاباً للحقيقة الواضحة البينة .


“ 149 “


عمل تختاره سوى الطاعة .

وبهذا يصحّ عندك ، أنّ المرض يمنحك الانتباه واليقظة ، فاعرف إذن هذا الأصل ، أيّها الباحث عن الأصول ! إنّ من كان ذا ألم تنسّم نفحة ( من الغيب ) .

فكل من زاد ألمه زادت يقظته ، وكلّ من ازداد معرفة زادت طلعته شحوباً .


630 - فإن كنت مدركاً لجبره ، فأين ذلّتك ؟ وأين مشاهدتك لأغلال جبروته ؟

وكيف للمقيد بالأغلال ، أن ينعم بالسرور ؟ ومتى كان أسير الحبس يمارس حريِّته ؟

وإذا كنت ترى أنّ قدميك ، مكبَّلان بالأغلال ، وأنّ جند السلطان قد جلسوا لحراستك ، فلا تتجبِّر بالتسلط على العاجزين ، فليس هذا طبع العاجز ، ولا شيمته .

فإنْ كنت لا ترى جبره ، فلا تتحدَّث عنه ، وإنْ كنت تراه فأين دليل ذلك ؟


635 - إنّك لترى قدرة نفسك عياناً في كلّ عمل يكون لك ميل إليه .

ولكنّك - عندما لا يكون العمل وفق ميلك وعلى مرادك - تصبح مُجبراً ( وتقول ) : “ إنّ هذا من اللَّه ! “ .

إنّ الأنبياء مجبرون فيما يتعلق بأمور الدنيا ! وأما الكفار فمجبرون فيما يتصل بأمور الآخرة .

فالأنبياء مختارون لأمور العقبى ، وأما الكفار فالاختيار عندهم لأمور الدنيا .

ذلك لأنّ كلّ طائر يقتفي أثر جنسه ، تتقدمه روحه .

 

“ 150 “


640 - ولما كان الكفار قد جاؤوا من جنس سجِّين “ 1 “ فإنّ سجن الدنيا وافق هواهم “ 2 “ .

وأما الأنبياء فإنهم إذا كانوا من جنس علّيين “ 3 “ فقد تساموا إلى علياء الروح والقلب .

إنّ هذا الكلام لا نهاية له ، فلنزجع إلى قصّتنا لنُتمّها .



كيف جعل الوزير أتباعه يانسين من تركه للخلوة


لقد صاح هذا الوزير من أعماقه ( قائلًا ) : “ أيّها المريدون ! اعلموا ذلك عنيّ .

إنّ عيسى قد بعث إلى برسالة ( قال فيها ) : افترق عن أصحابك وأقربائك .


645 - واتجه بوجهك إلى الحائط ، واجلس منفرداً ، واختر لنفسك الخلوة عن وجودك ! .

فبعد هذا الأمر ، لا قول عندي ، ولا شأن لي بالقيل والقال .

فالوداع أيّها الأحباب ، فإننّي ميّت ، وقد حملت متاعي إلى السماء الرابعة ،

...............................................................

( 1 ) الكتاب الذي تُسجّل فيه أعمال الفجرة ، وقيل هو المكان الذي يحفظ به هذا الكتاب في جهنم . ويمكن أن تطلق الكملة على الجحيم نفسه . وقد وردت في القرآن : “ كلا إن كتاب الفجار لفي سجِّين ، وما أدراك ما سجِّين “ . ( 83 : 6 ، 7 )

( 2 ) في هذا البيت اقتباس من حديث للرسول قال فيه : “ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر“.

( 3 ) عليّون ، عكس سجّين. وقد وردت في قوله تعالى : “ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليّون ، كتاب مرقوم“ ( 83 : 17 - 19 ).


“ 151 “


حتى لا أحترق كالحطب ، من العناء العطب ، تحت الفلك الناريّ “ 1 “ .

ولسوف أجلس بعد ذلك إلى جوار عيسى في أعالي السماء الرابعة .


كيف عهدالوزير بولاية عهده إلى كل أمير على انفراد


650  - وبعد ذلك دعا الأمراء واحداً واحداً ، وتحدث مع كلّ منهم على انفراد .

وقال لكل منهم : “ إنك النائب الحق للدين العيسويّ ! إنّك خليفتي ! وهؤلاء الأمراء الآخرون ، أتباعك !

 إن عيسى قد جعلهم جميعاً أشياعاً لك ! فكلّ أمير خرج عن طاعتك فاقتله ، أو اجعله أسيراً ! 

ولكن لا تعلن هذا ، ما دمت أنا حيّاً ، ولا تطلب تلك الرياسة قبل موتي .


655  - ولا تُذع ذلك السرِّ ما دمتُ على قيد الحياة ، ولا تطالب بالملك والسيطرة .

وإليك هذا الطومار ، وأحكام السميح ، فأفصح بقراءتها واحداً واحداً على أتباعه “ .

وهكذا قال لكلّ أمير على انفراد : “ إنه لا راعي سواك لدين اللَّه “ .

وجعل كلًا منهم عزيراً وقال لكلّ واحد منهم ما قاله للآخر .

...............................................................

( 1 ) السماء الرابعة مقر عيسى ، وهي أيضاً فلك الشمس ، فبصعوده إليها يخلص من العيش تحت فلكها الناريّ .


“ 152 “


وأعطى كلّ أمير طوماراً . وكان مراده أن يوقع الفرقة بينهم .



660 - وكانت هذه الطوامير جميعاً مختلفة كاختلاف الحروف ، من الألف إلى الياء .

فكان حكم كلّ طومار ضدّ حكم الآخر ، وقد بيّنا من قبلُ ذلك التناقض .


كيف قتل الوزير نفسه في الخلوة


وبعد ذلك أغلق الوزير بابه أربعين يوماً أُخرى ، ثم قتل نفسه ، وخلص من وجوده .

وحينما علم الناس بموته ، قامت القيامة أمام قبره .

فتجمع على قبره الكثيرون من الناس ، وكانوا يقتلعون شعرهم ويمزّقون ثيابهم حزناً عليه .

 

665 - ولم يكن هناك - سوى اللَّه - من يدري عدد هؤلاء الخلق ، من عرب وروم ، وأتراك وأكراد .

لقد وضعوا تراب قبره على رؤوسهم ، ورأوا في حزنهم عليه شفاء لأرواحهم !

 وظلّ هؤلاء الناس على قبره شهراً ، جرت فيه من عيونهم الدموع الدامية .


كيف طلبت أمّة عيسى إلى الأمراء أن يبيّنوا مَنْ منهم وليُّ العهد .

وبعد شهر قال الناس : “ أيها الكبراء ، مَنْ من الأمراء عُيِّن مكانه ؟


“ 153 “

حتى نعرفه إماماً من بعده ، ونضع أيدنيا وأزّمتنا في يده “ 1 “ .


670 - فإن كانت الشمسُ قد ولّت ، واكتوْينا ( بفراقها ) ، فما من حيلةٍ سوى أن نجعل مكانها سراجاً .

وإن كان الحبيب قد مضى من أمام أعيننا ، وحُرمنا وصاله ، فلا بدّ لنا من نائب عنه ، يكون تذكاراً لنا منه .

وإن كان الورد قد ذبل ، وصُوَّح بستانُه ، فأين نجد شذى الورد إلا في ماء الورد ؟

وإذا كان اللَّه لا يظهر للعيان ، فإنّ هؤلاء الأنبياء هم نُوّابُ الحقّ .

كلا ! إنني أخطأتُ القول ! فإنك إذا ظننتَ المُنيب والنائب اثنين، كان ذلك ظناً قبيحاً لا حسناً.

 

675  - فهما لن يظهرا لك اثنين إلا إذا كنت من عُبّاد الصورة . وأما من خلص من الصورة فهما واحد في نظره .

إنك عندما تنظر إلى الصورة ، يكون إبصارك بعنيين . فتأمل النور الذي ينبع من العينين !

 وليس بمستطاع أن يميّز المرء - على وجه اليقين - بين نور كلَ عين من العينين ، حينما ينظر مستضيئاً بنورهما .

فإن أنت وضعت عشرة مصابيح في مكان واحد ، فقد يكون كلّ منها مختلفاً في صورته عن الآخر .

ولكنّك لا تستطيع أن تفرِّق - بصورة قاطعة - بين نور كلّ منها إذا نظرتَ إلى نورها .


680 - وأنت إذا عددت مائة من ثمار التفاح أو السفرجل ، فإنّ هذه لا تبقى مائة ، بل تصبح واحدة حين تعصرها .

فالمعاني لا تقبل القسمة والأعداد ، ولا تخضع للتجزئة والإفراد .

...............................................................

( 1 ) نسلم إليه قيادنا .

“ 154 “


إن اتحاد الحبيب بالأحباء جميل ، فتَشبّثْ بقدم المعنى ، فإن الصورة عنيدة قوّية .

واصهر تلك الصورة العنيدة ، وجاهد ( في سبيل ذلك ) حتى ترى الوحدانية تحتها كالكنز ! 

وإن أنت لم تصهرها ، صهرتها لك عنايةُ من فؤادي له عبدو مولى .


685 - إنه ليُظهر للقلوب ذاته ، ويحيك للدرويش خرقته .

لقد كنا منبسطين ، وكنا جميعاً جوهراً واحداً ولم تكن لنا في تلك الناحية رؤوس ولا أقدام .

لقد كنا جوهراً واحداً كالشمس ، وكنا كالماء لا عُقَد فينا ، ولنا الصفاء ! 

وعندما حلّ في الصورة ذلك النور الطيّب ، صار متعدداً كظلال إفريز القلعة ! 

فحطِّمْ ذلك الإفريز بالمنجنيق ، حتى يزول الفرق بين أفراد ذلك الفريق .


690 - ولولا تحرُّجى حتى لا ينزلق خاطرُ ( ضعيف ) لساقني الجدل إلى شرح ذلك “ 1 “ .

فهذه الأفكار العميقة كالسيف الفولاذي ، الحادّ ، فإن لم يكن لديك درع “ 2 “ فسارع إلى الهرب .

ولا تُواجه ذلك الصارم الفصّال بدون درع ، فإنّ السيف لا يَستحي من القطع ! 

ولهذا السبب ، أودعتُ سيفي غمده ، حتى لا يَقرأ قولي - على غير وجهه - مَن لا يحسن القراءة .

فلنَعُدْ الآن إلى القصة لكنملها ، وإلى وفاء هذا الجمع من الصلحاء .


695 - الذين قاموا من بعد وفاة ذلك الرئيس ، فطلبوا نائباً يقوم مقامه .

.............................................................

( 1 ) ولولا خوفي من أن يسيء خاطرُ ضعيفُ فهم قولي لأطلتُ في شرح تلك المسائل .

( 2 ) إن لم يكن لك من إيمانك درع يقيك فسارع إلى الهرب .


“ 155 “


كيف تنازع الأمراء على ولاية العهد

لقد جاء أمير من هؤلاء الأمراء وتقدم إلى أولئك القوم الأوفياء .

وقال : “ انظروا ! إنني خليفة هذا الرجل ! إنني نائب عيسى في هذا الزمان ! 

انظروا إلى هذا الطومار ، فهو برهاني على أنّ هذه النيابة هي لي من بعده “ .

وجاء أمير آخر من الكمين ، فكان ادعاؤه الخلافة على ذلك الوجه نفسه .


700 - فهو أيضا قد أخرج من تحت إبطه طومارا ، فثار بينهما غضب اليهود .

وتوالى الأمراء الآخرون فامتشقوا السيوف الملتمعة ، فكان كلّ يحمل في يده سيفاً وطوماراً ! ودبّ الصراع بينهم جميعاً كأنّهم أفيالُ سكرى .

فقتُل الآلاف من رجال النصارى ، وكانت هناك تلالُ من رؤوس القتلى ! 

وجرت الدماء ذات اليمين وذات الشمال كأنها السيل ، وارتفعت في الهواء جبال من غبار تلك الحرب !


705 - إنّ بذور الفتنة التي كان الوزير قد غرسها أصبحت أفةً ( تحصد ) رؤوسهم .


“ 156 “

 

لقد انكسر الجوز “ 1 “ ، وكلّ ما كان ذا لُبّ منه فقد أصبح بعد القتل ذا روح طاهرة لطيفة .

إن وقوع القتل والموت على صورة الجسم كقَطْع الرمان والتفاح .

فكل ما كان منه حلواً أصبح شراب رمان ، وكل ما كان عَفناً لم يَعدُ صوت ( كسره ) .

وكل ما كان ذا معنى تجلّى معناه ، وأما العفن فيفتضح أمره .

 

710 - فاذهب ، واسع وراء المعنى ، يا عابد الصورة ! إن المعنى جناح لجسد الصورة .

والزم أهل المعنى حتى ينالك منهم العطاء ، وتصبح جواداً .

ولا خلاف أنّ الروح التي تخلو من المعنى ، تكون في الجسد كسيف خشبيّ في الغمد .

فما دام هذا السيف في غمده ، فهو ذو قيمة ، فإذا أُخرج منه ، فهو آلةُ ( لا تصلح إلا ) وقوداً للنار .

فلا تحمل إلى الميدان سيفاً خشبياً ، وانظر في أول الأمر ( إلى عُدتّك ) حتى لا يسوء مآلك .


 


715 - فإن كان السيف خشبياً فامض ، واطلب غيره ، وإن كان قاطعاً ، فتقدم إلى الامام طَرباً .

إنّ السيف الحقّ مكانه خزانةُ أسلحه الأولياء ، ورؤية هؤلاء كيمياء لك .

“ فالعالمُ رحمة للعالمين “ . هذا ما قالت به جملة العلماء .

وإن ابتعت رمانةً فاخترْها ضاحكةً ( مُتقتحة ) حتى ينبئك تقتُّحُها عن حال حَبِّها ! 

فما أجمل ضحكها ! ذلك لأنّه يُظهر من خلال فهما قلبَها ،

...............................................................

( 1 ) يريد بانكسار الجوز تحطم الأجسام من جرّاء ما وقع عليها من القتل .


“ 157 “


كما يظهر اللؤلؤ في صندوق الروح .


720 - وما أقبح ضحك زهرة “ اللاله “ فإن فها يكشف عن سواد قلبها .

إن ضحك الرمان يجعل البستان ضاحكاً ، وصحبة الرجال تجعلك من الرجال .

فإن كنت قطعة من الصخر أو المرمر ، صرت جوهراً لو اتصلت برجل ذي قلب .

فؤشْربْ روحَك حُبّ هؤلاء الطاهرين ، ولا تُسْلم قلبك إلا لحبّ هؤلاء السعداء القلوب .

ولا تمض في طريق اليأس ، ففي الكون آمال ! ولا تتجه نحو الظلمات ، ففي الكون شموس !


725 - إنّ القلب يقودك إلى جادّة أهل القلوب . وأما الجسم فيقودك إلى سجن الماء والطين .

فاجعل غذاء قلبك من ( اتصالك ) بأهل القلوب ، واذهب ، وانشد الإقبال عند أهل الإقبال .


تعظيم نعت المصطفى عليه السلام كان مذكوراً في الإنجيل


إنّ اسم أحمد كان في الإنجيل ، ( وكان نعته ) أن رأس الأنبياء وبحر الصفاء ! 

كان في الإنجيل ذكرُ المحاسنه وشكله ، وكان فيه ذكر لغزوه وصومه وأكله .

وكانت هناك طائفة من النصاري ، عندما تصل إلى ذلك الاسم وذلك الخطاب ، فإنّها من أجل ثواب اللَّه .


730 - تُقبِّل ذلك الاسم الشريف ، وتضع وجهها على ذلك الوصف اللطيف .


“ 158 “


كان هذا الفريق من النصارى آمناً من الفتنة والخوف أثناء تلك الفتنة التي ذكرناها “ 1 “ .

لقد كانوا آمنين من شرّ الأمراء والوزير ، مستجيرين بالتجائهم إلى اسم أحمد . .

وقد خلف من بعد هؤلاء ذرية كبيرة ، صار نورُ أحمد لها ناصرا ورفيقا .

وأما ذلك الطريق الآخر من النصارى ، فقد كان يستهين باسم أحمد .


735 - فحاق بهؤلاء الهوانُ والذلّ من فتن هذا الوزير ، الذي كان شؤماً في رأيه وتدبيره .

وأصاب الاضطرابُ دينَهم وأحكامهم بما جائتهم به تلك الصحف المعوجة البيان .

إنّ اسم أحمد أفاض مثل ذلك العون ، فكان لنوره مثل تلك الرعاية .

فإذا كان اسم أحمد قد صار حصناً حصيناً ، فكيف تكون ذاتُ هذا الروح الأمين ؟


***

شرح حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى 


( 325 ) جوهر الرسالات السماوية واحد . ولقد جاء كل رسول في أحد الأدوار الزمنية ، وحمل إلى البشر رسالة السماء . وما دام الجوهر واحداً فلا ينبغي التفريق بين الرسل . 


( 326 ) هذا الملك كان مصاباً بحول عقلي ، جعله يرى الجوهر الواحد جوهرين فيفرق بين الرسل الذين سلكوا جميعاً أقوم السبيل وأهداها . 


( 327 - 332 ) كانت هذه القصة معروفة قبل جلال الدين . 

وقد ذكر نيكولسون النص التالي من “ أسرار نامة “ للعطار :

يكي شاگرد أحول داشت أستاد * مگر شاگرد را جايي فرستاد 

كه ما را يك قرابه روغن آنجاست * بياور زود آن شاگرد برخاست 

چو آنجا شد كه گفت أو ديده بگماشت * قرابه چون دو ديد أحول عجب داشت 

براستاد آمد گفت أي پير * دو ميبينم قرابه من چه تدبير 

زخشم أستاذ گفتش أي بداختر * يكي بشكن دگر يك را بياور 

چو أو در ديدن أو شك نميديد * بشد اين يك شكست اين يك نميديد


وترجمة النص كما يلي : 

“ كان لأستاذ تلميذ أحول ، فأرسله إلى أحد الأماكن ( قائلًا ) : 

“ إن لي زجاجة هناك ، فسارع بإحضارها “ . فقام التمليذ ، وحينما وصل إلى حيث أمره أستاذه ، أرسل الطرف ، فلما رأى الزجاجة اثنتين ، عجب الأحوال ! فذهب إلى أستاذه وقال : “ أيها السيد ! إني أرى زجاجتين ، فما التدبير ؟ “ فقال الأستاذ غاضباً : “ أيها السيء الطالع ! اكسر واحدة وأحضر الأخرى ! “


“ 476 “


فهذا الأحول - إذ لم يشك في إبصاره - كسر إحدى الزجاجتين فلم ير الأخرى ! “ وليس معنى هذا أن جلال الدين اقتبس القصة من “ أسرار نامه “ . 

ذلك لأنها كانت من القصص الشعبية التي استخدمها الشعراء ، واستخلصوا العبرة منها ، كل على طريقته . وجلال الدين يستخدمها لينطلق منها إلى الحديث عن الميل مع الهوى الذي وصفه بأنه حول عقلي يعمي عن الحق . 


( 333 ) “ الغضب والشهوة يجعلان الرجل أحول “ . هذا القول ينطبق على حقيقة مشهوة هي أن الغضب لا يتيح للإنسان أن يرى الأشياء على حقيقتها . وكذلك الشهوة . فهذان يفعلان بالعقل ما يفعله الحول بالعين . 


( 338 ) عبر الشاعر عن مقدرة الوزير على الغش والخداع بأنه كان يستطيع أن يربط في الماء عقداً . 


( 340 ) الدين المستقر في القلب لا يمكن أن يُعرف ، وليس كالأفعال الظاهرة يمكن إدراكه ، ومحاسبة الناس عليه . 


( 366 ) الغول هو ذلك الكائن الأسطوري الذي ورد في أساطير العرب . وقد صووه بأنه يظهر للناس في الصحراء ويحاول أن يضلهم السبيل ويقودهم إلى التهلكة . والنفس الغول هي النفس التي بأهوائها تقود صاحبها إلى الهلاك بعد أن تخرج به عن سبيل الصدق والاستقامة ، وتذهب به كل مذهب . 


( 370 ) يتجلى ذلك في مبالغة بعض الصحابة في التعبد ، واتهام النفس ، بصورة جعلت الرسول يدعوهم إلى التزام الاعتدال ، حتى في النسك والعبادة . 


( 373 ) الدجال هو الذي يكون ظهوره - على ما يُروى - من


“ 477 “


علامات اقتراب الساعة . وسوف يحكم أربعين يوماً ثم يقضي عليه المسيح عيسى بن مريم . 

يقول الجيلي في كتاب الإنسان الكامل ( ج 2 ، ص 55 ) : “ ومن أمارات الساعة الكبرى خروج الدجال ، وأن تكون له جنة عن يساره ونار عن يمينه . وأنه مكتوب بين عينيه كافر باللَّه ، وأنه يعطش الناس ويجوعون حتى لا يجدوا مأكلا ولا مشربا ، إلا عند هذا الملعون . 

وأن كل من آمن به فإنه يسقيه من مائه ويطعمه من طعامه ، ومن أكل من ذلك أو شرب منه لا يفلح أبداً.

 وأنه يدخل المؤمن به جنته ، ومن دخل جنته قلبها اللَّه عليه ناراً . 

وأنه يدخل من لا يؤمن به ناره ومن دخل ناره قلبها اللَّه عليه جنة . وأن من الناس من يأكل من حشيش الجزر إلى أن يرفع اللَّه عنه هذا الضر . 

وأن اللعين لا يزال يدور في أقطار الأرض إلا مكة والمدينة فإنه لا يدخلهما . 

وأنه يتوجه إلى بيت المقدس ، فإذا بلغ رملة لدّ وهي قرية قريبة من بيت المقدس ، بينهما مسيرة يوم وليلة ، أنزل اللَّه عيسى عليه السلام على منارة هناك ، وفي يده الحربة ، فإذا رآه اللعين ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فيضربه بالحربة فيقتله “ . 


( 374 - 380 ) في هذه الأبيات صورّ الشاعر ضعف الإنسان أمام مغريات الحياة ، وكيف أنها تقوده إلى الوقوع في أحابيل المعاصي . 

وهناك قوة الخير تخلصه كل مرة ، ولكنه يعود فيقع من جديد في تلك الشباك . 

ويرسم الشاعر بصوره الفنية الوسيلة التي تؤدي إلى سدّ الثغرات التي يتطرق منها الهوى إلى نفس الإنسان . 


( 377 ) القمح رمز للأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان . فهو يجتهد في الإتيان بهذه الأعمال ويبذل جهده ، ولكنه رغم ذلك لا يجد حصيلة كبيرة ، لأن السيئات تذهب بالحسنات ، فلا يجد له رصيداً كبيراً ، رغم توهمه أنه قد تملك مثل هذا الرصيد .

“ 478 “


( 378 ) الفأر هنا رمز للسيئات ، والقمح رمز للحسنات . فالسيئات تفعل بالحسنات ما يفعله الفأر بالقمح . 


( 379 ) منذ وجد الهوى سبيله إلينا ، قضى على ما قدمناه من حسنات “ . 


( 380 ) اعملي أيتها النفس على مقاومة الهوى ونزواته ، ثم اجتهدي بعد ذلك في إتيان الحسنات . 


( 387 ) قوة اللَّه الخيرة تجعل الإنسان في مأمن مهما أحاطت به خدع الشيطان وفخاخه. 


( 388 ) النوم يحرر الروح من سلطان الجسد . والشاعر في الشطر الأول من البيت يشبه الجسد بفخ يمسك بالروح . 

أما اقتلاع الألواح الذي ذكره الشاعر في الشطر الثاني من البيت ففي رأيي أنه صورة ثانية لتحرير الروح من سجن الجسد . ففي النوم تقتلع ألواح هذا السجن ، وتنطلق الروح. 

فالجسم الذي تجتلى إرادته في الحواس ، يصبح عديم الإرادة حين النوم ، ولا يبقى له سلطان على الروح . فالعين لا لا تبصر والأذن لا تسمع والأنف لا يشم وهكذا .

وطبيعي أن هذا الفهم مرتبط بفهم الأقدمين للأحلام وطبيعتها . 

وقد تغيرت مدلولات الحلم بصورة جوهرية بعد أن أعلن فرويد نظرياته في تفسير الأحلام. 

وقد ذهب نيكولسون في ترجمته إلى أن الألواح هي العقول الواعية ولست أوافقه على ذلك. 


( 392 ) العارفون نائمون عن هذه الدنيا ، فهم - حتى في يقظتهم - منصرفون عنها كأنهم نيام . وهم في ذلك يشبهون أهل الكهف ، الذين ناموا السنين الطوال ، وكانوا يتقلبون في النوم فيبدون أيقاظاً وهم رقود . 

( 393 ) العارفون لا يحتاجون إلى النوم ليصرفهم عن أحوال الدنيا ، فهم نائمون عنها بالليل وكذلك بالنهار ، وقد تخلصوا من إرادتهم ، 


“ 479 “


واستسلموا لخالقهم استسلاماً كاملًا ، وكأنهم قلم في قبضته . 

( 395 ) عامة الخلق لا يغلب حواسهم ، ولا يخلصهم - بعض الوقت - من سيطرتها عليهم ، سوى النوم . 

( 397 - 400 ) عند النوم تنطلق الروح من الجسد لكنها تعود إليه عند اليقظة . وهي تفارقه مفارقة كاملة عند الموت . فاللَّه يقبض الأرواح عند النوم ثم يرسلها فتعود إلى أجسادها . 

قال تعالى في سورة الزمر :” اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ “. ( 39 : 42 ) . 


( 401 ) شبّه الأرواح المنطلقة ساعة النوم يجياد ترتعي في مرج واسع ، وقد رُبطت أقدام كل منها بوثاق طويل ، فهي منطلقة ولكنها في ذات الوقت مقيدة . وقد قال طرفة في معلقته بيتاً ينطوي على مثل هذه الصورة عن الإنسان ومصيره المحتوم .لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى * لكالطول المرخى وثنياه باليد.


( 405 ) وكثيرون هم الذين ناموا عن أحوال الدنيا ، فلم يعد لها تأثير عليهم ، ولجأوا إلى كهف روحي عصمهم من الشهوات . 


( 406 ) لا يستطيع أحد أن يدرك أحوال هؤلاء العارفين إلا إذا كان شبيهاً بهم . أما من يكون بالنسبة غارقاً فلا الحسّ ، فلا جدوى له من وجود هؤلاء إلى جانبه ، فمثله - بالنسبة للمدركات الروحية - كمن ختم اللَّه على بصره بالنسبة للمدركات الحسيّة . 


( 407 - 408 ) اتخذ الشاعر عن قصة ليلى والمجنون مثالًا للعشق الصوفي . فلالحب هو الذي يجعل المجنون ينظر إلى ليلى بكل هذا الإعجاب ، حتى يخرجه حبها عن عقله ، على حين أن هذا لم يحدث لغيره ، لأنه لم يتملكه هذا الحب . وحب المجنون هنا رمز للتنبه الروحي ، أما سؤال الخليفة فدليل على الوقوف عند الحس ومدركاته ، وهذا ما

“ 480 “


جعله يتساءل عما جعل المجنون يفقد عقله من أجل مثل هذه المرأة التي لم تكن تتميز بجمال ظاهري خاص . 

( 410 ) عندما لا تكون الأرواح مستقيقظة للحق ، فإن اليقظة تكون مثل قضبان السجون ، لأنها - حينذاك - تكون يقظة حسية تجلس الإنسان في نطاقها ، وتجعل السبيل مستغلقاً أمام الروح ومدركاتها .  


( 417 ) طائر السماء يمثل الوجود الحقيقي ، بينما الظل يمثل الخيال والوهم . فالأبله يسعى جاهداً وراء هذا الخيال حتى تنفد قواه ، ولا يحقق من وراء ذلك شيئاً . 


( 422 ) لو أن مرشداً كاملًا رعى هذا الغافل الخالصه من الخيال ، وما يلقيه في نفسه من أوهام . 


( 425 ) أشار الشاعر في هذا البيت إلى قوله تعالى :” أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا . ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً “. ( 25 : 45 - 46 ) . 

والشاعر يفسر الظل هنا بأنه صورة أولياء اللَّه . والظل يتبع الشمس ، وكذلك هؤلاء الأولياء ، يتبعون شمس الحقيقة ، وهم الدليل المنبىء عن وجودها كما أن الظل دليل على وجود الشمس . 


( 426 ) على الطالب أن يسترشد في سيره بدليل يكون من رجال الحق المخلصين . وهذا الدليل يجب ألا يكون من الآفلين ، بل يكون مستمداً نوره من النور الخالد الذي لا يخبو . وفي البيت إشارة إلى قصة الخليل المروية في القرآن الكريم .” وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ “. ( 6 : 75 - 76 ). 


( 428 ) حسام الدين هو حسن حسام الدين تلميذ الشاعر وصديقه .

“ 481 “


وكان جلال الدين يملي عليه المثنوي . وقد أشاد به في المقدمة المنثورة المثنوي ، وكذلك في الأبيات الأولى من كل جزء من المنظومة ما عدا الجزء الأول . وقد أصبح حسام الدين شيخاً للطريقة المولوية بعد وفاة جلال الدين عام 672 هـ ، وبقي كذلك حتى توفى في عام 683 هـ .


( 429 ) يحذّر الشاعر تلاميذه من الحسد . وقد كان هؤلاء التلاميذ يغارون من أصدقاء جلال الدين وتلاميذه المقربين إليه ، من أمثال شمس الدين التبريزي وحسام الدين . وقيل إنّ شمس الدين قد ذهب ضحية لهذا الحسد . 


( 433 ) يقصد هنا جسد الأنبياء والأولياء . 


( 434 ) يشير هنا إلى ما أمر به اللَّه إبراهيم وإسماعيل من تطهير الكعبة من الأصنام . والظاهر أنّ الشاعر قد اتخذ من ذلك رمزاً لتطهير القلب من أوثان الهوى والشهوات . وإذا طهر القلب طهر الجسد أيضاً . 

فالسجم مستقرّ القلب والروح ، والمنطوي على النور وإن كان سره في التراب . 


( 440 ) الإدراك الروحي يقود الإنسان إلى عالم الروح المفعم بأريج المعرفة ، فمن أفقد نفسه مثل هذا الإدراك فلا سبيل له إلى تلك الديار . 


( 442 ) من وهب المعرفة الروحية ثم لم يقم بالشكر عليها ، فهو فاقد للحواس ، غير أهل لتلقي مثل هذه المعرفة . 


( 443 ) الشاكرون ، هم رجال اللَّه المقدّرون لنعمة المعرفة الروحية الشاكرون ربهم على تلقيها . 


( 463 - 499 ) الأقوال المذكورة في هذه الأبيات تتناول مبادئ عامة عن الإنسان وموقفه من الخالق . 

وكلها مبادئ متناقصة تمثل إتجاهات ومواقف مختلفة . وقد نسبها الشاعر إلى الوزير المخادع الذي علمّ كل فريقّ من النصارى مبدأ يناقض ما علمّه للفريق الآخر ، ليوقع الفتنة بين أتباع المسيح . وقد ذكر نيكولسون في التعليق على هذه الأبيات أنها تنضمن آراء إسلامية ، وإن كان لا يستبعد أنّ هذه الآراء تأثرت في أوائل عهدها بالمسيحية فكراً وعملًا . ولست أرى أنّ هذه


“ 482 “


الآراء قابلة لأن تنسب إلى الإسلام دون المسيحية ، فكلها مبادئ عامة في السلوك الإنساني وموقف الإنسان من اللَّه ، وليست ذات طابع مذهبي محدد .


[ شرح من بيت 450 إلى 600] 

( 465 ) الرياضة هي مقاومة الإنسان لغرائزه ورغباته . والجوع إحدى الرياضات . وقد جعله الوزير - في أحد منشوراته - شرطاً للتوبة والرجوع إلى اللَّه . 

( 467 ) قوله : “ إن جوعك وجودك إشراك منك بمعبودك “ ، يراد به أن كل عمل من أعمال العبادة يشعر الإنسان بوجوده الذاتي في مواجهة خالقه ، لا يعدو أن يكون من قبيل الشرك . 


( 470 - 471 ) يعبرّ الشاعر في هذين البيتين عن فكرة الجبر وأن كل أعمال العباد مفروضة عليهم . وليست أوامر اللَّه ونواهيه ممكنة الاتباع وإنما هي لبيان عجز الناس أمام اللَّه . 


( 472 - 473 ) في هذه البيتين إثبات لقدرة الإنسان على خلق أعماله ودعوة له إلى اعتبار هذه القدرة نعمة وهبها الخالق للإنسان . 



( 474 ) لا تنظر إلى ذاتك ، ولا إلى قدرتك وعجزك ، وعليك ألا ترى شيئاً سوى الخالق . وكل ما اتسع له بصرك بعد ذلك فهو وثن . 


( 475 ) انظر إلى ما حولك ، ولا تغفل عما يحيط بك . فالبصر هو الذي ينير لك السبيل للتأمل الباطني . 


( 477 - 479 ) في هذه الأبيات دعوة إلى الانصراف عن الدنيا . 

فكل من تخلى عما حوله من المرئيات ونام عنها ، وهبه اللَّه نور الباطن الذي يجعله ينعم بآلاف المشاهد الروحية . ومع هذا ، تقبل عليه الدنيا ، لأنها كالمرأة المحبوبة تقلع عن دلالها ، وتسعى إلى حبيبها ، حينما تلمس فيه الصبر على هجرانها . 


( 480 - 481 ) في هذين البيتين دعوة إلى أن ينطلق الإنسان على طبيعة ، يلذّ بما يجد مذاقه سائغاً ، ولا يقاوم رغبات نفسه .


“ 483 “


( 482 ) يتضمن هذا البيت دعوة إلى مقاومة النفس وميلها ، فهو على نقيض البيتين السابقين . 


( 485 - 487 ) في هذا الأبيات دعوة إلى حياة القلب والروح وإلى نبذ حياة المادة والحس . فحياة القلب هي الحياة الحقيقة وأما حياة الحس فلا حاصل لها ولا ثمرة . 


( 490 - 492 ) دعوة إلى اتخاذ مرشد يكون وسيلة إلى الهداية وعاصماً من الزلل . وتعزو هذه الأبيات ضلال الأمم إلى أنها اتبعت هواها ، ولم تستعن في سلوكها بالمرشدين من أهل السداد والكمال . 



( 493 - 494 ) على النقيض من الأبيات السابقة دعا الوزير في هذين البيتين إلى نبذ المرشد والاعتماد على النفس اعتماداً كلياً . 


( 495 ) في هذا البيت تعبير عن مذهب وحدة الوجود . فكل ما في الوجود يرمز إلى كل واحد وإلى حقيقة واحدة . 


( 496 ) يسخر الوزير في هذا البيت من فكرة وحدة الوجود ، على عكس ما فعل في البيت السابق ، إذ جعلها أساساً لإحدى دعاويه . 


( 500 - 501 ) يربط الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء “ 1 “ بين عيسى في صباه وبين صناعة الصباغة . يقول : “ قال عطاء : سلمت مريم عيسى - بعد أن أخرجته من الكتّاب - إلى أعمال شتى ، فكان آخر ما دفعته إلي الصباغين ، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه ، فاجتمع عنده ثياب مختلفات ، فعرض للرجل سفر ، فقال لعيسى . إنك قد تعلمت هذه الحرفة ، وأنا خارج في سفر ، لا أرجع إلى عشرة أيام . 

وهذه ثياب مختلفات الألوان . وقد علمت كل واحد منها على اللون الذي يصبغ به فأحب أن تكون فارغاً منها وقت قدومي . ثم خرج فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً على لون واحد . وأدخل فيه جميع الثياب ، وقال

...............................................................

( 1 ) طبعة القاهرة ( مكتبة الجمهورية المصرية ) ، ص 439 ، 440 .

“ 484 “


لها : “ كوني بإذن اللَّه على ما أريد منك “ فقدم الصباغ والثياب كلها في جب واحد . فقال : “ يا عيسى ! ما فعلت ؟ “ قال : فرغت منها . 

قال : أين هي ؟ قال : في الجب . فقال : كلها ؟ قال : نعم . قال : كيف تكون كلها في جب واحد ؟ لقد أفسدت الثياب . قال : قم فانظر ، فقام فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها . فجعل الصباغ يتعجب ، وعلم أن ذلك من اللَّه عز وجل “ . 

وليس مفهوم هذه المعجزة المنسوبة إلى عيسى بمنطبق على بيتي جلال الدين . 

ولكنّ جبّ الصباغة الذي استخدمه المسيح - كما تذكر هذه المعجزة - وعاء عجيب ، والشاعر متفق مع القصة في ذلك . 

وهذان البيتان يعبران بطريقة رمزية عن رسالة عيسى المبنية على المحبة ، والتي عبرت عن جوهر قد تختلف صوره بين عيسى وغيره الرسل ، ولكنه يظل واحداً عند من يتجاوزون الصور الظاهرية إلى الجوهر الحقيقي . ورسالة عيسى إنما هي محاولة لتوحيد البشيرية في ظل عقيدة واحدة تطبعهم بطابع جوهري واحد ، مهما اختلفت أصولهم وأجناسهم . 


( 503 - 504 ) السمك لا يمل اللون الواحد أو اللالون الذي يعيش به وكذلك الصوفية ، لا تلفت أنظارهم تلك الألوان العديدة التي تحفل بها الحياة المادية ، بل يفرون إلى عالم الروح ، عالم الوحدة اللونية ، فهو الذي يجمع الحقائق التي تجردت من الظاهر المادي ، والصورة اللونية . 

وفرارهم من المادة إلى عالمهم كفرار السمك من اليابسة إلى اليّم . 


( 505 ) ذكر القرآن الكريم في مواضع عدة أنّ كل شيء يسبح بمحمد اللَّه ، ومن ذلك قوله تعالى :” تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً “. ( 17 : 44 ) ، وغير ذلك كثير . 


( 517 ) يقول الشاعر إنّ ثناه على الخالق - على تلك الصورة -


“ 485 “


خطأ ، لأنّه يدل على إحساسه بوجود ذاتيّ له ، إلى جانب وجود الخالق ، مع أنّ الأولى هو أن تكون ذاته فانية في ذات الخالق ، فلا يبقى هناك عابد ومعبود ، بل محبّ فني في ذات المحبوب . 



( 519 ) يعزو الشاعر جمود العالم الماديّ إلى غفلته عن الخالق . ولو أنّه أبصر الخالق وعرفه لما بقي له وجود منفصل عنه . 


( 525 ) العالم الماديّ سجن الروح . أما العالم الروحيّ فهو عالم رحب لا يقاس به هذا العالم الماديّ مهما بدا لنا كبيراً فسيح الجنبات . 


( 527 - 529 ) يذكر الشاعر هنا معجزات الأنبياء كدليل على قدرة اللَّه ، تلك التي لا تقارن بها قدرة إنسان مهما عظم . فقدرة اللَّه جعلت عصا واحدة بيد موسى تتغلّب على كل رماح فرعون . وجعلت نَفَسَ المسيح يبرئ ما يعجز عنه طبّ جالينوس . وجعلت محمداً يعجز العرب بالقرآن الذي أنزل عليه مع أنهم كانوا أهل الفصاحة وأساطين البيان . 


( 537 ) يتحدّث الشاعر هنا عن الصراع بين الروح والجسم . الروح تميل إلى الصعود والتسامي على حين أنّ الجسم يميل إلى الهبوط إلى عالم المادة ، عالم الماء والطين ، وما يرتبط به من متع حسيّة . 


( 538 ) إنّ من انطوى كيانه على تلك الروح - ومع ذلك غفل عنها ، ومال إلى ما هو دونها من المادة - قد هبط بنفسه من مقامه العالي ، مقامه الروحي الذي هو فوق وهم العقول إلي مقام ماديّ متواضع ، فإنّه بذلك قد مسخ نفسه . 


( 541 ) آدم الذي خلقه اللَّه على صورته ، وعلمّه الأسماء كلها ، وأمر الملائكة بالسجود له لا ينبغي أنْ يكون أبناؤه على هذا المستوى من الحطّة فيما يتلعق بمقام الروح. 


( 542 - 543 ) يسخر الشاعر من غرور الإنسان وتجبّره وطغيانه . 

فهذا طاغية يتولاه الكبر والغرور ، فتسول له نفسه أنّه قادر على


“ 486 “


امتلاك الدنيا وبسط سلطانه عليها . وإنّ لفتة واحدة من الخالق تقضي على كل هذا السلطان ، وما ارتبط به من طغيان . 

ومهما ساد هذا الطغيان ، وملأ الدنيا ، فليس يعدو أن يكون كالثلج الذي يغطيّها في فصل الشتاء ، فتجيء الشمس ، وبلفحة واحدة منها تبدّده وتقضي عليه ، وعلى كل ما اقترن به من برد واكتئاب . 


( 547 ) عندما حطمّ إبراهيم الأصنام ، ألقي في النار بأمر النمرود ، ولكنّ اللَّه حفظه وجعل النار عليه برداً وسلاماً . قال تعالى :” قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ . قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ “( 21 : 68 ، 69 ) . 


( 548 ) الصوفيّ لا يرى في الوجود فاعلًا سوى اللَّه . أما الأسباب والوسائل التي تقترن بحدوث الأشياء فهي ما تطلبه عقول الناس في هذه الدنيا . فإذا ما انعدمت الأسباب ، وحدثت الأمور من غير أنْ تكون مقترنة بها ، فإنّ العقل تتولاه الحيرة ، وإذ ذاك يمعن في الخيال ، باحثاً عن الأسباب ، ملتمساً الدواعي والمبررات فترد عليه ألوان مختلفة من التفسيرات ، كلها متضاربة غير مقنعة ، ويصل الإنسان - من جراء ذلك - إلى موقف يشبه موقف السوفسطائية ، الذين عُرفوا بأنّهم لم يكونوا يتحققون من شيء . 


( 566 ) لا تستسلموا إلى حواسكم الدنيوية وملذاتها . تخلّصوا من هذه الأحاسيس ، التي تصرفكم عن التأمل الباطني ، وتشكلّ حجاباً كثيفاً أمام أرواحكم . 


( 569 ) ما دمتَ غارقاً في أمور هذه الدنيا ، مشغولًا بخطوبها ، فكيف يتسنّى لك أنْ تلمّ بلمحة من عالم الروح ، ذلك الذي لا ينكشف إلا لمن نام عن هذه الدنيا ، وصرف حواسه وقلبه عن التعلق بها . 


( 571 ) من المعجزات المنسوبة إلى المسيح أنّه مشى على الماء .


“ 487 “


( 572 - 573 ) يذكر جلال الدين البحر في مواضع كثيرة من شعره ويتخذ منه رمزاً لعالم الروح . فالبحر عنده مظهر للوحدة الصورية واللونية ، يظهر للعين متشابهاً ، لا أول له ولا آخر . وغموضه شبيه بالغموض الذي يكتنف عالم الروح ، على حين أن اليابسة تمتاز بتعدد الألوان والأشكال ، فيها السهل والجبلّ ، والصحراء ، والخضرة والجفاف . فهي عالم الصور المتعدّدة ، والمظاهر الماديّة المتنوعة . وهي على عكس عالم الروح الذي تسوده البساطة ، النابعة من الوحدة . 


( 574 ) ماء الحياة ، هو الماء الأسطوري الذي قيل إنّ الإنسان لو شرب منه لتحقّق له الخلود . وقد اقترن ذكره بالخضر ، الذي يقال إنّه شرب من ماء الحياة فتحقّق له الخلود . وهذا الماء قد اقترن بالقصص الأسطورية التي نُسجت حول شخصية الإسكندر المقدوني . فقد ذكر في هذه القصص أن الإسكندر هلك وهو يبحث عن ماء الحياة . 

وقد ذكر ماء الحياة كثيراً في الشعر الفارسي الصوفيّ . يقول سعدي :زكار بسته مينديش ودل شكسته مدار * كه آب چشمهء حيوان دورن تاريكست .( لا تفكر في الأمر العصيّ ولا تكن كسير القلب ، فإنّ ماء نبع الحياة في داخل الظلمات ) . ( الگلستان ، القصة 17 من الباب الأول .  ص 32 ، طبعة نفيسي ، طهران ، 1341 ) . 

فالوزير هنا يقول لأتباعه : إنّ من قضى عمره متعلّقاً بهذه الأرض ، مفتتناً بها ، لا يتسنى له أنْ يجد السبيل إلى ماء الحياة . فلا بدّ لذلك من السعي والبذل والعناء .


[ شرح من بيت 600 إلى 750 ] 


( 603 ) بيّن نيكولسون في تعليقه على هذا البيت كيف أنّ جلال الدين كان يرى هذا النوع من الأعلام في الإمارة السلجوقية التي كان يعيش فيها . فالأمير غياث الدين بن علاء الدين السلجوقى ( 634 - 634645 - 634645 - 645 هـ ) 

حينما تزوج بابنة ملك جورجيا ، ضرب نقوداً فضية


“ 488 “



تحمل صورة أسد تعلوه الشمس . وقد نقل نيكولسون أيضاً نصوصاً تاريخية تثبت أنّ أعلام هذا الأمير كانت تحمل صورة الأسد . ( انظر الجزء الأول من تعليقاته على المثنوي ، ص 56 ) . 


( 606 ) اللَّه هو الموجود الحقيقي الأوحد . ولقد خلق كل شيء من العدم . العدم غدا ملتذاً بالوجود بعد أن أصبح عاشقاً للخالق الموجد . ويرتبط بهذا فكرة الصوفية عن المحبة الإلهية . فالإنسان الذي تحقق له الوجود البشري ، يُفني هذا الوجود في ذات الخالق ليتحقّق له الخلود . إن العدم ينقلب إلى وجود بقوة الخالق . والفناء في الخالق هو سبيل الخلود . وكل شيء منه وإليه . 


( 610 - 611 ) إنّ لطف اللَّه هو الذي جاء بالخلق من عالم الإمكان إلى عالم الوجود . فليس للإنسان اختيار في وجوده ، وإنما لطف اللَّه هو الذي يهب هذا الوجود . والإنسان يتلقى وجوده على الوجه الذي يريده الخالق ، ولا حيلة للإنسان في ذلك ، فهو كالصورة بين يدي المصور ، أو كالطفل في الرحم . 


( 616 - 625 ) يعود الشاعر هنا إلى حديث الجبر والاختيار . وهو يؤمن بالموقف الوسط بين الجبر والاختيار . ويُعتبر أبو الحسن الأشعري أول من نادى بهذا الرأي . كان هذا في أوائل القرن الرابع الهجري بعد أنْ طال الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة . يقول المعتزلة بأنّ الإنسان خالق أفعاله وموجدها . 

أما أهل السنة فيقولون إنّ اللَّه وحده هو خالق كل شيء ولا يد لإنسان في إيجاد عمل من الأعمال . 

ويقف الأشعريّ موقفه الوسط بأن يقول إن اللَّه يخلق الأعمال ويوجدها حين يريدها الإنسان. 

فالإرادة الإنسانية الحرة يقترن بها خلق اللَّه للأفعال وإيجادها  ويسوق جلال الدين الأدلة على ذلك . 

ففي غروة بدر كان اللَّه هو الذي رمى الكفار وليس الرسول والمؤمنون . 

وذلّ الإنسان وخضوعه لرّبه هو دليل الجبر ، ولكنّ الخجل من الآثام هو دليل الاختيار . ومن أدلة الاختيار زجر الأساتذة

“ 489 “


للتلاميذ ، وذلك ليحسن اختيارهم لأعمالهم ، وكذلك انصراف خاطر الإنسان عن رأي يكون قد عقد العزم عليه . وإذا مرض الإنسان استيقظ ضميره ، فيتجلىّ له قبح الإثم ويزمع العودة إلى الطريق السويّ . 


( 635 - 636 ) هنا يسخر الشاعر من نفاق البشر . فالمرء إذا عمل عملًا يعجبه ويعتزّ به باهى بمقدرته ، وفاخر بما اقتدر على إنجازه . 

لكنّه إذا أتى أمراً نكرا نسب ذلك إلى ربه، واعتذر عن إتيانه بأنّ هذا هو ما أراده له اللَّه. 


( 637 ) الأنبياء بزهدهم في هذه الدنيا وانصرافهم عنها ، كأنهّم مجبرون على الإقامة فيها ، هكذا أراد لهم ربهم ، لأداء رسالتهم . 

أما الكفار فمجبرون فيما يتعلق بأمور الآخرة . فاختيارهم إنما هو للدنيا ومتاعها ، أما الآخرة وحسابها فمفروضة عليهم ، ولو تركوا واختيارهم لا ختاروا الخلود في الدنيا . 


( 674 - 675 ) “ من نظر إلى جوهر الرسالات السماوية وجد أنّها واحدة ، فليس من موجب للتفريق بين رسل اللَّه ، فهم حملة رسالة جوهرها واحد ، وإرادتهم هي إرادة اللَّه . وعلى هذا الأساس يرى الصوفية ألا موجب للتفريق بين اللَّه وبين الرسل . فالرسل بإرادتهم قد فنوا في الخالق وتلاشى وجودهم في وجوده . فمن فرق بين اللَّه ورسله يكون قد جرى على مقتضى الصورة الظاهرة ، لا على مقتضى الحقيقة ، فهو من أتباع الشكل لا الجوهر . 

فلا جلاال في أن الرسول يختلف عن الخالق من حيث الصورة ، فالفاني ليس كالأزلي ، لكن رسالة الرسول هي بذاتها رسالة إلهية ، وهي باقية باللَّه “ . 

ويستند الصوفية في ذلك إلى آيات ، منها :” إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ “. 

( 48 : 10 ) ،” وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى “. ( 8 : 17 ) ،” مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ “. ( 4 : 80 ) . 


( 676 - 681 ) قدم الشاعر صوراً توضيحية لوحدة الرسل . فالإنسان

  

“ 490 “


يبصر بنور العينين . ولكن نور كل عين لا يتميز عن نور الأخرى ساعة الإبصار . والمكان قد يضاء بعشرة مصابيح تختلف في صورها الظاهرية . 

لكنه لا يمكن تمييز النور المنبعث من كل من هذه المصابيح . وثمار السفرجل إذا عصرت تحولت كلها إلى طبيعة واحدة متشابهة ، بعد أن كانت ثماراً تختلف في صورها . وفي هذا التوحد والانسجام لا يمكن أن يتميز ماء ثمرة عن ماء الأخرى . 


( 682 - 683 ) يشير الشاعر في هذين البيتين إلى تشبث أكثر الناس بما يقع تحت حسهم ، وعجز أكثرهم عن التجريد ، والنظر إلى ما وراء الصور الظاهرة . 


( 686 - 687 ) لعل في هذين البيتين إشارة إلى نظرية الفيض المعروفة عند الصوفية . فقبل أن تفيض الكثرة عن الواحد ، كان الناس في عالم الروح متحدين ، ولم تكن الأرواح قد حلّت في الأجساد ، واتخذت تلك الصور البشرية . كان الناس جوهراً واحداً كالشمس ، وكانوا متجانسين في صفاء كالماء . وقد ذكر جلال الدين في موضع آخر من المثنوي أنّ روح المؤمنين واحد ، وأنه في إشراقه على الأبدان كالشمس إذ تشرق على المنازل . ففي كل منزل قدر من ضوء الشمس ولكن إذا هُدمت الجدران التي تقصلها فإنّ أضواء هذه المنازل تتحد معاً . وهكذا الأجساد البشرية ، فهي حينما تتحطم ، تصبح أرواح المؤمنين روحاً واحداً “ 1 “ . 

أما تشبيه عالم الروح بالماء أو بالبحر فكثير الورود في المثنوي وذلك لما في الماء من تجانس واتحاد في المظهر ، ولما في البحر من اتساع وعمق وغموض . 


( 690 ) لا يريد الشاعر أن يفيض في شرح آرائه الصوفية ويطيل الحديث عن عالم الروح خشية أن يستمع إلى ذلك من لا يكون ذا مقدرة على فهمه ، فتكون النتيجة على غير ما يُراد . وهذا اتجاه يكاد يكون عاماً عند مفكري الصوفية .

...............................................................

( 1 ) المثنوي ، ج 4 ، 415 - 418 .

“ 491 “


( 691 ) إنّ الفكر الصوفي العميق يفهم على غير وجهه حينما لا يكون عند متلقيه الاستعداد املائم . وقد تؤدي إساءة الفهم إلى القضاء على العقيدة . 


( 706 - 710 ) تحطيم الجوز رمز للقضاء على الجسد ، فالأجساد التي تضم أرواح الطاهرين هي كالجوز الذي يكون ذا لبّ . والموت يزيح القشر عن هذا اللب . أما الأجساد التي تضم أرواحاً خبيثة ، فلا جدوى لخلاص تلك الأرواح منها . بل إن ذلك يكشف حقيقها ، ويقودها إلى مصيرها . 


( 712 - 713 ) تشبيهُ للروح الخالية من المعنى بسيف خشبي في الغمد . 

فما دام هذا السيف في غمده فحقيقته مستورة ، فإذا خرج من غمده تكشفت هذه الحقيقة . وهكذا الروح الخبيث ، تتجلى حقيقته بعد مفارقة الجسد . 


( 714 ) الاستعداد لما بعد الموت كالاستعداد للذهاب إلى الميدان . 

فالمرء لا يستطيع أن يسعى إلى الميدان حاملًا سيفاً خشبياً . وكذلك الحال بالنسبة ليوم الحساب . على المرء أن يستعد له فيلقى ربه بروح طاهر تحلى بمقومات الكمال . أما من يلاقي ربه بروح خاوٍ من المعنى فهو كمن يحمل سيفاً خشبياً إلى ميدان القتال . 


( 716 - 726 ) يتحدث الشاعر هنا عن الأولياء المرشدين . ويبيّن أهمية الاتصال بهم واتخادهم قدوة لسلوك أقوم السبل . 


( 718 ) إن اخترت مرشداً ، فليكن واضح الإيمان سليم العقيدة ، يتجلى في أقواله نقاء قلبه وصدق سريرته . 


( 720 ) زهرة اللاله ( شقائق النعمان ) المتفتحة سوداء الباطن . 

فتفتحها يكشف عن باطنها . وهكذا المنافق يكون انطلاقه على سجيته هو السبيل إلى إدراك كنهه واكتشاف سريرته . 


( 721 ) إن اجتماع المؤمنين الذين ازدهرت قلوبهم بالحقيقة يضفي البهجة على المكان والزمان .


“ 492 “


( 725 ) القلب هو الذي يقود صاحبه إلى هؤلاء المرشدين . فعليه أن يتبع قلبه ، ويغذيه بصحبتهم كما أن عليه أن يقاوم جسده الذي يسعى للهبوط به حتى يجعله أسيراً لسجن المادة ، وما يرتبط بها من نزعات وشهوات . 


( 727 ) من المعروف - عند المسلمين - أن الكتب السماوية السابقة على الإسلام بشرت بمحمد ، وأخبرت عن رسالته . ويذكر ذلك القرآن الكريم . قال تعالى :” وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ “. ( 61 : 6 ) . 

.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: