الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

10 - قصة عازف الصنج الهرم الذي عزف على الصنج ذات يوم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

10 - قصة عازف الصنج الهرم الذي عزف على الصنج ذات يوم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

10 - قصة عازف الصنج الهرم الذي عزف على الصنج ذات يوم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

قصة عازف الصنج الهرم الذي عزف على الصنج ذات يوم وهو جانع بين القبور
 احتساباً للَّه في عهد عمر رضي اللَّه عنه

[ مهارته في عمله ]

أسمعت أنه كان - في عهد عمر - عازف للصنع مطرب بارع ؟
كان البلبل يغدو ثملًا بصوته ، وكان الطرب - بإنشاده العذب - يصبح مائة طرب .

 

1915 - وكانت أنفاسه تزين المجالس والمجامع ، وكان غناوءه يقيم القيامة ! لقد كان مثل إسرافيل ، الذي يرُجع صوته الأرواح - بفنّه - إلى أجساد الموتى .
أو كان مثل رسائل إسرافيل ، يَنبتُ بسماعها جناحان للفيل ! ولسوف يصبح إسرافيل - ذات يوم - صيحة تهب الروح لمن تحلّل ( جسمه ) مائة عام ! وللأنبياء أيضاً أنغام في باطنهم ، بها للطالبين حياة لا تُقَدَّر بثمن .


1920 - وليست أذن الحسّ تسمع هذه الأنغام ، فإنّ نغم أذن الحسّ نجسة من الظلم ! وليس يسمع نغم الجنّ آدميّ ، فإنّه جاهل بأسراره .
ومع أنّ نغم الجنّ من هذا العالم ، فإنّ نغم القلب أرفع من كلا النغمين “ 1 “ .
إنّ الجنّ والإنس سجناء ، وكلّهم سجين هذا الجهل ! فاقرأ في سورة الرحمن قوله ( تعالى ) : “ يا معشر الجن والإنس
.........................................................
( 1 ) نغم الإنس ونغم الجنّ .



“ 269 “


إن اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا منْ أَقْطار السَّماوات وَالْأَرْض فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إلَّا بسُلْطانٍ ““ 1 “ .
وافهم مغزى قوله : “ إنْ استطعتم أنْ تنفذوا “ .


1925 - إنّ أنغام باطن الأولياء تبادر بقولها : “ يا أجزاء النفي و ( العدم ) !
 تنبهوا وارفعوا رؤوسكم من “ لا “ النفي ، واخرجوا بها من هذا الخيال والوهم ! 
وأنتم أيها المنلحّون في ( عالم ) الكون والفساد ، إنّ أرواحكم الباقية لا تنمو ولا تولد “ .
ولو أنني شدوت بطرف من هذه الأنغام ، لرفعت الأرواح رؤوسها من القبور .
فلتجعل أذنك قريبة منها ، فليست ببعيدة عنك ، ولكنّى لم يؤذن لي بنقلها إليك .

 

1930 - وتنبّه ! فإنّ الأولياء هم إسرافيل الزمن ( الحاضر ) ، فمنهم للموتى حياة وانتعاش ! فالأرواح الميتة في قبور الأجساد ، تقفز من أكفانها مستجيبة لندائهم ! وتقول : إنّ هذا النداء مختلف عن جيمع النداءات ! إنّ البعث لهو فعل نداء اللَّه ! لقد متنا وتحلّل كياننا كلّه ، وجاء نداء الحق فنهضنا جميعاً .

ونداء الحق يجيء محتجباً وبدون حجاب . إنّ الوهّاب هو الذي ألقى لمريم - في حبيبها - العطاء .


1935 - فيا من ( قلوبهم ) تحت جلودهم متحلّلة بالفناء! عودوا من العدم بنداء الحبيب؟
..............................................................
( 1 ) الرحمن ، ( 55 : 32 )



“ 270 “

 

فهذا صوت أطلقه المليك ، وإنْ كان قد خرج من فم عبد اللَّه .
لقد قال له “ 1 “ اللَّه : “ إنّي لسانك وعينك ! إنيّ حواسك ، ورضاك وغضبك “ 2 “ ! فاذهب فإنّك من قلت عنه : “ بي يسمع وبي يبصر “ “ 3 “ .
إنّك أنت السرّ ، فإيّ مكان للقول بأنّك صاحب السرّ ! فإنْ صرتَ - من وَلَهكَ بالحقّ - “ من كان للَّه “ ، فإنّي أصبح لك ، “ كان اللَّه له “ .


1940 - فحيناً أدعوك : “ أنت “ ، وحينا “ أنا “ ، ومهما أقلْ فإنّي أنا الشمس المشرقة ! 
وحيثما أشرقتُ من مشكاة ، أنفاسي ، حُلّتْ مشكلاتُ العالم .
والظمةُ التي لم تُبدّدها الشمس ، أصبحت بأنفاسنا مثل الضحى .
فهو بذاته عَلَّم آدم الأسماء ، ثم كشف بآدم الأسماء للآخرين .
فخذ نوره من آدم إن شئت ، أو منه إنْ أردت ، وخذ الخمر من الإبريق إن شئت أو من الكأس إن أردت .

 

1945  فإنّ الكأس ذات قربى وثيقة بالإبريق ، فيا أيتها الكأس المباركة ! ليس هناك من هو سعيد مثلك ! 
ولقد قال المصطفى : “ طوبى لمن رآني ( وآمن بي ) ، وطوبى لمن رأى من رآني “ .
فحين يقتبس السراجُ نورَ الشمعة ، فكل من رآه رأى الشمعة يقينا .
...........................................................................
( 1 ) للعبد المخلص .
( 2 ) روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال : “ قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - راويا عن ربّه . من عادى لي وليّاً فقد آذنتة بالحرب ، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها .
( 3 ) أنظر نص الحديث في الحاشية السابقة .


  

“ 271 “


فلو أنتقل النور على هذا النحو ، خلال مائة سراج، فرؤية آخر سراج ملاقاة للأصل .
فاقتبس بروحك من النور الأول إنْ أردت ، أو اقتبس من الشمعدان إن شئت ، فليس هناك فرق ( بين الحالين ) .

 

1950 -  وإذا شئتَ فانظر نور ( اللَّه ) في سراج الآخرين ، وإنْ شئت فانظره في شموع الغابرين !


في بيان الحديث : “ إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها “
“ 1 “

لقد قال الرسول : إنّ نفحات الحق تتسابق في هذه الأيام .
فأنصتوا وتنبّهوا لهذه الأوقات ، واغتنموا مثل هذه النفحات ! 
لقد جاءت نفحةُ فتطلّعت إليكم ومضت ، لقد وهبت الروح لكل من أرادت ثم تولّت .
وجاءت نفحة أُخرى فتنبّه لها ، حتى لا تتخلّف عن تلك أيضاً ، أيها الرفيق !

 

 1955 - إن النفس النارية وَجَدت فيها ما يطفئ نارها ! كما أحسّت منها الروح الميّتة بالحركة ( تدبّ فيها ) ! 
وهذه ( الحركة ) إنما هي نضارة شجرة طوبى واهترازها ، وليست مثل الحركات الحيوانية .
( فهذه النفحة ) لو وقعت في الأرض والسماء ، لا نصهرت مرائرهما - في الحال - ( رعباً ) !
..........................................................
( 1 ) شرح الغزالي هذا الحديث بقوله : “ التعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من الأخلاق المذمومة . . “( الإحياء ، ج 3 ، ص 9 ) .
  

“ 272 “


وذلك من خوف هذا النفس الذي لا نهاية له ، ألا فلتقرأ ( قوله تعالى ) :” إنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماوات وَالْأَرْض وَالْجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْملْنَها وَأَشْفَقْنَ منْها ““ 1 “ .
وإلا فكيف كان الاشفاق منها “ 2 “ ، لو لم يكن قلب الجبل قد أصبح دماً .

 

1960 -  وبالأمس مدّت لي هذه ( النفحة ) يدها ، في صورة أُخرى ، فعرَضعتْ لي بضعُ لقم سدّت ( أمامي ) الطريق .
إن لقمانياً “ 3 “ قد أصبح رهناً من أجل لقمة ! وهذا الوقت وقت لقمان “ 4 “ ، فلتذهبي أيتها اللقمة ! 
فوخز الأشواك هذا إنما هو من أجل لقمة ، ألا فلتخرجوا الشوك من كف لقمان ! 
( والحقيقة أنه ) ليس في كفه شوك ، ولا خيال الشواك ، ولكنكم - لحرصكم - مجردون من التمييز .
فاعلم أنّ ما رأيته ثمرة إنما هو شوكة ، ذلك لأنك شديد الحرص “ 5 “ ، بالغ العمى !

 

1965 - إنّ روح لقمان لهي بستان اللَّه ، فلماذا أصابت شوكة قدمها .
فهذا الوجود الذي يأكل الشوك شبيه بالجمل ، وقد ركب فوق هذا الجمل ابن للمصطفى “ 6 “ !
......................................................................
( 1 ) الأخراب ، ( 33 : 71 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها . . . “
( 3 ) يريد باللقماني ، الروح الذي هو حكمة لقمان ومع ذلك فقد أصبح في البدن أسير لقمة ، فالإنسان في سعيه وراء المادة ينسى روحه ويهمله ، فكأنها هذا الروح أصبح في سجن الجسد رهيناً للمنافع المادية .
( 4 ) وهذا الوقت هو وقت الحكمة الروحية ، الذي لا مجال فيه لسيطرة المادة .
( 5 ) عبر عن الحرص بعبارة “ نان كور “ ومعناها “ من أعماه الحرص على الخبز “ .
( 6 ) المراد بالمصطفى الإنسان الكامل ، وفي هذا البيت إشارة لاتصال الإنسان الكامل بهذا الكيان المادي الذي هو كالجمل يأكل الشواك .


 

“ 273 “


أيها الجمل ! إنّ فوق ظهرك حملًا من الورد ، ومن نسيمه قد نبت فيك مائة بستان ! 
ولكن ميلك متّجهُ للشوك والرمال ، فأي ورد ستجنيه من شوك الرمال ! 
فيا من طوّفت من درب إلى درب وراء هذا الطلب ! إلام تقول :
“ أين هذا البستان ؟ أين ؟ .

 

1970 - فما دمتَ لم تخرج من قدمك هذه الشوكة، فإبصارك مظلم، فكيف تتجول؟
إنّ الإنسان الذي لا تسعه الدنيا ، يحجبها عنه سنّ شوكة ! ولقد جاء المصطفى ليضع الوفاق ، فكان يقول : “ كلميني يا حميراء كلميني ! “ .
يا حميراء ! ضعي نعل ( الجواد ) في النار ، حتى يغدو هذا الجبل - من نعلك - ياقوتا “ 1 “ .
وكلمة “ حميراء “ هذه مؤنثة . وقد جعل هؤلاء العرب للروح اسماً مؤنثاً .

 

1975 - ولكن لا ضير على الروح من تأنيثها ، فليست مشتركة مع الرجال والسناء ( في التذكير والتأنيث ) .
إنها أسمى من المؤنث والمذكرّ ، فليست هي هذه الروح التي
....................................................................
( 1 ) من العادات التي كانت تتبع لبعث المحبة في قلب المحبوب أن يكتب اسم هذا المحبوب على نعل دابة ويوضع في النار حيث تقرأ عليه رقى وتعاويذ . كما أنه إذا أبق عبد كان اسمه يكتب على نعل دابة ويوضع هذا النعل في النار ليرجع العبد .
ومعنى البيت أن الرسول طلب من زوجته عائشة أن تعمل على إثارة الحب في قلبه حتى يتملكه هذا الحب فيجعل الجسم المادي الذي هو كالجبل كنزا من المحبة الروحية الصافية التي هي كالياقوت .



“ 274 “


تكون من الجاف أو البلل “ 1 “ .
إنها ليست هذه الروح التي تنمو ( بتناول ) الخبز ، أو تكون حيناً على هذا النحو وحيناً على ذاك .
فهي حلوة الصنع ، حلوة في ذاتها ، بل هي عين الحلاوة ! وليست هناك حلاوة إلا حلاوة ( الباطن )
 أيها المرتشي “ 2 “ ! فحين يكون السكر مصدر حلاوتك ، فمن الجائز أن ينقطع عنك السكر في وقت من الأوقات .

 

1980 - ( ولكنك ) حين تصبح - بعظيم وفائك - سكراً فأنّى للسكر أنْ يفترق عن السكر “ 3 “ ؟
والعاشق حين يغتذي برحيق من ذاته ، فإنّ علقه يبقى - حينذاك - ضائعاً وبلا رفيق “ 4 “ .
فالعقل الجزئيّ منكر للعشق ، وإنْ تظاهر بأنه من أصحاب السر ! إنه ذكيّ عالم ، ولكنه ليس منتفي ( الذات ) ، 
والمَلَك - إن لم يكن منفيّ الذات - فهو شيطان ! إنه رفيق لنا في القول والفعل ، ولكنك حين تجيء إلى حكم الحال ( الباطني ) فلا وجود له .

1985 - إنه لا شيء لأنه لم ينتقل من الوجود إلى العدم ، وهو إن لم يَلُذْ بالنفي طوعاً - فما أكثر ما انتقى كرهاً !
........................................................
( 1 ) يريد بالروح التي تكون من الجفاف أو البلل الروح الحيوانية وتوصف بأنها “ جسم لطيف “ وبأنها تتولد من القلب وتحملها الشرايين إلى المخ . ولما كانت هذه الروح قد تولدت من أصل مادي فإنها تخضع لخواص المادة من يبس أو ميوعة أو حرارة أو برودة .
( 2 ) المرتشي هنا هو الذي يحصل على متع مادية تصرفه عن الطريق الروحي القويم .
( 3 ) الفضائل إذا أصبحت طبيعة للمرء فإنها لا تفارقه ، وكذلك الحلاوة طبيعة لا تفارق السكر .
( 4 ) لا بد للعاشق من الإلهام الإلهي لأنّ العقل وحده لا يستطيع هدايته إلى الحق .

 

“ 275 “

 
إنّ الروح كمال ، ونداؤها كمال ، والمصطفى هو القائل : “ أرحنا يا بلال ! يا بلال ! 
ارفع صوتك العذب ( ريّان ) من ذلك النفس الذي نفختُه في قلبك ، من ذلك النفس الذي دهش له آدم ، وذهب بوعي أهل السماء .
ولقد طرب المصطفى لذلك الصوت الرخيم ! ففاتته الصلاة في ليلة السفر “ 1 “ .

 

1990 - فهو لم يرفع رأسه من ذلك النوم المبارك فأدّى في الضحى صلاة الصبح .
فقد كان في ليلة التعريس أمام تلك العروس ، وحظيت روحه بتقبيل يدها .
والعشق والروح كلاهما خفيّ مستتر ، فإن كنتُ قد سمّيتُه عروساً فلا تَعبْ ذلك .
ولو أنّ الحبيب أمهلني لحظة واحدة لَلَزمتُ الصمت ( خشيةً ) من ملاله .
لكنه يقول لي : “ هلمّ تكلمّ ! فما في ذلك عيب ، فليس هذا سوى ما اقتضاء قضاء الغيب “ .

 

1995 - وما العيب إلا ( عند ) من لا يرى سوى العيب ، وكيف ترى العيب الروح الطاهرة في عالم الغيب ؟
......................................................
( 1 ) روى البخاري عن أبي قتادة الحارث بن ربعي قال : “ كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم في سفر مع أصحابه فناموا فما أيقظهم إلا حرّ الشمس فقال عليه السلام :
“ إنَّ اللَّه قبض أرواحكم وردّها عليكم حين شاء “ . المنهج القوي ، ج 1 ، ص 367 .
وروى ابن هشام أن المسلمين حين انصرفوا من خيبر ظافرين في العالم السابع للهجرة توقفوا للراحة في الهزيع الأخير من الليل فناموا فما أيقظهم إلا حرّ الشمس وفاتتهم صلاة الفجر .

 

“ 276 “
 

إنْ العيب قد انتسب إلى المخلوق الجهول ، ( ولكنه ) لا انتساب له إلى ربّ القبول .
والكفر - إذا نُسبَ إلى الخالق - فهو حكمة “ 1 “ ، أما إذا نسب إلينا فهو آفة .
ولو كان هناك عيب واحد مع مائة حياة ، فهو على مثال القشة في سكر النبات .
فهما ( القشة والسكر ) يوزنان على السواء في الميزان لأن كليهما حلو مثل الجسم والروح .

 

2000 - فليس من جزاف القول ما قاله الكبراء “ 2 “ : إنّ أجسام الطاهرين تكون صافية كأرواحهم .
فأقوالهم ونفوسهم وصورهم ، جاءت كلها روحاً مطلقاً ، بدون علامة ظاهرة .
وروح عدّوهم ليست إلا جسماً ( مادّياً ) صرفاً ، فهي لا تعدو أنْ تكون اسماً ، كالحجر الزائد في النرد .
وقد دفن بالتراب جسم هذا ( العدّو ) وصار كله تراباً ، وأما جسم ( الوليّ ) فقد دفن في الملح وصار كله طاهراً .
فبهذا الملح صار محمد أملح “ 3 “ ( الخلق ) ، وبه صار حديثه الشهي أفصح ( ما قيل ) .

 

2005 - وقد بقي هذا الملح في تركته ، وإنّ وارثيه معك ، فابحث عنهم ! 
لقد جلسوا أمامك ، ولكنْ أين منك الأمام ؟ إنهم أمام وجودك ( الحقّ ) فأين الروح التي تفكر فيما أمامها ؟
..................................................................
( 1 ) ليس هناك عيب يمكن أن يعيب الخالق صاحب الكمال المطلق ، حتى ولو كان الكفر ، وهو أعظم الذنوب بالنسبة للبشر .
( 2 ) ذوو المكانة الروحية الرفيعة .
( 3 ) الشاعر هنا يلعب بلفظتي ملح وملاحة .



“ 277 “


فإذا ظننت نفسك مرتبطة “ بالأمام “ و “ بالخلف “ ، فإنك أسير الجسم ، محرومُ من الروح .
إنّ “ تحت “ و “ فوق “ و “ أمام “ و “ وراء “ أوصاف للجسم ، وأما الروح المشرقة بذاتها فلا اتجاه لها ! 
فافتح بصرك على النور المشعّ من المليك حتى لا تفكر مثل قصار النظر ،


2010 - فهؤلاء ليسوا إلا أسارى للهم والسرور ، فيا أيها العدم “ 1 “ ! أين من العدم “ أمام “ و “ وراء “ .
إنّ اليوم ممطر فامش حتى السماء ، فليس هذا المطر مادّياً ، بل هو إمطار روحيّ من اللَّه “ 2 “ .


قصة عائشة رضي اللَّه عنها وسؤالها المصطفى عليه السلام قائلة :
إن السماء أمطرت اليوم عندما ذهبت إلى المقابر فلماذا لم تبتل ثيابك ؟
 
لقد ذهب المصطفى - ذات يوم - إلى المقابر ، ليشّيع جنازة رجل من أصحابه .
فسدّ بالتراب قبره . وأحيا بذرة ( وجوده ) تحت التراب “ 3 “ .
..................................................
( 1 ) يا من عميت عن وجودك الحقّ ولم تدرك إلا وجودك الماديّ الزائل .
( 2 ) إنّ حياة الإنسان يومُ ينتهي بالسماء وهو الموت ، والإنسان في هذا اليوم يمضي في طريقه نحو ربه ، واللَّه يمطره بإلهامه الروحيّ ، فعليه أن يتعرض لهذا الإلهام ما استطاع إلى ذلك سبيلًا .
( 3 ) إنّ الموت بدء لحياة جديدة ، لامكان فيها للجسم المادي .

 

“ 278 “


فهذه الأشجار مثل نزلاء التراب ، رفعت أيديها من جوف الثرى !

 

2015 - وهي توّجه إلى الخلق مائة إشارة ، وتخاطب من له أُذن ( تعي ) ! وبلسان أخضر ، ويد ممدودة ، تبوح بسرّ ( من ) ضمير الأرض .
فهي كالبطّ الذي غمر بالماء رءوسه “ 1 “ ، ولقد أصبحت كالطواويس وكانت كالغربان “ 2 “ .
فإن كان اللَّه قد حبسها في زمن الشتاء ، فإنه ( في الربيع ) قد جعل هذه الغربان طواويس .
وإن كان اللَّه قد أمامتها في الشتاء ، فإنه قد أحياها بالربيع ووهبها الأوراق !


2020 - إن المنكرين يقولون : “ إنّ هذا وجود قديم ، فلماذا نربطه بربّ كريم ؟ 
“ وبينما هؤلاء في عماهم ، أنت الحق في قلوب أحبّائه الرياض والبساتين ! 
فكل وردة عطرة في الباطن ، ناطقةمفصحة عن أسرار الكلّ .
وعطر هذه الورود - رغم أنف المنكرين - يطوّف بالعالم فيمزّق الحجب ( عن الأبصار ) ! 
والمنكرون أمام عطر هذا الورد كالجعلان “ 3 “ ، أو هم كالعقل الرقيق أمام صوت الطبل .

 

2025 - إنهم يتظاهرون بالانشغال والاستغراق ، بينما هم يفرون بأبصارهم من هذا الإشراق ، وذلك البريق !
......................................................
( 1 ) الأشجار حجبت أصولها تحت التراب كالبط الذي غمر بالماء رءوسه .
( 2 ) الأشجار تصبح في الربيع زاهية الألوان كالطواويس بعد أن كانت في الشتاء مُغْبَرَّةً سوداء كالغربان .
( 3 ) نوع من الحشرات يحوم حول المواضع القذرة ، تفقده الروائح الطيبة إحساسه ، على حين تحييه الروائح النتنة .

 
“ 279 “

إنهم يفرّون بأبصارهم ، وليست لهم أبصار ، لأن البصر هو الذي يرى مكان الأمان .
وعندما عاد الرسول من المقابر ، توّجه إلى الصدّيقة ، وأصبح نجياً لسرّها .
فلما وقع بصر الصديقة على وجهه ، تقدمت نحوه ، ووضعت يدها عليه .
وتحسّست عمامته ، ووجهه وشعره ، وليست جيبه وصدره وساعده .

 

2030 - فقال الرسول : “ عم تبحثين بتلك العجلة ؟ “ ، فقالت : “ لقد سقط المطر اليوم من السحاب ، 
وهأنذا أتلمس ثيابك باحثة ، ومن عجب لا أراها مبتلة بالأمطار ! 
“ فقال : “ أيّ خمار قد ألقيت على رأسك ؟ “ ، فقالت “ لقد جعلتُ رداءك هذا خماراً “ .

فقال : “ فلهذا السبب - أيتها الطاهرة الجيب - أظهر اللَّه أمام عينيك أمطار الغيب !
 فليست هذه الأمطار من سحابك “ 1 “ ، فهناك سحب أُخرى وسماء أُخرى “ .

 

تفسير قول الحكيم “ 2 “
“ إنّ في عالم الروح سماوات تحكم سماء الدنيا وفي طريق الروح مرتفعات ومنخفضات وجبال عالية وبحار “
 
2035 - إنّ للغيب سحاباً آخر وماء آخر ، وله سماء غير تلك السماء وشمس غير تلك الشمس .
.................................................
( 1 ) من ذلك السحاب المادي الذي تبصرينه .
( 2 ) المقصود سنائي الغزنوي .



“ 280 “


وليست هذه تظهر إلا للخواص ، وأما من عداهم فإنهم” في لَبْسٍ منْ خَلْقٍ جَديدٍ ““ 1 “ .
فهناك أمطار يزدهر بها النبات ، كما أنّ هناك أمطاراً تصوّحه .
فنفحات أمطار الربيع آية العجب ، وأما أمطار الخريف فهي للبستان كالحُمّى ! 
فأمطار الربيع تغذّيه برفق ، وأما أمطار الخريف فتجعله معتلًا أصفر اللون .

 
2040 -  وهكذا البرد والريح والشمس ، فلتعلم أنها متفاوتة الآثار ، ولتمُسك بطرف الخيط “ 2 “ ! 
وفي الغيب أنواع من ذلك أيضاً ، فيها النفع والضرّ وفيها الربح والخسران .
وأنفاس الأبدال إنما هي من ذلك الربيع ، فهي تنبت الخضرة في القلوب والأرواح .
وإنها لتفعل بالمجدود الطالع ما تفعله أمطار الربيع بالأشجار ! 
فإنْ كانت في المكان شجرة ذابلة ، فلا تنسب عيبها إلى الرياح التي تبثّ الحياة .
 

2045 -  إنّ الرياح قد أدت عملها إذ هبّت ، فمن كان ذا روح آثرها على روحه .
......................................................
( 1 ) قال تعالى : “ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد “ . (سورة ق ، 50 : 15 ) .
( 2 ) لتضع يدك على السرّ .

 

“ 281 “


في معنى الحديث : “ اغتنموا برد الربيع فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم ،
واجتنبوا برد الخريف فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم “

قال الرسول : “ أيها الصحاب ! تنبهوا ولا تحجبوا أبدانكم عن برد الربيع .
فإنه يفعل بأرواحكم ما يفعله الربيع بالأشجار .
أما برد الخريف فلتهربوا منه فإنه يفعل بأوراحكم فعله بالبساتين والكروم “ .
وقد حمل الرواة هذا الحديث على ظاهره ، وقنعوا به على تلك الصورة .

 

2050   فهؤلاء كانوا جهلاء بالروح ، وقد أبصروا الجبل ولكنهم لم يبصروا المنجم في باطنه .
فذلك الخريف - عند اللَّه - ليس إلا النفس والهوى ، وأما العقل والروح فهما عين الربيع والبقاء .
إنك صاحب عقل جزئيّ مستتر ، فلتبحث في الدنيا عن كامل العقل !
فعقلك الجزئيّ يكتسب الكليّة من عقله الكلّيّ ، وإن العقل الكلي لهو كالرسن للنفس ( الجموح ) .
فالتأويل هو أنّ الأنفاس الطاهرة مثل الربيع ، وهي حياة للأوراق والكروم .

 

2055 -  فلا تحجب بذنك عن أقوال الأولياء ، سواء منها ما رقّ أو

 
“ 282 “

 

ما خشن ، فإنها دعامة لدينك .
فلو كان كلام ( الوليّ ) حاراً أو بارداً ، فتقبّله بقبول حسن ، فإنك به تفرّ من البرد ومن الحرّ ومن السعير .
إنّ حرارته وبرودته إنما هما ربيع جديد للحياة ، وهما أصل الصدق واليقين والخضوع .
وهو إذ كان حياة لبستان الروح ، وكان بحر قلبه حافلًا بتلك الجواهر ، فإنّ قلب العاقل تنتابه آلاف الهموم ، لو نقص من بستان القلب عود خلال .


كيف سألت الصدّيقة المصطفى قائلة : “ ماذا كان سرّ أمطار اليوم ؟ “

 
2060 -  قالت الصدّيقة : “ يا زبدة الوجود ! ماذا كانت الحكمة وراء أمطار اليوم ؟
أكانت هذه أمطار الرحمة ، أم أنها كانت للتهديد ، ( وبيان ) عدل الكبرياء ؟
أكانت هذه من الألطاف الربيعيّة ، أم أنها كانت خريفيّة حافلة بالآفات ؟ “ 
فقال : “ لقد كانت هذه لتسكين الهموم ، التي ( أوقعتها ) المصائبُ على الجنس الآدميّ “ “ 1 “ .
....................................................................
( 1 ) المعنى أن هذه الأمطار الغيبية التي أبصرتها الصديقة لم تكن إلا نفحات من الرحمة الإلهية بعث بها الخالق لتسكين هموم البشر .


“ 283 “


فلو أقام الآدمي على تلك النار زمناً، لوقع الكثير من الخراب والضياع “ 1 “،      
 
2065 - ولأصبح هذا العالم - في الحال - خرباً ، ولا نطلقت نوازع الحرص من نفوس البشر .
أيتها الروح ! إنّ الغفلة “ 2 “ إنما هي دعامة هذا العالم ، كما أن اليقظة “ 3 “ آفة لهذه الدنيا .
فاليقظة إنما هي من العالم الآخر ، فحين تصبح لها الغلبة ، يتداعى هذا العالم ! 
إنّ اليقظة هي الشمس وأما الحرص فهو الثلج “ 4 “ . اليقظة هي الماء ، وأما هذا العالم فهو الوسخ “ 5 “ .
وإنا لتصلنا رشحات قليلة من ذلك العالم ( الروحيّ ) ، حتى لا يزمجر الحرص والحسد في هذا العالم .
 

2070 - فلو زادت الرشحات من عالم الغيب لما بقي في هذا العالم فضل ولا عيب “ 6 “ .
إنّ هذا ( البحث ) لا نهاية لا ، فلنعد إلى البداية ، ولنرجع إلى قصة الرجل المطرب .
.......................................................
( 1 ) حرفياً : النقصان .
( 2 ) الغفلة عن هوان هذه الدنيا وعن جمال العالم الروحي .
( 3 ) اليقظة الروحية .
( 4 ) اليقظة تقضي على الحرص كما تذيب الشمس الثلوج .
( 5 ) كذلك تزيل اليقظة الحرص كما يزيل الماء الوسخ .
( 6 ) لو غلب عالم الغيب على هذا العالم المادي لقضى على ما فيه من قيم ومقاييس أوحت بها للإنسان حياته في الدنيا .

 

“ 284 “
بقية قصة عازف الصنج الهرم وبيان مغزاها

إنّ هذا المطرب الذي طربت له الدنيا ، والذي انبعثت من صوته الخيالات العجب ، 
من - بشدوه - كان طائر القلب يحلّق ، ومن بصدى ( نغماته ) حار عقل الروح ! 
حينما مضى عليه الزمن وشاخ ، أصبح بازيّ روحه - من العجز - صيّاد للبعوض .

 

2075 - لقد تقّوس ظهره كظهر الإبريق ، وغدت حواجبه فوق عينيه ، كالحَبْل فوق دُبُر الدابة .
وأصبح صوته اللطيف - الذي كان ينعش الروح - قبيحاً ، لا يرى أحدُ أنه يستحق شيئاً .
وأنغامه التي كانت - ذات يوم - مثاراً لحسَد الزهرة “ 1 “ صارت مثل نهيق حمار هرم .
وأيّ جميل لم يَغْدُ قبيحاً ؟ أم أي سقف لم يصبح مساوياً للأرض “ 2 “ ؟
إلا ألاصوات في صدور ( الأولياء ) الأعزاء “ 3 “ ، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصور من صدى نفاسهم !


2080 - فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن ، وفناؤهم “ 4 “ هو الذي استعمد وجودُنا منه الوجود .
...................................................................
( 1 ) من المعتقد قديماً أن الزهرة كانت امرأة وقع عليها المسخ فأصبحت نجماً .
كما يصور شعراء الفرس هذا النجم مغنياً عارفاً .
( 2 ) حرفياً : لم يصبح مفرشاً .
( 3 ) يستثني الشاعر هنا أصوات الأولياء من الحكم الذي ذكره في البيت السابق وهو أن كل جميل يغدو قبيحاً .
( 4 ) الفناء عن العالم المادي ، والخلاص من تأكيد الذات .
 

“ 285 “


إن الوليّ هو كهرباء الفكر وكل صوت ! إنه لذة الإلهام والوحي والأسرار ! 
فهذا المطرب - حين شاخ وضعف - أصبح - لا نعدام كسبه - رهين رغيف واحد .
فقال : “ يا إلهي ! لقد أطلت عمري ومهلتي ، وأنعمت على خسيس بألطافك ! لقد اقترفتُ الآثام سبعين عاماً ، لكنك لم تحجب عني نوالك يوماً !

 

 2085 - فاليوم لا كسب لي ، وإني ضيفك ! وهأنذا أضرب الصنج من أجلك ، فإني لك “ .

ورفع الصنج بيده ، ومضى طالباً ربه ، واتجه - وهو يتأوه - إلى مقابر يثرب .
وقال : “ إني أطلب من اللَّه ثمن حرير ( الأوتار ) ، فهو الذي يتقبل برحمةٍ منه زائف النقد “ .
لقد أطال العزف ثم مال برأسه باكياً ، فتوسد الصنج وسقط فوق أحد القبور ! 
فأخذه النوم ، وأفلت طائر روحه من الجس ، فترك الصنج والعارف وانطلق .

 

2090 - لقد تخلّص من البدن ، وألم الدنيا ، إلى عالم بسيط “ 1 “ ، وإلى ما للروخ من سهوب فساح .
فهناك كانت روحه تتغنى بما اعتراها ، ( قائلة ) : “ ليتني أُترك ههنا ! 
فما أسعد روحي بهذا البستان وذلك الربيع ! إنها سكرى بهذا المرج ، وبرياض أزاهير الغيب .
..........................................................................
( 1 ) عالم روحي خالص وليس مركباً من الروح والمادة كعالم الدنيا .



“ 286 “


فهأنذا أُسافر بلا رأس ولا قدم “ 1 “ ! وهأنذا أتذوق السكر بلا شفة ولا أسنان ! 
وهأنذا ألهو مع سكان السماء ، وقد خلصت ذاكرتي وفكري من آلام الدماغ !

 

 2095 - وهأنذا أرى عالماً ( بأسره ) وعيناي مغمضتان ! وهأنذا - بلا كف - أجتني الورد والرياحين ! “ .
إنّ طائر الماء أصبح غريق بحر من العسل ، وأضحى نبع أيوب له شراباً ومغتسلًا “ 2 “ .
هذا الذي بمائه أصبح أيوب - من قمة الرأس إلى القدم - بريئاً من الآلام مثل نور المشرق !
فلو كان المثنوي في حجم الفلك ، لما اتسع لنصف مثقال من هذا ( السرّ الإلهيّ ) .
فإنّ هذه الأرض ، وتلك السماء - على سعتهما - مزقتا قلبي إرباً بضيقهما “ 3 “ !

 

2100 - وأما ذلك العالم تجلى لي في المنام فقد أطلق برحابته قوادم جناحيّ وخوالفهما .
فلو ظهر للعيان ذلك العالم واتضح سبيله ، لما بقي أحدُ لحظةً واحدة في هذا العالم ( الماديّ ) .
لقد كان الأمر يأتيه ( قائلًا ) : “ لا تكن طامعاً ! وما دامت الشوكة قد خرجت من قدمك فلتمش ! “ .
.......................................................................
( 1 ) بلا رأس يدبرو لا قدم تسعى .
( 2 ) قال تعالى : “ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، راكض برجلك هذا مغتصل بارد وشراب “ . ( سورة ص ، 38 : 40 - 41 ) .
( 3 ) عاد الشاعر هنا إلى رواية حديث عازف الصنج .


“ 287 “


لكن روحه كانت تمضي متأنية ، مستغرقة في فضاء رحمة اللَّه وإحسانه .


كيف أمر الهاتف عمر رضي اللَّه عنه في منامه قائلا :
“ أعط قدراً من ذهب بيت المال لذلك الرجل النائم في القابر “


وفي ذلك الوقت أرسل اللَّه إلى عمر نوماً لم يستطيع أن يتمالك منه نفسه .



2105 - فاستولى عليه العجب ( وقال ) : “ إنّ هذا ليس بمعهود ! لقد جاء من الغيب ، وليس أمراً غير مقصود “ .
فوسد رأسه وأخذه النوم ، فرأى في المنام أنّ نداء جاءه من الحق ، سمعته روحه .
فذلك النداء هو أصل كل صيحة ، وكل صوت . إنه النداء ( الحق ) ، وكل ما عداه فهو صدى .
فالترك والكرد والفرس والعرب فهموا هذا النداء بدون ( حاجة ) إلى أُذن وشفة .
بل أي مكان للترك والعرب والزنج ( هنا ) ؟ إنّ هذا النداء قد فهمته الأخشاب والأحجار !


 2110 - ففي كل لحظة يجيء منه ( نداءُ )” أَ لَسْتُ ““ 1 “ ، فتتخذ الجواهر
.........................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى :” وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ منْ بَني آدَمَ منْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسهمْ أَ لَسْتُ برَبِّكُمْ قالُوا بَلى “. ( الأعراف ، 7 : 171 ) .
وتفسير الآية : واذكر إذ أخرج ربك من أصلاب بني آدم ذريتهم على ما يكونون عليه في حياتهم المقبلة جيلًا بعد جيل ، وأظهر لهم دلائل ألوهيته ، ووهبهم من العقول ما مكنهم من إدراكها ثم أشهدهم على أنفسهم بقوله : “ ألست بربكم “ فقالوا : “ بلى “ .

“ 288 “


والأعراض صفة الوجود .
ولو لم تجب تلك بقولها : “ بلى “ فإنّ مجيئها من العدم إلى الوجود هو الجواب بالإيجاب .
ولكي تتبين ما قلته عن الإدراك عند الأحجار والأخشاب ، استمع جيداً إلى هذه القصة .


كيف ناح الجذع الحنّان حينما أقيم منبر للرسول عليه السلام وذلك لأن المسلمين  وقد ازداد المبارك حين تعظنا “ .
وكيف سمع الرسولُ وأصحابهُ نواح الجذع وكيف جرى الحديث بصريح العبارة بين المصطفى وبين الجذع “ 1 “

 
لقد كان الجذع الحنّان ينوح - من جراّء هجر الرسول - كأنه من أرباب العقول .
فقال الرسول : “ ما ذا تريد أيها الجذع ؟ “ . فقال الجذع : “ إن روحي قد أصبحت - بفراقك - دماً !


 2115 لقد كنتُ مَسْنداً لك ، فتخليّت عني ، واتخذت لك مَسنداً فوق رأس المنبر “ .
.................................................................................
( 1 ) اتفق البخاري وأبو داود في الرواية عن جابر قال : “ كان النبي إذا خطب استند على جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صُنع له المنبر صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق ، فنزل عليه السلام حتى أخذها وضمها اليه فجعلت تئن أنين الصبى الذي يسكت حتى استقرت فقال عليه السلام : “ بكت على ما كانت تسمع من الذكر “ . ( المنهج القوي ج 1 ، ص 388 ) .



“ 289 “

 

فقال الرسول : “ أتود أن تُصبح نخلةً يجتنى منها الشرقيُّ والغربيُّ الثمار ؟
أم تريد أن تغدوَ في هذا العالم سرواً ، فتبقى إلى الأبد ريّان نضراً ؟ “ فقال الجذع : “ إنني أبتغي ما يدوم له البقاء ! “ . فلتستمع ( إلى ذلك ) أيها الغافل ! ولا تكن أقلّ ( إدراكاً ) من الخشبة ! ولقد دَفَنَ الرسولُ ذلك الجذعَ تحت التراب حتى يُحشَرَ كالناس يوم القيامة .


2120  حتى تعلم أنّ كلّ من دعاه اللَّه ( إليه ) بقي مُنصرفاً عن كل مشاغل الدنيا .
فكل من كان له مع اللَّه عمل وشؤون ، يجد سبيلًا إلى هناك ( عالم الروح ) ، وينصرف عن عمل ( الدنيا ) .
وأما من لم يكن ذا حظّ من الأسرار ، فأنى له أن يصدق نواح الجماد ؟
إنه يبدي الموافقة ، ولا يكون ذلك بقلبه ، بل من أجل الوفاق ، حتى لا يقال له إنه من أهل النفاق “ 1 “ .
ولو لم يكن بالدنيا من هم واقفون على “ أمركُنْ “ “ 2 “ لكان هذا الكلام مردوداً .


2125  فمئات الألوف من أهل التقليد والظاهر ، قد أوقعهم نصف وهمٍ في الظنون “ 3 “ .
...........................................................
( 1 ) حتى لا يتهم بأنه ينافق في دينه .
( 2 ) “ أمركُنْ “ هو مقدرة الخالق على الخلق .
( 3 ) الشطر الثاني من هذا البيت في طبعة نيكولسون هو : “ أفگند در قعر يك آسيبشان “ . ولكنا اختزنا في ترجمتنا رواية أخرى لهذ الشطر وردت في المنهج القوي ، كما وردت في أقدم المخطوطات التي اعتمد عليها نيكولسون في طبعته وهي : “ أفگند شان نيم وهمي درگمان “ ، لأنها أكثر مجاراة لمعاني الأبيات التالية .


 

“ 290 “

 

فكلّ ما لهم من تقليد واستدلال ، قائم على الظنّ وهكذا جملد قوادمم وخوالفهم “ 1 “ .
فهذا الشيطان الخسيس يثير الشبهة ، فينقلب كل هؤلاء العُمى فوق رؤوسهم .
إنّ هؤلاء الاستدلاليّين يسعون على ساق خشبية ، والساق الخشبية متعثرة واهية ! 
فهم على خلال قطب الزمان ، صاحب البصيرة ، من تذهل من ثباته الجبال .

 

2130   والعصا هي ساق الأعمى ، وهي معه حتى لا يتعثر بالحصا فينقلب على رأسه .
إنّ الفارس وسيلة الجيش إلى الظفر ، فمن مثله لأهل الدين ؟ إنّ ( لهم ) أربابَ البصر .
والعمي - وإن أبصروا الطريق بالعصيّ - فهم في رعاية الخلق المبصرين .
فلو لم يكن هناك مبصرون ، وملوك ( روحيّون ) ، لهلك جيمع من في الدنيا من العميان ! 
فما يتأتى من العميان زرع ولا حصاد ، ولا عمارة ولا تجارة ولا ربح .

 

2135    ولو لم يرحمك اللَّه ، ويتفضل عليك ، لكسر لك عصا استدلالك .

فما هذه العصا ؟ إنها القياسات والأدلة ! ومن وهبها للناس ؟ إنه المبصر الجليل ! وما دامت هذه العصا قد أصبحت آلة للحرب والنزاع ، فلتحطمها ولتبددها “ 2 “ أيها الضرير !

.........................................................................

( 1 ) يريد بالقوادم والخوالف هنا الوسائل التي كانوا يستخدمونها في الوصول إلى الحقائق .

( 2 ) حرفياً : “ فلتحطمها قطَعاً أيها الضرير ! “ .


 

 

“ 291 “

 

لقد أعطاك هذه العصا لكي تتقدم بها ( نحوه ) ، فإذا بك في غضبك تتهجم بها عليه .
فيا حلقة العميان ! ماذا أنتم فاعلون ؟ ألا فلتحضروا بينكم مبصراً هادياً .

 

2140   ولتعتصموا بحبل من وهبكم العصا ! وللتأملوا ما لقية آدم من العصيان ! ولتنظروا إلى معجزتيْ موسى وأحمد ، وكيف صارت العصا حيّة أو جذعاً يعقل ! فمن العصا تنطلق الحيّة ، ومن الجذع تنطلق الحنين ، خمس مرات - كل يوم - من أجل الدين “ 1 “ ! فلو لم يكن هذا الذوق غير معقول ، فإية حاجة كانت لكل هذه المعجزات ؟
فكل ما كان معقولًا يتقبله “ 2 “ العقل ، بدون حاجة إلى إظهار المعجزات ولا الجدال .

 

2145   فمهما أبصرت هذا الطريق البكر غير معقول “ 3 “ ، فانظر ( كيف ) أنه مقبول لدى قلب كل مجدود الطالع .
فكما هربت الجن والوحوش إلى الجزر خوفاً من الإنسان وحسداً له ، فإنّ المنكرين أخفوا رؤوسهم تحت العشب ، خوفاً من معجزات الأنبياء ! 
وذلك ليعيشوا بالنفاق ، مشتهرين بالإسلام ، فلا تدري من يكونون .
فهم كالمزيفين ، يمسحون النقد الزائف بالفضة ، ( ويضعون عليه ) اسم الملك .
.............................................................................
( 1 ) أي أنّ المعجزات التي تبرهن على الدين الحق لا تنقطع .
( 2 ) حرفياً : يأكله العقل .
( 3 ) حرفياً : فانظر هذا الطريق البكر غير معقول وانظر . . . والمعنى : إن كان نظر يريك هذا الطريق غير معقول فإنه مقبول لدى قلوب السعداء المهتدين .


 

“ 292 “

 

2150   فظاهر ألفاظهم التوحيد والشرع ، وأما باطنها فهو كالخبز الذي حوى حبوباً تصرع الإنسان .
إنّ المتفلسف لا قدرة له من أن ينطق بكلمة ، ولو نطق بها فإنّ الدين الحقّ يُفحمه ! 
فيده ورجله من الجماد ، وهما تطيعان كل ما تأمر به روحه .
ومع أنّ ( المنكرين ) تنطق ألسنتهم بالتُهَم ، فإن أيديهم وأرجلهم تشهد عليهم “ 1 “ .



إظهار معجزة الرسول عليه السلام بنطق الحصى في يد أبي جهل عليه اللعنة 
وكيف شهد الحصى بصدق محمد عليه السلام


لقد أطبق أبو جهل بكفه على بعض الحصى ، وقال : “ يا أحمد ! عجّل ، وقل لي ماذا بكفي !



2155 فإن كنتَ رسولًا ( فلتخبرني ) ما الذي اختفى بكفي ، ما دمت تعلم أسرار السماء “ .
فقال الرسول : “ وكيف تريد أن أخبرك ؟ أأقول لك ماذا تكون ( هذه الأشياء ) ، أم تقول لك هي أنني حقّ وصدق ؟
 “ فقال أبو جهل : “ إنّ الأمر الثاني أكثر غرابة ( من الأول “ 2 “ ) “ .
فقال الرسول : “ نعم ، ولكن الحق أقدر على ما فوق ذلك “ .
فانطلقت كل حصاة في كفه - بدون تخلف - ناطقة بالشهادة .
..................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ اليوم نختم على أقواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما وكانوا يكسبون “ . ( يس ، 36 : 65 ) .
( 2 ) أمعن في غرابته .


 

“ 293 “



وقالت “ لا إله إلا اللَّه “ ، ونظمت جواهر “ محمد رسول اللَّه “ .
2160  فحين سمع أبو جهل هذا من الحصى ، رماه على الأرض غاضباً



.بقية قصة المطرب وكيف أن أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه
أبلغه الرسالة التي نطق بها الهاتف


فلتعد ولتستمع إلى حال المطرب ، فإنّ هذا المطرب أعياه الانتظار .
لقد هتف النداء بعمر ( قائلًا ) : “ يا عمر ! خلصّ عبدنا من الحاجة !
 إنّ لنا عبداً ذا حظوة واحترام ، فجشّم قدميك التوجّه إلى المقابر .
يا عمر ! عجلّ ، وخذ بيدك “ 1 “ سبعمائة دينار من بيت المال العالم !

 

 2165 واحملها إليه ( قائلًا ) : “ يا من أنت مختارنا ومصطفانا ! خذ هذا القدر الآن ، واعذرنا .
إنّ هذا القدر ثمن الحرير ، فأنفقه ! وحين ينفد ، عُدْ إلى هذا المكان !
 “ فقفز عمر من هيبة هذا الصوت ، وشدّ حزامه للقيام بتلك الخدمة .
لقد اتجه عمر نحو المقابر مسرعاً ، باحثاً ، وقد تأبط كيساً .
ودار كثيراً حول المقابر ، فلم يجد هناك أحداً سوى هذا الشيخ .

 

2170  فقال : “ ليس هذا ! “ ، وجرى مرة أُخرى فتعب ولم ير غير هذا الشيخ .
فقال : “ لقد دعاني الحق ( بقوله ) : إنّ لنا عبداً صافياً مباركاً !
.................................................................
( 1 ) حرفياً : وضع في يدك .



“ 294 “

 

فمتى كان عازف الصنج من خواصّ اللَّه ؟ ألا أيها السرّ الخفي ! ما أروعك وما أبهاك ! “ .
ودار مرة أُخرى حول المقابر ، كما يدور أسد مفترس حول البرية .
فلما أيقن أن ليس هناك سوى هذا الشيخ قال : “ إنّ في الظلمة لكثيراً من القلوب النيّرة ! “ .

 

2175   وجاء ، وجلس هناك في آدب جمّ ، وانتابته عطسة فقفز الشيخ .
ورأى عمر فتولاه العجب ، وهم بالمسير ، فأصاب الارتعاش بدنه .
فحدث نفسه قائلًا : “ يا إلهي ! لقد التمست منك العطاء ، ( ولكن ) ها هو ذا المحتسب قد وقع على مطرب شيخ ! “ .
وحين وقع نظر عمر على وجه هذا الشيخ ، رآه خجلًا شاحباً .
فقال له عمر : “ لا تخف ! ولا تهرب مني ! لقد جئتك ببشارة من الحقّ .

 

2180 - لقد أفاض اللَّه في مدح صفاتك حتى جعل عمر عاشقاً لمحيّاك ! فالجس أمامي ، ولا تهجرني ، حتى أحدثك بسرّ عن الإقبال ! 
إنَّ الحق يسلّم عليك ويسألك : كيف أنت في الملك وهمومك التي لا تحدّ ؟
إليك بعض النقود ( لتدفع ) ثمن الحرير ، فأنفقها ، وعد ثانية إلى هذا المكان ! “ .

فلما سمع الشيخ هذا ( الكلام ) ارتجف ، وعضّ يده ، ومزق ثيابه


 2185  - وصاح : “ أيها الإله الذي لا نظير له ! حسبك أنّ هذا الشيخ المسكين قد ذاب حياء !
 “ ولما طال به البكاء وطغى عليه الألم ، قذف بالصنج على الأرض فحطمّه .

وقال : “ سحقاً لك ) ، أيها الصنج الذي كان لي حجاباً عن الإله ! يا من كنت قاطع طريق يصدني عن سبيل المَلك !


 



“ 295 “

 

يا من شربت دمي سبعين عاماً ! يا من اسود وجهي - منك - أمام ربّ الكمال ! فيا إلهي ! يا ربّ العطاء والوفاء ! رحمة بعمر تقضى في الجفاء ( والعصيان ) !

 

 2190إنّ الحقّ وهبني عمراً ، وليس سواه يعرف قيمة اليوم الواحد منه .

ولقد أنفقت عمري لحظة لحظة ، ونفخته كله في النغم الخفيض والعالي .

آها فإني - لإمعاني الفكر بموسيقى العراق وأنغامه - لم تخطر بيالي لحظة الفراق المرّ .

وآهاً فإنّ طراوة مقام “ زير افگند “ “ 1 “ الصغير قد أذبلت زرع قلبي ، فمات القلب .

وآهاً فإني - ( لا نشغالي ) بالأصوات الأربعة والعشرين - تركتْني القافلة ، وانقضى النهار .

 

2195  يا الهي ! إنني أستغيث بك من تلك ( النفس ) الضارعة إليك ! وما أطلب إنصافك إلا من تلك ( النفس ) المللتمسة إنصافك ! 
فما أنا واجد لنفسي الإنصاف إلا عنده ، فهو أقرب اليّ من نفسي .

إنّ هذه الأنانيني تأتيني منه لحظة بعد لحظة ، ولهذا فإني لن أراه إلا حين تنقص هذه مني “ 2 “ .

فمثله كمثل الذي يعدّ ذلك الذهب . إنك لتتجه بنظرك إليه ، لا إلى نفسك .

.......................................................................

( 1 ) اسم لا حد الأنغام الموسيقية ومعناه النغمة الخفيضة أو نغمة القرار .

( 2 ) إن عطاءه الذي يصل إليّ في كل لحظة يجعلني أنانياً ، إذ أنني أنظر إلى العطاء ، وأغفل عن الواهب ، مع أن الواجب أن أنظر إلى الوهاب قبل العطاء .


 

 

“ 296 “

 

كيف حول عمر رضي اللَّه عنه نظر المطرب عن مقام البكاء الذي هو 

وجود إلى مقام الاستغراق الذي هو فناء

 

فقال له عمر : “ إنّ انتخابك هذا إنما هو أيضاً من آثار إحساسك بذاتك !

 

 2200 فطريق الواصل إلى الفناء طريق آخر ، كما أنّ الإحساس بالذات إثم آخر .

فالإحساس بالذات مبعثه تذكر الماضي ، وماضيك ومستقبلك هما حجابُك عن اللَّه ! فلتُشْعلْ فيهما النار ( وإلا ) ، فإلى متى تظلّ - مليئاً - منهما - بالعقد كأنك عود من الغاب ؟

فطالما كان الغاب معقداً فليس بشريك في الأسرار ، ولا هو بقرين لتلك الشفة ولا للنغم .

إنك حين تطواف ( بالدنيا ) ، فأنت متلبّس بطوافك ، فإذا جئت إلى دارك ، فأنت لا تزال مع إحساسك بذاتك “ 1 “ .

 

2205  فيا من لم تع معارفك مانح المعرفة ! إن توبتك لأقبح من ذنبك !

..................................................................................

( 1 ) الطواف بالدنيا يشغل الإنسان بما يتيحه له من مشاهدات وصور تتملك حواسه حين مقابلتها ، وتظل مطبوعة في ذاكرته حين يعود إلى داره ويخلو بنفسه ، فلا يكون في الخلوة مجال للتفكر الصوفي ، لأن الذهن يكون مملوءاً بخيالات الدنيا وصورها .


 

 

“ 297 “

 

ويا من تنشد التوبة عن سالف حالك ! خبّرني ، متى تتوب عن هذه التوبة ؟

إنك حيناً تجعل صوت النغم الخفيض قبْلةً لك ، وحيناً تقبّل دموع الأسى ! لقد تيقظت في باطن الشيخ نفسه ، حينما أصبح الفاروق مرآة لأسراره .

فصار كالروح لا بكاء له ولا ضحك ! لقد فارقته روحه ( الحيوانية ) وانبعثت فيه روح أخرى “ 1 “ .

 

2210   واعترف باطنه في ذلك الوقت حيرة ، فخرج عن الأرض وعن السماء .

( فهذا ) بحثُ وطلبُ وراء البحث والطلب ، وأنا لا أعرف ( كيف أصفه ) ، فإنْ عرفتَ فخبرني ! بل هو قول وحال وراء القول والحال ! ( فهذا الشيخ ) قد غرق في جمال ربّ الجلال .

وليس هذا بغرق يكون له منه خلاص ، فما من أحد يدري به سوى البحر .

..............................................................................

( 1 ) يفرق الصوفية بين الروح الحيواني والروح الإنساني الذي هو من أمر اللَّه . يقول الغزالي في الرسالة اللدنية : “ اعلم أن اللَّه تعالى خلق الانسان من شيئين مختلفين أحدهما الجسم المظلم الكثيف . . . والآخر هو النفس الجوهري المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام . . . ولا أغني بالنفس القوة الطالبة للغداء ، ولا القوة المحركة للشهوة والغضب ، ولا القوة الساكنة في القلب ، المولدة للحياة والمبرزة للحس والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء ، فإن هذه القوة تسمى روحاً حيوانياً ، والحسّ والحركة والشهوة والغضب من جنده . . . وإنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفرد الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفّظ والتفكرّ والتمييز والرؤية ، ويقبل جميع العلوم ولا يملّ من قبول الصور المجرّدة المعراة عن المواد . . .

فالحكماء يسمّون هذا الجوهر النفس الناطقة “ . ( الجواهر الغوالي من رسائل الإمام الغزالي ص 23 . القاهرة ، 1934 ) .


 

 

“ 298 “

 

وما كان العقل الجزئي ليتحدث عن العقل الكلي ، لو لم يكن هناك دفع فوق دفع ( للإفصاح ) “ 1 “ !

 

 2215  فحينما يتوالى الدفع إثر الدفع ، يصل إلى هنا “ 2 “ موج ذلك البحر .

وإذ قد وصلت قصة الشيخ وحاله إلى هنا ، قد فقد استتر الشيخ وحاله وراء الحجاب .

لقد نفض الشيخ ذيله من القيل والقال ، وبقي في فمنا نصف هذا المقال .

فمن أجل هذا العيش ، وتلك العشرة ، ينبغي أن يقامر المرء بآلاف النفوس “ 3 “ ! فكن في اصطيادك بأجمة الروح بازاً ، وجازف بالروح كشمس هذا العالم !

 

 2220 فهذه الشمس العالية تنثر الحياة ( على الأرض ) ، وهي في كل لحظة تفرغ ثم تمتلئ .

فيا شمس المعنى ! انثري الروح ، وأظهري جديداً لهذ العالم الهرم ! إن النفس والروح تفيضان من الغيب إلى الوجود الآدميّ كالماء الجاري .

......................................................................

( 1 ) إنّ هذا العقل الكلّي يريد أنْ يظهر الحقيقة عن طريق العقل الجزئيّ .

( 2 ) إلى الدنيا .

( 3 ) إنّ العيش الروحيّ يستحق من المرء أنْ يقامر من أجله بآلاف النفوس لا بمجرّد نفس واحدة يفنيها في سبيل هذا الخلود الروحي .



“ 299 “


تفسير دعاء الملكين اللذين كانا كل يوم يناديان في الأسواق قائلين :
“ اللهم أعط كلّ منفق خلفاً اللهم أعط كل ممسك تلفاً “ “ 1 “
وبيان أن المنفق هو المجاهد في سبيل اللَّه لا السمرف في طريق الهوى


قال الرسول : “ إنّ ملكين يناديان على الدوام نداء جميلًا لتقديم النصح .
قائلين : يا رب ! أشبع المنفقين ، وعوّضهم عن كلّ ، درهم بعشرة آلاف .

 

2225  وأما الممسكون في هذه الدنيا، فلا تعطهم يا ربّ إلا ضرّاً وراءه ضرّ“ .

ولكن كثيراً ما يكون الإمساك خيراً من الإنفاق ، فلا تعط مال الحق إلا بأمر الحقّ ! حتى تُعَوَّض عن ذلك بكنز لا حدَّ له ، وحتى لا تكون في عداد الكافرين .

الذين كانوا يقدّمون الإبل قرابين لتصبح سيوفهم ماضية في (حرب) المصطفى"2".
....................................................................
( 1 ) اتفق البخاري ومسلم والنسائي في رواية هذا الحديث ، وهو مروي عن أبي هريرة .

قال : قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم : “ ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط كل منفق خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط كل ممسك تلفاً “ .

( 2 ) الأبيات من 2228 - 2233 تبدو مضطربة الترتيب من حيث تتابع المعاني وترابطها في نص طبعة نيكولسون . وقد فطن نيكولسون إلى ذلك واقترح ترتيبها بطريقة أخرى وفقاً لما ورد في إحدى النسخ الخطيّة التي اعتمد عليها . ( أنظر تعليقاته على المجلد الأول ص 146 ) والترجمة وفق


“ 300 “

فالتمس أمر الحقّ أحد الواصلين ، فليس كل قلب بمدرك أمر الحقّ .

 
2230 - مثل الغلام الباغي الذي ( أراد ) أن يعدل فأعطى مال الملك لمن ثاروا عليه .
ففي القرآن إنذار لأهل الغفلة أن كل إنفاقهم يكون عليهم حسرة “ 1 “ .
وهذا الباغي ، ماذا زاده عدله وإنصافه عند الملك ؟ ( لا شيء سوى ) النفي والعار “ 2 “ .
إن رؤساء مكة - في حربهم للرسول - كانوا يقدمون القرابين ، آملين أن تقبل منهم .
ولهذا فإنّ المؤمن - لإحساسه بالخوف - يقول دائماً في صلاته : “ اهدنا الصراط المستقيم “ .
 

2235 - إنّ الجود بالدرهم شيمة السخيّ ، وأما الجود بالروح فهو سخاء العاشق ! 
فإنْ قدمتَ الخبز في سبيل اللَّه ، أُعطيتَ الخبز ، وإنْ قدمتَ الروح في سبيل اللَّه أُعطيتَ روحاً .
..............................................................
( 1 ) هذا الترتيب تكون على الوجه الآتي :
“ فالتمس أمرا الحق عند أحد الواصلين ، فليس كل قلب بمدرك أمر الحق .
ففي القرآن إنذار لأهل الغفلة أنّ كل أنفاقهم يكون عليهم حسرة .
إنّ رؤساء مكة - في حربهم للرسول - كانوا يقدمون القرابين آملين أن تُقبل منهم .
لقد كانوا يقدمون الإبل قرابين لتصبح سيوفهم ماضية في حرب المصطفى .
مثل الغلام الباغي الذي أراد أن يعدل فأعطي مال الملك لمن ثاروا عليه .
فهذا الباغي ماذا زاده عدله وإنصافه عند الملك ؟ ( لا شيء سوى ) النفي والعار “ .
ومما هو جدير بالذكر أن نص “ المنهج القوي لطلاب المثنوي “ يتبع هذا الترتيب ذاته بالنسبة للابيات 2229 - 2233 .
قال تعالى : “ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل اللَّه فيسنفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون “ . ( الأنفال ، 8 : 36 ) .

( 2 ) حرفياً : النفي وسواد الوجه .


“ 301 “

 
وإنْ أسقط اللَّه الورق عن شجرة الغرب، فإنه يمنحها رزق التعرّي من الورق “1“.
فإن لم يُبق الجودُ مالًا في يدك ، فمتى كان فضل اللَّه يجعلك تُداس بالأقدام ؟
فكلّ من يبذر البذور تصبح مخازنه خاوية ، ولكنّ مزرعته يكون فيها الخير .

 
2240 - وأما ما ادُّخر ، وبقي في المخازن ، فهو طعمةُ للسوس والفيران والحوادث .
إنّ هذه الدنيا نفي ، فلتبحث عن الإثبات ! وصورتك صفر فلتبحث عن معناك ! وادفع إلى السيف هذا الروح المالح المرّ ، واشتر روحاً ( حلواً ) كالبحر العذب الزلال ! فإن لم تستطع اجتياز هذه العقبة ، فاستمع - ذات مرة - منيّ إلى هذه القصّة :
 كان في سالف الأيام خليفة جعل حاتماً غلاماً لجوده .
 

2245 - لقد نشر راية الكرم والجود ، ورفع الفقر والحاجة من الدنيا .
لقد كان بحراً للجوهر صافي العطاء، وامتد جوده من جبل قاف إلى جبل قاف “2“.
..............................................................
( 1 ) لا يتخلى عنها وهي عارية من الورق بل يظل يرزقها حتى تورق من جديد .
( 2 ) أحاط بالعالم .


“ 302 “

كان في عالم التراب سحاباً وأمطاراً ؛ كان مَظْهَراً لعطاء الوهِّاب ! فطعاؤه زلزل البحر والمنجم ، وكم سعت قافلة وراء قافلة إلى جوده ! لقد كان بابه وصرحه قبلةَ الحاجات ، وقد ذاعت بالجود شهرتةُ في الدنيا .

2250 -  فبقي العجم والروم والترك والعرب في عجب من جوده وسخائه .
إنه كان ماء الحياة وبحر الكرم ، وقد أحيا ( بجوده ) العرب والعجم .
* * *
شرح قصة عازف الصنج الهرم الذي عزف على الصنج ذات يوم وهو جانع بين القبور 
احتساباً للَّه في عهد عمر رضي اللَّه عنه
( 1911 ) “ الحجر الصلد “ رمز للعناد والكبر والغرور . وأما التراب فرمز للتواضع . والشاعر هنا يقول إنّ الربيع لا يؤثر على الحجر الصلد ، لكن أثره يمتدّ إلى التراب فيجعله بستاناً بديع الألوان ، عامراً بالورود والأزهار . 

( 1913 ) تبدأ بهذا البيت قصة عازف الصنج ، وقد ساقها الشاعر ليبيّن أهمية التواضع والضراعة .


“ 536 “

( 1916 ) إسرافيل هو الملك الذي ينفخ في الصور يوم القيامة فيبعث الموتى . 

( 1917 ) “ رسايل “ معناها هنا “ أنغام “ . وقد جاء في القاموس أنّ الترسيل في القراءة هو الترتيل . فهذه الأنغام الروحية تجعل الجسم الغليظ الثقيل خفيفاً ، لا تُزهق الروح تحت وطأنة ، بل تكون قادرة على أن تحلّق به . 

 ( 1919 ) للأنبياء أيضاً أنغام في باطنهم وهي الوحي الإلهيّ . وهذا الوحي يمدّ طالبيه بحياة روحية ، هي فوق أن تُقدّر قيمتها بثمن . 

( 1920 ) الصوفيّة والأولياء هم القادرون وحدهم على تلقي مثل هذا الوحي ، وأما الغارقون في الحسّ فلا سبيل لهم إلى سماعه . 

( 1921 ) بين المتعلقين بالروح والمتعلقين بالحس تباين كتباين الإنس والجن فكما أن الإنس لا يفهمون الجن ، كذلك لا سبيل إلى فهم المعاني الروحية لمن هم غارقون في ملاذ العالم المادي . 
( 1925 ) “ يا أجزاء النفي والعدم “ معناها “ أيها الجزئيون المتعلقون بكل ما يؤول إلى الفناء والعدم “ . 

( 1927 ) “ المنحلون في عالم الكون والفساد “ هم الذين ركنوا إلى العالم المادي ، وذهلوا عما سواه . 

( 1928 ) قول الشاعر “ لرفعت الأرواح رؤوسها من القبور “ أي “ لتنبهت الأرواح الدفينة في أجساد كالقبور “ . 

( 1929 ) اجعل أذنك قريبة من الأنغام الروحية ، فأنت - بالتأمل والسعي - قادر على الاستماع إليها . لكني لن أنقلها إليك ، لأن هذه الأنغام لا تُعرف لمن لا يكون مستعداً لتلقيها . 

( 1934 ) إشارة إلى قوله تعالى :” وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ “. ( الشورى ، 42 : 51 ) . وكذلك إلى قوله تعالى :


“ 537 “

“ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ “( الأنبياء ، 21 : 91 ) . 

( 1935 ) “ يا من تطرق الفناءُ إلى قلوبهم لتعلّقها بالماديات ، التي هي لا محالة فانية ! عودوا من العدم إلى حياة الروح فالحبيب يناديكم “ . 

( 1936 ) فهذا نداء من اللَّه أجراه على لسان رجل من عباده المخلصين . 
( 1938 ) قول الشاعر : “ إنك أنت السر “ يشير إلى عقيدة “ الإنسان الكامل “ عند الصوفية . يقول ابن العربي : “ فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي ، والكلمة الفاصلة الجامعة ، قيامُ العالم بوجوده . . فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل “ .  ( فصوص الحكم ، ص 50 ) . 

( 1939 ) إشارة إلى حديث يروي عن الرسول أنه قال : “ من كان للَّه ، كان اللَّه له “ . 

( 1940 ) إشارة إلى عقيدة الصوفية أن الإنسان الكامل هو مجلى الذات الإلهية . 
يقول ابن العربي : “ فوصف نفسه لنا بنا ، فإذا شهدناء شهدنا نفوسنا ، وإذا شهدنا شهد نفسه . ولا نشك أنّا كثيرون بالشخص والنوع ، وأنّا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعاً أن ثم فارقاً به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد “ . ( فصوص الحكم ص 53 ) . 
وكلام ابن العربي هذا يفيد أن الإنسانية كلها مجلى اللذات الإلهية ، وهو جانب من مذهبه في وحدة الوجود . 

( 1942 ) “ الظلمة التي لم تبددها الشمس “ هي ظلمة الجهل والإثم والخطايا . 

( 1943 ) يقول ابن العربي عن آدم : “ فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع


“ 538 “

بهذا الوجود “ . كما سبق أيضاً ذكر قوله : “ وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها ، فما سبّحت ربها بها ، ولا قدّسته عنها تقديس آدم وتسبيحه “ . ( فصوص الحكم ، ص 50 ، 51 ) . 
( 1945 ) “ الكأس المباركة “ رمز للإنسان الكامل .


[ شرح من بيت 1950 إلى 2100 ] 
( 1950 ) كل الأنبياء والأولياء قد اغترفوا عليهم من معين واحد هو العلم الإلهيّ. 

( 1955 ) النفس النارية “ هي النفس المشتعلة بنار الشهوات . 
يقول الترمذي : “ إن النفس بلهاء ، فإذا مرت في الحلال وتمكنت منه سلست في الحرام ، إذا لم يكن في القلب ما يقيد النفس عن الحرام ، ويقويها حتى لا تسلس . وقوة القلب من النور ، فإذا جاهد العبد ، فمن جهاده أن يروض نفسه فيؤدّبها “ . ( كتاب الرياضة وأدب النفس ص 44 ، 45 ) . أما الروح الميتة فهي الغافلة عن حقيقتها ، الواقعة تحت سلطان المادة . 

( 1958 ) نقل صاحب المنهج القوي - عن نجم الدين الكبرى - تفسيراً صوفياً لقوله تعالى” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ . .الآية “ ، جاء فيه : 
“ وحقيقة الأمانة الكبرى التي عبر عنها بالفوز العظيم ، وقد فسر بالفناء في اللَّه والبقاء باللَّه . وهو عبارة عن قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ، وهي المحبة . . . واختص الإنسان بقبولها من سائر المخلوقات لاختصاصه بإصابة رشاش النور الإلهي ، فكان مستعداً لقبولها بلا واسطة فكان العرض عاماً وحملها خاصاً للإنسان لأن نسبة الإنسان مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص ، فالعالم شخص وقلبه الإنسان . . . والظالم من يظلم غيره . 
والظالم من يظلم نفسه ، وكذا الجهول ، فظلمه لنفسه بحمل الأمانة ، لأنه وضع شيئاً في غير موضعه ، فأفني نفسه فيها . وأما جهله بنفسه أنه يحسب أنه هو هذه البيهمة التي تأكل وتشرب وما علم أنها قشر


“ 539 “

ولبّه روحه ، وروحه أيضاً قشر ولها لبّ وهو المحبوب الحقّ . . . “ ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 361 ) . 


( 1960 ) الإقبال على الطعام حال بينه وبين تلقي هذه النفحة الروحية المقبلة من الغيب . 

( 1961 ) في القرآن سورة باسم لقمان . وفي هذه السورة آية تصفه بالحكمة ، وبعض آيات تروي بعض حكمه . قال تعالى :” وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ “. ( 31 : 12 ) . وهناك خلاف حول شخصه ، أكان حكيماً أم كان نبياً ، وأغلب الروايات المنقولة عن الرسول والصحابة تفيد أنه كان حكيماً . كما أنّ أغلب الروايات أيضاً تفيد أنه كان عبداً أسود من السودان أو الحبشة . ( انظر الثعلبي - قصص الأنبياء ، 391 ، 393 ) . 

( 1962 ) “ وخز الأشواك “ كناية عن الشهوات الحسية . أما قول الشاعر “ أخرجوا الشوكةمن كف لقمان “ فمعناه : “ أنقذوا الروح الطاهر مما يؤذيه من شهوات الحس “ . 

( 1963 ) والحقيقة أن هذه الحسيات التي تخز الروح ليست ذات وجود حقيقي ، وما هي إلا خيال تتعلقون به ، لكن حرصكم عليه جعلكم مجردين من التمييز . 

( 1967 - 1968 ) الانسان غافل عن الروح متعلق بالمادة . فهو كالجمل الذي فوق ظهره الورد ( وهو رمز للروح ومباهجها ) ، ومع ذلك لا يحرص إلا على شواك الرمال ( وهي رمز لملاذّ الحس ) . 

( 1969 ) يا من تفتش عن السعادة الحقيقية ، سعادة القلب والروح ، من غير أن تسلك سبيلها ، إلى متى تتساءل “ أين مقر هذه السعاد ؟ أين ؟ “ . 

( 1970 ) فما دمت لم تتخلص من وخز الشهوات ، فإبصارك مظلم ، ولا أمل لك في أن تهتدي إلى قصد السبيل . 
( 1972 ) “ الحميراء “ لقب أطلقه الرسول على زوجه عائشة نظراً لأنها


“ 540 “

كانت ذات وجه أبيض مشرب بحمرة . وقد ذكر الغزالي أن الرسول كان يقول : “ كلميني يا عائشة “ لتشغله بكلامها عن عظيم ما هو فيه . 
(الإحياء ، ج 3 ، ص 101). 


( 1974 ) الروح في العربية كملة تُذكر وتؤنث ، ويغلب عليها التأنيث . 
( 1977 ) ليست الروح هي الحياة الجسدية أو الطاقة البدنية التي تنمو بتناول الطعام ، وتختلف أحوالها بين حين وآخر . 


( 1978 ) الروح مصدر الخير ، وهي ذاتها خيّرة ، بل هي عين الخير ، ولن يتحقق للإنسان خير حقيقي إلا ما يكون روحياً . 
( 1979 ) السعادة الباطنية تكون دائمة ، وليست متوقفة على عوامل خارجية . الإنسان الذي يكون سعيد الروح تدوم سعادته . أما الإنسان الذي يكون سعيداً بأسباب مادية ، فإن سعادته تزول بزوال هذه الأسباب . 


( 1982 ) العقل الجزئي هو العقل الذي يتمتع به أفراد البشر . وهو في العادة منكر لما لا يقع تحت الحس . ولهذا لا يتقبل القول بالمحبة الإلهية . 


( 1983 ) الشاعر لا ينكر فضل العقل الإنساني ، فيقول عنه “ إنه ذكي عالم “ ، ولكنه يأخذ عليه أنه ليس منتفي الذات . وفي هذا نقد لفكرة الاعتداد بالعقل على أنه - دون سواه - مصدر المعارف اليقينية . أما قول الشاعر “ والملك إن لم يكن منتفي الذات فهو شيطان “ ، فمعناه أن الغرور يجعل الملك شيطاناً . وأوضح الأمثلة على ذلك إبليس الذي كان ملكاً فأصبح بغروره شيطاناً . 


( 1984 ) إن العقل الإنساني رفيق للإنسان في أقواله وأفعاله الظاهرة ، لكنه لا وجود لا بالنسبة للحياة الروحية ( الحال الباطني ) لأنه منكر لذلك . 


( 1985 ) العقل الإنساني - بغروره واعتداده - غير قادر على إدراك المعارف اليقينية . وهذا العقل ، لو لم يتخل عن الغرور والاعتداد


“ 541 “

طوعاً ، فما أكثر ما يعرض له من المواقف التي تظهر عجزه ، وتجعله يدرك مدى قصوره . 

( 1986 ) الروح - في مقابل العقل - تمثل جانب الكمال في الإنسان . 
وكل ما صدر عنها من نداء ، فمنبعث من كمال طبيعتها . ولهذا كان الرسول يدعو بلالًا للأذان بقوله : “ أرحنا يا بلال “ ، أي “ أرحنا بذلك النداء الروحي ( وهو الأذان ) من هذا العالم الحسي وما فيه “ . 
يقول الغزالي : “ وكان لا يطيق الصبر مع الخلق إذا جالسهم ، فإذا ضاق صدره قال : “ أرحنا يا بلال “ ( الإحياءج 3 ، 101 ) . 

( 1988 ) في هذا البيت إشارة إلى مذهب الصوفية في الحقيقة المحمدية وأنها أول شيء خلقه اللَّه . يقول الجيلي : “ إن اللَّه لما خلق محمداً من كماله وجعله مظهراً لجماله وجلاله ، خلق كلّ حقيقة في محمد من حقيقة من حقائق أسمائه وصفاته ، ثم خلق نفس محمد من نفسه . وليست النفس إلا ذات الشيء . . . ثم لما خلق اللَّه نفس محمد على ما وصفناه ، خلق نفس آدم نسخة من نفس محمد . . “ ( الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 29 ) . 

( 1991 ) عبرّ الشاعر - على طريقة الصوفية - عن معانية بأسلوب رمزي . فرمز بالعروس لذلك التجلي الذي شهده الرسول ، وقال إن روح الرسول حظيت بتقبيل يدها أي أنها حظيت بنعمة القرب منها . 

( 1993 ) يرد الشاعر على من قدر يعترض عليه لا ستخدامه كملة “ عروس “ في هذا المجال ، فيقول : إن المعشوق والروح كليهما محتجبان عن الأنظار فلا مجال لأي تفسير حسي ، ومن هنا لا يعاب استعمال كلمة “ عروس “ . 

( 1996 ) هناك مقاييس إنسانية يقاس بها عيب الإنسان وفضله . 
وليس يعيب الخالق ما يكون في تقدير الآدميين عيباً . 

( 1998 ) وبالنسبة للإنسان ، فإنه لا يكون موضوفاً بالعيب لو كانت له نقيضة واحدة إلى جانب مائة من الفضائل . فإن هذه النقيصة تكون

“ 542 “

بين فضائله كالقشة في سكر النبات ، فلا يؤاخذ عليها ، ما دامت محاطة بكل هذه الفضائل . 

( 1999 - 2000 ) كما أنّ سكر النبات والقشة يوزنان بميزان واحد كذلك الروح والجسم إذا غلب الخير على الجسم . لهذا لا يكون من جزاف القول ما قال به بعض العارفين من أنّ أجساد الطاهرين صافية نقية كأرواحهم . 

( 2002 ) الروح التي لم تبلغ حالة الصفاء والنقاء لا فضل لها على الجسم الماديّ الصرف ، وليس لها من خصائص الروح إلا اسمها ، فهي عديمة الجدوى ، كأنها حجر زائد في لعبة النرد . 

( 2005 ) هذا الملح ، وهو صفات الطهر ، والكمال بقي في تركة الرسول . أما وارثوه فهم ورثة الحقيقة المحمدّية ممن بلغوا مرتبة الكمال الإنساني . 

( 2006 ) أهل الكمال من الأولياء قد يكونون أمامك ، ولكنك لا تدركهم ولا تشعر بهم ، لأنّ هؤلاء مستترون عن الجهلاء الغارقين في الحس . ولا بد لك أنْ تبلغ مرتبة الوجود الحق ، وهو التنبه والوعي الروحيّ ، وبذلك تستطيع إدراك وجودهم . 

( 2010 ) يا من أنت بوجودك الحسي زائل ، مآله إلى الفناء ! هل بعد فنائك تبقى مرتبطاً بهذه الجهات النسبية ؟ 

( 2014 ) الأشجار كائنات حية خرجت من جوف الثرى ، فهي كنزلاء التراب من البشر ، وسوف يخرجون أيضاً . 
وللشاعر بيت في ديوان شمس تبريز يشبّه فيه دفن الموتى بغرس البذور ، في قصيدته التي يبدؤها بقوله :
بروز مرگ چو تابوت من روان باشد * گمان مبر كه مرا دل درين جهان باشد
وفيها يقول :


“ 543 “

وأية حبة طواها الثرى ثم لم تنبت ؟ 
فلماذا تحمل مثل هذا الشك عن ذات الإنسان ؟ 
( انظر : محمد كفافي : جلال الدين الرومي ، شاعر الصوفية الأكبر ، ص 61 . جامعة بيروت العربية ، 1963 ) . 

( 2015 ) هذه الأشجار كائنات حية خرجت من باطن الأرض ، وهي دليل لمن أُوتي البصيرة على أن اللَّه قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم . 


( 2016 ) اللسان الأخضر هو الأوراق ، وأما اليد الممدودة فهي الغصون . 
( 2020 ) المنكرون الذين يشير إليهم الشاعر هنا هم الماديون الطبيعيون الذين يقولون بقدم العالم . يصف الشهرستاني هؤلاء بقوله : 
“ فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي ، والدهر المفني . . “ ( الملل والنحل ، ج 2 ، ص 244 ، القاهرة 1956 ) . 

( 2021 - 2022 ) لقد كشف اللَّه لقلوب أحبائه حقيقة وجوده ، وما يرتبط بها من حقائق روحية ، فأخذ هؤلاء يفصحون عن الأسرار التي تلقتها قلوبهم ، ويفضحون هؤلاء المنكرين . 

( 2023 ) هذه المعارف التي تكشفت للأنبياء والعارفين سرعان ما انتشر أريجها في الدنيا ، ووجدت سبيلها إلى الناس على الرغم من المنكرين . 

( 2026 ) الأبصار الزائغة ليست أبصاراً حقاً ، وأما البصر الحق فهو الذي يرشد صاحبه إلى مكان الأمان . والمقصود بمكان الأمان عند الصوفية الإيمان ، وسلوك سبيل المحبة التي توصل الإنسان إلى أسمى الغايات . 

( 2036 ) عالم الروح لا يظهر إلا للخواص ، الذين يؤمنون به ، وأما من ليسوا كذلك فهم أهل الشك والريب الذين بلغ بهم الشك حد إنكار البعث . 

( 2044 ) استعملنا كلمة “ رياح “ كترجمة للكلمة الفارسية “ باد “ ولم نستعمل “ ريح “ اقتداء بالقرآن الكريم الذي استعملت فيه كلمة


“ 544 “

“ ريح “ في مواقف الشر ، على حين استعملت كلمة “ رياح “ في مواقف الخير . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :” وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ “( 51 : 41 - 42 ) ، وقوله :” إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ “( 54 : 19 ) . وكذلك قوله :” وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ “( 7 : 57 ) ، وقوله :” وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “( 30 : 46 ) . ( انظر الثعالبي : فقه اللغة ، ص 572 ، 573 . المكتبة التجارية ، القاهرة ) . 

( 2045 ) من كان ذا روح مدرك لما ينهل على البشر من نفحات الغيب كانت هذه النفحات أغلى عنده من روحه . 

( 2053 ) العقل الكلي ، هو الذي يسيطر على النفس المجموع ويخضعها لإرادته . وكذلك المرشد ، هو للمريد كالعقل الكلي بالنسبة للنفس .

( 2095 ) عود الخلال هنا رمز للشيء الصغير . 

( 2063 - 2070 ) فسر نيكولسون هذه الأبيات تفسيراً نراه بعيداً عن مضمونها . فقد قال إن الشاعر يعتبر الغفلة بركة على هذه الدنيا لأنها تبقيها على حالها ، فتتيح المجال لبلوغ الكمال الروحي ، وتقي أجساد الصوفية من الفناء العاجل تحت وطأة الحب. ولسنا نرى في معاني هذه الأبيات ما يؤيد هذا التفسير، ولو على وجه التأويل. 


( 2063 ) إنّ هذه الأمطار كانت لطفاً خفياً أنزله اللَّه على الجنس الآدمي لتسكين آلامه في هذه الدنيا . 
( 2064 ) فلو أن هذه البشر طال عيشهم في ظل هذه الآلام لحل بالأرض كثير من الخراب . 

( 2065 ) لولا هذا اللطف الإلهي لحل الخراب في هذه الدنيا ، ولا نطلقت نوازع الحرص من نفوس البشر ، فكان فيها القضاء عليهم . 
( 2066 ) إن الغفلة عن العالم الروحي ومبهاهجه هي دعامة هذا العالم ،


“ 545 “

لأن هذه الغفلة تجعل الناس متعلقين به حريصين عليه . كما أن اليقظة الروحية آفة لهذا الدنيا ، لأنها تجعل الناس ينبذونها ، ويتخلوّن عنها . 
( 2067 ) اليقظة الروحية هبة تُقبل إلى الانسان من العالم الآخر . فحين تصبح الغلبة لهذه اليقظة ، فلا بقاء لهذا العالم . 

( 2068 ) فاليقظة تقضي على الحرص الذي يسيطر على الناس في هذه الدنيا ، كما تذيب الشمس الثلج ، أو كما يغسل الماء الوسخ . 

( 2069 ) هذه الألطاف الغيبية التي تصل إلى هذا العالم - من آن إلى آخر - تحدّ من اندلاع لهيب الحرص والحسد في هذه الدنيا . 
( 2079 ) نفخ الصور بالنسبة للأولياء هو النداء الذي يوقظ الأرواح من سباتها ، وينبه القلوب من غفلتها . 

( 2080 ) إن ما يتكشف لقلوب الأولياء من أسرار إلهية ، هو الذي يجعل قلوب الناس ثملة بحب اللَّه . كما أن إفناءهم الذات في حبّ اللَّه ، هو الذي يرشدنا إلى أن نهتدي لحقيقة وجودنا الروحي ، فنعمل على إدراكه . 

( 2081 ) لابن العربي رأي في الولاية قال فيه : 
“ واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العالم ، ولهذا لم تنقطع ، ولها الإنباء العام . وأما نبوّة التشريع والرسالة فمنقطعة . وفي محمد ( ص ) قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده : يعني مشرعاً أو مُشرِّعاً له ، ولا رسول وهو المشرع . . . 
فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو وليّ وعارف ، ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع . فإذا سمعت أحداً من أهل اللَّه يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة ، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه . 
أو يقول إن الولي فوق النبيّ والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد . 
وهو أن الرسول عليه السلام - من حيث هو ولي - أتمّ من حيث هو نبيّ رسول ، لا لأن الوليّ التابع له أعلى منه ، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً


“ 546 “

فيما هو تابع لم فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً “ ( فصوص الحكم ، ص 134 ، 135 ) . 
وخلاصة قول ابن العربي أن كل نبي ورسول وليّ ، وليس كل وليّ نبياً . وجانب الولاية في النبيّ أو الرسول أعلى وأكمل من جانب النبوة أو الرسالة . 
ولعل أول من تكلم في الولاية بصورة مفصلة ، وحدّد لها مفهومات وقواعد وأصولًا ، هو أبو عبد اللَّه الحكيم الترمذي ( من رجال القرن الثالث الهجري ) . 
وقد أورد ابن العربي ثبتاً بأصول المسائل التي تناولها الترمذي في بحثه عن الولاية . ( انظر : الرياضة وأدب النفس - مقدمة الناشرين المحققين‌أ . آربري ،a . y . arberry، علي حسن عبد القادر ، ص 16 وما يليها ) . 

( 2087 ) كان الحرير يستخدم في صناعة أوتار الآلات الموسيقية ولهذا توجه المطرب إلى اللَّه طالباً ثمن الحرير . 

( 2096 ) معنى قوله : “ وأضحى نبع أيوب له شراباً ومغتسلًا “ ، أنه خلص من الآلام وبرئ منها، وهو ما حدث لأيوب حين اغتسل في العين فزالت عنه جميع العلل.


[ شرح من بيت 2100 إلى 2250 ] 
( 1202 ) كان الأمر يأتيه قائلًا : أما وقد وهبت هذه الهبات ، ودخلت إلى رحاب العالم الروحي ، وبرئت من آلام الجسد ، فزال عنك وخز أشواكها ، فلا تطمع فيما هو أكثر من ذلك ، وارجع إلى عالم الدنيا ، حتى يتاح لك أو ان الانتقال النهائي . 


( 2109 ) بل أي حاجة لذكر البشر بأجناسهم ، ما دامت الأحجار والأخشاب وغيرها من الجماد قد سمعت نداء الحق ؟ 


( 2110 ) العالم متجدد على الدوام بأمر اللَّه . وقد سبق للشاعر أن عبر عن ذلك في مواضع عدة . ومنها قوله : “ ففي كل لحظة - يا رب - قافلة وراءها قافلة ، تسير من العدم إلى الوجود “ . ( البيت 1889 ) . 

( 2124 ) لو لم يكن في الدنيا عارفون يعلمون بقلوبهم قدرة اللَّه الخالقة ،


“ 547 “

التي تخلق ما تشاء من العدم ، لما كان هناك مجال لتصديق ذلك . 

( 2127 ) العقل قابل للانخذاع بما يثيره الشيطان من شبهات . 
( 2128 ) الاستدلال العقلي البحث طريق ضعيف في الوصول إلى الحقيقة ، فهو في هذا السعي كأنه ساق خشبية . 

( 2129 ) أما قطب الزمان ، وهو الإنسان الكامل ، فهو وحده صاحب المعرفة اليقينية ، وهو الذي أوتي من العلم الراسخ ما تذهل لرسوخه الجبال . 

( 2131 ) “ أرباب البصر “ هم العارفون ، الراسخون في العلم . 
( 2132 ) قد يكون أهل الظاهر - من المؤمنين بالعقل وحده - قادرين على أن يبلغوا قدراً من الهداية ، يشبه اهتداء الأعمى بعصاه . لكن جميع هؤلاء في رعاية العارفين الملهمين ، كما أن العميان جميعاً في رعاية المبصرين ، برغم اقتدارهم على درجة محدودة من الاهتداء . 


( 2135 ) هذا الأدلة العقلية التي تعتد بها ، إنما هي هبة من اللَّه ميّز بها الإنسان على غيره ، وهو قادر على تبديدها ، لكنه أبقاها للبشرية ، رحمة منه وإشفاقاً . 

( 2137 ) ما دامت هذه الأدلة والقياسات العقلية ، قد أصبحت مصدراً للخلاف والنزاع - وقد بلغ الأمر ببعض المتفلسفين أنهم استخدموها لمناقشة وجود اللَّه نفسه - فقد وجب عليك أن تحطمها ، أيها الانسان ، لأن مهمتها الأصلية هي أن تكون وسيلة للهداية كالعصا للأعمى . 

( 2138 ) لقد وهبك اللَّه هذه القدرة على التفكير العقلي لتهتدي بها إليه ، وتتقدم نحوه ، فإذا بك تستخدمها في التهجم عليه . 

( 2139 ) لا بد للناس من هاد مبصر ، يرشدهم بما يكشف اللَّه له من علمه . 

( 2140 ) “ دامن أو گير “ . آثرنا في ترجمتها “ ولتعتصموا بحبل من . . . “ بدلًا من الترجمة الحرفية “ ولتتمسكوا بأهداب من . . . “


( 2142 ) “ پنج نوبت “ وترجمتها “ خمس مرات “ وقد فسرها نيكولسون على أنها تشير إلى قرع الطبول أو عزف الموسيقى خمس مرات كل يوم في بلاد المشرق ، كعلامة للملك . ورأيي أنه لا صلة لهذا البيت بتلك العادة ، وإنما المقصود بالمرات الخمس مواقيت الصلاة . والجذع الذي كان يستند إليه الرسول ، وهو رمز لإدراك الجماد لخالفه ، يحن كل يوم خمس مرات في مواقيت الصلاة . 

( 2143 ) لو لم يكن هذا الذوق الغيبي فوق تصور أهل الحسّ لما كانت هناك حاجة إلى إظهار المعجزات . 

( 2144 ) كل ما كان في مستوى التفكير العقلي ، وعلى قدر طاقة هذا التفيكر ، فإن العقل يقبله، ولا تكون هناك حاجة لاتخاذ المعجزات حجة لإثباته، ودليلًا عليه . 

( 2145 ) مهما بدا لك طريق الإلهام الإلهي ، والمحبة الإلهية ، مما لا يتقبله العقل - لأنه طريق بكر - فإن هذا الطريق ذاته حبيب إلى قلوب العارفين الملهمين ، الذين كتبت لهم السعادة ، فهم وحدهم الذين يسلكونه . 

( 2147 ) إن البحث الفلسفي لم يكن يلقى قبولًا في زمن الشاعر . 

والظاهر أن المتفلسفين كانوا يتسترون ولا يجسرون على البوح بآرائهم ، وبخاصة ما كان منها باعثا على بثّ الشكوك في الدين . 


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: