الاثنين، 3 أغسطس 2020

01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي د. محمد عبد السلام الكفافي

“ 2 “

 

“ 3 “

 

الجزء الأول

[ مقدمة الجزء الأول ]

مثنوي جَلالُ الدِّين الرُّومي شَاعِرُ الصّوفيَّة الأكْبَر الكتابُ الأوّل ترجمَة وشرح وَدراسَة للدكتور محمّد عبد السّلام كفافي أستَاذ آداب الأمَم الإسلاميَّة بجَامِعَة القَاهرة الاستَاذ المنتَدب بجَامعَة بَيروت العَربيَّة جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى الناشر المكتبة العصرية صيدا - بيروت 1966


 

“ 4 “

.


“ 5 “

 

بسم الله الرحمن الرحيم


“ 6 “

 

الأهداءُ

إلى كل نفس صافية كريمة تنشد الحق والخير والجمال .

 

“ 7 “


تصْدير
يسعدني أن أقدم للقراء والباحثين العرب الكتاب الأول من المثنوي لشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي . لقد بدأت أعرف أعمال هذا الشاعر العظيم منذ مدة تزيد على العشرين عاماً حينما كنت لا أزال بعدُ طالباً بمعهد اللغات الشرقية ( الذي كان معهداً عالياً ملحقاً بكلية الآداب ، جامعة القاهرة ) . وفي تلك الأعوام ، التي كانت مسرحاً لحرب ضروس شملت أقطار الأرض ، كنت أجد عند هذا الشاعر من الحكمة الروحية ، وجمال الفكر والفن ، ما يؤنس النفس ويمتع العقل . وكثيراً ما كنت أصحب المثنوي معي إلى الريف المصري حيث اعتدت - إبان تلك السنين - أن أقضي فترة قصيرة من الصيف في ضيعة صغيرة بالقرب من شاطىء بحيرة المنزلة ( في شمال الدلتا ) ، كان يملكها جدي لو الدتي ، الشيخ عبد السلام الدواخلي . 
وكان الشيخ - رحمة اللَّه - من علماء الأزهر القدامى ، الذين كانوا يدرسون العلم ثم يعودون إلى قرارهم مبتعدين عن الوظائف ، متخذين من العلم ترفاً عقلياً . وكنت آنس إليه بعد فقد الوالد ، كما كان هو يسعد برفقتي ، ويحرص على أن يجعل منها مجالًا للدرس والتأمل .
في هذا الجو الهادىء ، كنت أقرأ المثنوي مستعيناً على فهمه بكتاب “ المنهج القوي لطلاب المثنوي “ . وكان جمال الريف وهدوءه ، ونخيله وأنسامه ، وآفاقه الرحبة ، وحقوله الخضراء ، وأشجار التوت المورقة الوارفة الظلال ، مما يعين على حسن التذوق ، وفهم بعض ما احتواه المثنوي من رائع الحكمة ، وعميق الفكر .
ودأبت على الرجوع إلى المثنوي أثناء إقامتي للدراسة في لندن ( 1946 -

 
“ 8 “
 
1950 ) ، ثم حين عدت إلى مصر لأعمل بكلية الآداب بجامعة القاهرة .  
ومنذ بدأت أمارس التعليم الجامعي لم يمض عام وأحد من غير أن أقرأ مع طلابي بعض نصوص من المثنوي أو أتخذ من جلال الدين وشعره موضوعاً لبعض محاضراتي .
وفي عام 1960 بدأت أترجم المثنوي إلى العربية ثم رأيت أن أضع له شروحاً توضح معانيه .
وهأنذا أقدم القسم الأول من هذا العمل ، أملًا أن أتبعه ببقية الأقسام .
وقد حرصت في ترجمتي وشرحي على الوضوح وسهولة العبارة ، وأعددت للكتاب من الفهارس والكشافات ما آمل أن يجعله ميسور الفائدة للباحثين والدارسين .
محمد كفافي  

 
“ 9 “
 
فهرسُ المحُتويَات
صفحة
( الاهداء )
( تصدير )
(المقدمة )
جلال الدين الرومي شاعر الصوفية الأكبر 1 - 44
آثاره الأدبية 10 - 14
الفن عند جلال الدين 15 - 30
موضوعات الرومي 30 - 38
شعره التعليمي 39 - 44
المثنوي ، شروحه وترجماته 45 - 64
التعريف بالمثنوي 45 - 48
أجزاء المثنوي 48 - 50
شراحه من الفرس والأتراك والعرب 51 - 53
الدراسات والترجمات الحديثة 54 - 64 هذه الترجمة 65 - 67
المثنوي ( نصّ الترجمة )
مقدمة الكتاب 70 - 72
المقدمة المنظومة 73 - 76 صفحة
 
 
“ 10 “
 
عشق الملك لاحدى الجواري 76 - 78
عجز الحكماء عن معالجة الجارية 78 - 80
رعاية الأدب ، وأضرار فقدانه 80 - 81
لقاء الملك للطبيب الإلهي 82
الطبيب يعود المريضة 82 - 86
الوليّ يطلب فحص المريضة على انفراد 86 - 90
الوليّ يكشف المرض ويعرض الأمر على الملك 90
كيف أوفد الملك الرسل إلى سمرقند 90 - 93
قتل الصائغ وبيان معناه 93 - 96
حكاية البقال والببغاء وأسرارها 96 - 102
حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى 103
الوزير يعلم الملك المكر 104 - 105
خداع الوزير للنصارى 105 - 106
كيف تقبل النصارى مكر الوزير 106
قصة رؤية الخليفة لليلى 111
بيان حسد الوزير 114
كيف فهم حذاق النصارى مكر الوزير 115
المراسلة بين الملك والوزير 116
الأسباط الاثنا عشر 116
تخليط الوزير في أحكام الإنجيل 117 - 120
الخلاف كان في صورة السير لا في حقيقة الطريق 120 - 122
خسارة الوزير في مكره 122
الوزير يدبر مكرا آخر 125
بين الوزير ومريديه 127 - 135

 
“ 11 “
 
صفحة الوزير يعهد بولاية عهده إلى كل أمير على انفراد 135 - 136
الوزير يقتل نفسه 136
الأمراء وولاية العهد 136
تنازع الأمراء على الولاية 139
تعظيم نعت المصطفى 141
حكاية ملك يهودي آخر 142
الملك يحرق مخالفيه بالنار 145
كيف تكلم طفل وسط النار 147
المنافق الذي سخر من محمد 149
الملك يعاتب النار 150
قصة الريح التي أهلكت قوم عاد 153
سخرية ملك اليهود من ناصحية 154
قصة الأسدو الوحوش ( في السعي والتوكل ، والجبر والاختيار ) 157 - 167
الأرنب الذي صرع الأسد 167
تأويل الذبابة 176
قصة الهدهد وسليمان ( في القضاء والقدر ) 187
قصة آدم ، وكيف حجب القضاء بصره 190
الأرنب يقود الأسد إلى البئر 193
هلاك الأسد 196
الأرنب يبشر الوحوش بهلاك الأسد 199
ابتهاج الوحوش ، وثناؤهم على الأرنب 201
تفسير : “ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “ 202
عمر ورسول الروم 204
آدم نسب زلته إلى نفسه ، وإبليس نسبها إلى ربه 212


“ 12 “
 
صفحة تفسير : “ وهو معكم أينما كنتم “ 216
رسول الروم يسأل عمر عن الروح والجسد 216
قصة التاجر والببغاء 219
التاجر يحمل رسالة الببغاء إلى ببغاوات الهند 223
شرح بيت للعطار 224
موسى والسحرة 225
التاجر يخبر الببغاء بما رآه من ببغاوات الهند 228
كيف مات الببغاء عند سماع ذلك 232
شرح بيت لسنائي وحديث للرسول 238
عود إلى حكاية التاجر 243
الببغاء الميت يطير 244
التاجر يودع الببغاء 246
مضرة اشتهار المرء 246
تفسير “ ما شاء اللَّه كان “ 249
قصة عازف الصنج الهرم 252
شرح حديث الرسول : “ إن لربكم في أيام دهركم لنفحات.... “255
 قصة عائشة ، وسؤالها الرسول عن المطر 261
شرح بيت لسنائي 263
شرح حديث الرسول : “ اغتنموا برد الربيع . . . “ 265
سؤال عائشة عن سر الأمطار التي شاهدتها 266
بقية قصة عازف الصنج 268
عمر يتوجه لمعونة عازف الصنج 271
الجذع الحنان 272
نطق الحصى 276

 
“ 13 “
 
صفحة عود إلى قصة المطرب 277
عمر يحول المطرب من مقام البكاء إلى مقام الاستغراق 280
تفسير حديث نبوي عن الإنفاق والإمساك 283
قصة الخليفة والأعرابي 285
الأعرابي وزوجة 286
بين المريدين والمدعين المزورين 287-290
الأعرابي يأمر امرأته بالصبر 290
المرأة تعترض على قول زوجها 292
الأعرابي ينصح امرأته بالقناعة 295
كل إنسان ينطلق من وجوده الذاتي 297
المرأة تعتذر لزوجها 300
شرح “ خبر “ يتعلق بالنساء 303
الأعرابي يستسلم لرجاء امرأته 304
موسى وفرعون 305
حرمان الأشقياء من الدنيا والآخرة 308
صالح وقومه 310
معنى قوله تعالى : “ مرج البحرين يلتقيان “ 316
المريد والولي 319
مغزى ما جرى بين الأعرابي وامرأته 320
الأعرابي يسعى لتحقيق مطلبها 323
كيف عينت الأعرابية لزوجها طريق طلب الرزق 326
الأعرابي يحمل إبريق ماء ويتوجه إلى بلاط الخليفة 328
عناية المرأة بسلامة الإبريق 330
السائل والمحسن 332


 
“ 14 “
 
صفحة الفقير إلى اللَّه والفقير إلى غير اللَّه 333
نقباء الخليفة وحجابه يستقبلون الأعرابي 335
عاشق الدنيا 337
مثل العرب : “ إذا عشقت فاعشق الحرة “338
 الأعرابي يهدي إبريق الماء للخليفة 339
حكاية النحوي والملاح 340
الخليفة يتقبل هدية الأعرابي ويأمر بمكافأته 342
صفة الشيخ المرشد 349
الرسول يوصي عليا بمصاحبة العاقل 351
القزويني الذي تألم من إبرة الوشم 353
قصة الأسد والذئب والثعلب 356
الأسد يمتحن الذئب 358
الصديق الذي قال “ أنا “ 360
صفة التوحيد 361
الأسد يؤدب الذئب 364
نوح وقومه 365
الملوك والصوفية 368
الضيف يهدي مرآة إلى يوسف 372
كاتب الوحي الذي ارتد 375
قصة بلعم بن باعور وموسى 381
قصة هاروت وماروت 383
قصة الأصم الذي ذهب ليعود جاره المريض 386
إبليس ، أول شخض عارض النص بالقياس 389

 
“ 15 “
 
صفحة على المرء أن يخفي حاله عن الجاهلين 392
الروم وأهل الصين يتجادلون حول النقش والتصوير 396
كيف سأل الرسول “ زيدا “ عن حاله ، وكيف أجابه زيد .
( حديث حارثة ) 399
لقمان ور فقاؤه 406
بقية قصة “ زيد “ 408
النار التي وقعت بالمدينة في عهد عمر 418
عليّ وخصمه الكافر 419 - 430
عليّ وقاتله 431 - 435
كيف عجب آدم من ضلال إبليس 435
عود إلى قصة علي وقاتله 437
معنى غزوات الرسول 440
عود إلى قصة علي وخصمه الكافر 443
خاتمة الكتاب الأول من المثنوي 445
شروح ودراسات
الأبيات 1 - 500 449 - 467
الأبيات 501 - 1000 467 - 490
الأبيات 1001 - 1500 490 - 504
الأبيات 1501 - 2000 504 - 526
الأبيات 2001 - 2500  526 - 546  
الأبيات 2501 - 3000 546 - 569
الأبيات 3001 - 3500 569 - 591
الأبيات 3501 - 4003 591 – 614
فهارس الكتاب
المراجع 616 - 626
كشاف الأعلام والجماعات والأماكن 627 - 635
كشاف الموضوعات 637 - 646
 
“ 16 “
 
.

“ 17 “
 
الكتاب الأول
المقَدّمَة
( - 1 - ) جَلال الدّين الرّومي شاعر الصّوفيَة الاكبَر
جلال الدين محمد “ 1 “ بن محمد البلخيَّ ثم القونويّ ، المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ ) ، أحد شعراء الإنسانية الأفذاذ ، وعلم شامخ من أعلام الفكر ورواده الذين جادت بهم حضارتنا الإسلامية الزاهرة ، فأسهمت بتراثه الفكريّ والفنيّ في إغناء تراث البشرية جمعاء .
لقد كان هذا الشاعر صوفياً ، اختار التصوف سبيلًا في حياته العملية ، واختاره فلسفة ووحياً لفكره وفنه الرفيع . وقد امتزجت حياته الفكرية بحياته العملية بصورة جعلت تصوفه مزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية .
ليس تصوف شاعرنا من ذلك النوع السلبيّ الذي يدع الحياة وما فيها ، ويدعو إلى هجرها والفناء عنها فناء كاملًا ، ويعدّها شراً تورطت فيه البشرية ،
.................................................................
( 1 ) كنت قد ألقيت هذا البحث في جامعة بيروت العربية ضمن نطاق موسمها الثقافي الثالث “ 1962 - 1963 “ . وقد رأيت ضمه رأيت ضمه إلى هذه الترجمة - بعد إدخال تعديلات قليلة عليه - ليكون مقدمة لها ، وتعم بذلك فائدته .
 
 
“ 18 “
 
بل هو تصوف بنّاء ، يستمد عناصره من الإنسان ، ويتعمق في بحث مشاكله الروحية والعملية ، ويحاول أن يرسلم له المثل العليا في الفكر والعمل . يُعنى بالحياة التي يحياها البشر ، كما يُعني بالمصير الذي يطمحون إليه ويتوقعونه بعد مفارقة هذه الحياة . وليس شاعرنا مبدع هذا الاتجاه في التصوف ، ولكنّه أفصح الألسنة في التعبير عنه ، وألمع العقول في إبداع فلسفته وابتكار أفكاره .
ولا بدّ لنا في تقديم هذا البحث من كلمة عن حياة الشاعر وعصره .
لقد كُتب عن حياة جلال الدين كتابات كثيرة ، ولكنّ الحقائق التي تُستخلص ، من هذه الكتابات قليلة إلى حدّ بعيد .
نقرأ في سيرة هذا الشاعر أخباراً عن معجزات وخوارق تمّت على يده ، ونطلع على صور لإنسان طاقته ومستواه فوق البشر العادّيين . ومثل هذه الكتابات أوحى بها حبّ أتباعه له ، وتقديسهم لذكراه ، وتعظيمهم لشخصه ، بصورة أخذت تنمو مع الأيام . فلنقتصر هنا على ذكر الحقائق التي يمكننا أن نستخلصها عن حياة الشاعر ، معرضين عن أحاديث الخوارق والمعجزات وما صحبها من مبالغات .
وقد وردت ترجمة الشاعر في منظومة بعنوان “ ولد نامه “ نظمها ابنه سلطان ولد ، وفي كتاب “ مناقب العارفين “ للأفلاكي ، وكان هذا تلميذاً لعارف حفيد جلال الدين . كما وردت في كتب متأخرة عن ذلك ، منها كتاب “ نفحات الأنس “ للشاعر المتصوف عبد الرحمن الجامي و “ تذكرت الشعراء “ لدولت شاه .
 
[ مولده ونسبه ]
وُلد جلال الدين في مدينة بلخ يوم 6 ربيع الأول 604 هـ ( سبتمبر 1207 ) . 
وقد لُقّب بالرومي نسبة إلى أرض الروم ( بلاد الأناضول ) حيث قضى معظم حياته . كان أبوه محمد بن الحسين الخطيبي ، وكان يدعى بهاء الدين ولد . 
وقد انتسب جلال الدين من ناحية الأب إلى أبي بكر الصديق ، ومن ناحية الأم إلى أُسرة خوارزم شاه التي كانت تحكم إقليم ما وراء النهر ، وتسيطر على بقاع أُخرى من العالم الإسلامي ، حين
 
“ 19 “
 
بدأت غارات المغول على الشرق الاسلامي في مطلع القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) .
كان أبو الشاعر عالماً دينياً من أتباع المذهب الحنفيّ . والظاهر أنّه أحرز مكانة مرموقة حتى لُقّب بسلطان العلماء .
وقد هاجم الفلاسفة والمتكلمين في زمنه ، ولعلّ هذا هو السبب ، فيما رُوى من اختلافه مع المفكر العربي فخر الدين الرازي الذي كان معاصراً له ، وكان من نزلاء بلخ . وقد اضطربهاء الدين وَلَد إلى أن يترك هذه المدينة مصطحباً أُسرته عام 609 هـ .
والروايات في بيان أسباب ذلك متعدّدة ، منها أنّه اختلاف مع حاكم البلاد ، ولكنّ الأغلب هو أنّه ترك موطنه حين شعر بقرب هجوم المغول . وكان جلال الدين حين ذاك لا يزال في الخامسة من عمره .
وأخذت الأسرة تنتقل من مدينة إلى أُخرى . وفي نيسابور التقت بالشاعر الصوفيّ الكبير فريد الدين العطار ، الذي تذكر الروايات أنّه أخذ الطفل جلال الدين بين ذراعيه ، وأهداه نسخة من منظومته “ أسرار نامه “ ، كما تنبّأ له ببلوغ المرتبة العليا في التصوف . ومن هناك ذهبت هذه الأسرة إلى بغداد ثم إلى مكة .
وانتقلت بعد ذلك إلى ملطيّة حيث أقامت أربع سنين ، وبعد ذلك ذهبت إلى لارندا ( قرمان الآن ) ، حيث أقامت سبع سنين ، ثم تركت لارندا إلى قونية حيث استقر بشاعرنا المقام .
وكانت قونية عاصمة للسلطان علاء الدين السلجوقي الذي كان من سلاجقة آسيا الصغرى . وقد توفي أبو الشاعر في هذه المدينة عام 628 هـ .
 
[ أساتيذه ]
تلقّى الشاعر تعليمه في أوّل الأمر على أبيه ، ثم على أحد أصدقاء أبيه ، وكان يدعى برهان الدين محقّق الترمذيّ .
ومما روى أنه ذهب إلى الشام بناء على نصح أستاذه برهان الدين ، وأنه أقام سنوات . وكان في دمشق حينذاك الصوفيّ الكبير محيي الدين بن العربي .
ولا تذكر هذه الرواية أن جلال الدين لقي ابن العربي ، كما أنّ شعر جلال الدين لا يشير إلى شيء من ذلك .
وكذلك زيارة جلال الدين لدمشق وإقامته بها سنين

 
“ 20 “
 
طويلة ليست من الأمور التي نعلم شيئاً واضحاً عن تفاصيلها .


[ شروع تدريسه ]
توّلى جلال الدين التدريس في مدينة قونية بعد وفاة أستاذه برهان الدين محقّق سنة 638 هـ . وهناك حظي بعطف سلطانها السلجوقيّ . وقد بقي مقيماً في قونية ، لا يفارقها إلا ليعود إليها ، وهناك تجمّع حوله عدد من التلاميذ والمريدين .
ولم يكن جلال الدين حينذاك يشتغل بنظم الشعر ، كما أنّه لم يُؤثر عنه اتباع طريق الصوفيّة الذي عُرف به فيما تلا ذلك من الأيام ، وأصبح يمثّل علماً من أكبر أعلامه .
لقد ظهرت عبقرّية الرومي كشاعر في فترة كان قد بلغ فيها مرحلة متقدّمة من النضج الفكري والنفسيّ .
ولكنّ العجيب في تلك العبقرّية أنّها جعلت إنتاجه العقليّ بعد أنّ قارب الأربعين يختلف اختلافاً كليّاً عن إنتاجه السابق على ذلك . لقد كان واعظاً وعُدّ من الفقهاء الأحناف ، فأصبح صوفيّاً فنّاناً شاعراً ، وحكيماً أخلاقياً وفيلسوفاً إنسانياً .
كيف حدث كل هذا ؟
إنّ المصادر تصوّر لنا هذا الانتقال بأنّه كان فجائياً ، نشأ من التقاء الشاعر بصوفيّ كثير التجوال كان يُدعى شمس الدين التبريزي .
حقّاً لقد كان لهذا الرجل أعمقُ الأثر في نفس جلال الدين.
 ولكنّ وقوع الانقلاب في حياة الرومي لا يمكن أن يحدث بتلك الصورة المفاجئة .
فلا بدّ أنّ الرومي كان ميالًا إلى التصوف ، نزّاعاً إلى ذلك التأمل الروحيّ العميق . وأنّه بعد التقائه بذلك الصوفي وجد نفسه ، وأدرك حقيقته ، فانطلق في الطريق الذي كان مقدّراً له أن يخلدّ اسمه على الأيام ، ويضعه في مصافّ الخالدين من شعراء العالم ومفكّريه .
ذكر الرومي هذا التحّول في إحدى رباعيّاته فقال :” عندما اشتعلت نيران الحبّ في صدري ،


 
 
“ 21 “
 
أحرق لهيبها كلّ ما كان في قلبي . * فاز دريت العقل الدقيق والمدرسة والكتاب ،
وعملت على اكتساب صناعة الشعر ، وتعّلمت النظم . “
 
[ لقاء الرومي والتبريزي ]
إنّ لقاء الرومي والتبريزي يمثّل أهمّ نقطة فيما شهدناه من تطوّر روحيّ عميق عند هذا الشاعر . لقد ثمّ هذا القاء بين الشاعر والتبريزي في عام 642 ه ، بمدينة قونية . كان شمس الدين صوفيّاً متجولّا بلغ الستين من عمره ، وقد جاء به تجواله إلى تلك المدينة . وما كان جلال الدين يلتقي به حتى وجد فيه الإنسان الكامل ، والمثل الأعلى لما يمكن أن يطمح إليه البشر .
وتذكر تراجم الشاعر أنّه أخذ شمس الدين إلى داره وأنهّما بقيا معاً لا يفترقان مدة عام أو عامين . وليس يعلم أحد ماذا تمّ في هذا للقاء ، ولكنّ المؤرخين متفقون على أنّ الروميّ قد تحوّل بعده إلى إنسان آخر ، اختلفت كلّ أحواله عما كانت عليه من قبل . وكتب التراجم لا تقدّم لنا معلومات واضحة عن التبريزي هذا ، فأصله غير معروف على وجه اليقين .
ولقد وصفه البعض بأنّه كان شبه أُمّيّ ، ولكنّه كان يتسم دائماً بالحماس الروحيّ العظيم في حديثه ، وبأنّه كان ذا أثر بالغ في نفوس من استمعوا إليه .
وكان المفروض أنّ هذا الصوفيّ قد مضى دون أن يخلف أثراً يُذكر ، ولكنّ الباحثين عثروا أخيراً على نصّ منسوب إليه ، لم يُنشر بعد ، عنوانه “ المقالات “ “ 1 “ .
والمحقّق - على أية حال - أنّ التبريزي قد أثرّ في حياة شاعرنا أعمق الأثر إلى حدّ أنَّه صرفه عن تلاميذه صرفاً كاملًا ، وجعله يُعرض عن
..............................................................................
( 1 ) .” arberry : classical persianlit erature , p “ . 217


 
“ 22 “
 
الوعظ ، وينصرف إلى حياة التأمل الصوفيّ ، وينطلق في التعبير عن حياته الجديدة بفيض غامر من الشعر بلغ أسمى درجات العبقرّية .
ولقد حقد تلاميذ الرومي على ذلك الدخيل الذي صرف عنهم أستاذهم ، وهاجموه ، فما كان منه إلا أن سافر خفية إلى دمشق .
فحزن جلال الدين وابتأس لا فتراقه عن هذا الصديق الروحيّ ، ونظم كثيراً من شعره الوجدانيّ في فترة الفراق تلك ، ولم ينقذه من شجونه إلا ابنه سلطان ولد ، الذي ذهب إلى دمشق وعاد بشمس الدين . وقد ذُكر أنّ تلاميذ الرومي هاجموا التبريزي من جديد فرحل للمرة الثانية ؛ وأنّ الرومي عمل من جديد لإعادته .
ولكنَّه الختفي نهائيّاً عام 645 هـ . قيل في تفسير هذا الاختفاء إنّ تلاميذ الرومي قد قتلوه . وقد تألم الرومي كثيراً لفقدا صديقه ، وهتف من أعماق قلبه قائلًا :
« من ذا الذي قال إنّ شمس الروح الخالدة قد ماتت ؟
 * ومن الذي تجرّأ على القول بأنّ شمس الأمل قد توّلت ؟
إنّ هذا ليس إلا عدوّاً »
 للشمس وقف تحت سقف * وعصب كلتا عينيه ثم صاح :
ها هي ذي الشمس تموت » .
ومهما يكن من أمر ، فقد كان لصداقة الرومي والتبريزي حصيلة شعرّية هائلة جادت بها عبقرّية الرومي . فقد نظم ديواناً كاملًا سمَّاه « ديوان شمس تبريز » ذكرى لصديقه وموّجهه الروحيّ شمس الدين التبريزيّ .
ولم يقف الشاعر عند حدّ نسبة هذا العمل الأدبيّ في إجماله إلى صديقه ، بل إنّه نسب أكثر غزليات هذا الديوان إلى صديقه بوضع اسمه في تخلص كل منها .
( والتخلص في الغزال الفارسيّ هو أن يذكر الشاعر اسمه الأدبيّ في البيت الأخير من الغزل ) . أما القليل من

 
“ 23 “
 
الغزليّات الذي خرج فيه عن ذلك فقد تخلّص فيه الشاعر باسم أدبي اتخذه لنفسه هو “ خاموش “ . ويُقال إنّ جلال الدين أنشأ طريقته الصوفيّة - التي عُرفت فيما بعد بالطريقة المولوّية - ذكرى لأستاذه شمس الدين .
وكما تأثَّر جلال الدين بأستاذه التبريزيّ ، تأثّر على النحو ذاته ببعض تلاميذه ومريديه . فقد أنست روحه إلى تلميذه صلاح الدين زركوب ( الصائغ ) .
وحينما توفي هذا في عام 657 هـ .
تحوّل حبّ جلال الدين إلى تلميذه حسن حسام الدين ( 622 - 683 هـ . ) الذي خلفه في رئاسة الطريقة المولوّية بعد وفاته .
وقد نُسب إلى حسام الدين هذا الفضلُ في حثّ أستاذه على نظم المثنوي . وقد كان له خير عون إبّان عمله الشاقّ ، فقد كان يكتب ما يمليه عليه الشاعر ، ثم يعود فيقرؤه عليه ، وأحياناً يشنده بصوته الجميل . وكلم قضيا من ليال طوال في هذا العمل الشاق الذي استغرق سنين طويلة . وقد ذكر جلال الدين تلميذه حسام الدين في المقدّمة العامة للمثنوي ، وأثنى عليه وعلى أسرته كما ذكره في أوائل أجزاء المثنوي جميعاً ما عدا الجزء الأول ، وامتدحه بأرفع العبارات .
 
لم تشتمل كتب التراجم - رغم وفرة ما كتبته عن جلال الدين - على حقائق أكثر من تلك التي ذكرتها .
والذي يمكن أن نذكره إلى جانب تلك الحقائق أنّ الشاعر عاش حياة قديس ، يعلّم ويرشد ، ويحضر مجالس السماع والطرب - وقد أحاط به عدد كبير من التلاميذ والمريدين - إلى أن توفي عند غروب الشمس في الخامس من جمادي الثانية عام 672 هـ .

ولقي بعد موته من التكريم ما لقي في حياته ، فقد بُني له ضريح أُقيمت فوقه قبّة عرفت بالقبة الخضراء ، أُضيف إليها بعد انتهائها مبان أُخرى ، وأُنفق على ذلك ألوف الدراهم . كما أوقفت على الضريح أوقاف للسدنة ولقراء المثنوي .

“ 24 “
 
ومن الطريف أنّ الرحالة ابن بطوطة مرّ بقونيه بعد وفاة الشاعر بنحو ستين عاماً وكتب عنه ما يلي :
“ وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا ، وكان كبير القدر ، وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويُعرفون بإسمه فيقال لهم الجلاليّة . . . وعلى تربته زاوية عظمية فيها الطعام للوارد .
يُذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرَّساً يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه ، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلوى وعلى رأسه طبق منها ، وهي مقطّعة يبيع القطعة منها بفلس ، فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ : “ هات طبقك . “ فأخذ الحلوانيّ قطعة منه وأعطاها للشيخ فأخذها الشيخ بيده وأكلها ، فخرج الحلوانيّ ، ولم يُطعم أحداً سوى الشيخ ، فخرج الشيخ في اتباعه وترك التدريس ، فأبطأ على الطلبة ، وطال انتظارهم إياه ، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقرّاً ، ثم إنّه عاد إليهم بعد أعوام ، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلّق ( المزدوج ) الذي لا يُفهم ، فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر ، وألّفوا منه كتاباً سمّوه المثنوي . وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه ، ويعلمّونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات “ “ 1 “ .
ورغم الطابع الخرافيّ لتلك القصّة فإنّها تؤيّد الحقائق من وجوه أهمها ما يلي :
أولًا : غموض قصّة الرومي مع التبريزي منذ وقت مبكّر .
.......................................................................
( 1 ) رحلة ابن بطوطة . ج 1 ، ص 187 ، طبعة المكتبة التجارية ، القاهرة سنة 1958 .

 
“ 25 “
 
ثانياً : انتقال الشاعر الفجائيّ من التدريس إلى الشعر وانطلاق قريحته بالشعر بصورة ملحوظة .
ثالثاً : تعظيم الشاعر بعد وفاته وإقامة زاوية كبيرة على ضريحه يُقّدم فيها الطعام للواردين .
رابعاً : اشتهار المثنوي وتعظيمه منذ وقت مبكر .
خامساً : إطلاق اسم الجلاليّة على أتباع الرومي في ذلك الوقت ، واشتهار الشاعر بلقب “ مولانا “ الذي اشتقّ منه فيما بعد اسم أتباع جلال الدين ، فأصبحوا يُعرفون بالمولوّية حتى زماننا هذا .
أما زمن الشاعر فيُعدّ عصراً من أقسى ما مرّ على البشرية من عصور .
لقد عاش الشاعر في القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) ، وهو القرن الذي شهد غارات المغول المدّمرة على العالم الإسلاميّ .
فقد انطلقت جحافلهم تدكّ معالم الحضارة وتبيد صروح المدنيّة بصورة لم يُعرف لها مثيل من قبل .
وتعكس لنا كتب التاريخ الشرقيّ والغربيّ على السواء أصداء هذه المأساة المروِّعة . ولا يكاد يختلف أسلوب ابن الأثير المؤرّخ العربيّ الذي عاصر تلك الحوادث عن أسلوب المؤرّخ الإنجليزي ماتيو باريسMatthewparis” 1 “ الذي كتب في ذات الوقت تقريباً ، ووصف غارات المغول بأسلوب يتفجّر منه الرعب .
والجدير بالذكر هنا أنّ الشاعر عاش قريباً من مسرح تلك الحوادث ،
..............................................................................
( 1 ) ماتيو باريس راهب إنجليزي له كتابات كثيرة سجل بها حوادث التاريخ الأوروبي بين عامي 1235 ، 1259 على طريقة الحوليات . وتعد كتاباته من أهم المصادر لدراسة تلك الحقبة من تاريخ أو روبا .
 
 
“ 26 “
 
ومع ذلك وجد في نفسه تلك الطاقة الهائلة على الإنتاج الأدبيّ ، وبقي رغم تلك الحوادث الوحشيّة مؤمناً بالإنسان ، وبأصله الإلهيّ ، ناظراً إلى البشرية كلها نظرة الحنان والعطف ، مسخِّراً كلّ ملكاته للنهوض بها من كبوتها ، وتخليصها من ذلك المصير الذي انتهت إليه .( - 2 - ) ما الآثار الأدبية التي تركها جلال الدين ؟
إن اثار هذا الشاعر تنقسم إلى قسمين ، قسم منثور ، وقسم منظوم .
أما القسم المنثور فعلى الرغم من أهميّته لدارسة الشاعر ، فإنّه لم يكن المجال الذي تجلّت فيه عبقريّته . ويتكوّن إنتاجه النثريّ من ثلاثة مؤلفات ، أوّلها يدعى المجالس السبعة ، وهو مواعظ وخطب من ذلك النوع المعروف .
والظاهر أنّها أُثرت عنه في فترة حياته الأولى قبل أن يعتنق التصوف فكراً وعملًا .
وثانيها مجموعة من الرسائل كتبها إلى أقاربه وأصدقائه .
وأما ثالثها فكتاب يدعى “ فيه ما فيه “ ، ويشتمل على أحاديث جلال الدين ومحاضراته التي كان يلقيها على تلاميذه ومريديه في تلك المجالس الخاصّة التي كانت تجمعهم . وبطبيعة الحال لم يكن جلال الدين هو الذي جمع نصوص هذا الكتاب ، وإنما هو من جمع أحد أبنائه أو مريديه .
الجانب الهام من إنتاج جلال الدين هو شعره . وهو الجانب الذي يعنينا

 
“ 27 “
 
في هذا البحث . وقد ذكرت من قبل أنّ هذا الإنتاج بلغ نحو سبعين ألف بيت . فإذا كانت هذه الكثرة مقرونة بالإجادة فمعنى هذا أنّ شاعرنا قد انطلقت شاعرّيته بفيض غامر من الشعر قلما أُتيح لشاعر آخر في أيِّ زمان أو بأية لغة . ومع ذلك فشاعرنا لم يبدأ نظم الشعر إلا حين شارف الثامنة والثلاثين من عمره ، وقد عاش حتى بلغ من العمر ثمانية وستين عاماً .
إنّ تراث جلال الدين الشعريّ ينقسم من حيث الشكل إلى ثلاثة أقسام هي الديوان الذي سُمّي بديوان شمس تبريز ، والرباعيّات والمثنوي .
فأما الديوان فيشتمل في أكثره على غزليات صوفيّة يبلغ عددها نحو 3500 غزلًا نظمت في بحور عديدة ، كما يضمُّ أيضاً ملمّعات تركيّة وعربيّة ويونانيّة ، وقصائد وترجيعات فارسيّة . ويبلغ عدد أبياته - في أقدم النسخ الخطيّة المعروفة نحو 43 ألف بيت ، وذلك حسب إحصاء قام به أستاذ إيرانيّ معاصر كرّس أكثر أبحاثه لدراسة الروميّ ، هو الأستاذ بديع الزمان فروزانفر “ 1 “ .
أما الرباعيّات فيُنسب إلى شاعرنا منها 1659 رباعيّاً عدد أبياتها 3318 ، حسب إحصاء فروزانفر “ 2 “ . وبعض هذه الرباعيّات قد يُشكّ في نسبته إلى الشاعر ، ولكنّ الكثير منها يمكن أن يُعدّ بحقّ من إنتاجه ، لما يتجلى فيه من مطابقته لتفكيره وأسلوبه .
.......................................................................
( 1 ) أنظر مقاله عن جلال الدين في مجلة الدراسات الأدبية “ السنة الأولى - العدد الرابع ، شتاء 1960 “ ص 62 . “ يصدرها قسم اللغة الفارسية وآدابها بالجامعة اللبنانية “ .
( 2 ) نفس المصدر .
 
 
“ 28 “
 
أما الأثر الثالث فهو المثنوي : وكلمة المثنوي تعني ذلك النظم الذي يُعرف بالمزدوج في العربيّة ، وهو يعتمد في التقفية على توحيد القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة . فكل بيت من الأبيات تكون له قافيته المستقلّة ، وبهذا تتحرّر المنظومة من القافية الموحّدة التي طالما عاقت شعراء العرب عن نظم المطوّلات .
فهذا التعدّد في القوافي هو الذي مكَّن شعراء الفرس من نظم الملاحم المطوّلة على الأوزان العربية ، والانطلاق بها إلى أبعد مدى أرادوه .
وقد سمّى جلال الدين كتابه هذا “ المثنوي “ .
وينقسم هذا الكتاب إلى ستة مجلدات تضم نحواً من خمسة وعشرين ألف بيت .
ولا تتصل تسمية الكتاب بموضوعه وإنما بشكل قوافيه ، فهي تسمية شكلية بحتة .
والإيرانيون يعظمون هذا الكتاب إلى أبعد الحدود .
وقد بالغوا في تعظيمه حتى سموّه “ قرآن بهلوي “ أي قرآن الفارسية .
يقول جلال الدين في مقدمته العربية :
“ هذا الكتاب المثنوي ؛ وهو أصول أصول أصول الدين ، في كشف أسرار الوصول واليقين ، وهو فقه اللَّه الأكبر ، وشرع اللَّه الأزهر ، وبرهان اللَّه الأظهر ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، يشرق إشراقاً أنور من الإصباح . . وهو جنان الجَنان ، “ ذو العيون والأغصان . . . .
الأبرار فيه يأكلون ويشربون ، والأحرار فيه يفرحون ويطربون ؛ وهو كنيل مصر شراب للصابرين ، وحسرة على آل فرعون والكافرين . “ “ 1 “ كتاب المثنوي هذا يعد أثراً من الآثار الأدبية الخالدة ، يرتفع فيه
...........................................................
( 1 ) أنظر المقدمة العربية للمثنوي .

 
“ 29 “
 
الشعر إلى مستوى عالمي فذّ . وإذا أردنا أن نحدِّد موضوعاً لهذه المنظومة المطوّلة ، وجدنا أنّ ذلك من الأمور العسيرة .
إنّ موضوعه الوجود كلّه بصفة عامة ، والإنسان والحياة بصفة خاصّة . وكلّ جزء من الأجزاء الستة لهذه المنظومة يشتمل على نيف وأربعة آلاف بيت .
والمثنوي كله مبنيّ حول مجموعة من القصص ، ولكنّ رواية القصص في هذه المنظومة لا تُقصد لذاتها ، وإنما هي لبيان مقاصد فلسفيّة ، أو لأهداف تعليميّة . فالشاعر يبدأ القصّة فلا يكاد يروي أولى وقائعها حتى يستطرد منها للتحدّث في حكمة هذه الواقعة ، فيذكر الآيات القرآنيّة .
ويفسّرها ، وقد يذكر الأحاديث ، ويظل يبني عليها الآراء والحكم .
ثم يعود بعد ذلك إلى القصّة ليستأنف روايتها ، ويظلّ يعالجها على هذا النحو حتى ينتهي منها . وإذا رجعنا إلى حديث الإحصاءات وجدنا أنّ مؤلِّفاً هنديِّاً يدعى تلمذ حسين يذكر في كتاب ألفه يُدعى “ مرآة المثنوي “ أنّ الرومي قد عالج في المثنوي 1281 موضوعا .
الكُتَّابُ من أبناء الشرق مولعون بأن ينسبوا إلى جلال الدين أنه عالج في ملحمته هذه جميع المعارف ، وتناول بالبحث كل العلوم .
ولست أُحبّ أن أمضي في تلك السبيل فأخلط بين ثقافة الشاعر التي تنعكس في إنتاجه الفنيّ ، وبين اعتباره صاحب علم يحميع المعارف ، يُقرأ لكي تُلتمس عنده هذه العلوم المختلفة . فالشاعر لو ذكر الكيمياء أو سواها فليس معنى هذا أنّه أراد أن يفيد دارس الكيمياء في هذا العلم ، وإنما هو يستخدم كل ثقافته التي وعاها في خدمة فنّه ، وإرساء أسس تعاليمه العرفانيّة . ولذلك فإني أميل إلى اعتبار المثنوي أثراً فنيّاً قبل كل شيء ، ومصدراً للاطلاع على القيم الإنسانيّة والخلقيّة التي انبثقت من الحضارة الإسلامية . والشاعر يستخدم القصص في إيضاح آرائه - كما ذكرنا - ويفسر الآيات القرآنيّة ، ويذكر الأحاديث النبوّية ، ويقتبس

 
“ 30 “
 
الحكمة منها ، ويتوسّع في بيان مدلولاتها . وهو في كل ذلك شاعر أصيل ، نلمس عنده الإحساس الصادق ، والعاطفة الجيَّاشة ، والعقل المعلّم ، والنفس الصافية التي تستطيع أن تبثّ الصفاء في نفوس الآخرين وتشيع فيها البهجة ، وتصحبها معها في رفق وأناة في دروب من التأمّل العميق ، وآفاق من الفكر الرفيع ، تعينها على تحقيق حياة أسمى ، والطموح إلى غايات أعلى من تلك الغايات المادّية التي يعنو لها البشر في هذه الحياة .
ولكنّ طريقة الشاعر في معالجة هذه الموضوعات قد خلت من الترتيب الدقيق ، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع ، ومن مقصد إلى مقصد ، دون منهج محدّد يتبعه في ذلك الإنتقال . ومع ذلك فقد عكف باحث ألماني يدعى جوستاف ريشترGustav Richterعلى المثنوي ، واستطاع أن يبين أنّ كلّ جزء من أجزائه يمثل وحدة فنية متكاملة ، وأنّ ما يبدو فيه من انطلاق على غير نظام موضوعيّ محدّد ليس هو الواقع ، وإنما هناك ارتباط فنيّ دقيق في التنقل من موضوع إلى آخر .
وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الأستاذ نيكولسون الذي عكف على ترجمة المثنويّ ودراسته خمسة وعشرين عاماً “ 1 “ .
ومهما يكن الأمر فإن هذا التنقل بين الموضوعات لا يعني أن الشاعر لا يعالج الموضوع الواحد بصورة فنيّة مترابطة . فنحن نستطيع أن نستخرج من المثنوي موضوعات كثيرة تناولها الشاعر تناولًا فنيّاً بارعاً ، واستطاع أن يقدمها لنا في هيكل فنيّ متكامل العناصر ، مترابط الأجزاء ، تجمعه وحدة فنيّة أكيدة .
.........................................................................
( 1 ) .Arberry : cIassical persian literature , p . 236
 
 
“ 31 “
 
( - 3 - ) الفنّ عند جلال الدين
ليس من المستطاع أن أحيط بفنّ هذا الشاعر العملاق في مثل هذا البحث . ولكن حسبي أن أذكر بعض الحقائق التي تعين الدارس على تذوّق هذا الفنّ ، والإلمام ببعض خصائصه . لقد امتاز شعر جلال الدين بميزات فنيّة عديدة أهمّها ما يلي :
أولًا : روعة الصور البيانيّة التي عبر بها الشاعر عن أفكاره.
 فهو يستطيع أن يُجسِّد الأفكار ، فيجعلنا نشعر بالمعنوّيات كأنها محسوسات نكاد نلمسها .
كما أنّه يستطيع في سهولة ويسر أن ينطلق من المحسوسات إلى المعنوّيات . وهو يمزج بين الطبيعة والحياة والنفس الإنسانيّة في صور متكاملة تجمع عمق التأمل إلى روعة التصوير . ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
يتحدّث الشاعر في بعض من أبيات المثنوي عن تجدّد الدنيا في كل لحظة ثم ينتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمّل نفسه وما يطرأ عليها من تغيّر مستمرّ .
يقول :
“ في كلّ لحظة يا رب قافلة وراءها قافلة تسير من العدم إلى الوجود .
 
 
“ 32 “
 
ففي الخريف تذهب آلاف الأغصان والأوراق منهزمة إلى بحار الموت .
بينما الغراب يرتدي السواد كالحزين وينوح على الخضرة في البستان .
وثانيةً يجيء الأمر من سيّد الأرض فيقول للعدم :
“ ردَّ ما أكلت ! أيها الموت الأسود ! ردّ ما أكلت من زروع وأعشاب وورق وحشائش . “ فيا أخي ! اجعل عقلك معك لحظة واحدة ! إنّ بك في كل لحظة خريفاً وربيعاً ! وانظر بستان قلبك أخضر ريّان نضراً ، حافلًا ببراعم الورد والسرو والياسمين . “ “ 1 “ فلنتأمل هنا كيف بدأ الشاعر من فكرة عامة هي تغّير الدنيا في كل لحظة ، وضرب لذلك مثلًا بالربيع والخريف ، ثم صورهما بصور بيانيّة جميلة ، وانتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمل نفسه ، والنظر إلى ما يطرأ عليها من ازدهار يشبه الربيع أو انكهاش يشبه الخريف .
وفي صورة أخرى يصورّ الإنسان وما يتعرض له من مغريات الحياة فيقول :
“ ربّاه ! إنّ أمامنا مائة ألف من الشباك والحبّ ، ونحن كالطيور الحريصة الجياع ! ففي كل لحظة نقع في شرَك جديد ، حتى ولو كان كل منا بازاً أو عنقاء !
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1889 ، 1892 - 1897 .
 
 
“ 33 “
 
وأنت - يا من لا حاجة بك الينا - تخلّصنا في كل لحظة ، ولكننا نعود فنقع في حبائل أخرى ! فنحن نضع القمح في هذا المخزن ، بيد أننا لا نكاد نجمع القمح حتى نفقده “ 1 “ .
وليس ينتهي بنا التفكير آخر الأمر أن هذا الخلل الذي يقع بالقمح جاء من مكر الفأر .
فمنذ أن صنع الفأر جُحراً في مخزننا ، خرّب بخداعه هذا المخزن .
فاعملي أيتها النفس أولًا على دفع شرّ الفأر ، ثم اجتهدي في جمع القمح ! فلو لم يكن في مخزننا فأرٌ سارق فأين محصول أعمالنا طيلة أربعين عاماً . “ “ 2 “ .
فالقمح في هذه الصورة يرمز إلى ما يحصّله الإنسان من أعمال صالحة ، وأما الفأر فيرمز إلى الشيطان الذي يجد سبيله إلى تلك الأعمال فينتقص منها .
وتتجلى مقدرة الشاعر على التصوير البياني فيما يسوقه من الصور المتلاحقة لبيان موقف من المواقف أو حال من الأحوال . يقول مثلًا عن القياس الفاسد وكيف أنه يجعل الناس يقيسون الأمور على ظاهرها لا على جوهرها وحقيقتها :
“ فقد ادّعى ( هؤلاء ) أنَّهم مساوون للأنبياء ، وظنوا أنفسهم
..............................................
( 1 )  القمع هنا رمز للأعمال الصالحة . والشاعر يقول هنا إنه يجمع الأعمال الصالحة ولكن هذه الأعمال تذهب بها السيئات .
 ( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 374 - 380 ، 382 .
 
 
“ 34 “
 
مثل الأولياء وقالوا : أنظروا ! إننا بشرٌ وهم بسر . ونحن وإياهم أسارى للنوم والطعام ! ومن عماهم لم يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ، ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
ومن القصب نوعان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال والآخر ( حافل ) بالسكرّ .
فتأمل مائة ألف من أمثال هذه الأشباه ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولد منه القذارة ، وذاك يأكل فيصبح كله نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذاك يأكل فيفيض منه عشق الأحد .
وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة ، وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
فلو تشابهت الصورتان فهذا جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركة ، فهو الذي يميّز الماء العذب من الماء الملح . “ “ 1 “ والشاعر يتحدث عن الجسم والروح ، ويقارن بين إحساس الجسم وإحساس الروح فيقول :
“ إنّ حسّ الدنيا سُلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 265 - 268 ، 270 - 276 .
 
 
“ 35 “
 
سلّم السماء ! فاطلبْ صحة حسّ الدنيا من الطبيب ، والتمسْ صحة حسّ الدين عند الحبيب .
وصحة حس الدنيا تجيء من سلامة البدن . وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
فطريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
فهو كمن خرَّب داراً من أجل كنز الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته .
أو كمن قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، تم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
أو كمن هدم القلعة وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ . “ “ 1 “ وهكذا ترى الشاعر لا يكاد يذكر فكرة من الأفكار حتى يؤيدها بعشرات الصور التي تتلاحق في روعة وجمال ، فتزيد الفكرة وضوحاً ، وتؤيّدها وتقوّيها .
 
ثانياً : موسيقي الشعر :
كان جلال الدين يجيد العزف على بعض الآلات الموسيقيّة ، وهو الذي توّسع بإدخال الموسيقي في مجالس الصوفية . وقد اقترن الشعر عنده بالموسيقى ، فكثيراً ما نظمه في مجلس السماع ، وكثيراً ما سمعه مقترناً بالإنشاد والأنغام .
وقد تجلى أثر هذا الإحساس الموسيقي في شعره .
فقد استطاع أن ينظم غزليات الديوان على أوزان عديدة بلغت خمسة وخمسين وزناً “ 2 “ ، بعضها كان من الأوزان المهجورة .
........................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 303 - 308 ، 310 .
( 2 ) أنظر ما قاله فروزانفر في عبارة اقتبسها منه علي دشتي في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ ، ص 16 ، 17
 
 
“ 36 “
 
ومثل هذا التوسع في الأوزان ، والتنوع في الأنغام ، لا يُرى له مثيل عند غيره من الشعراء لا في الفارسية ولا في غيرها من لغات الأمم الإسلامية .
وقد استطاع أن يجعل الأوزان المهجورة - بمقدرته الفنية - جميلة الوقع سائغة الأنغام . كما استطاع أن يوّفر الموسيقى لشعرة بوسائل عديدة ، وأحياناً كان يختتم الأبيات بمقاطع صوتيّة لا معنى لها ولكنها ذات تأثير موسيقي ، ووقع جميل في السمع “ 1 “ . 
وقد شهدنا في العصر الحديث من حاول اصطناع ذلك في الشعر العربي كوسيلة للتجديد في موسيقاه .
ثالثاً : للشاعر مقدرة عجيبة على أن يتناول الموضوع المطروق فيجعل منه موضوعاً جديداً وكأنه يعرضه على القارئ لأول مرة . لقد كان ينظم القصة المعروفة فيدخلها بفنّه ضمن نطاق إبداعه ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
إن المثنوي يشتمل على بضع مئات من القصص .
وقد استطاع الباحثون من أمثال نيكولسون وفروزانفر أن يردّوا هذه القصص في - في أغلب الأحوال - إلى أصول قديمة “ 2 “ .
ولكننا إذا نظرنا إلى تلك الحكايات - كما وردت في مصادرها الأصلية - ثم نظرنا إليها عند الرومي ، وجدنا أنها قد تحوّلت تحولًا كاملًا ، وتغيرت معالمها ، وأصبحت حافلة بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلف القصّة .
ولنبيّن هذا يمكننا أن نذكر على سبيل المثال قصة صغيرة من القصص
.............................................................................
( 1 ) أنظر أيضاً الفصل القيم الذي كتبه علي دشتى عن “ موسيقى ديوان شمس “ في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ . طهران ، 1336 .
( 2 ) استطاع فروزانفر أن يرد 264 قصة من بين 275 وردت في المثنوي إلى أصول سابقة على الرومي في كتابه : “ مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي “ ، طهران ، 1954 .

 
“ 37 “
 
المعروفة تناولها الرومي بطريقته فخلق منها عملًا فنياً ضخماً . تلك هي قصة “ الأرنب التي صرعت الأسد “ . وقد وردت هذه القصة في كليلة ودمنة “ 1 “ واستغرقت روايتها بضعة أسطر ، وخلاصتها أن أسداً كان يعيش بالقرب من أحد المروج ذات الماء والعشب الكثير ، وأن ذلك المرج كان مرتعاً لكثير من الوحوش ، تعيش فيه مستمتعة بمائه وعشبه ، ولكن الأسد كان يفسد عليها عيشها بمهاجمتها لاقتناص غذائه .
وقد رأت هذه الوحوش أن تخلص من شرِّ الأسد بأن تقدم له كل يوم دابة يأكلها ، على أن يسكن الأسد عن مهاجمتها .
وكانت هذه الدابّة التي تُرسل إلى الأسد تُختار بطريق الإقتراع . وذات يوم وقعت القرعة على أرنب ليذهب إلى الأسد ، فلم يرد الذهاب ، وأخذ يعمل الحيلة للقضاء على الأسد ، فتأخر عن الموعد الذي اعتاد الأسد أن يتلقى فيه فريسته ، ثم ذهب إلى الأسد بعد ذلك ، وأخبره بأنه تأخر لأن أسداً آخر اعترض طريقه ، وأخذ منه غذاء الملك ، وكان أرنباً آخر سميناً أرسله إليه الوحوش ، ودعا الأسد إلى أن يطهِّر الطريق من ذلك الأسد الدخيل حتى يصله طعامه دون تأخر
 . فطلب الأسد من الأرنب أن يدّله على مكان ذلك العدوّ ، فأخذه الأرنب إلى بئر تَطلّع فيها فرأى خياله فظنه عدوَّه ، فوثب إليه ليقاتلة فغرق في البئر وخلصت الوحوش من شرّه .
لقد أخذ الرومي هذه القصة القصيرة ، فجعلها محوراً لألوان رائعة من الحوار ، وهيكلًا أدار حوله مناقشات ممتعة عن السعي والتوكل ، والقضاء والقدر ، وغير ذلك من المسائل .
ويمكننا أن نذكر الآن - على سبيل المثال - بعض جوانب هذه القصة كما صوّرها الرومي .
ولنبدأ بذكر الحوار الذي دار بين الوحوش وبين الأسد حين ذهبت إليه تطلب منه الأمان لقاء الحصول على رزق يومي يُرسل إليه .
…………………………………….
( 1 ) كليلة ودمنة “ ، ص 116 ، 117 ، المطبعة الأميرية ، القاهرة ، 1931 .
 
“ 38 “
 
“ قالت جملة الوحوش : أيها الحكيم العالم ! دع الحذر فليس يُغني عن قدر “ 1 “ .
إنّ في الحذر الحيرة البالغة والشرّ ، فاذهب وتوكل على اللَّه ، فالتوكل خير . ولا تضربْ بقبضتك القضاء أيها العنيف الحادّ ، حتى لا يلتحم القضاء في صراع معك .
فالمرء يجب أن يكون ميتاً أمام الحق ، وإلاجاءتة الضربة من ربّ الفلق .
فقال الأسد : “ إذا كان التوكل هو المرشد الصادق ، فإنّ الإفادة من الأسباب سنّة النبيّ .
فقد نادى الرسول بأعلى صوته أن اعقل بعيرك وتوكل على اللَّه . “ 2 “ واستمع إلى مغزى قول القائل ( الكاسب حبيب اللَّه ) ، ولا تكن بتوكلك متراخياً عن الأسباب والوسائل .
 “ فقالت الوحوش : “ اعلم أن الكسب من ضعف الخلق ، وأنّه لقمة ، مزوِّرة على قدر الخلق.
فليس هناك كسب أحسن من التوكل ، وأيّ شيء أحبّ إلى اللَّه من التسليم .
فكم يفرّ المرء من بلاء ليقع في بلاء آخر ، وكم يهرب المرء من الثعبان ليلقى التنيّن ! لقد احتال الإنسان فكانت حيلته شركاً وقع هو فيه ، وكان موته فيما حسب أنه حياته ! فقد أوصد الباب والعدوُّ في منزله ، وإنّ حيلة فرعون لم تكن إلا قصّة من هذا النوع .
....................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 908 وما يليه .
( 2 ) إشارة إلى قول الرسول عليه السلام . “ اعقلها وتوكل “ .
 
“ 39 “
 
فهذا الحقود قد قتل ألوف الأطفال ، بينما كان الطفل الذي يبحث عنه في منزله ! إنَّ بصرنا يعاني الكثير من العلل ، فاذهب وأَفْن بصرك في بصر الحبيب .
. . . . . . .
فأرواح البشر كانت - قبل أن تُخلق الأيدي والأرجل - تحلّق بوفائها في جوّ الصفاء .
وعندما قُيِّدت الأرواح بأمره تعالى : “ اهبطوا “، صارت أسيرة الغضب والحرص والرضى.
إنّا عيال اللَّه نطلب منه اللبن . وقد قال الرسول : “ الخلق عيال اللَّه . “ فذلك الإله الذي ينزل الغيث من السماء قادر على أن يمنحنا الخبز رحمةً منه وإشقاقاً .
 “ فقال الأسد : “ نعم ! ولكنَّ رب العباد وضع سلّماً أمام أقدامنا ، فالواجب أن نصعد هذا السلم درجة نحو القمة ، وأما القول بالجبر فإنه طمع ساذج .
إنِّ لك ساقين فكيف تجعل من نفسك إنساناً أعرج ؟
وإن لك يدين فكيف تُخفي أصابعك ؟
فالسيد عندما يضع الفأس في يد عبده ، يتّضح مراده دون حاجة إلى القول .
. . . . . . . .
 
 
“ 40 “
 
فإذا توكلت على اللَّه فتوكل عليه في عملك . ألْق البذور ثم توكل على الخالق الجبار . “ فارتفع صوت الوحوش جميعاً قائلين : “ ما لهؤلاء الحريصين الذين زرعوا الأسباب - وهم ألوف مؤلفّة من الرجال والنساء - ظلوا محرومين من مواتاة الزمن ؟ .
فقد مرت آلاف القرون منذ بدء العالم ، وكان كل منها يفغر مائة فم كفم التنّين .
. . . . . . . . .
فلم يحقق لهم ذلك الصيد والعمل إلا ما قُسم لهم منذ الأزل ! لقد فشلوا جميعاً في التدبير والعمل ، وبقي قضاء اللَّه وأحكامه .
 “ فقال الأسد : “ نعم ، ولكنْ انظروا إلى الجهود التي بذلها الأنبياء والمؤمنون ! لقد بارك اللَّه جهودهم وما لا قوه فيها من حرّ وبرد .
فجاءت تدابيرهم في جملة الأحوال لطيفة ، وكل ما جاء من لطيف فهو لطيف .
فاجتهد أيها السيدّ ما استطعت في اتّباع طريق الأنبياء والأولياء .
 “ وهكذا يمضي هذا الحوار بين الأسد والوحوش ويمضي كلُ من المتناظرين في تأييد رأيه بالأمثال والحكايات إلى أن ترجح كفة السعي والجهد على التوكل والتراخي .
رابعاً : كانت لجلال الدين مقدرة فائفة في فنّ الحوار .
فهو لا يكاد

 
“ 41 “
 
يطرق موضوعاً من الموضوعاً حتى يعالجه في حوار يبيِّن به وجهات النظر المختلفة ، وينتهي منه إلى الرأي الذي يريد بيانه . وقد بلغت مقدرته في الحوار مستوى رائعاً . وإني أعتقد أنّ الكثير من محاوراته في المثنوي يرقى إلى مستويات الأدب التمثيلي . والحوار الذي ذكرته الآن يقدم لنا مثالًا للحوار الفلسفيّ الذي حفل به المثنوي . وهناك ألوان من الحوار ذات طابع واقعيّ ، نجد الشاعر فيها يُجري الحوار على مستوى المتناظرين ، فيكتب على لسانهم ما يلائم عقولهم ، وبهذا يقترب الحوار - إلى حد بعيد - من الواقعية التي تزيده قوة وتأثيراً .
ويمكننا أن نقتبس بعض الأبيات من حوار جرى في إحدى المشاجرات بين رجل فقير وزوجته الجاهلة ، تلوم المرأة زوجها على فقره فيقول لها :
“ إن الزوجين يجب أن يكون كل منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من الأحذية أو النعال ! فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعليْن عندك .
وهل بين مصراعي الباب واحد صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
وليس يستقيم على ظهر البعير زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملة الإتسّاع .
إنني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فما لك أنت تسيرين نحو الشناعة ؟ “ “ 1 “ فنحن نرى في هذا الحديث كيف أن الشاعر قد جعله على المستوى
...................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 2309 - 2313 .
 
“ 42 “
 
الذي ينبغي أن يكون عليه حين يُوَجَّه إلى امرأة جاهلة .
خامساً : الشاعر قد استطاع - في كثير من الأحيان - أن يجعل من الأمور البسيطة التي تمر تحت أعيننا موضوعاً للشعر . فشعره يتناول الحياة بكلّ جوانبها ، وعبقريته الفنية تستطيع أن ترفع بعض الموضوعات من مستواها التافه إلى مستويات فنية تجعلها جديرة بأن تقرأ ، وتثير التأمل في النفس . وليس هذا بغريب على مثل هذا الفنان الأصيل . كما أنّنا لسنا بحاجة إلى أن نبرّر مثل هذا التصرّف من الناحية الفنيّة ، فالمصوّر مثلًا كثيراً ما يتخذ من الأمور التافهة موضوعاً للوحاته ، فيرتفع بها إلى مستوى الفنّ ، ويفرض على الأعين الحسّاسة تأمُّلها ، وعلى العقول تلقيها والتأثر بها . ومن أمثلة ذلك ما كتبه الشاعر عن البقول وهي تُطهى في القدر ، يصوّرها جلال الدين متوثبة من ألم النار ، تخاطب المرأة التي تقوم بالطهي ، معاتبة لها ، فتنهرها المرأة قائلة :
“ إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك ، ولكن لأنِّي أُريد أن أجعلك سائغة الطعم “ 1 “ .
فتصبحين بذلك غذاء يختلط بروح الحياة . فمثل هذا العذاب لا يهبط بك .
. . . . . . . . .
لقد فُصلت عن بستان الأرض ، وستصبحين بذلك طعاماً يدخل جسم الحيّ .
فيغدو غذاء وحيوية وفكراً . لقد كنت عصارة نباتيّة ، والآن
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 3 ، 4159 . . .
 
“ 43 “
 
تصبحين من أُسد الغاب .
. . . . . . . .
لقد كنت جزءاً من السحاب والشمس والكواكب ، والآن تصبحين نَفَساً وحركة وحديثاً وفكراً ! “ .
فهنا نرى كيف اتخذ الشاعر من مثل هذا العمل المعتاد ، طهي بعض البقول ، موضوعاً ينطلق منه بصورة رمزية إلى تلك المعاني .
وكثيرةُ هي الأمور البسيطة التي استخدمها الشاعر على هذا النحو فرفعها من مكانها المتواضع في الحياة إلى مقام الفكر المتأمِّل
سادساً : تكثر في المثنوي الحكم والأمثال التي يصوغها الشاعر من وحي تعاليمه الأخلاقية ، أو فلسفته الصوفية ، فتزيد شعره قوّةً في التأثير ، فالحكمة في موضعها تزيد المعنى قوّةً ووضوحاً ، وتجعل الشعر قادراً على النفاذ إلى النفس والتأثير فيها
 . ومثل هذا كان ضرورياً بالنسبة لشعره التعليميّ الهادف .
ولا أريد أن أذكر هنا شيئاً من أمثال الشاعر أو حكمه ، لأنّ القليل في هذا المجال لا يدل على الكثير ، والذي يُقال في موضوع لا يمكن أن يدلّ على ما يقال من حكم في شتّى الموضوعات ، ومختلف المناسبات .
سابعاً : نجح الشاعر إلى أبعد الحدود في استخدام السخرية والتهكم لتحقيق أهدافه الفنيّة أو التعليمية .
وقد استطاع أن يرسم بالشعر لوحات تشبه لوحات “ الكاريكاتير “ : وفي الأبيات التالية يمكننا أن نرى كيف سخر من قصار النظر :
“ كانت ذبابة على عود قش فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها

“ 44 “

كربّان السفينة ! وقالت : “ إنّي أسمّيهما بحراً وسفينة ، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن ! فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا فوقهما الربَّان البارع الحصيف الرأي ! “ فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يُحدّ .

لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها . “ “ 1 “ ثامناً : الشاعر متنوّع الأساليب ، وقد هدته سليقته إلى نظم الشعر بصور وأساليب متبانية تتلاءم مع عديدٍ من المذاهب الفنيّة التي ظهرت خلال القرون . فعنده الشعر الذي يمكن أن يُعد واقعيّاً ، وعنده الشعر العاطفيّ المثاليّ ، وعند الشعر الرمزيّ ، بل عنده شعر اللاوعي .

ومن الجدير بالذكر هنا أن الصوفيّة هم أول من قال بأدب اللاوعي :

فقد أثر عن الكثيرين منهم نظم الشعر في حالات الوجد الصوفيّ ، حالات الفناء عن الذات ، التي كانوا يخرجون فيها عن العقل الواعي . ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن الصوفيّة - بقولهم بالوحي والكشف - قد فتحوا السبيل أمام ألوان جديدة من التفكير في طبيعة الأدب والفن ، بعد أن ظلت فكرة المحاكاة التي قال بها أرسطو مسيطرة على مفاهيم النقد الأدبيّ قروناً عديدة . وقد سبقوا بذلك فرانسيس بيكون الذي صنّف

………………………………………………..

( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1082 - 1087 .

“ 45 “

المعرفة البشريّة على أساس ملكات إنسانيّة ثلاث هي العقل والذاكرة والخيال ، وجال الخيال مصدر الشعر فكان ذلك خروجاً على مذهب المحاكاة الأرسطيّ .
وقد يكون من الطريف أن نذكر هنا مثالًا لشعر الوجد الصوفيّ عند جلال الدين ، وهو الذي يمكن أن يُعدّ من شعر اللاوعي . قال في ديوان شمس تبريز :
“ هذه الدار التي لا تفتر فيها الألحان ، سل ربّها أيّ دار هذه ؟
إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه ؟
وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي ؟
في هذه الدار كنز يضيق به العالم ، وإنما هذه الدار وهذا السيّد ( رب الدار ) فعل وذريعة .
لا تَضع على الدار يداً فما هي إلا طلسم ، ولا تُكلّم السيد فقد أفنى الليل سُكراً .
تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر . كل سطحها وبابها شعر وألحان . فمن وجد سبيلًا فيها فهو سلطان الأرض وسليمان الزمان .
أيها السيد ! أطلَّ علينا من الشرفة ، فإن في خدك الجميل أمارة من الإقبال .
أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك ، ولو كان ملك العالم ، خيال وخرافة .
تحيّر البستان أي ورق وأي زهر ! وولهت الطير أي شبك وأي حَبّ !


“ 46 “

هذا سيّد الفلك كالزُهرة والقمر ، وهذي دار العشق لا حدّ لها ولا نهاية . “ “ 1 “( - 4 - ) موضوعات الرومي
إذا أردنا أن نقسم شعر جلال الدين على أساس مضمونه ، وجدنا أنه ينقسم إلى قسمين متميزين ، الأول منهما شعر وجدانيّ فلسفيّ يتناول معاني الصوفيّة ، من حديث عن المحبّة الإلهية ، والوجد ، والنفس الإنسانية ، وأصلها الإلهيّ ، وحنينما إلى ذلك الأصل الذي انفصلت عنه ، ولمحات عن وحدة الوجود لا كمسألة فلسفيّة ولكن كموضوع ذوقي ( فهو في هذه الناحية يختلف اختلافاً كبيراً عن يحي الدين بن عربي ) .

والشاعر في هذا اللون الوجدانيّ محلّق دائماً في آفاق العالم الروحي ، لا يكاد يمس الحياة المادّية إلا ليبيّن تفاهتها واتضاعها إذا قيست بحياة الروح ، وما تنطوي عليه من المباهج ، وما تُضمره للانسان من سعادة أبديّة قوامها الكمال والخلود .

أما القسم الثاني من شعره فشعرُ إنسانيّ أخلاقيّ ، تناول في جانب كبير منه الإنسان ، وبيّن أهميّته في هذا الكون ، ورسم المثل العليا للحياة الإنسانية في هذا العالم . وهو في هذا اللون من الشعر معلم أكثر منه فيلسوف ، يترك الرمز في كثير من الأحوال ، ويستخدم القصص والأمثال لبيان الآراء التي يدعو إليها .
وفلسفته الخلقيّة قائمة على دعوة الإنسان لتحقيق الكمال في هذه الحياة ، وهي ترسم للإنسانية الوسائل
...............................................................
( 1 ) ترجمة هذه القطعة لعبد الوهاب عزام . أنظر فصول من المثنوي ، ص 26 ، القاهرة ، 1946 .

“ 47 “

العمليّة التي يراها الشاعر مؤدّية إلى ذلك .
وشعر الديوان يكاد يكون من ذلك النوع الوجدانيّ الفلسفيّ ، أما المثنوي فتختلط فيه الفلسفة والحكمة بالشعر الخلقيّ التعلميّ على ذلك النحو الذي ذكرناه .

وبطبيعة الحال اختلف أسلوب الشاعر في شعره الوجدانيّ عنه في شعره التعليميّ . فهو في شعره الوجدانيّ يبدو جياش العاطفة ، عنيف الإحساس . يعبّر عن مغامراته الروحية بقوّة وحرارة .

ونحن نراه في هذا اللون من الشعر يعرض علينا فلسفة الصوفية بطريقة تبدو جديدة كل الجدة ، مختلفة كل الاختلاف عن كل ما عُرف من شعر صوفيّ إسلامي ، سواء منه ما كان بالعربية أو الفارسية أو التركية . لقد تناول في كثير من غزلياته موضوعات التصوف تناولًا مباشراً ، وعالجها بأصالة فنيّة جعلت شعره يختلف اختلافاً بعيداً عما كتبه غيره من شعراء الصوفيّة .
وبينما نجد شاعراً كابن الفارض يُغرض معانيه في سيل لا ينقطع من المحسنات الفظيّة ، نجد شاعرنا متحرراً في أسلوبه من تلك المحسنات ، منطلقاً بعباراته إلى آفاق لا تُحدّ ، لا تكاد عباراته تحمل من شحنات معانيه إلا القدر الضروري الذي يثير الخيال ويستحثّه إلى ملاحقة الشاعر في آفاقه العالية .
لننظر مثلًا إلى قوله عن المحبة الإلهية :
“ إنّ الروح التي ليس شعارها الحبّ الحقيقيّ من الخير ألا توجد ، فليس وجودها سوى عار ! كن ثملًا بالحب ، فإن الوجود كلّه محبة .
وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب .
يقولون ما الحبّ ؟ قل هو ترك الإرادة !


“ 48 “

ومن لم يتخلّص من إرادته فلا إرادة له .
إنّ المحبّ ملك والعالمين نثارُ عند قدميه ! والملك لا يلتفت قط إلى ما هو مُلقى عند قدميه .
إن المحبة والمحبّ باقيان إلى الأبد ، فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل .
إلى متى تعانق هذا المحبوب الميّت “ 1 “ ؟
عانق الروح وإن كانت لا حدود لها .
فالأزهار التي تتولد في الربيع تموت في الخريف .
وبستان المحبة لا مدد له من الربيع .
وتلك الورود التي يجيء بها الربيع مقترنةُ بالأشواك كما أن خمر العصير لا تخلو من خُمار .
فلا ترتعد فوق حصان الجسد ، وسر مسرعاً على قدميك ! فإنّ اللَّه يهب جناحين لمن تخلّى عن حصان الجسد . “ فهو في هذا الغزل يتحدث عن المحبة الإلهية على أنها جوهر الوجود ، وأن كلّ ما سواها عرض زائل ، ويشبّه الجسد بحصان جامح ركبت متنه الروح ، ويدعو الإنسان للسيطرة على هذا الجسد والقضاء على رغائبه الجامحة ، لتستطيع الروح الانطلاق غير مكبلة بنزعاته وأهوائه .

وهو يخاطب قلبه المتعلق بالهيكل الجسمي ، الخاضع لأهوائه ، ويلومه على هذا التعلق في إحدى غزلياته فيقول :
...............................................................
( 1 ) المحبوب الميت هنا يرمز للدنيا الفانية ، والعناق رمز التمسك بها .


“ 49 “

“ أيها القلب ! لماذا أنت أسيرُ لهذا الهيكل الترابيّ الزائل ؟
ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة ، فإنك طائر من عالم الروح .
إنك رفيق خلوة الدلال ، والمقيم وراء ستر الأسرار فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني ؟
انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج المعاني إنك طائر العالم القدسيّ ، نديم المجلس الأنسيّ فمن الحيف أن تظلّ باقياً بهذا المقام . “ ومقصود الشاعر بهذا الكلام دعوة قلبه إلى أن يتفكر ويتأمل ، وينطلق محلِّقاً في عالم المعاني ، ولا يبقى مجرد عضو محصور في هذا الجسد وطبيعته ، المادية المحدودة .
وفي الغزل الصوفيّ يناجي الشاعر محبوبه :
“ أيها الحبيب ! إني لم أر طرباً في الكونين بدونك .
لقد رأيت كثيراً من العجائب ، ولكني لم أر عجباً مثلك ! يقولون إنّ الاحتراق بالنار نصيب الكافر .
ولم أر محروماً من نارك سوى أبي لهب .
ولم وضعتُ أذن الروح على نافذة القلب فسمعت كلاماً كثيراً ولكني لم أر شفتين . “ كما يناجيه في غزل آخر بقوله : “ يا من أنت في ساعة الألم راحةُ لنفسي ! ويا من أنت في مرارة الفقر كنزُ لروحي !


“ 50 “

إن ما لا يحمله الوهم ولا يبصره الفهم يصل إلى روحي منك لأنك قبلتي .

ففي ركعات الصلاة يكون خيالك أيها الملك واجباً ولازماً لي لزوم السبع المثاني “ .
ويصوّر سعيه إلى المحبوب في غزل على طريقة السؤال والجواب ، وهي طريقة فارسيّة في النظم ، قوامها الحوار الذي يُستخدم لعرض الفكرة المقصودة .
“ قال : من بالباب ؟ قلت : عبدك الوضيع .
قال فأيّ شأن لك ؟ قلت : أقرئُك السلام أيها العظيم .
قال فإلى متى تلاحقني ؟ قلت ؟ حتى تدعوني ! قال : فإلى متى تجيش ؟ قلت : حتى القيامة ! لقد أقمتُ دعوى الحبّ وأقسمت على ذلك ، أني قد أضعتُ في سبيله الملك والشهامة ! قال : إنّ القاضي يريد شاهداً على الدعوى .
قلت : إنّ شاهدي دمعي ودليلي شحوب وجهي !
قال : إنّ الشاهد مُجرّح ، فعيناك مذنبتان .
قلت : بجلال عدلك إنهما من العدول ولا غرامة عليهما ! قال : فعلى أيّ شيء عزمت ؟ قلت على الوفاء والمحبة . قال : فماذا تريد مني ؟ قلت : لطفك الشامل .

قال : فمن كان رفيقك ؟ قلت خيالك أيها الملك ! قال : فماذا دعاك إلى هنا ؟ قلت : أريجُ كأسك ! قال : فأيّ مكان أفضل ؟ قلت : قصر قيصر .

 
“ 51 “

قال : فماذا رأيت هناك ؟ قلت : مائة كرامة ! قال : فلماذا هو خال ؟ قلت خوف قاطع الطريق .
قال : فمن قاطع الطريق ؟ قلت : إنّه الملامة .
قال : فأين الأمان ؟ قلت : إنّه في الزهد والتقوى .
قال : فما الزهد ؟ قلت : إنّه طريق السلامة “ .
وفي إحدى غزليَّاته يتحدث عن الاتحاد مع المحبوب ، ويصوّر لنا تلك الأفكار التي قالها غيره من الصوفيّة ، ولكن بصورة شاعرّية رائعة تحرك القلب ، وتجعلنا نرى ذلك المعنى من أبعاد أخرى ، وكأننا نسمعه من الشاعر لأول مرة . قال :

“ ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت ! نبدو نقشين وصورتين ولكنّنا روح واحدة أنا وأنت ! إنّ لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة ، في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت ! وتُقبل نجوم الفلك رانيةً إلينا بأبصارها فنجلو القمر نفسه لتلك الأفلاك أنا وأنت ! أنا وأنت ، وبدون أنا وأنت ، نبلغ بالذوق غاية الاتحاد .
فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلي أنا وأنت ! وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ، ذات الألوان الباهرة .
حينما تشاهدنا نضحك جذليْن على تلك الصورة أنا وأنت ! “ وقد حفل المثنوي أيضاً بقطع عالجت موضوع الإنسان ، وأصله الإلهي ، وكيف أن نفسه في حنين دائم إلى ذلك الأصل الذي جاءت منه ، وأنها تعاني في ذلك العالم الماديّ الذي احتبست فيه . والمثنوي
 

“ 52 “


يبدأ بالحديث عن الناى ، ويصف نغماته بأنها حنين إلى منبته الذي قُطع منه ، قبل أن تتناوله يد البشر فتشكّل منه تلك الآلة الموسيقية .
وما الناي هنا إلا رمز للنفس البشرية ، وما منبت الغاب إلا رمز لأصل تلك النفس ، وعالمها الأول ، وما حنين الناي إلا رمز لحنين تلك النفس البشرية إلى أصلها .
يقول الشاعر :
“ استمع للناي كيف يقصّ حكايته ، فهو يشكو آلام الفراق ( قائلًا ) :
إنني منذ قُطعت من منبت الغاب ، والناس جميعاً يبكون لبكائي ! إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق ، حتى أشرح له ألم الإشتياق .
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله ، يظلّ يبحث عن زمان وصله .
لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع وناد ، وصرت قريناً للبائسين والسعداء .
وقد ظنّ كلّ إنسان أنه قد أصبح لي رفيقاً ، ولكنّ أحداً لم ينقّب عما كمن في باطني من الأسرار ! وليس سرّي ببعيد عن نواحي ، ولكن أنّى لعين ذلك النور ، أو لأذن ذلك السمع الذي به تُدرك الأسرار “ 1 “ “ .
ويصوِّر فكرة الوحي أو الكشف والإلهام ، وهي السبيل الوحيد للمعرفة اليقينية عند الصوفية ، فيقول :

“ فخذ نوره من آدم إن شئت أو منه إن أردت ، وخذ الخمر من
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ح 1 ، 1 - 7

 
“ 53 “

الإبريق إن شئت ، أو من الكأس إن أردت ! فإن هذه الكأس وثيقة القربى بالإبريق .
فيا أيتها الكأس المباركة ، ليس هناك من هو سعيد مثلك ! ولقد قال المصطفى : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن رأى من رآني .
فحين يقتبس السراجُ نور الشمعة ، فكل من رآه رأى الشمعة يقيناً ! فلو انتقل النور على هذا النحو خلال مائة سراج ، فرؤية آخر سراج ملاقاةُ للأصل “ 1 “ “ .
كما يصوّر فناء الروح الإنساني في الخالق بأسلوب تعليميّ فيقول :
فالسيل حين وصل إلى البحر صار بحراً ، والحبة حين وصلت إلى الحقل صارت حصاداً .
والخبز - حين تعلّق بالكائن الحيّ - ، أصبح وهو الميّت حيّاً عالماً ! والشمع والحطب - عندما صارا فداءً للنار - أصبحت ذاتهما المظلمة أنواراً ! فما أسعد ذلك الرجل الذي تخلّص من ذاته ، وأصبح متحداً مع الوجود الحيّ “ 2 “ “ .

ومع أن جلال الدين كغيره من الصوفية - لا يحفل بالمباحث الكلامية ، ولا يراها موصلة إلى معرفة يقينيّة “ 3 “ ، فقد تناول في شعره جوانب من
..............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1944 - 1948 .
( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 1531 - 33 ، 35 .
( 3 ) نفس المصدر ، 1500 - 1506 .
 

“ 54 “

المسائل الكلامية التي طال عليها الخلاف كمشكلة الجبر والاختيار ، وغيرها من المشكلات . لقد نظم الشعر عن الجبر والاختيار في عدة مواضع من المثنوي ، وأكد حرية إرادة الانسان ، ومسؤوليته عن أعماله .

ففي الجزء الخامس من المثنوي أكد في حوار حول القضاء والقدر بين مسلم ومجوسي أنّ الإنسان حرّ الإرادة ، وأنه لولا حرية إرادته لما كانت كل هذه الأوامر والنواهي التي حفل بها القرآن . فليس من المعقول أن هذه الأوامر والنواهي وجهت إلى أحجار ، ولولا حرية الإرادة لما كان لك أن تلوم لصاً سطا على منزلك “ 1 “ . وعلى هذا النحو يمضي في تأييد حرية الإرادة . ولكن ليس معنى هذا أن الشاعر كان معتزلىّ المذهب ، فقد انتقد المعتزلة بأن مذهبهم مذهب حسيّ بحت “ 2 “ ، وذكر في أكثر من موضع أنّه سنّي المذهب . قال : “ إن السنة هي أسلم الطرق ، والجماعة هم خير رفقاء الطريق “ “ 3 “ .

وتأكيد الشاعر لحرية إرادة الإنسان يتمشى مع تأكيده لأهمية الانسان في هذا الكون . ولا أريد أن أكرّر هنا ما سبق أن ذكرته عن الفلسفة الإنسانيّة لهذا الشاعر “ 4 “ .
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 5 ، 2912 وما يليه .
( 2 ) المثنوي ، ج 2 ، 61 ، 62
( 3 ) المثنوي ، ج 4 ، 495
( 4 ) انظر : محمد كفافى : إتجاهات إنسانية في شعر الصوفية - ( محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة بيروت العربية . )


“ 55 “

( - 5 - ) أمّا الشعر التعليميّ لهذا الشاعر
فكان مجالًا رحباً تجلّت فيه عبقريته .
لقد استعان فيه بثقافته الواسعة ، وفهمه العميق لمعارف أهل زمانه .
إن هذا الشعر يكشف عن خبرته بالنفس البشرية ، ومقدرته على سبر أغوارها ، وتصوير نوازعها الخيّرة والشرّيرة على السواء .
لننظر مثلًا إلى حديثه عن الملق ، وأثره في نفس من يتقبله من الناس ، قال :
“ إنّ الجسم على شكل القفص ، وقد أصبح بخداع الداخلين والخارجين شوكة تخز الروح “ 1 “ .
فهذا يقول له : “ إننّي سأكون صفيّك “ ، وذاك يقول له :
“ لا . بل أنا شريكك . “ .
وهذا يقول له : “ ليس لك نظير في الوجود ، سواء في الجمال أو الفضل أو الإحسان والجود . “ وهذا يقول له : “ إنك صاحب العالمين ، وكلّ أرواحنا عيال على روحك . “ فحين يرى الخلق سُكارى ذاته ، يفقد من الكبر سلطانه على نفسه ،
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1849 وما يليه .
 

“ 56 “

وهو لا يدري أنّ الشيطان قد أسقط آلافاً مثله في ماء النهر ! “ 1 “ إنّ ملق الدنيا ونفاقها لقمة حلوة المذاق ، ولكنها مليئة بالنار ، فأقلل من تناولها ! ولا تقل : “ متى كنت أبتلع هذا المديح ؟ إنه يتحدث عن طمع ، وأنا واقف على أمره ! “ .
فلو أنّ مادحك هجاك أمام الملأ فإن قلبك يحترق أياماً بلهيب هذا الهجاء .
ومع أنك تدري أنه قال هذا لحرمانه ، وأنّ طمعه في عطائك جعله مُغرضاً ، فإنّ أثر هذا يبقى في نفسك ، وإنك لتلقى التجربة ذاتها في المديح ! فإن أثره أيضاً يبقى معك أيّاماً ، ويصبح مصدراً لتكّبر الروح وانخذاعها .
ولكنّ المدح لا يظهر لك لأنه حلو ، أما القدح فيظهر لك لأنه قبيح مرّ .
فمن كثرة المديح أصبح فرعون طاغياً ، فكن متواضع النفس ليّن الجانب ولا تتجبّر ! وإلا فإنه حين لا يبقى لك لطف ولا جمال ، يقع منك الملال في نفوس أصحابك .
فهذه الجماعة التي كانت تتملّقك ، تقول عنك حين رؤياك : “ إنك الشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) خدع آلافاً مثله حتى أهلكهم .


“ 57 “

والجميع يقولون حين يرونك بالباب : “ هذا ميّت نهض من قبره ! “ هذا مثال واحد من مئات الأمثلة التي عالح فيها أمراض المجتمع الإنسانيّ على هذا النحو البارع .
وخلاصة القول أنّ جلال الدين لم يكن فيلسوفاً فحسب ، وإنما كان حكيماً عملياً . لقد تقبل الحياة وتفاعل معها ، وعدّها واقعاً لا شك فيه ، وأوجب العمل فيها . يقول :
“ إن الدنيا تتجدّد في كل لحظة ونحن لا نُحسُّ بتجددها ، وهي باقية على هيئتها الظاهرة .
والعمر وإن بدا مستمراً في الجسد ، فإنه يتجدد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر “ .
وهو مؤمن بالإنسان وبمسؤوليته الذاتية على النحو الذي بيّناه .
مؤمن بالعلم ومكانه في هذه الحياة ، متفائل في نظرته إلى مستقبل البشرية رغم أنّه عاش في عصر من أظلم عصورها .
وحتى العشق الصوفىّ عند جلال الدين كان وسيلة من وسائل البعث الروحي . وفي ذلك يقول :
“ فيا من قلوبهم تحت جلودهم متحلّلة بالفناء . عودوا من العدم بنداء الحبيب ! “ 1 “ “ .
ولقد قُدّر لرسالته الروحيّة أن تستمر خلال القرون . لقد عاشت
...............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1935 .


“ 58 “

 
تعاليمه في نفوس أتباعه من رجال الطريقة المولوية في تركيا العثمانية والشام ومصر . وكان لرئيس المولوية في تركيا العثمانية مكان مرموق ، فهو الذي كان يقلّد سلاطين الدولة العثمانية سيف جدّهم عثمان ، وهو عندهم رمز القوّة والسلطان .
واشتهر المثنوي في شرق العالم الاسلاميّ ، وانتشرت تعاليمه ، وتناوله الدارسون والشراح من كافة هذه الشعوب الاسلاميّة ، وظهرت له في كلّ أقطارهم شروح وترجمات . وعظم شأن جلال الدين بين أبناء تلك الشعوب ، واحتلّ بينهم المنزلة التي هو جدير كمعلم روحيّ كبير .
كما قُدّر لأفكاره وآرائه أن تجد سبيلها من جديد إلى الفكر الإسلاميّ الحديث ، على يد الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال ، الذي كان له الفضل الأكبر في وضع الأسس الروحية لدولة الباكستان . لقد اعترف إقبال في مواضع عديدة من منظوماته بفضل جلال الدين عليه في بناء فلسفته . ومن أمثلة ذلك ما قاله في مقدمة منظومته الفارسيّة “ أسرار خودي “ ( أي اسرار الذات . ) وفي هذه المنظومته تحول العشق الصوفىّ عند إقبال إلى عشق للأمل والمثل الأعلى “ 1 “ . وتقوم فلسفة إقبال على إيجابية روحيّة ، تؤمن بهذه الحياة ، وتعدُّها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ، وتهاجم السلبيّة التي قال بها بعض الصوفيّة المسلمين . فالقيم الروحيّة - في رأي إقبال - تعصم الإنسان من الوقوع في قبضة المادية ، وتبعده عن المصير الذي انحدر إليه العالم في العصر الحديث .
ولقد قُوبل أدب جلال الدين عند كل من عرفوه بما هو جديربه من
...............................................................
( 1 ) عبد الوهاب عزام . محمد إقبال ، ص 69 - 71 ، 77 . القاهرة ، 1954 .


“ 59 “

التقدير والإعجاب . فأمّا أهل المشرق فقد مجّدوه على صورة لم يسبق لها مثال . وقد يدهش بعضنا إذا علم أن شاعراً إسلاميّا كبيراً كعبد الرحمن الجامي قد وصفه بقوله : “ إنه لم يكن نبيّاً ولكنه أوتي الكتاب “ . وقد نُشر المثنوي وشُرح مرات عديدة بمختلف لغات الأمم الإسلامية .

أمّا أهل الغرب فقد أعجبوا به إعجاباً شديداً ، ونشروا عنه الكثير من الأعمال العلمية باللغات الأوروبية المختلفة سواء منها ما هو ترجمة لبعض أعماله أو دراسة لها . وأعظم من ساهم في تلك الدارسات مستشر قو الإنجليز . ومن أعلامهم الكبار الأستاذ نيكولسون الذي قضى في دراسة جلال الدين ثلاثين عاماً من عمره ، منها خمسة وعشرون عاماً قضاها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية له ، أتبعها بشروح قيّمة وتعليقات .

ولقد عبّر عن رأيه في جلال الدين - بعد ثلاثين عاماً من الاشتغال به - بأن طول الصحبة لأعمال هذا الشاعر ، والألفة بها ، لم تزده إلا تقديراً لها ، وأن ما وصفه به قبل ذلك بثلاثين عاماً - من أنه أعظم شعراء الصوفيّة على الإطلاق ليس بالوصف الذي يوفيه حقه . يقول : “ وإلا فأين لنا أن نرى صورة شاملة للوجود ، بأكمله منطلقة أمامنا خلال الزمن ، مستمرّة إلى الأبد ؟ إن هذا الشعر إلى جانب طابعه الصوفىّ قد انطوى على ثروة من السخريّة والتهكم ، والمواقف التي تثير الرثاء ، وصور رسمتها يدُ صناع ما مست شيئاً الا كشفت حقيقة جوهره “ 1 “ “ .
أمّا آربري - أستاذ الدراسات العربيّة والشرقيّة بجامعة كيمبردج –
...............................................................
( 1 ) .arberry : glassical persian literature , p . 241


“ 60 “

فقد خلف أستاذة نيكولسون في الاهتمام بأعمال جلال الدين ، ونشر عنه في السنوات الأخيرة بضعة كتب منها الترجمة ومنها الدراسة . وقد أدرجت بعض ترجمات آربري لجلال الدين ضمن قوائم اليونسكو التي تمثل روائع الآداب الإنسانية “ 1 “ .
وخلاصة القول أن جلال الدين في للوقت الحاضر - بإجماع الدارسين من أهل الشرق والغرب “ 2 “ - يُعدّ بلا شك أعظم شعراء الصوفيّة في كلّ زمان ومكان ، وواحداً من شعراء الإنسانيّة الأفذاذ .
...............................................................
( 1 ) انظر كتابه . 1961tales from the masnavi . london ,.
( 2 ) لخص محمد خلف اللَّه في مقال له بعنوان ( جلال الدين الرومي في نظر الباحثين ) بعض آراء مفكري الغرب في شعر جلال الدين وفلسفته . انظر . محمد خلف اللَّه . دراسات في الأدب الإسلامي ، ص 128 - 135 . القاهرة ، 1947 .


“ 61 “

المثنوي شروحهُ وَترجمَاته( - 1 - )

[ الاملاء ]
إنّ المثنوي قد ولد مكتمل الحياة والأثر . لقد كان الشاعر يُمليه على تلميذه حسن حسام الدين . وأغلب الظنّ أنّه كان يُلقي ما يتمّ نظمه منه على التلاميذ والمريدين المقرّبين . فلهجة الخطاب واضحة فيه ، والحوار غالب عليه .
والشعر قد نُظم لهؤلاء المريدن خاصّة ، ليكون على حدّ تعبيرهم “ مرجعاً لأصحاب الطريقة “ .
ولما كانت الطريقة تعني السلوك والسيرة في الحياة ، فقد جاء المثنوي مهتمّا غاية الاهتمام بالحياة والأحياء . ومن هنا رنّتْ جوانُبه بتلك الأنغام الأصيله التي تستهوي القلوب .
لغةُ التعبير في المثنوي تغلب عليها البساطة ، والبعد عن التكلّف .
والفكرة قد تعمق إلى أبعد حدود العمق ، ومع ذلك تستهوي النفوس بما يُضرب لها من أمثال قريبة من واقع الحياة ، وصروفها وخطوبها ، أو مباهجها وأفراحها .


“ 62 “

والمثالية هي اللهجة الغالبة على هذه الملحمة الإنسانية ، وهي المقياس والحكم الفيصل في كل المواقف . فالصوفيّة هم الملوك . وجوهرهم النقيّ هو مقياس ذلك . وتجردهم من علائق المادة وطغيان الأهواء هو الذي أهلّهم لذلك . ولا بد في هذا من الصدق والإخلاص ، ولا اعتبار للمظهر .
وكم بالمثنوي من صرخة في وجه الظالمين ، قد تجىء في صورة الإنذار الواضح ، وقد تجىء في صورة من السخرية اللاذعة ، التي لا تقلّ في تأثيرها عن أسلوب القوّة والانذار . وكم فيه من فضيلة أُبدع تصويرها .
وكم فيه من كشف عن الرذائل الكامنة في النفس ، بأسلوب الخبير بالنفس الانسانيّة المطلع على كوامن أسرارها ، ومستتر خلجاتها .

أما الشخصيّات التي يستعين بها في تصوير كل هذه الأفكار ، فمنها الملوك والسلاطين ، ومنها الخلفاء ، ومنها الدروايش والشحاذون ، ومنها الأنبياء والأولياء ، ومنها الكفرة والعصاة والمجرمون ، ومنها التجار الأمناء ، ومنها المحتالون ، والمدلّسون .

يكاد القارئ يقابل فيه كل أُنموذج من النماذج البشريّة ، ويشهد الانسانَ في مثاليّة أو في تهاويه وانهياره ، وقد صوّرته يد فنّان أصيل .

وكل مشهد وقعت عليه عينه ، جعل منه مصدراً لوحي الشعر ، وموضوعاً لإبداعه . نقابل في المثنويّ النبيّ بين قومه ، والمليك بين رعاياه ، والقاضي ، واللص ، والمحتال ، والغنيّ ، والمتسوّل ؛ نرى ساكن القصر في بذخه ، والبؤساء في شقائهم . نرى شوارع المدن وما كانت تعجّ به من ضروب السعي في طلب الرزق سواء منه ما كان شريفاً أو غير شريف .
نرى الحكيم والأبله ، والمتعفّ والنهم .
والخلاصة أننا نشهد في المثنوي مجتمعاً حيّاً ، أفراده موزعون بين الفضيلة والرذيلة ، والكمال والنقص ، والمثالية المترفعة ، والواقع المظلم المرير .


“ 63 “

إننا نلقى في المثنوي شاعراً سبحت روح في آفاق الجمال ، سواء منه ما يُرى ومالا يُرى ، ومع ذلك نراه واعياً لكل ما يدور حوله في هذه الحياة خبيراً بدروبها ومسالكها ، لا يكاد يخفى عليه شي من معارف أهل زمانه .
ولقد ظفر المثنوي منذ بداية ظهوره بما هو جدير به من العناية .
لقد كان يصادف آذاناً صاغية حين يهتف به صاحبه ، أو من يرويه عنه . وكلام ابن بطوطة - الذي سبق أن نقلناه - ينبئ بشيء من ذلك ، ويبّين كيف أن المريدن كانوا يتبعون الشاعر ويكتبون ما يهتف به من الشعر ، وكيف أنهم صنعوا من ذلك الشعر كتاباً سمّوه “ المثنوي “ وأن المثنويّ كان موضع الاعتباربين سكان “ تلك البلاد “ ، وكيف أنهم كانوا يقرأونه في أيام الجمعات . وكذلك تضمنت الأوقاف التي أوقفت على ضريح الشاعر ما ينصّ على الانفاق منها على قراء المثنوي .

فالشاعر قد امتدّ أثره إلى مجتمعه إبّان حياته ، وتعاظم هذا الأثر بعد وفاته . وهذا يفسّر لنا تلك البساطة التي اتسمت بها لغة المثنوى - في أكثر الأحيان - تلك البساطة التي تخاطب القلب وتنفذ إلى أعماق الضمير .

والشاعر يشير في مقدّمته المنثورة إلى إدراكه لأثر المثنوي على مستمعيه سواء منهم من تلقّاه بالمحّبة والقبول ، أو من وقف منه موقف الرفض والعناد حين قال : “ الأبرار فيه يأكلون ويشربون ، والأحرار منه يفرحون ويطربون ، وهو كنيل مصر ، شرابُ للصابرين ، وحسرةُ على آل فرعون والكافرين “ 1 “ “ .
كما نشير إلى خاصة أخرى لا تخفى على من قرأ المثنوي وتذوّق معانيه ، هي ذلك التفاؤل الذي يغمر أجواءه ، ويشيع
...............................................................
( 1 ) انظر مقدمة المؤلف .



“ 64 “
في جنباته . ولقد صدق حين قال في وصفه . “ وإنه لشفاء الصدور وجلاء الأحزان “ 1 “ “ .( - 2 - )


[ عدد الأبيات ]
كنا قد أشرنا من قبل - في الكلمة الموجزة التي ذكرنا بها المثنوي بين أعمال جلال الدين - إلى أنّه يتكون من ستة أجزاء “ 2 “ ، يبلغ عدد أبياتها في طبعة نيكولسون - التي اتخذناها أساساً لهذه الترجمة - 25632 بيتاً .
وهناك طبعات أخرى صدرت عن إيران والهند تزيد عن ذلك بمئات الأبيات . وقد ذكر دولتشاه - “ صاحب تذكرت الشعراء “ - في ترجمته لجلال الدين أنّ أبيات المثنوي تبلغ 48000 ألف بيت .
ولسنا نعرف إن كان هذا الكتاتب قد اطلع على نسخة تضمّ كل هذا العدد ، أو أنه مجرد عدّ تقريبيّ .
وليس من شكّ أن النصّ قد أضيفت إليه إضافات على يد نُسَّاخه العديدين .
أما سبب نظم المثنوي فيرجع - فيما يُروى - إلى أنّ حسام الدين چلبي طلب من أستاذه جلال الدين أن ينظم عملًا على غرار حديقة الحقيقة لسنائي أو منطق الطير للعطار ، يكون مرجعاً لأتباع الطريقة .
والمعروف أن الشاعر بدأ نظم المثنوي حوالي عام 657 هـ .
وتمِّ نظم الجزء الأول بين عامي 657 - 660 .
وأعقب ذلك فترةُ عامين من التوّقف . ثم استؤنف العمل من جديد
...............................................................
( 1 ) نفس المصدر .
( 2 ) انظر ص 13 من المقدمة .

“ 65 “
 
عام 662 هـ “ 1 “ .
ولم ينقطع الشاعر عن النظم حتى وصل إلى نهاية الجزء السادس في صورته الحاليّة .
والجزء السادس والأخير من المثنوي ينتهي بقصّة لم تصل إلى نهايتها .
ومعنى ذلك أنّ الشاعر كان يعتزم أن يمضي في النظم إلى أبعد مما فعل .
لكنّه كان قد نصّ في بداية الجزء السادس على أنّه آخر أجزاء المثنوي ، حين قال :
“ يا حياة القلب ! يا حسام الدين ! إنّ الميل لشديد لنظم القسم السادس .
. . . . . . .
فها أنذا أُحضر هدّية ترضيك ، بإتمام القسم السادس من المثنوي .
ها أنذا أحمل إليك أيّها المعنويّ قسماً سادساً ، به يتمّ المثنوي “ .
هذا النقص الذي يبدو في نهاية الجزء السادس - والذي تنمُ عنه تلك القصّة التي لم تكتمل - لم يكن بسبب الوفاة .
فقد عاش جلال الدين بضع سنوات بعد الفراغ من منظومته الخالدة .
ولعلّه بتركه خاتمة الكتاب مفتوحة ، كان ينوي استئناف النظم ، حين تسمح بذلك الظروف ، فلم يُتح له ذلك لسبب ، أو لآخر .
أو لعلّه كان يرمز بذلك إلى أن حديث الروح لا ينتهي ، وهو ما دأب على ذكره في أشعاره وأقواله .
وقد نُسب إلى جلال الدين جزء سابع من المثنوي .
ويُنسب إظهار هذا الجزء إلى أحد شُرّاح المثنوي المشهورين وهو إسماعيل الأنقروي المولوي ( ت 1042 )
فقد اشتري في عام 1035 هـ نسخة من المثنوي ، أُرِّخ نسخُها بعام 814 هـ ، تتكوّن من سبعة أجزاء ، وأنّه - بمطالعة الجزء
...............................................................
( 1 ) ذكر الشاعر هذا التاريخ في البيت السابع من الجزء الثاني من المثنوي .



“ 66 “
 
السابع - اقتنع بأنّه من “ أنفاس المولوي ، صاحب المثنوي “ ولم يَشك أنّه من كلامه . وقد شرح هذا المجلد السابع ، وذكر صاحبُ كشف الظنون أنّه بدأ شرح بقوله : “ الحمد للَّه الذي جعل المثنوي المعنوي مثل السماوات السبع . . الخ “ .
كما ذكر أيضاً أنّ إظهار هذا الجزء السابع قد جُوبه بإنكار أهل الطريقة واعتراضهم ، وأنّ إسماعيل الأنقروي قد اشتبك معهم في جدال عنيف حول هذا الأمر ، ناسباً إنكارهم ذلك إلى حسدهم وجهلهم “ 1 “ .
هذا الاعتراض الذي أثاره أتباع الطريقة هو - في الواقع - أقربُ إلى الصواب بالنسبة لهذا الموضوع .
وهو ما تؤيّده الدراسة الفاحصة الناقدة لشعر هذا الجزء .
وقد حلّل فروزانفر أبياتاً منه ، وبَيَّن ذيوع الأخطاء فيها بصورة بلغت - على حدّ تعبيره - درجةً “ يخجل منها أطفال المدارس “ 2 “ “ .
 
فلو صحّ تأريخ النسخة - التي أشار إليها حاجي خليفة ، وذكر أنّها كانت تشتمل على سبعة أجزاء - بعام 814هـ، فإنّ هذا يبّين لنا كيف كان نُسّاخ المثنوي يضيفون إلى النصّ الأصليّ خلال القرون .
...............................................................
( 1 ) انظر : حاجي خليفة : كشف الظنون ، ج 2 ، 1588 .
استنبول عام 1943 .
( 2 ) أحوال وزندگاني مولانا ، ص 159 .



“ 67 “
 
( - 3 - )  نسخ المثنوي   
كان من الطبيعيّ أن تتعدّد نسخ المثنوي منذ بداية عهده ، نظراً لحاجة أتباع جلال الدين ومريديه إليه ، وحرص القادرين منهم على اقتنائه .
ولولا طوله وارتفاع نفقات نسخه ، لكان من الممكن أن تصل إلينا نسخ أكثر مما حفظته لنا الأيام .
وقد اجتذب المثنوي خلال العصور كثيراً من الباحثين ، الذين درسوه ، وقام بعضهم بشرحه أو ترجمته .
فهناك شروح فارسيّة عديدة تضم المكتبات الشهيرة ، نسخاً مخطوطة منها . ومن أقدم هذه الشروح الفارسيّة “ كنوز الحقائق ورموز الدقائق “ لكمال الدين حسين بن حسن الخوارزمي الكبروي ( ت 840 أو 845 ه ) .
وللمؤلف أيضاً عن المثنوي كتاب “ جواهر الأسرار وزواهر الأنورا “ ومنه نسخة مخطوطة في المكتبة التي كانت تُدعى بمكتبة وزارة الهند “ 1 “ بلندن ( تحت رقم 1098 مخطوطات فارسيّة “ .
وقد ذكر صاحب كشف الظنون أشخاصاً آخرين ممن اهتموا بشرح أبيات من المثنوي أو منتخبات منه . فمن هؤلاء علاء الدين علي بن محمد الشهير بمصنفك ( ت 875 هـ ) الذي شرح أبياتاً مختارة منه ، وحسين بن علي
...............................................................
( 1 ) أصبحت هذه الوزارة تعرف بعد استقلال الهند بوزارة العلاقات بين دول الكومذولث .



“ 68 “
 
الكاشف الواعظ البيهقي ( ت 910 ه ) ، صاحب اللباب المعنوي في انتخاب المثنوي . كما ذكر كثيراً غير هؤلاء وفاته ذكرُ بعض الشارحين .
ولكنّ الأتراك كانوا ذوي باع أطول في شرح المثنوي وترجمته ، وذلك لأسباب أهمّها أنّ جلال الدين عاش في بلادهم ، ونشأت طريقته بينهم ،
فكانوا أعمق تأثراً به . كما أنّهم - بحكم اللغة - غرباء عن الفارسيّة ، فكانوا أحوج إلى الشروح من الفرس .
وهناك قائمة طويلة بالشُرّاح والمترجمين الأتراك ، وردت في “ كشف الظنون “ .
ومن أهم هؤلاء الشراح شمعي ( ت حوالي 1000 ه ) ،
وإسماعيل الأنقروي ( ت 1042 ه ) “ 1 “ وبعد زمان حاجي خليفة ظهرت للمثنوي ترجمات وشرح تركيّة أخرى ، ومن أهمّها ترجمة منظومة باللغة التركيّة لمحمد نحيفي بن سليمان ابن عبد الرحمن ( ت 1151 ه ) . كما ظهرت “ ترجمة وشرح المثنوي الشريف “ لعابدين باشا حاكم أنقرة ( المولود عام 1259 هـ. ) وبها شرح مفصل للمجلّد الأوّل .
 
وذكر حاجي خليفة أيضاً ألوانا من الجهود التي بُذلت لدراسة جوانب من المثنوي ، منها “ أزهار المثنوي وأنوار المعنوي “ وهو شرحُ لشمكلات المثنوي بالتركيَّة “ ذكر فيه واضعه أنّه شرح الديباجة أولًا ، ثم شرح ما في كلّ مجلدّ من الألفاظ العربيّة ، على الحروف ، ثم شرح الألفاظ الفارسيّة على الحروف أيضاً “ “ 2 “ .
كما اهتم إسماعيل الأنقروي صاحب شرح المثنوي - الذي تقدّم ذكره –
...............................................................
( 1 ) أنظر قائمة الشروح الفارسيّة ، الترجمات والشروح التركية التي ذكرها حاجي خليفة بكشف الظنون ، ج 2 ، عمود 1587 - استنبول ، 1943 .
( 2 ) المصدر السابق ، عمود 1588 .



“ 69 “
 
بجمع الآيات القرآنية والأحاديث النبوّية والأبيات العربيّة ، وبعض الألفاظ التركية الغامضة ، في كتاب أسماه “ جامع الآيات “ “ 1 “ .
وصدرت عن الهند شروحُ فارسيّة متعدّدة للمثنوي .
ومن هذه الشروح ما هو مطبوع ، ومنها ما لا يزال مخطوطاً .
وبعض هذه الشروح قد اهتمّ بكشف غوامض المثنوي ، مثل مكاشفات رضوي ، الذي ألّفه مولوي محمد رضا عام 1084 هـ ، وطُبع في لكنو عام 1877 .
وهناك أيضاً شرحُ المثنوي لعبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي ، من رجال القرن الماضي ، وقد لُقّب ببحر العلوم . وطبع شرحه للمثنوي في لكنو عام 1876 ، وفي بمباي عام 1877 .
وتُرجم المثنوي نظماً إلى الهندوستانية ، ونشر في لكنو عام 1889 بعنوان “ پيراهن يوسفي “ أما المترجم فهو محمد يوسف علي شاه .
وأسهم العرب أيضاً في هذا اللون من الشروح التقليديِّة ، فأصدر يوسف بن أحمد المولوي ( من رجال القرن التاسع عشر ) شرحاً عربيّاً على غرار الشروح التركيِّة ، أسماه “ المنهج القوي لطلاب المثنوي “ .
ولسنا نعرف شيئاً عن حياة هذا الشارح . وقد وصف يوسف بن أحمد نفسه بأنّه كان خادماً للدراويش في زاوية بيشكْطاش ، وهي قرية على البوسفور ، من لواحق استنبول ، وأنّ بعض فقراء المولويّة من أهل الشام “ طلب منه شرحاً للمثنوي ، وأنّ يكون باللسان العربي كي ينتفع به السُلاك من أبناء العرب ، لأنّه يحصل لهم بقراءة شروحه التركيّة النصب “ “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) المصدر السابق .
( 2 ) المنهج القوي لطلاب المثنوي، ج 1 ، ص 1 ، بولاق ، 1289 ه 1872.



“ 70 “
 
( - 4 - )  التراجم
ولقد وجدت الدراسات العلمية والنقدية الحديثة سبيلها إلى المثنوي .
وكان المستشرقون هم السابقين إلى ذلك .
فظهرت سلسلة من الأعمال ، أهمها ما يلي :
- 1ترجمةُ المانية لثُلُث المجلد الأول من المثنوي مع شروحٍ لمعانيه الصوفيّة ، أعدّها جورج روزنْ “ 1 “ ، ونُشرت بليزج عام 1849 .
والترجمة بنثر مسجوع لا يلتزم حرفيّة المعنى ، ولكنّه يُحسن أداءه بصورة إجمالية .
وقد أعاد نشر هذه الترجمة ف . روزن ، وهو ابن المترجم جورج روزن ، وذلك في مدينة ليبزج ، عام 1913 . كما أضاف إليها مقدمة بقلمه .
- 2ترجمة المجلد الأول من المثنوي شعراً إلى الإنجليزية . وقد أعدّ هذه الترجمة سير جيمس ردهاوس “ 2 “ .
وقد نشر مع هذه الترجمة ، ترجمة المختارات من كتاب “ مناقب العارفين “ للأفلاكي ، وهو من أقدم الكتب التي تناولت حياة جلال الدين .
وهذه الترجمة ليست على درجة كبيرة من الدقة ، كما أنّ النظم يتسم بشيء من التكلّف .
ومع ذلك ، فهي جهد قيِّم في تاريخ هذه الدراسة ، ويزيد من قيمته ترجمة النصوص المنتخبة من كتاب مناقب العارفين .
وقد نشرت هذه الترجمة في لندن عام 1881 .
...............................................................
( 1 ) .georg rosen( 2 ) .siryames w . redhouse

 
“ 71 “
 
- 3ترجمةُ لمختارات من المثنوي بأجزائه الستة ، إلى اللغة الإنجليزية ، أعدها هو ينفيلد “ 1 “ . وقد كان هو ينفيلد أوّل من قدّم للقارئ ، الإنجليزي - بهذا المجلد - تحليلا لمحتويات المثنوي . كما بلغ عدد الأبيات التي انتخبها وترجمها حوالي 3500 بيت . وهي ترجمة قد صيغت في نثر يتسم .
بالفخامة . ونشر هذا العمل في لندن عام 1887 ثم أعيد نشره عام 1898 .
- 4ترجمة المجلد الثاني من المثنوي نثراً إلى الإنجليزية ، مع شرح له .
وقد قام بهذا العمل المستشرق الإنجليزي ويلسون “ 2 “ وتتسم ترجمة ويلسون بالأمانة والدقة والحرص على مطابقة النص . وقد نُشرت هذه الترجمة بلندن ، عام 1910 .
5 - الترجمة الكاملة للمثنويّ بأجزائه الستة ، إلى اللغة الإنجليزية ، التي أعدّها المستشرق الإنجليزي رينولد نيكولسون “ 3 “ .
وقد بُنيت هذه الترجمة على نصّ محقّق أعدّه المترجم ونشره . كما أُلحق بالترجمة مجلدّان يشتملات على ما رأى الأستاذ أن يلحقه بها من شروح وتعليقات . وقد بلغت المجلَّدات المشتملة على النصّ وترجمته وشروحه ثمانية مجلّدات ، نُشرت في سلسلة جب التذكاريّة ، بين عامي 1925 ، 1940 .
والمعروف أنّ هذا العالم الجليل قد قضى في هذا العمل خمسة وعشرين عاماً كاملا ، فجاء مثالًا رائعاً للجهد الدائب ، والصبر على مصاعب العمل ، والإخلاص للعلم والحقيقة .
ومع كل هذا فإنّ المثنوي لا يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والتدقيق .
وكان الأستاذ نيكولسون - في مطلع حياته العمليّة - قد نشر ترجمة لمختارات من ديوان جلال الدين ، المعروف بديوان شمس تبريز ،
...............................................................
( 1 ) .e . h . whinfield
( 2 ) .c . e . wilson
( 3 ) .reynold a . nicholson



“ 72 “
 
وألحلق بها شروحاً “ 1 “ ، فدلّ بذلك على اهتمام مُبكرِّ بأعمال جلال الدين ، كما نَشر بعض قصص مختارة من المثنوي في كتابه ( قصص ذات مغزى صوفي “ 2 “ ) . ونُشر له بعد وفاته كتابُ يضمّ مختارات من مختلف أعمال جلال الدين الشعرّية “ 3 “ . كذلك تناول نيكولسون بدراساته جلال الدين فيما نشر من مؤلفات عن التصوّف .
5 - ترجمةُ إنجليزية لقصص المثنوي ، أعدّها آرثر جون آربري ، وقد نشرت بلندن في مجلدين بين عامي 1961 ، 1963 “ 4 “ . وهي ترجمة علميّة ، دقيقة ، وفي ذات الوقت مُيَسّرة للقارئ العاديّ . ولهذا فقد أُدرجت ضمن مجموعة الكتب التي تنشرها مؤسسة اليونسكو للتعريف بآداب الأمم المختلفة (unesco gollection of representative works) .
ولقد تابع آربري أعمال أستاذه نيكولسون بكفاءة وأصالة وعمق .
وتجلى اهتمامه بجلال الدين في أعمال علميّة أخرى .
فقد نشر في عام 1949 ترجمة إنجليزية لمختارات من رباعيات جلال الدين . وفي عام 1961 أسهم بعمل آخر في دراسة جلال الدين وذلك بإصداره ترجمة علميّة أمينة لكتاب “ فيه ما فيه “ “ 5 “ ، وهو الذي يتضمَّن محاضرات جلال الدين ، التي كان يتحدّث بها إلى تلاميذه ومريديه .
كما خصّ جلال الدين بفصل ممتع في كتابه عن الأدب الفارسي “ 6 “ .
...............................................................
( 1 )r . nicholson : selected poems from the divani shamsi. 1898 ،tabriz . cambridge.
( 2 ) . 1931 ،tales of mysticmeaniny , london( 3 ) . 1950 ،rumi poet and mystic , london( 4 )a . j . arberry : tales from the mathnavi , moretales from the mathnavi .( 5 ) . 1961 ،discourses of rumi , london( 6 ) . 1958 ،glassical persian literature , london


 
“ 73 “
 
( - 5 - )  ترجمه باقي آثاره
إلى جانب هذه الترجمات والدراسات ، ظهرت باللغات الأوروبية أبحات عديدة عن جلال الدين .
فقد تناولته بالدرس كُتبُ الأدب الفارسيّ العامّة ، ومن أهمّها كتاب التاريخ الأدبيّ ، لفارس ، للأستاذ إدوارد بروان “ 1 “ . كما نشرت عنه مقالات في الموسوعات الكبيرة بمختلف اللغات .
ونخص بالذكر منها ، دائرة المعارف الإسلامية “ 2 “ ، ودائرة معارف الديانات والأخلاق “ 3 “ ودائرة المعارف البريطانية . “ 4 “
كما خُصِّ جلال الدين بمؤلفات بالألمانيّة والإنجليزيّة لغير من ذكرناهم من الباحثين والعلماء ، نذكر منها ما يلي :
1 - جلال الدين الرومي ، لهادلاند ديفز “ 5 “ .
وقد نُشر بلندن عام 1907 ضمن مجموعة “ الصوفيّة من الفرس “ وكانت جزءاً من سلسلة تصدر بعنوانٍ جامع هو “ حكمة الشرق “ .
وخير ما في هذا الكتاب هو عرضه لبعض نماذج مترجمة من شعر جلال الدين يمكن أن ينتفع بها القارئ العاديّ .
...............................................................
( 1 ) .E . G . browne litersry history of persia
( 2 ) .Encyclopedia of lslam
( 3 ) .Encyclopedia of Religions and Ethics
( 4 ) .Encyclopedia Britanica
( 5 ) .Hadland Davis : the persian Mystics . jalalud - Din Rumi. 1907 ،london.


 
“ 74 “
 
2 - الشاعر الصوفىّ جلال الدين الرومي للمستشرق الألماني جوستاف ريشتر “ 1 “ ، وهو من الأعمال المهمة في دراسة جلال الدين .
3 - بدأ جلال الدين يجد سبيله إلى الموسيقى الأوروبية . فقد ألف الموسيقار البولندى زيمانوفسكيszymanowski( 1882 - 1937 ) سيمفونيته الثالثة عام 1916 وأسماها “ أُغنية الليل “ “ 2 “ . والحركة الثانية والثالثة من هذه السيمفونية بهما غناء يقوم به مغنّ من طبقة تينورtenorومعه جوقة . أما النصوص التي تُغنّى فهي مختارات مترجمة من شعر جلال الدين .
ولقد بدأ أهل المشرق في الأزمنة الحديثة ينتبهون إلى تراثهم الحضاري الزاهر . وقد خُصّ . جلال الدين بنصيب من عناية الباحثين في مختلف البلاد الإسلاميّة فنُشر المثنوي مرات عديدة في الهند وإيران ومصر .
كما ظهرت طبعات لأعمال جلال الدين الأخرى ، كالديوان ، وفيه ما فيه .
وصدرتْ المؤلفات عن جلال الدين في مختلف هذه الدول . وكان للأساتذة الإيرانيّين في السنوات الأخيرة جهد مذكور . ويأتي في مقدّمة هؤلاء الأستاذ بديع الزمان فروزانفر ، الذي خصّ جلال الدين بأعمال عديدة أهمّها :
1 - رساله در تحقيق أحوال وزندگاني مولانا جلال الدين ( رسالة في تحقيق أحوال وحياة مولانا جلال الدين ) .
وقد نشرت لأول مرة بطهران عام 1315 ( 1937 ) ، ثم أُعيد نشرها عام 1333 ( 1955 ) .
وهي عمل قيّم أسهم في إيضاح حياة الشاعر .
- 2مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي ( مآخذ قصص المثنوي وتمثيلاته )
...............................................................
( 1 ) .bichter , G . : persiens Mystiker Dschelal - eddinRumi. 1933 ،Breslau.
( 2 ) . 1916 ، ( 16 .Song of theNignt , ( op
 
“ 75 “
 
وهو - كما يدلّ عليه عنوانه - يتعلق بموضوع مهم بالنسبة لدارسي المثنوي ، هو بيان مصادر القصص التي استخدمها الشاعر .
وقد نشر بطهران عام 1954 .
- 3خلاصه: مثنوي ، وهو مختارات من المجلدين الأول والثاني من المثنوي ، نُشرت بهذا العنوان ، ومعها بعض الشروح .
ويبلغ عدد الأبيات المختارة في هذه الخلاصة 2108 أبيات .
وقد نشرت بطهران عام 1321 ( 1943 ) .
وأصدر موسى نثري كتاباً بعنوان نثر وشرح مثنوي مولانا جلال الدين .
وهو كما يدل عليه عنوانه يهدف إلى التعبير بالنثر عن معاني الأبيات . وهذا الشرح الفارسي الموجز لا يكاد يتجاوز التعبير عن هذه المعاني ، لكنه يعتبر من الجهود القيمة التي بذلها الدارسون المحدثون . وقد صدر المجلد الأول منه عام 1327 ( 1949 ) . واكتملت الآن جميع المجلدات .
وقد بدأ صادق گوهرين يصدر عملًا ، لو اكتمل ، لأصبح ذا قيمة كبيرة في دراسة المثنوي ، ذلك الكتاب هو “ فرهنگ لغات وتعبيرات مثنوي “ ( معجم مفردات وتعبيرات المثنوي ) . والمجلّد الذي نُشر يضم حرف الألف ، وقد صدر ضمن مطبوعات جامعة طهران ، عام 1959 .
ومن الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة كتاب للأستاذ علي دشتي بعنوان “ سيري در ديوان شمس “ ، ويتّسم بعمق التذوّق الفني لأشعار الديوان . فقد صوّر المؤلفّ بأسلوب الناقد الفنّان بعض جوانب الروعة والإبداع الفنّي في ديوان شمس تبريز .
هذا بعض ما وصلني في السنوات الأخيرة من أعمال الباحثين الإيرانيين .
ومما صدر بالباكستان عن جلال الدين كتابان باللغة الإنجليزية ، أو لهما الخليفة عبد الحكيم بعنوان “ ما وراء الطبيعة عند الرومي “ “ 1 “ .
...............................................................
( 1 )Abdul - Hakim , Khalife : The Mytaphys ics of Rumi.Lahore 1932

 
“ 76 “
 
وثانيهما لأفضل إقبال بعنوان “ حياة الرومي وفكره “ “ 1 “ .
 
( - 6 - ) [ اسهم العرب في دراسة جلال الدين ]
لم يكن من أهدافنا قط أن نعدّ سجلًا كاملًا بما كتب عن الشاعر أو تُرجم من أعماله . وكل ما أردته بذكر هذه الأعمال أن أنوّه ببعض الجهود التي أسهم بها الباحثون في دراسة هذا الشاعر .
ولعل الوقت قد حان لعرض الجهود ، التي أسهم بها العرب في دراسة جلال الدين .
تتجلّى هذه الجهود - في بادىء الأمر - في إصدار طبعات لشروح أو ترجمات للمثنوي صدرت في القاهرة إبان القرن التاسع عشر .
فقد نشرت مطبعة بولاق في عام 1251 هـ ( 1835 ) شرح المثنوي بالتركيّة ، المعروف بفاتح الأبيات ، لإسماعيل الأنقروي ( ت 1042 هـ ) .
ثم نشرت في عام 1268 ه ( 1851 ) نصّ المثنوي ومعه ترجمته المنظومة بالتركيّة لمحمد نحيفي بن سليمان بن عبد الرحمن ( ت 1151 ه ) ، وتعدّ هذه الطبعة من أجمل طبعات المثنوي .
وفي عام 1289 ه ( 1872 ) طبع في القاهرة شرح المثنوي بالعربية ، المعروف بالمنهج القوي لطلاب المثنوي ، ليوسف بن أحمد المولوي .
...............................................................
( 1 ) . 1956Iqbal , Afdal : The Life andT hought of Rumi , Lahore


 
“ 77 “
 
وهذا الشرح هو أول إسهام عربيّ في دراسة المثنوي . ويتبع فيه طريقة الشُرّاح القدماء ، فيُعنى بالمغزى الصوفىّ للشعر ، قبل عنايته بأي ناحية أخرى . فالكتاب بالنسبة إليه منظومة في معاني التصوف .
وعبارة الشارح تتسم بالركّة ، التي كانت من خواصّ أساليب الكتابة العربيّة في زمانه . لكنّ العمل بدون شكّ جهد عظيم ، بُني على جهود من سبق من الشُرّاح الأتراك ، وخاصّة إسماعيل الأنقروي .
وقد رجعت إليه في مواضع عديدة لتتّبع الأحاديث النبوّية التي أشار إليها الشاعر في أبياته ، كما أنهّ يعين على تَفهّم كثير من الأمور التي تتصل بحياة المولوّية وعاداتهم ، وذلك بحكم انتمائه إليهم . وهو فوق كل ذلك رائدُ في هذا الميدان .
 
وفي السنوات الأخيرة بدأ أديب عراقي يقيم في إيران ، هو عبد العزيز الجواهري ( صاحب الجواهر ) يصدر في طهران ترجمة منظومة للمثنوي باللغة العربية “ 1 “ . ومع تقديري للجهد الكبير الذي بذله هذا الأديب الشاعر ، إلا أنّني أرى أنّ عرض فنّ جلال الدين وأفكاره لا يمكن أن يتحقّق بترجمته شعراً ، مهما أوتي المترجم من مقدرة على النظم . وورغم ذلك فإنّي أُرحب بهذا العمل كمجهود جادّ في خدمة المثنوي .
وقد كانت جامعة طهران صاحبة الفضل في إصدار هذا العمل . ووصلني منه حتى الآن المجلدان الأول والثاني .
وكان أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزّام من أقدر الباحثين العرب على فهم المثنوي وتذوّقه .
وكان له الفضل الأوّل في توجيه انتباهي إلى المثنوي .
فقد كنّا ندرس آداب الأمم الإسلامية في المعهد العالي للغات الشرقيّة وآدابها بجامعة القاهرة ، بين عامي 1943 ، 1946 .
وكان الأستاذ يفرض علينا قراءة مئات من الأبيات من المثنوي إبان عطلات الصيف . كما أنّه كثيراً ما كلّفني بأن أقرأ المثنوي وأشرحه
...............................................................
( 1 ) صدرت هذه الترجمة بعنوان جواهر الآثار في ترجمة مثنوي مولانا خداوندگار.


 
“ 78 “
 
أمامه ، وكان هذا باعثاً ومشجّعاً في تلك الفترة من حياتي الدراسية .
وكان للأستاذ عزّام - إلى جانب جهوده التعليمّية في هذا الميدان - فضل التعريف بجلال الدين عن طريق الصحافة الأدبيّة ، فكتب عنه في مجلِّة الثقافة المصريّة سلسلة مقالات نُشرت في الأعداد ( 165 ، 167 ، 168 ، 169 من السنة الرابعة ، عام 1942 ) “ 1 “ .
وقد نشر الأستاذ بعد ذلك كتابا بعنوان “ فصول من المثنوي “ في عام 1946 ، جمع فيه هذه المقالات التي سبق له نُشرها ، وجعلها مقدِّمة لفصول ترجمها عن المثنوي . وهذه الفصول هي “ قصة التاجر والببغاء “ و “ قصة الأسد والوحوش “ من المجلد الأول ثم مقدمة الجزء الثالث من المثنوي .
وترجمة القصة الأولى منظومة ، وقد قرن فيها الترجمة العربيّة بالنصّ الفارسيّ ، وبلغ عدد الأبيات المترجمة نحواً من ستمائة بيت .
كما نشر الأستاذ عزام فصلًا موجزاً في التعريف بجلال الدين في “ قصة الأدب في العالم “ “ 2 “ ، وضمّنه منظومة لمقدمة المثنوي .
وقد جرت الترجمة على هذا النحو :استمع للناي غنّى وحكى * شفّه الوجد وهدراً فشكى
مذ نأى الغابُ وكان الوطنا * ملأ الناس أنيني شجنا
أين صدرُ من فراق مُزقّا * كي أبثِّ الوجد فيه حرقا
من تشرّده النوى من أصله * يبتغي الرُجعى لمغنى وصله
كلّ ناد قد رآني نادبا * كلّ قوم تخذوني صاحبا
ظنّ كلّ أنّني خير سمير * ليس يدري أيّ سرّ في الضمير
...............................................................
( 1 ) ص 241 - 244 ، 305 - 307 ، 337 - 340 ، 385 - 386 .
( 2 ) احمد أمين وزكي نجيب محمود : قصة الأدب في العالم ، ج 1 ، ص 490 - 498 .

 
“ 79 “
 
إنّ سرّي في أنني قد ظهر * غير أنّ الأذن كلّت والبصر “ 1 “ونشر الأستاذ محمد خلف اللَّه أحمد مقالًا عن جلال الدين في مجلة الثقافة لخصّ فيه بعض آراء مفكرّي الغرب في شعر جلال الدين ، عن مقال لهيستي “ 2 “ نشر في أحدى مجلات التصوف “ 3 “ .
ومما جاء بهذا المقال “ 4 “ قوله “ ولجلال الدين عبارات تشير إلى اعتقاده بتناسخ الأرواح . “ “ 5 “
ونحن لا نوافق على رأي هيستي لأنّه أخذُ بظاهر بعض النصوص التي لا تعني مثل هذا المعنى .
وكان مقال خلف اللَّه باعثاً على نشر مقال آخر بمجلة الثقافة بعنوان “ مولانا جلال الدين في ميزان التاريخ والعقيدة “ “ 6 “ كتبه عبد العزيز جنكيزخان التركستاني ، حرص فيه على بيان انتساب جلال الدين إلى العنصر التركيّ ، وإن اتخذ الفارسيّة لغة لأعماله الفنيّة والفكريّة ، وردّ فيه على نسبة القول بالتناسخ إلى جلال الدين .
وبيّن فيه للقراء كيف أنّ جلال الدين - وإن لم يكن ذائع الشهرةُ في الوطن العربيّ - قد بلغ في الأقطار الإسلامية الأخرى أرفع الدرجات ، وأنّ آثاره تُدرس في المكانة الثالثة بعد القرآن والصحيحين .
ومما كتبه حينذاك قوله : “ أذكر أنّني في تركستان كنت أتلقى شرح المثنوي على يد قاضي القضاة العلامة داملا محمود الكاشغري في جمع حاشد من كبار الطلبة تنتظم حلقتهم بعد صلاة الفجر ، وكذلك رأيت هذه المكانة عندما وصلتُ إلى ربوع الهند وتبيّنتُ أنّ القيمة الأدبيّة والعلميّة بلغت بالمثنوي إلى حدّ ألا يقوم بتدريسه سوى كبار العلماء “ “ 7 “ .
...............................................................
( 1 ) المصدر السابق ، ص 492 . 493 .
( 2 ). hastie( 3 )the sufi ouarterly( 4 ) أعاد خلف اللَّه نشر هذا المقال في كتابه . دراسات في الأدب الإسلامي .  القاهرة 1947 .
( 5 ) ص 130 من المصدر السابق .
( 6 ) العدد 160 ، يناير سنة 1942 ،
( 7 ) المصدر السابق ، مجلة الثقافة ، السنة الرابعة ، ص 89 .

 
“ 80 “
 
ولقد قمتُ منذ عام 1946 بشيء من التعريف بجلال الدين .
فقد دعيت لإلقاء سلسلة من الأحاديث الأدبية من محطة الإذاعة العربية بلندن - وذلك إبان التحاقي بجامعة لندن في الأعوام 1946 - 1950 - فجعلت جلال الدين موضوعاً لأحد هذه الأحاديث “ 1 “ .
كما ألقيت عن الشاعر بحثاً في الموسم الثقافيّ الثالث لجامعة بيروت العربية ، في عام 1963 “ 2 “ .
وكان جلال الدين دائماً موضوعاً مهماً من موضوعات محاضراتي الجامعيّة منذ بدأت أمارس التعليم الجامعيّ ، بانضمامي إلى هيئة التدريس بكلية الآداب ، جامعة القاهرة ، عام 1950 ، حتى اليوم .
...............................................................
( 1 ) نشر هذا الحديث في مجلة “ المستمع العربي “ ، العدد الثامن من السنة التاسعة .
( 2 ) نشر مع مختارات مترجمة من شعر جلال الدين ، بيروت ، 1963 .


 
“ 81 “
 
( - 7 - ) هذه الترجمة
بقيتْ كملةُ عن المنهج الذي اتُّبع في هذه الترجمة ، والشرح الملحق بها ، ويتخّلص فيما يلي :
1- اتُّخذ النصّ الفارسيّ في طبعة نيكولسون أساساً لهذه الترجمة نظراً لأنه من أصحّ النصوص المنشورة المثنوي . وقد اعتمد الأستاذ المحقق في إعداده على مخطوطات قديمة للمثنوي . كما أن طريقة طباعته وتوفره في دور الكتب ، وسهولة الحصول عليه في هذه الأيام ، كلها من الأمور التي تزيد ترجيح هذه الطبعة على سواها ، ومع ذلك فقد كنت أقارن نصّ طبعة نيكولسون بغيره من النصوص المطبوعة ، وفضّلت في بعض المواضع ما جاء في إحدى هذه الطبعات على نصّ نيكولسون ، ونبّهت إلى ذلك .
2- الترجمة مرقمّة بذات الترقيم المتّبع في نصّ طبعة نيكولسون .
3- روعي في الترجمة مطابقة النصّ إلى أبعد حدّ ممكن . وكان الموقف أحياناً يقتضي إضافة كلمة أو كلمات ، فكنتُ أجعل ما أُضيفه بين قوسين ، أو أعبّر عن المعنى بشيء قليل من التصرف ، وأنصُّ في الحاشية على المعنى الحرفىّ .
 
 
“ 82 “
 
4- اختلف فهي للنصّ في أحيان كثيرة عن فهم سواي . وقد أثبتُّ ترجمتي بالصورة التي اعتقدتُ أنها الصواب ، وذلك بدون مقارنة لها مع يختلف عنها من ترجمات الآخرين .
فدراسة بيت واحد بهذاً الأسلوب المقارن قد تستغرق صفحات عديدة ، ما أغنانا عن إضافتها لهذا العمل .
5- جعلت الشرح موجزاً - على قدر الإمكان - ومرتبطاً بالنصّ ارتباطاً مباشراً ، مع الاهتمام بالتذوّق الفنيّ ، وبمقارنة فكر جلال الدين بفكر سواه ، حين يكون في ذلك جدوى للإيضاح وخدمة النص وابتعدت عن التأويلات البعيدة ، وتحميل النص ما لا يحتمل .
وبعدُ ، فهذه هي الخطوة الأولى من رحلة طويلة ، أرجو أنْ أصل إلى نهايتها . وما أسعدني بذلك لو أنني استطعت ! ولقد فكرت كثيراً قبل أن أقدم على هذا العمل ، نظراً لما يحتاج إليه من وقت وجهد .
وساءلت نفسي ، أبقي في زماننا هذا مجال للمثنوي وأمثاله من الأعمال التي احتاج إبداعها إلى الزمن المديد ، كما أن دراستها أيضاً تحتاج إلى مثل هذا الزمن ؟ ولم أتردّدْ طويلًا .
بدأت أحاول مراجعة الذين مضوا قبلي في تلك السبيل . فالأستاذ نيكولسون - حين نشر المجلد الأول من ترجمته - قدّم له بمقدمة تبيّن ضخامة المهمّة ، حين قال : “ إذا قسنا المثنوي بمقاييس زماننا ، فهو منظومة بالغة الطول .
إنّه يحوي من الأشعار قدر ما تحويه الإلياذة والأوديّسة معاً ، وضعف ما تحويه الكوميديا الإلهيّة . وهذه المقارنات تجعله يبدو أقصر مما هو عليه في الواقع ، ذلك لأنّ كل بيت من المثنوي يتكوّن من اثنين وعشرين مقطعاً صوتياً ، على حين يتراوح عدد المقاطع في الوزن السداسيّ
 
“ 83 “
 
hexamter بين ثلاثة عشر وسبعة عشر مقطعا “ 1 “ . . “
هذا بالإضافة إلى الصعوبات الأخرى التي ترتبط بالطابع الرمزي لكثير من أجزاء المثنوي ، وبمتابعة الشاعر في إشاراته الكثيرة لمعارف زمانه حول مختلف الموضوعات .
ومع هذا فإني أعتقد أنّ هذا العمل جدير بما يستغرقه من وقت وجهد . فجلال الدين شاعر إنسانيّ عظيم . وتراثه يُعدُّ قسماً مشرقاً من تراث عزيز علينا ، هو تراث حضارتنا الإسلامية الزاهرة .
فلو أسهم هذا العمل في أنّ يُقدّم لأبناء الأمة العربيّة ، ما يزيدهم إدراكاً لأبعاد حضارتهم فقد كُوفىء سعيي بأكثر مما أطمح إليه ، واللَّه هو الهادي والموفّق .
بيروت في أول ديسمبر 1965 محمد كفافي
...............................................................
( 1 ) مقدمة الترجمة الإنجليزية للجزءين الأول والثاني من المثنوي .



“ 84 “
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: