الأربعاء، 5 أغسطس 2020

10 - كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا قم فقد حان وقت الصلاة .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

10 - كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا قم فقد حان وقت الصلاة .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

10 - كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا قم فقد حان وقت الصلاة .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا : قم فقد حان وقت الصلاة 
[ بيان القصة ]
لقد جاء في الخبر أن معاوية كان نائما في احدى زوايا القصر .
 
2605  وكان باب القصر مغلقا من الداخل ، ذلك لأنه كان متعبا من لقاء الناس .
فأيقظه - على غير توقع منه - أحد الرجال . فلما فتح عينيه اختفى ذلك الرجل !
 فحدث نفسه قائلا : “ انه لم يكن لأحد سبيل إلى القصر . فمن ذا الذي أظهر هذا التوقح والجرأة !
 ودار في القصر منقبا حينذاك لعله يجد أثرا لذلك المختفي .
فرأى وراء الباب رجلا تعس الصورة كان يحجب وجهه بالباب والستار .
 
2610  فقال : “ يا هذا ، من أنت وما اسمك ؟ “ . فقال : “ ان اسمى - بصريح القول - إبليس الشقىّ !
 “ فقال معاوية : “ فلماذا سعيت إلى ايقاظى ؟ ألا فلتقل الصدق ولا تخاطبني بعكس ذلك ، وضده .



“ 279 “

كيف غش “ 1 “ إبليس معاوية وتظاهر بغير الحق 
والتمس الذارئع وكيف اجابه معاوية
 
فقال إبليس : “ ان ميقات الصلاة قد أو شك على الانتهاء . فيجب عليك أن تهرع مسرعا إلى المجسد !
 فالمصطفى - حينما كان ينظم درر المعاني - قال : “ عجلوا الطاعات قبل الفوت “ .
فقال معاوية : “ كلا ! كلا ! فليس يكون من مقاصدك أن تكون مرشدى إلى الخير .
 
2615  فلئن دخل لص مسكنى في الخفاء ثم قال لي : انى أقوم هنا بالحراسة ، 
فمن أين لي أن أصدق هذا اللص ؟ وأنى للص أن يعرف المثوبة ، وحسن الجزاء ؟ “

كيف عاد إبليس إلى جواب معاوية
 
فقال إبليس : “ لقد كنت في بداية أمرى مَلكا . وما أكثر ما سلكت بالروح سبيل الطاعة ! 
لقد كنت أمين سر السالكين بهذا الطريق . كما أنني كنت رفيقا لسكان العرش !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ كيف أوقع إبليس معاوية من فوق حماره “ ، وهذا كناية عن الغش والخداع .


 
“ 280 “
 
فكيف يخرج من قلب الانسان شغله الأول ؟ وكيف يفترق عن فؤاده أول حب ؟
 
2620  ولو أنك شهدت في سفرك بلاد الروم أن الخُتن ، فيكف يذهب من قلبك حب الوطن ؟
لقد كنت أنا أيضا من سكارى هذه الخمر ! وكنت في حضرته من العشاق ! 
وانني قد استقلبت الحياة على محبته كما أن عشقه كان قد غُرس في روحي ! 
ولقد لقيت من الزمان أياما طيبة ، كما أنني احتسيت مياه الرحمة ابان ربيعى .
ألم تكن يدُ فضله هي التي غرستنى ؟ أليس هو الذي قد أخرجني من العدم ؟
 
2625  وما أكثر ما كنت قد شهدت من ألطافه ! ولكم تجولت في بستان رضاه !
 انه كان يضع فوق رأسي يد رحمته . وكم كان يُفيض ينابيع اللطف منى ! 
وفي وقت طفولتى ، حينما كنت رضيعا ، من ذا الذي كان يهزّ مهدى ؟ انه هو !
 “ وأيان كان لي حليب أحتسيه غير حليبه ؟ ومن ذا الذي رعانى غير تدبيره ؟
وكيف يمكن أن تفصل عن المرء تلك الخليقة التي دخلت كيانه مع الحليب ؟
 
“ 281 “
 
2630  فئلن كان بحر الكرم قد عاتبني ، فمتى كانت توصد أبواب كرمه ؟
فأصل نقده عطاء ولطف وسخاء ، وما القهر فوق أولئك الا كالغبار الدى يغشى النقد .
وهو قد خلق العالم من أجل اظهار لطفه . وشمسه هي التي لا طفلت بأشعتها الذرات .
فلئن كانت الفرقة عنه منطوية على قهره “ 1 “ ، فما ذلك الا لكي يعرف قدرُ وصله ! 
فان فراقه هو الذي يعرك أذن الروح ، وإذ ذاك تعرف قدر أيام الوصال .
 
2635 ولقد روى الرسول أن الخق تعالى قال : كان الاحسان هو قصدي من الخلق .
لقد خلقت الخلق لكي يفيدوا من نوالى ، لكي يغمسوا أيديهم في شهدى .
وليس لكي أفيد منهم ربحا ، أو لأتنزع من العاري قباء .
فهأنذا قد بقي بصرى متعلقا بوجهه الجميل ، خلال تلك الأيام القليلة التي أبعدت فيها .
فيا له من عجب أن يصدر مثل هذا القمر ، عن مثل هذا الوجه ! لقد أصبح كل انسان ( من جراء هذا ) مشغولا بالسبب !
 
 2640  وانى لا أنظر إلى السبب فان ذلك السبب حادث ، والحادث يكون باعثا لحادث آخر .
وانما أنا أنظر إلى لطفه السابق . وأما ما هو حادث فانى أحطمه “ 2 “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ حبلى بقهره “ .
( 2 ) حرفيا : “ أشقه نصفين “ .



“ 282 “
 
فمع تسليمي بأن الامتناع عن السجود لآدم كان من جراء الحسد ، فان هذا الحسد قد انبعث من العشق لا من الجحود ! 
ومن اليقين أم كل حسد ينبعث من الحب ، فالمحب يخشى أن يغدو الغيرر جليسا للحبيب .
والغيرة الناضجة هي شريط المحبة ، كما اشترط قولك “ طال عمرك “ لمن عطس .
 
2645 انني لم يكن أمامى سوى هذه اللعبة فوق رقعة لعبه ، وقد أمرني بأن ألعب فماذا أعرف أكثر من ذلك ؟
فلعبت تلك اللعبة الوحيدة التي بقيت ، وبهذه ألقيت بنفسي في البلاء ! 
وانى - في البلاء أيضا - لأنهل من لذّاته ، وأنا أمامه المنهزم المخذول المقهور ! 
وكيف يستطيع المرء أن يخلص نفسه - أيها المفضال - في ست جهات من ستة أبواب ! 
وكيف يتخلص جزء الستة من كلها ، وبخاصة إذا كان الخالق - الذي لا شبيه له - قد جعله أعوج ! 
 
2650  فكل من كان داخل الستة ، فهو في داخل النار ، ولا مخلِّص له منها الا خالقها .
فلئن كان كفرا أو كان ايمانا ، فهو من نسج يد الحضرة وهو ملك لها “ .
 
“ 283 “

كيف عاد معاوية إلى تقرير مكر إبليس على مسمع منه
 
فقال الأمير : “ ان هذه أمور صحيحة ، ولكنك تفتقر إلى نصيب منها .
انك أغلقت السبيل أمام عشرات الآلاف من أمثالي ! لقد أحدثت حفرة تسللت منها إلى بيت المال ! فأنت النار والنفط ! وانك لتحرق ، ولا حيلة لك في ذلك ! ومن ذا الذي لم تمزيق يداك له ثيابه ؟
 
2655  فما دام الاحراق هو طبيعتك مثل النار ، فلا مناص لك من أن تحرق شيئا .
ان لعنة الله هي التي جعلتك تحرق ، وهي التي جلعتك أستاذا لكافة اللصوص .
لقد تحدثت إلى الله واستعمت منه وجها لوجه . فمن أكون أنا أمام مكرك أيها العدوّ ! 
فمعارفك هذه شبيهة بهصوت الصفير فهذا نداء للطير لكنه - ( في الحقيقة ) - شرك لها .
وصفيرك هذا قد أضل آلاف الطيور ، فكان كل منها ينخدع فيظن أن صديقا قد أقبل .
 
2660  فهو حين استمع في الهواء صوت الصفير ، نزل من الهواء فأصبح هنا أسيرا !
 ان قوم نوح لفى نواح من جراء مكرك ! فأما قلوبهم فمحترقة ، وأما صدورهم فممزقة !


 
“ 284 “
 
ولقد أسلمت عادا للريح في هذه الدنيا ، وألقيت بها إلى العذاب والأحزان .
ورجم قوم لوط بالحجارة كان من جرائك ! وبسببك أيضا غرقوا في المياة السواد ! 
ومن جرائك أيضا تبدد ذهن النمرود ، يا من أثرت الآلاف من الفتن !
 
 2665 وعقل فرعون الذكىّ الفليسوف ، أصبح من جرائك أعمى ، ولم يجد إلى الفهم سبيلا ! 
وأنت الذي جعلت أبا لهب فاقد الأهلية . وأنت الذي غدا أبو الحكم - من جرائك - أبا جهل ! 
يا من قهرت - للذكرى - آلاف الأساتذة فوق هذا الشطرنج !
 يا من بألعابك البارعة المستغلفة قد احترق القلوب ، واصطبغ بالسواد قلبك ! 
انك بحر المكر ، وما الخلائق الا قطرة ! بل انك أنت الجبل ، وما هؤلاء البسطاء الا ذرة !
 
 2670  فمن ذا الذي ينجو من مكرك أيها الخصم ! اننا جميعا غريقو طوفانك ، الا من عصم .
فكم من نجم سعد قد جعلته محترقا ! وكم من جيش وكم من جمع غدا بك مشتتا مفترقا ! “
 
كيف عاد إبليس إلى جواب معاوية
 
فقال له إبليس : “ ألا فلتحلّ هذه العقدة ! انني أنا المحك للنقد الزائف والصحيح !

 
“ 285 “
 
فالحق هو الذي جعلني فيصلا بين الأسد والكلب . والحق هو الذي جعلني فيصلا بين صحيح النقد وزائفه .
ومتى كنت أنا الذي جعل الزائف أسود الوجه ؟ انني أنا الصيرفىّ الذي حدد قيمته .
 
2675  أنا الذي يظهر السبيل للطيبين . وأنا الذي يستأصل ذابل الأغصان .
فلماذا أضع أمام الخلق هذه الألوان من العلف ؟ لكي يتضح لي إلى أي جنس ينتمى الحيوان ! 
فلو أن ذئبة ولدت صغيرا لغزال ، ووقع الشك حول الصغير ، وهل ينتمى إلى الذئاب أو الغزلان ، 
فانثر أمامه أعشابا وعظاما ، ثم انظر إلى أي جانب يخطو مسرعا ! 
فلو أنه اتجه نحو العظام فهو كلب ! ولئن طلب العشب فهو ينتمى يقينا إلى الغزلان !
 
 2680 ان القهر واللطف قد اقترن كل منهما بالآخر . فولد من كليهما عالم الخير والشر .
فلتقدم اللخلق الأعشاب والعظام ، ولتعرض عليهم قوت النفس وقوت الروح .
فمن طلب غذاء النفس فهو أبتر ، وأما من طلب غذاء الروح فهو سيد نبيل .
ومن سعى إلى خدمة الجسد فهو حمار ، ومن ذهب إلى بحر الروح ظفر بالجوهر .
ومع أن الخير والشر مختلفان فإنهما معا مشتغلان بعمل واحد . 

“ 286 “
 
2685  فالأنبياء يعرضون ( على البشر ) الطاعات وأما الأعداء فيعرضون عليهم الشهوات .
وكيف أجعل من الخير شريرا ؟ انني لست الها ان أنا الاداع ، ولست خالقا لهما .
وهل أجعل من الجميل قبيحا ؟ انني لست ربا . وما أنا الا مرآة للقبح والجمال .
ان الألم قد دفع الهندي إلى أن يحرق المرآة ( مدعيا ) أن هذه تظهر الرجل أسود الوجه ! 
ولقد خلقني الله كاشفا ، ناطقا بالصدق وذلك لأبين أين يكون القبيح ، وأين الجميل ! 
 
2690 انني لست الا شاهدا ، وأنى يليق السجن بالشاهد ؟ فلست أهلا للسجن والله شاهدي على ذلك ! 
فحيثما أبصر غصنا مثمرا ، فاننى أقوم برعايته كأنني الحاضن ( المربى ) .
وحيثما أرى شجرة مرة ذواية فاننى أقتلعها لكي يخلص المسك من البعر .
ان الشجرة الذابلة تقول للبستاني : “ أيها الفتى ! لماذا تحتز رأسي بغير خطأ منى ؟
 “ فيجيبها البستاني قائلا : “ الزمى الصمت أيتها الخسيسة الطبع ! أوليس ذبو لك جرما كافيا لك ؟ “
 
 2695 - فتقول الشجرة الذابلة : “ انني مستقيمة ، ولست معوجة .
فلماذا تستأصل - بدون ذنب - جذورى ؟ “
 
“ 287 “
 
فيجيبها البستاني قائلا : “ لو أنك كنت سعيدة الطالع ، فليتك كنت معوجة ، وكنت ندية ( في الوقت ذاته ) !
 اذن لغدوت جاذبة لماء الحياة ولأصبحت مغمورة بهذا الماء !
 ان بذرتك كانت خسيسة ، وكذلك أصلك ولم يكن لك ارتباط بشجرة طبيعته .
ولو أن غصنا مريرا وصل بآخر حلو ، لتسلك إلى طبيعته تلك الحلاوة “ .
 
كيف عنف معاوية إبليس
 
2700 - فقال معاوية : “ حسبك جدالا يا قاطع الطريق . فلا سبيل لك الىّ ، فلا تنشد ذلك السبيل !
 انك قاطع طريق ، وأنا غريب ، وتاجر . فكيف أشترى منك ما تحضره من ثياب ؟
فلا تدر حول متاعي بدافع من كفرك . فإنك لست تشترى متاع انسان .
فقاطع الطريق لا يكون مشتريا قط من انسان . ولو أنه اتخذ مظهر المشترى لكان ذلك مكرا وخداعا .
فما الذي يحمله الىّ في وعائه هذا الحسود ؟ يا الهى ! انك مغيثنا من هذا العدو ! 
 
2705 فهذا اللص لو تلا علىّ فصلا آخر ( من خداعه ) ، لسلب منى شعار ديني !

“ 288 “

كيف شكا معاوية إبليس إلى الحق تعالى 
والتمس منه النصرة
 
ان حديثه - يا الهى - مثل الدخان فخذ بيدي ، والا غدوت ملتحفا بالسواد .
انني لا أستطيع أن أطاول بالحجة إبليس ، ذلك لأنه فتنة كل شريف وكل خسيس .
فآدم - وهو أمير علم الأسماء - لا قوة له أمام هذا الكلب الذي ينقض كالبرق ! فقد أسقطه من الجنة إلى وجه الثرى . لقد وقع آدم من السماك في شخص إبليس كما تفع السمكة !
 
 2710 وكان ينوح : “ انا ظلمنا أنفسنا “ ، فليس هناك حدّ لقصة الشيطان ، وخداعه .
ففي باطن كل حديث له شر ، وفيه مائة ألف سحر مضمر ! 
انه يربط رجولة الرجال في لحظة واحدة ، كما أنه يلهب بالهوس نفوس النساء والرجال ! 
فيا إبليس يا حارق الخلق ، يا طالب الفتنة ! لماذا أيقظتنى ؟ خبِّرنى بصدق ! “
 
عودة إبليس إلى تقرير خداعه
 
فقال إبليس : “ ان الرجل السىء الظن لا يستمع إلى الصدق ولو كانت له مائة علامة ! 
 
2715 فكل فؤاد أصبح متفكرا بالخيال ، يزداد خياله كلما أتيته بدليل !



“ 289 “
 
فحينما يدخله الكلام يصير علة ، مثل يوسف الغازي حين يصبح سلاحا للسارق .
فمثل هذا يُرد عليه بالسكوت والسكون . ذلك لأن التحدث إلى فاقد العقل جنون ! 
فلماذا تضرع إلى الحق منى ، أيها الغرّ اضرع اليه من شر تلك النفس اللئيمة !
 انك تأكل الحلوى ، فيتولد لك دُمل منها . وتغشاك الحمى ثم يختل طبعك .
 
2720  فتلعن إبليس بدون اثم ارتكبه . فيكف لا تبصر هذا الخداع في نفسك ؟
فليس من ذنب إبليس ، بل من ذنبك - أيها الغوىّ - أنك كالثعلب ، تعدو وراء أذناب الخراف الدسمة !
 فحيثما رأيت بين الخضرة ذَنَبا ، أصبح لك شركا ، فلماذا لا تدرك هذا ؟
انك لا تدرى لأن ميلك لشحم الذنب قد أقصاك عن المعرفة ، وأعمى بصرك وبصيرتك .
حبك الأشياء يعميك يصمّ * نفسك السواد جنت لا تختصم “ 1 “
 
2725 فلا تطرح اثمك فوقى ، ولا تبصر الأمور معكوسة . فانى برئ من الشر والحرص والضغينة ! 
لقد اقترفت الاثم ، ولكنني الآن نادم . وانى لمنتظر أن ينبثق من ليلى النهار .
.................................................................
( 1 ) هذا البيت عربى في الأصل .



“ 290 “
 
لقد غدوت متهما بين الخلق ، فنسب الرجال والنساء الىّ أفعالهم !
 فالذئب المسكين يكون جائعا ومع ذلك ، يتهم بالوفرة وازدهار الحال .
وحينما يجعله الضعف غير قادر على السير في الطريق ، يقول الخلق : انها التخمة من جراء دسم الطعام ! “
 
كيف عاود معاوية الالحاح على إبليس
 
2730  فقال معاوية : “ ليس سوى الصدق ما يخلصلك . ان العدالة تدعوك إلى ( قول ) الصدق .
فلتقل الصدق ، حتى تنجو من قبضتي . ان المكر لن يهدىء غبار قتالي !
 “ فقال إبليس : “ وكيف تعرف الصدق من الكذب ، أيها المتفكر بالخيال ، المفهم بالأوهام !
 “ فقال معاوية : “ ان الرسول قد أعطى علامة لذلك ، ووضع محكا لتمييز الرائف من الصحيح .
فقال ( ما معناه ) : ان الكذب ريبة في القلوب ، وأما الصدق فهو لها طمأنينة وبهجة “ 1 “ .
 
2735 فالقلب لا يستريح إلى كاذب القول . ان الماء والزيت لا يشعلان قط سراجا .
.................................................................
( 1 ) روى عن الحسن بن علي أنه قال : “ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فان الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة “ . ( المنهج القوى ، ح 2 ، ص 542 ) .
ولم اعثر على نص الحديث الذي يشير اليه الشاعر .


 
“ 291 “
 
وأما حديث الصدق ففيه راحة للقلب . فالحقائق هي الحَبُ في الشباك التي تأسر القلوب .
فالقلب الذي لا يميز بين طعم هذا وذاك هو حقا قلب مريض ، أو مرّ الفم ! 
وحينما يغدو القلب بريئا من المرض والعلة فإنه يصير عليما بطعم الكذب وطعم الصدق .
فآدم - عندما ازداد عنده الحرص على القمح - سلب ذلك منه سلامة القلب ! 
 
2740 فأصغى إلى كذبك وخداعك واغترّ بهما ، فشرب السم القاتل .
فلم يميز في تلك اللحظة بين العقرب والسنبلة فالتمييزُ يطير ممن سكر بالهوس .
وان الخلق لسكارى بالأمل والهوى ، ولهذا يكونون متقبلين لخداعك ! 
فكل من خلص نفسه من مثل الهوى ، فقد جعل عينه أليفة للأسرار .
 
كيف شكا القاضي من آفة القضاء وكيف اجابه نائبه
 
ولِّىَ أحد القضاة ، فأخذه في البكاء ! فقال نائبه : “ أيها القاضي ! لماذا تبكى ؟
 
2745  فليس هذا وقت بكائك وانتحابك . انه وقت سرورك وتلقيك التهاني ! “
 
“ 292 “
 
فقال القاضي : “ أواه كيف يسوق الحكم - بلا قلب - جاهل يحكم بين عالمين ! 
فكل من هذين المختصمين واقف على حقيقة حاله . فما الذي يعرفه القاضي المسكين عن هاتين العقدتين ؟
انه جاهل بحال كل من المتنازعين ، غافل عنه ، فكيف يتقدم للحكم في دمائهما ومالهما ؟
 “ فقال النائب : “ ان الخصيمن عالمان ، لكنهما معتلان ! وأما أنت فجاهل ولكنك نور الملة !
 
 2750  ذلك لأنك لا تقف في سبيلك علة وهذه البراءة من العلة نور للعينين ! 
وأما هذان العالمان فقد أعماهما الغرض . فالعلة قد ذهبت بعلمهما إلى القبر ! 
فالبراءة من العلة تجعل الجهل علما ! والعلة تجعل العلم معوجا ظالما ! 
فما دمت لا تأخذ الرشوة فأنت بصير ! فإذا مارست الطمع ، فأنت ضرير مستعبد ! 
وانى قد انحرفت بخلقى عن الهوى ، وأقللت من تناول لقم الشهوات .
 
2755  فأصبحت حاسة التذوق القلبي عندي مقترنة بالنور ، فهي تميز بحق بين الصدق والكذب “ .



“ 293 “
 
كيف حمل معاوية إبليس على الإقرار
 
“ لماذا أيقظتنى ؟ انك عدوّ لليقظة أيها المخادع ! انك مثل الخشخاش تجلب النوم للجيمع ! 
بل انك مثل الخمر ، تذهب بالعقل والمعرفة ! هأنذا قد صلبتك فحذار ، ولتقل الصدق . انني أعرف الحقيقة فلا تلتمس الحيلة ! 
انى لا أتوقع من انسان الا ما يكون عنده ، في طبعه ، وخليقته .
 
2760  فأنا لا ألتمس السكَّر من الخل ! أنا لا آخذ المخِّنث ليكون جنديا ! 
ولست كالكفَّار ، أنشد من الصنم أن يكون الها ، أو أن يكون آية من الله .
كما أنني لا أطلب من البعر رائحة المسك ، ولا التمس اللبنة الجافة من ماء النهر .
( ولهذا ) فاننى لا أتوقع من الشيطان - وهو العدو المخالف - أنه يوقظنى للخير “ .
 
كيف افصح إبليس من مكنون فكره لمعاوية
 
لقد نطق إبليس بكثير من المكر والغدو لكن الأمير لم يستمع اليه ، واعتصم بالمقاومة والصبر .
 
2765  فنطق الشيطان من تحت أسنانه ، قائلا : فلتعلم - يا فلان - أنني أيقظتك من أجل ذلك :


 
“ 294 “
 
حتى تلتحق بالجماعة في الصلاة وراء النبي ، صاحب المقام العالي .
فلو أنك ذهبت الصلاة بعد فوات وقتها ، لأصبحت هذه الدنيا أمامك مظلمة معدومة الضياء ، 
ولكانت دموع الأسى والألم تنهمر من عينيك كالماء من القرب وكل انسان استشعر مذاقا للطاعة ، فمن اليقين أنه لا يصبر عنها ساعة .
 
2770  ومثل هذا الأسى والألم يعدلان مائة صلاة . وأين الصلاة من نور تلك الضراعة ! “
 
فضيلة تحسر أحد الأتقياء على فوت صلاة الجماعة
 
كان رجل يدخل إلى المسجد على حين أن الناس كانوا يخرجون منه .
فأخذ يسأل الناس قائلا : “ ماذا كان من أمر الجماعة ، حتى أن الناس يخرجون منها بهذه السرعة ! 
فقال له أحد المصلين : “ ان الرسول قد أدّى - مع الجماعة - الصلاة ، وفرغ من أسرارها .
فإلى أين أنت ذاهب - أيها الرجل الغر - ما دام الرسول قد ختم الصلاة ؟ “ 
 
2775  فانطلقت منه آهة تصاعد منها الدخان . وحملت هذه الآهة رائحة من دم قلبه .


 
“ 295 “
 
فقال له رجل من الجمع : “ هبني تلك الآهة ، وصلاتي لك ! “ فقال : “ وهبتها لك وقبلت الصلاة ! “ . 
وأخذ الرجل تلك الآهة ( مقترنة ) بمائة ضراعة .
وفي الليل قال له هاتف في علي المنام : “ انك اشتريت ماء الحياة ، وشفاء ( الروح ) !
 “ فبحرمة هذا الاختيار وهذا الدخول قلُبلت صلاة كافة الخلق ! “ .
 
تتمة اقرار إبليس بمكره لمعاوية
 
2780 ثم قال عزازيل “ 1 “ لمعاوية : “ أيها الأمير النبيل : لا بد أن أبوح لك بمكرى :
فلو أن الصلاة فاتتك في ذلك الحين ، لأطلقت من ألم القلب الآهات والضراعة ،
 ولكان هذا الأسف وذاك الأسى وتلك الضراعة تفوق مائتي ذكر وصلاة .
وانى قد أيقظتك خشية أن تحرق مثل هذه الآهة “ 2 “ الحجاب ، ولكي لا تكون لك مثل هذه الآهة ، ولا يكون لك سبيل إليها .
 
2785  انني حسود والحسد كان دافعى إلى هذا ! انني عدوّ ، ولا فعل إلى الا المكر والبغضاء ! “
.................................................................
( 1 ) عزازيل هو اسم إبليس قبل سقوطه .
( 2 ) “ مثل هذه الآهة “ يعنى آهة شبيهة بتلك التي انطلقت من قلب المؤمن الذي فاتته الصلاة . ( انظر الأبيات 2775 - 2779 ) .


 
“ 296 “
 
فقال معاوية : “ لقد بحث بالحقيقة الآن ، فأنت صادق ! فمثل هذا الخداع يجئ منك ، فأنت قمين به ! 
فأنت عنكبوت ، وصيدك هو الذباب ! وأنا لست ذبابة - أيها الكلب - فلا تضايقنى !
 انني باز أبيض ، لا يصيدنى الا المليك ! فكيف ينسج العنكبوت حولى شباكه ؟
فاذهب ، وأمسك من الذباب ما استطعت . وادع الذباب إلى تناول اللبن المخيض .
 
2790  ولئن أنت دعوته إلى العسل ، فذلك كذب ، وما هو في الحقيقة الا المخيض .
لقد أيقظتنى فكانت اليقظة نوما ! وأظهرت لي سفينة وتلك في الحقيقة دوّامة ! 
ولقد دعوتني إلى خير ، وذلك لتدفعنى بعيدا عن خير أفضل منه ! “
 
كيف أفلت اللص لأن رجلا نادى صاحب المنزل بعد ان اقترب من اللص 
وكاد يلحق به ويقبض عليه
 
وان ذلك لشبيه ( بقصة ) ذلك الشخص الذي رأى في المنزل لصا ، فجرى وراءه .
لقد جرى وراءه ميدانين أو ثلاثة ميادين ، حتى سال عَرَقُه من جراء ذلك التعب “ 1 “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ حتى رماه في العرق ذلك التعب “ .



“ 297 “
 
2795 وحينما اقترب بهذا الجهد من اللص ، وأو شك على اللحاق به بقفزة واحدة ، 
هتف به لص آخر قائلا : “ أقبل حتى تشاهد عدمات البلاء تلك !
 أسرع بالعودة أيها الرجل الهمام ، حتى ترى كيف ساءت هاهنا الأحوال !
 “ فحدث الرجل نفسه قائلا : “ لعل في ذلك الجانب لصا ( آخر ) .
فإن لم أسارع بالعودة ، فقد يتهجم علىّ ! 
ولربما اعتدى على زوجتي وابني ، فأية فائدة تعود على من القبض على هذا اللص ( الذي أطارده ) .
 
2800  فهذا المسلم قد تكرم بمناداتى ، فلئن لم أرجع فسوف يحيق بي البلاء !
 “ فعلى رجاء من شفقة ذلك الرجل الخيِّر ، ترك اللص ، وتراجع على الطريق .
وخاطبه قائلا : “ ما هذه الأحوال ، أيها الصديق الطيب ؟ وأي دافع قد دفعك إلى هذا الصياح والصراخ ؟
 “ فأجابه قائلا : “ انظر ، ها هي ذي آثار قدمي اللص ! لقد مضى من هذا الجانب ذلك اللص الخسيس ! 
ها هي ذي علامات قدمي اللص الفاجر . فامض وراءه مقتفيا هذه العلائم والآثار ! “
 
 2805  فقال ( صاحب الدار ) : “ ماذا تقول لي أيها الأبله ؟ انني قد كنت على وشك الامساك به !
 وان صياحك هو الذي جعلني أترك اللص ! لقد حسبت حمارا مثلك انسانها !


 
“ 298 “
 
فما هذا الهراء والهذيان ، أيها الرجل ؟ لقد وجدت الحقيقة ، فماذا تكون العلامة ؟
 “ فقال الرجل : “ انى أعطيك علامة للحقيقة . فهذه هي العلامة وأنا عارف بالحقيقة “ .
فقال ( صاحب الدار ) : “ اما أنك عابث أو أبله ! أم لعلك لص ، وعلى علم بتلك الحال !
 
 2810  لقد كانت أن أجر خصمي جرا ، وأنت الذي خلصته ( لتقول لي ) : “ انظر ، ها هي ذي علاماته !
 “ انك تقول بالجهات ، أما أنا فقد تحررت من الجهات ! وهل في الوصال مكان للآيات والبينات ؟
فمن خفيت عليه الصفات يرى الصنع . وكذلك يتعلق بالصفات من أضاع الذات .
وحينما يكون الواصلون غارقين في الذات ، فكيف يتوجهون بنظرهم إلى الصفات ؟
وإذا ما أصبح رأسك في قاع النهر ، فكيف يقع بصرك على لون الماء ؟
 
2815 وان أنت عدت من قاع النهر إلى لون الماء ، كنت كمن أخذ ثوبا خشنا لقاء فراء !
 ان الطاعة عند العوام هي الاثم عند الخواص ! وما يكون وصالا عند العوام ، فهو عند الخواص حجاب !
 فلو أن الملك جعل الوزير محتسبا ، لكان الملك عدوّا له ، لا صديقا .


 
“ 299 “
 
ولربما كان هذا الوزير قد ارتكب اثما . فهذا التغير لا بدّ له من سبب .
فمن كان في أول . أمره محتسبا ، فان هذا المنصب يكون له - من البداية - سعدا ورزقا .
 
2820  أما من كان في بداية أمره وزيرا للملك ، فجعلهُ محتسبا لا يكون الا من سوء فعله .
فحينما يدعوك الملك من عتبة الباب إلى حضرته ، ثم يعود فيدفعك إلى الباب ، فاعلم يقينا أنك قد ارتكبت جرما ، 
وأنك قد جعلت ( هذا الابعاد ) - بجهلك - أمرا محتَّما ! ( وانك لتقول ) : “ ان هذا قد كان لي قسمة ونصيبا !
 “ ، فلماذا اذن كان هذا الاقبال الأمس في يديك ؟
انك أنت الذي قطعت نصيبك بجهك ! أما الرجل الكفء فهو الذي يضاعف نصيبه !
 
قصة المنافقين وبنائهم مسجد الضرار
[ بيان القصة ]
 
2825  وهاك مثالا آخر على العوج ، ان كنت ممن يستمعون إلى ما رواه القرآن “ 1 “ .
ان أهل النفاق قد لعبوا مثل هذه اللعبة المعوجة ، بصورة أو بأخرى “ 2 “ ، ضد الرسول .
.................................................................
( 1 ) سورة التوبة ، 9 : 107 - 108 .
( 2 ) حرفيا : “ لعبوا هذه اللعبة بالمفرد والمزدوج “ .


 
“ 300 “
 
قائلين : “ اننا سنبنى مسجدا لاعزاز الذين المحمدىّ ! “ وما كان ذلك الا ارتدادا !
 لقد كانوا يلعبون مثل هذه اللعبة المعوجة ، فبنوا مسجدا إلى جانب مسجده “ 1 “ .
وزينوا أرضه وسقفه وقبته لكنهم أرادوا بذلك تفريق الجماعة .
 
2830  وأقبلوا على الرسول ضارعين ، وركعوا أمامه كما تبرك الجمال ، وقالوا : “ يا رسول الله !
 هل تُجشِّم قدميك المسير إلى هذا المسجد كرما واحسانا ؟
وذلك ليغدو مباركا بقدومك اليه ، جعل الله أيامك مزدهرة حتى القيامة !
 انه مسجد من أجل اليوم الوحل واليوم المطير . انه مسجد ليوم الشدة وزمان الفقر .
وذلك ليجد الغريب فيه خيرا ومأوى ، وليغدو بيت العبادة هذا عامرا ( بالقاصدين ) ! 
 
2835  وحينذاك تنتشر شعائر الدين وتشيع . وان صحبة الاخوان لتجعل المرّ حلوا ! 
فلتشرف ذلك المكان ساعة من الزمان ، ولتكن مزكيِّا لنا ، معرفا بنا !
 ولتكرم المسجد وأصحاب المسجد . انك أنت البدر ونحن الدجى .
فاجعل لنا معك برهة من الوقت ،
.................................................................
( 1 ) مسجد الرسول المقصود هنا هو مسجد قباء ، وقباء قرية بجوار المدينة .



“ 301 “
 
حتى يغدو ليلنا نهارا بجمالك ، يا من جمالك مثل الشمس التي تضئ الظلام ! 
“ فوا أسفاه أن هذه الكلمات لم تكن من القلب ، والا لكانت مدعاة لتحقيق الأمل لهؤلاء الناس !
 
 2840  فاللطف ، الذي ينطق به اللسان - بدون اخلاص من القلب والروح - شبيه بالخضرة فوق رماد المواقد ،
 أيها الأصدقاء ! فانظر إليها من بعيد ثم تجاوزها . فليست مثل هذه الخضرة - يا بنى - صالحة لان تؤكل أو تُشمّ .
فأضع الىّ ! لا تتوجه بنفسك نحو لطف من تجردوا من الوفاء ، فما ذلك الا جسر مهدم !
 فلو أن جاهلا وضع قدمه فوق هذا الجسر ، لا نكسر الجسر وانكسرت أيضا تلك القدم .
وحيثما وقعت الهزيمة بأحد الجيوش كان ذلك من جراء اثنين أو ثلاثة من المخنثين الضعفاء ! 
 
2845  فالواحد منهم يدخل الصف كالرجل مدججا بالسلاح ، فتتعلق به القلوب قائلة : “ ها هوذا رفيق الغار !
“ لكنه يدير وجهه إذا ما أبصر الجراح ، فيحطم بهذا الفرار “ 1 “ ظهرك !
 ان هذا الحديث لطويل وقابل للإطالة ، ولسوف يؤدى إلى خفاء مقصودنا .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : الذهاب .

“ 302 “

كيف خادع المنافقون الرسول عليه السلام
حتى يأخذوه إلى مسجد الضرار
 
لقد ترنموا بخداعهم على مسمع الرسول الحق ، وأخذوا يسوقون أمامه فرس الغش والرياء .
أما الرسول المحب الرحيم فلم يكن منه سوى التبسم واعلان القبول .
 
2850  لقد باح بالشكر لتلك الجماعة ، وأسعد هؤلاء القصاد باستجابته لهم .
وكان مكرهم ظاهرا أمامه بكل تفصيلاته كما يتجلى الشعر في الحليب !
 لكن هذا الرسول اللطيف تجاهل رؤية الشعر ، ثم تلطف فباح بالثناء على الحليب !
 لقد رأى آلافا من شعر المكر والخداع ، لكنه - حينذاك - أغلق عينيه عنها جميعا ! 
ولقد صدق بحر الكرم هذا حين قال : انني أكثر اشفاقا عليكم من أنفسكم .
 
2855  فلقد جلست على حافة نار ذات أوار ولهب بالغ الايذاء ، وغدوتم أتتم مندفعين نحوها كالفراش على حين أن يدىّ تذودانكم عنها ! 
وحينما استقر الأمر على أن يذهب الرسول “ 1 “ ، هتفت به غيرة الحق ( قائلة ) : لا تستمع إلى نداء الغول !
.................................................................
( 1 ) عاد الشاعر هنا إلى رواية قصة “ مسجد الضرار “ .
 
“ 303 “
 
فهؤلاء الخبيثون قد اصطنعوا الحيلة والمكر ، فكل ما جاءوا به فهو على عكس ( ظاهره ) ! 
وما كان لهم من قصد سوى سواد الوجه ، والا فمتى أراد النصارى واليهود خيرا لدينك ؟
 
2860  لقد بنوا مسجدا على جسر النار . ( وأرادوا ) أن يلعبوا مع الله نرد الخداع !
 لقد كان قصدهم أن يفرقوا أصحاب الرسول . ومتى كان كل فضولىّ يعرف فضل الحق ؟
وأن يجلبوا ( للمسجد ) يهوديا من الشام كان هؤلاء اليهود يطربون لوعظه .
لقد قال الرسول : “ نعم لكننا الآن على أهبة السفر معتزمين الغزو ،
 فحينما أعود من السفر فاننى سوف أسارع بالتوجه إلى ذلك المسجد “ .
 
2865  لقد دفعهم عنه ثم سارع إلى الغزو ، ولعب لعبة المكر مع الماكرين ! 
وحينما رجع من الغزو ، عادوا اليه ، وطالبوه بانجاز سابق وعده .
فقال له الحق : “ أيها الرسول ! اكشف غدرهم . ولئن شبِّت الحرب ( من جراء ذلك ) فادع إليها !
 “ فقال الرسول : “ ألا فلتسكتوا أيها القوم المخادعون ! الزموا الصمت والا أذعت أسراركم !
 “ فلما كشف الرسول عن المحات قليلة من أسرارهم ، ساءت أحوالهم .
 
2870 فارتد عنه القصاد حينذاك هاتفين : “ حاش لله ، حاش لله ! “


 
“ 304 “
 
2870 وجاء كل منافق إلى الرسول مخادعا ، وقد تأبط مصحفا ، وذلك ليقسموا عليها الأيمان ، فالأيمان جُنة “ 1 “ !
ان الأيمان لهى سنة للأشرار ! فما دام الرجل الشرير لا وفاء له في الدين ، فإنه يحنث بقسمه في كل لحظة .
وأما أهل الصلاح فلا حاجة لهم إلى القسم ، ذلك لأن ( كلا منهم ) قد أشرقت عيناه بالنور .
 
2875  فنقض المواثيق والعهود مبعثه الحماقة ، وأما حفظ الأيمان والوفاء بها فهو شيمة الأتقياء .
لقد قال الرسول : “ هل أثق بأيمانكم أم أثق بعهد الله ؟ “ لكن هؤلاء القوم عادوا فأقسموا قسما آخر ، 
وكان المصحف في أيديهم ، وخاتم الصوم على شفاههم ، قائلين : 
بحق هذا الكلام الطاهر الصادق ، ان بناء هذا المسجد انما هو من أجل الله ! 
وليس فيه قط من حلية ماكرة ! بل إنه ينطوى على الذكر والصدق ودعاء الله !
 
2880  فقال الرسول : “ ان صوت الحق يرن في أذني مثل الصدى .
ولقد ختم الله على آذانكم حتى لا تبادر إلى سماع صوت الحق .
ها هوذا صوت الحق يصل الىّ صريحا ، كصافى الشراب الذي برئ من الكدر ،
.................................................................
( 1 ) انظر : ( سورة المجادلة ، 58 : 16 ) ، ( سورة المنافقون ، 63 : 2 ) .



“ 305 “
 
كما سمع موسى صوت الحق من جانب الشجرة يناديه : أيها السعيد الطالع !
 لقد سمع من الشجرة نداء :” إنِّي أَنَا اللَّهُ ““ 1 “ ، وتجلِّت له الأنوار مع هذا الكلام !
 
2885  فحينما عجز هؤلاء المنافقون أمام نور الوحي ، عادوا من جديد إلى اللغو بالأيمان .
ولما كان الحق يسمى القسم جُنة “ 2 “ ، فيكف يطرح المعاند المجن من يده ؟
ولهذا فان الرسول قد واجههم بتكذيب صريح ، وأفصح لهم يقوله : “ قد كذبتهم ! “
 
كيف تفكر أحد الصحابة رضي الله عنهم منكرا
على الرسول انه لم يتستر عليهم
 
ولقد كان أن واحدا من أصحاب الرسول ، أنه بقلبه ذلك الردع ( للمنافقين ) .
فحدث نفسه : “ أيدمغ هذا الرسول بالعار مثل هؤلاء الشيوخ ذوى الشيب والوقار ؟
 
2890  فأين الكرم ، وأين الستر ، وأين الحياء ؟ ان الأنبياء ليسترون الآلاف من العيوب ! “
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة القصص ، 28 : 30 .
( 2 ) انظر البيت 2872 وشرحه .


 
“ 306 “
 
لكنه عاد فسارع إلى الاستغفار بقلبه ، حتى لا يصفر وجهه من جراء هذا الاعتراض ! 
وان شؤم صحبة أهل النفاق ، ليجعل المؤمن مثلهم قبيحا عاقا .
فعاد إلى الضراعة قائلا : “ يا علام السر . لا تتركني مصرا على الكفران !
 ان قلبي ليس - مثل عينىّ - طوع يدي ! ولولا هذا لأحرقت الآن هذا القلب بغضبى ! “
 
 2895  وبينما هو في هذا التفكر غلبه النوم ، فبدا له مسجد هؤلاء ممتلئا بالبعر .
بناء خربا تلوثت أحجاره بالأقذار وكان الدخان الأسود يتصاعد من تلك الأحجار ! 
ونفذ الدخان إلى حلقه فغص به . وأفزعه الدخان المرّ فهب من سباته ! 
فخرّ على الفور ساجدا ، وهو يبكى ، ( قائلا ) : ان هذه علامات الانكار ! 
فالغضب عليهم - يا الهى - خير من مثل هذا الحلم الذي يحجبنى عن نور الايمان !
 
 2900 فلو أنك شققت اجتهاد أهل المجاز لوجدته كالبصَلَة مكونا من طبقات ( متراصة ) من النتن ! 
وكل واحد منهم أوهى لبا من الآخر ! وأما الصادقون فكل منهم أعمق ادراكا من الآخر ! 
فهؤلاء القوم قد شمروا جميعا عن ساعد الجد ، وذلك ليهدموا


 
“ 307 “
 
مسجد قباء “ 1 “ فهم كأصحاب الفيل من بلاد الحبش ، الذين بنوا كعبة فأضرمها الحق بالنيران .
فتوجهوا إلى الكعبة قاصدين الانتقام . فاقرأ ( ما جاء ) عن مآلهم في كلام الله “ 2 “ .
 
2905  فهؤلاء الذين اسودات بدينهم وجوههم ليست لهم عُدة سوى الحيلة والمكر والضغينة !
 فكل صحابي رأى ( في منامه ) من عيان ذلك المسجد ، ما جعل سرّه يصبح - عند الصحابة يقينا !
 ولو أنني قصصت وقائع ذلك واحدة واحدة ، لتيقن أهل الشك من صفاء ( هؤلاء الصحابة ) .
لكنني أتهيَّب كشف أسرارهم . فهم المدللون الذين يليق بهم الدلال ! وهم الذين تلقوا الشرع بدون تقليد .
 وهم الذين تقبلوا هذا النقد ، من غير ( حاجة إلى ) محك !
 
 2910  فكأنما حكمة القرآن ضالة المؤمن وكأنما كل منهم على يقين من ضالته !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فهؤلاء القوم قد عقد كل منهم على قبائه مائة حزام “ ، وعقد الحزام على القباء كناية عن الجد في العمل .
( 2 ) وفي البيت جناس بين كلمتي قبا ( بكسر القاف ) وقبا ( بضمها ) . وقباء ( بضم القاف ) اسم قرية بجوار المدينة اشتهرت بتوقف الرسول بها في طريق هجرته ، وكذلك بمسجدها الذي بنى في عهد الرسول . سورة الفيل .
 
“ 308 “

قصة ذلك الشخص الذي كان يبحث عن جمله
الضال ويسال عنه
 
لئن كنت تبحث بجد عن جمل أضعته ، فكيف لا تعرف - حين تجده - أنه لك ؟
فما الضالة ؟ انها ناقة قد أضعتَها فهربت من يدك ، إلى مكان خفىّ .
فالقافلة قد بدأت تضع الأحمال فوق الجمال ، على حين أن جملك قد اختفي من بينها .
فها أنت ذا تجرى في هذه الناحية ، وذلك الجانب ، وقد جفت شفتاك ، على حين أن القافلة قد أصبحت بعيدة والليل قد اقترب .
 
2915  وقد بقي متاعك على الأرض في طريق الخوف ، وأنت تجرى وتدور باحثا عن الجمل .
تقول : “ أيها المسلمون ! من ذا الذي رأى جملا هرب في هذا الصباح من الحظيرة ؟
فكل من أدلى الىّ ببينة عن جملي ، جزيت بشارته بكثير من الدراهم “ .
وانك لتعود فتلتمس من كل انسان إشارة ، فيهزأ بك - من جراء هذا - كل خسيس !
 ( قائلين ) : “ لقد رأينا جملا يمضى نحو تلك الناحية ، رأينا جملا أحمر يتجه نحو ذلك المرعى “ .
 
2920  وهذا يقول : انه كان مبتور الأذن ! وذاك يقول : انه كان مزركش السرج .




 
“ 309 “
 
وآخر يقول : انه كان جملا أعور ، على حين أن سواه يقول : لقد كان أجرب مجردا من الوبر .
فإذا بكل خسيس قد أدلى - من أجل المكافأة - بمائة - بيان جزافا !
 
التردد بين المذاهب المختلفة وايجاد مخرج
وطريقة للخلاص من ذلك
 
فهكذا شأن الناس بالنسبة للمعرفة ، فكل منهم يصف الموصوف الغيبىّ بإحدى الصفات .
فهذا متفلسف يدلى بشرح من نوع آخر ، فيجرّحُ أحدُ الباحثين مقاله .
 
2925  وثالث يطعن فيهما معا ، ورابع يكاد يُسلم الروح نفاقا .
فكل منهم يدلى بعلامات لذلك الطريق حتى يُظن أنهم ينتمون إلى تلك القرية ! 
فلتعلم هذه الحقيقة : ان هؤلاء جميعا ليسوا على حق ! كما أن هذا القطيع ليس ضالا من كل الوجوه !
 ذلك لأنه بدون الحق لا يتضح الباطل . فرائحة الذهب هي التي أغرت الأبله بزائف النقد “ 1 “ .
فلو لم يكن النقد الصحيح منتشرا في الدنيا ، فهل كان يمكن اصدار النقد الزائف ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فالأبله قد اشترى زائف النقد على رائحة الذهب “ ، اى أنه اشتراه على أمل أن يكون نقدا من الذهب الخالص .



“ 310 “
 
2930  ولو لم يوجد الصدق فهل كان يوجد الكذب ؟ فهذا الكذب يتلقى من الصدق نورا ( يكشفه ) .
ان الأعوج يُشترى على أمل في السوىّ . والسم يوضع في السكر ، وحينذاك يؤكل .
فلو لم يوجد القمح المحبوب اللذيذ ، فماذا كان يجنى بائع الشعير الذي يدعى أنه قمح ؟
فلا تقل ان جملة هذه الأقوال باطلة ، فأهل الباطل هم الأحابيل التي تصيد القلب برائحة الحق ! 
ولا تقل ان كل هذا خيال وضلال ، فليس في العالم خيال بدون حقيقة .
 
2935  فحقيقة ليلة القدر قد احتجبت بين اليالى ، حتى تلتمسها الروح في كل ليلة .
فليست كل الليالي هي ليلة القدر ، أيها الفتى ، كما أن كل الليالي لا تخلو من تلك الليلة .
وبين لا بسى الدلق لا بد من فقير واحد ، ففتش عنه ، ومن وجدته صادقا فتقبله ! 
فأين المؤمن ، صاحب الكياسة والتمييز ، الذي يعرف كيف يميز بين الرجل وبين المخنثين ! 
ولو لم تكن في هذه الدنيا سلع معيبة ، لكان ( ميسورا ) لجيمع البُله أن يصبحوا تجارا !
 
 2940  ولكان تقويم البضائع أمرا بالغ اليسر . فحينما لا يوجد العيب ، فما الفرق بين القادر ( على التقويم ) والعاجز عنه ؟



“ 311 “
 
ولو كان كل شئ معيبا فلا جدوى من المعرفة ، فما دام كل ما هنالك خشب فلن يوجد العود ! 
فمن يقل ان جملة الأحوال حق فهو أحمق ! ومن يقل ان جملتها باطل فهو شقىّ !
 فالأنبياء بتجارتهم قد حققوا الأرباح وأما تجار الألوان والروائح فهم عمى تعساء !
 فالثعبان يظهر في أعينهم مالا ! ألا فلتمسح جيدا كلتا عينيك !
 
2945  ولا تنظر إلى سرورك بهذا البيع والربح ، بل انظر إلى خسران فرعون وثمود !
 
حول امتحان كل شئ حتى يظهر ما فيه من خير وشر
 
ان السماء وهي ذات الرونق والجلال ، قال بشأنها الحق :” ثُمَّ ارْجع الْبَصَرَ ““ 1 “ .
ولا تقنع بنظرة واحدة من هذا السقف الميز ، بل انظر مرات ،” هَلْ تَرى منْ فُطُورٍ ““ 2 “ .
وما دام قد أمرك بأن تنظر مرات إلى هذا السقف المضئ نظر الرجل الباحث عن العيوب ،
 شفقد علمت كم يجب أن يُوجَّه إلى تلك الأرض المظلمة من التأمل والتمييز ، لتكون جديرة بالاعجاب !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الملك ، 67 : 3 .
( 2 ) انظر : سورة الملك ، 67 : 4 .



“ 312 “
 
2950  وكم يجب على عقولنا أن تتحمل من عناء لكي نستخلص أهل الصفاء من بين الكدر !
 ان تجربه الشتاء والخريف ، وحرارة الصيف ، والربيع الشبيه بالروح ، والرياح والسحب والبروق ،
 كلها جاءت لتظهر عوارض الفروق ، لتخرج الأرض ، الترابية اللون كلَّ ما حملته في جيبها من ياقوت وأحجار .
فكلُّ ما سرقته هذه الأرض المظلمة من خزانة الحق ، ومن بحر الكرم ،
 
 2955 ( يسألها عنه ) شرط التقدير قائلين : “ قولي الصدق واذكري ما أخذته ذرة ذرة “ 1 “ !
 “ فيقول اللص ، يعنى الأرض : “ لا شئ قط “ ، فيأخذ الحاكم في تعذيبها .
فحينا يخاطبها الحاكم بقول لطيف كالسكر وتارة يعلقها في الهواء ويسومها كل ما هو أسوأ من ذلك ، 
حتى تظهر بين القمر واللطف تلك الخفايا ، بفعل نار الخوف والرجاء ! 
فهذا الربيع هو لطف الحاكم ذي الكبرياء ، وأما الخريف فهو تخويف الله وتهديده .
 
2960 وأما الشتاء فهو صليب معنوي ، حتى تكشف عن نفسك أيها اللص الخفىّ !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : شعرة شعرة .

 
“ 313 “
 
وكذلك يكون للمجاهد زمان لا نبساط القلب ، وزمان للقبض والألم والغش والضغينة .
ذلك لأن أبداننا المفطورة من الماء والطين ، منكرة سارقة نور أرواحنا ! 
والحق تعالى يلقى على أجسادنا الحر والبرد والألم والعناء أيها الرجل الشجاع .
فالخوف والجوع والنقص في الأموال والبدن كلها من أجل اظهار جوهر الروح !
 
2965  لقد أطلق هذا الوعد وذاك الوعيد ، من أجل الخير والشر اللذين قد امتزجا باذنه .
فما دام الحق والباطل قد امتزجا ، والنقد الصحيح قد امتزج بالنقد الزائف في جعبة واحدة ،
 فلا بد لهما من محك أحسن اختياره ، ومشهود في امتحان الحقائق ، 
حتى يكون فيصلا إزاء كل مظاهر الزيف ، ويكون دستورا لتلك التدبيرات .
فيا أم موسى ، أرضعيه ثم ألقيه في اليم ولا تخافي عليه من البلاء !
 
 2970 فكل من شرب من هذا الحليب في يوم : “ ألست “ ، يستطيع تمييز الحليب ، كموسى ( في طفولته ) “ 1 “ .
فان كنت حريصا على اعطاء طفلك التمييز فاغذه الآن بالحليب ، كما فعلت أم موسى “ 2 “ ،
.................................................................
( 1 ) رفض موسى حليب المرضعات ، وعرف حليب أمه ، كما ورد في قصته بعد أن التقطه آل فرعون . حرفيا :
( 2 ) “ فأرضعيه الآن يا أم موسى “ .
وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى : “ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه “ .
الآية : سورة القصص ، 28 : 7 .
 
“ 314 “
 
حتى يعرف حليب أمه منذ البداية ، ولا ينخفض رأسه سعيا إلى مربية خسيسة .
 
شرح الفائدة من حكاية ذلك الشخص الذي كان يبحث عن الجمل
 
انك - أيها المفضال - قد أضعت جملا وكان كل شخص يذكر لك علامة لهذا الجمل ! 
وأنت لا تعلم أين هذا الجمل ، ولكنك تعلم أن هذه العلامات كلها خاطئة !
 
 2975  وذلك الذي لم يُضع جملا يمارى أيضا فيبحث عن جمل ، كمن أضاع جمله .
قائلا : “ انني أيضا قد أضعت جملا ، فمن عثر عليه وهبته أجره !
 “ وذلك ليجعل نفسه شريكا في جملك . . . ان طمعه في الجمل دفعه إلى أن يلعب هذه اللعبة .
فكلما قلت الانسان : “ ان هذه العلامة خاطئة “ ، قال عين ما تقول ، مقلدا إياك .
فهو لا يميز العلامة الكاذبة من العلامة الصادقة ، لكن قولك هو العصا لذلك المقلد ( الأعمى ) .
 
2980  وحينما تُذكر لك العلامة الصادقة أو ما يشبهها ، فإنك تصبح على يقين” لا رَيْبَ فيه “ *” 1 “ .
.................................................................
( 1 ) البقرة ، 2 : 1 .
 
“ 315 “
 
ويصبح هذا اليقين شفاء لروحك العليل ، ويغدو نضرة لون لك ، وصحة وقوة .
وتستنير به عيناك وينطلق به قدماك ، ويغدو جسدك نفسا ، ونفسك روحا ! 
فتقول حينذاك : “ لقد قلت الحق أيها الأمين ! وهذه العلامات قد جاءت بلاغا مبينا ،
 فيه آيات ثقات بينات ! انه لبراءة بل هو تقدير للنجاة ! “
 
 2985  فهو حين أظهر لك هذه العلامة هتفت به قائلا : “ تقدّم ! ان هذا وقت العزيمة فكن أنت دليلي .
ولسوف أقتقى أثرك أيها الصادق المقال . لقد حملت الىّ رائحة من جملي ، فأرني أين يكون “ .
أما بالنسبة لذلك الشخص الذي ليس بصاحب جمل ، ذلك الذي يبحث عن الجمل من أجل المراء ، 
فان هذه العلامة الصادقة لا تزيده يقينا ، الا بمقدار ما ينعكس عليه من ذلك الباحث بصدق عن الجمل .
فهذا المقلد يقتبس شذا من جدّ الصادق وحرارته ، ( موقنا ) بأن آهاته تلك لا يمكن أن تكون جزافا “ 1 “ .
 
2990 انه لم يكن صاحب حق في هذا الجمل ، ولكنه هو أيضا قد أضاع جملا .
فالطمع في جمل “ 2 “ غيره قد ألقى على وجهه ، قناعا ، فأنساه ما كان قد ضاع منه !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ ليست جزافا “ بدلا من “ لا يمكن أن تكون جزافا “ .
( 2 ) يضطر الشاعر أحيانا بحكم الوزن إلى استخدام كلمة “ ناقة “ بدلا من اشتر . ولما لم يكن هناك من مبرر لذلك سوى الوزن فقد استخدمنا في الترجمة كلمة “ جمل “ بصورة مطردة ، محافظة على السياق في الترجمة .


 
“ 316 “
 
فحيثما جرى المالك الأصيل جرى هذا المقلد ، وقد جعله الطمع شريكا في الألم لصاحب الجمل ! 
فحينما ينطلق كاذب مع واحد من أهل الصدق ، فسرعان ما يغدو كذبه صدقا .
وفي تلك الصحراء التي توغل الجمل مسرعا فيها عثر هو أيضا على جمله .
 
2995 وحالما رآه تذكر ما كان له فأصبح بريئا من الطمع في جمال الأصدقاء والأقارب .
فهذا المقلد قد أصبح محقِّقا ، حينما أبصر جمله الذي كان يرتعى هناك !
 فأصبح في تلك الحظة طالبا للجمل ، فهو لم يكن يفتش عنه قبل مشاهدته في الصحراء .
فبعد ذلك بدأ ينطلق وحيدا ، وفتح عينيه ( متوجها ) نحو جمله .
فقال له ذلك الصادق : “ لقد تركتني ، وكنت حتى هذه اللحظة تبدى مراعاتك لي ! “
 
3000  فقال : “ لقد كنتُ خرافة حتى هذه اللحظة وكان الطمع يدفعني إلى تملقك .
أما الآن - وقد انفصلتُ بالجسد عنك في الطلب - فقد أصبحت شريكا لك في الألم !
 انني كنت أسرق منك وصف الجمل ، فلما رأت روحي جملها امتلأت به عيني ! 
وقبل أن أجده لم أكن له طالبا ! لقد غلب النحاس الآن وأضحى الذهب له غالبا !

 
“ 317 “
 
وأصبحت سيئاتي كلها طاعات ، فشكرالله . وأصبح الهزل فانيا والجدّ ثابتا ، فشكرالله .
 
3005 وما دامت سيئاتي قد أصبحت وسيلة إلى الحق ، فلا توجه ضربات لومك قط إلى سيئاتي !
 ان صدقك هو الذي كان قد جعلك طالبا ، وأما أنا فالجد والطلب مهدا لي سبيل الصدق !
 لقد قادك صدقك نحو الطلب ، وأما أنا فبحثى هو الذي قادنى إلى الصدق !
لقد كنت أغرس في الأرض بذور السعادة وكنت أحسب ذلك سخرة ، وبدون أجر !
 وما كان ذلك سخرة بل كان كسبا سريعا ، فكل حتة غرستها قد أنبتت مائة حبة .
 
3010 ان لصا قد قصد خلسة إلى أحد المنازل ، فلما دخله رأى أن هذا المنزل منزله .
فاستشعر الحرارة أيها البارد ، فلعلها تغشاك . واصبر على الشدة ، فلعلها تكون طريق اللين .
وما كان هذان بجملين ، بل جمل واحد ! ألا ما أضيق الفظ وما أغزر المعنى !
 فاللفظ دائما عاجز عن ادراك المعنى ، ولهذا فان الرسول قال :“ قد كلّ اللسان “ .
ان النطق يكون كالاصطرلاب في حسابه وماذا يعرف هذا عن الفك والشمس ؟
 
“ 318 “
 
3015 وبخاصة ذلك الفلك الذي لا يتجاوزُ فلكُنا هذا فرَاشة منه ! ولا تزيد شمسُنا على ذرة من شمسه !
 
في بيان ان كل نفس تنطوى على فتنة مسجد الضرار
 
لما ظهر أن ذلك لم يكن مسجدا بل كان منزل خديعة ، وأحبولة نصبها اليهود ،
 أمر الرسول بأن يهدم ، ويجعل كناسة للقمامة والأقذار .
ان صاحب المسجد كان زائفا كالمسجد فنثرُ القمح فوق الشرك ليس من الوجود !
 وقطعة اللحم التي في شصك تختطف السمكة . فمثل هذه اللقمة ليست عطاء ولا سخاء !
 
 3020  ومسجد قباء - وقد كان من الجماد - لم يسمح الرسول بأن يُساوى بما لم يكن كفؤا له ! 
ففي حق الجمادات ليم يجز مثل هذا الحيف ، فأشعل أمير العدل النار في هذا ( المسجد ) غير الكفء ! 
فاعلم أن عالم الحقائق - وهو أصل الأصول - توجد به فروق وفصول .
فلا حياة هذا شبيهة بحياة ذلك ، ولا موت هذا شبيه بموت سواه .
ولا تحسبن قبر أحد الناس شبيها بقبر الآخر . فكيف أشرح لك فوارق الأحوال في ذلك العالم ؟
 
“ 319 “
 
3025  فاختبر بالمحك عملك أيها العامل ، حتى لا تبنى مسجد الضرار .
فكم كنت قد سخرت من بناة ذلك المسجد ، فلما أمعنت النظر كنت أنت من هؤلاء !
 
حكاية الهندي الذي خاصم رفيقه بسبب فعل معين  
ولم يكن يعلم أنه هو أيضا مبتلى بذلك الفعل
 
دخل أربعة من الهنود في أحد المساجد ، وأضحوا من أجل أداء الطاعة ركعا ساجدين .
وكل منهم كبر على نية ، ثم أقدم على الصلاة بمسكنة وألم .
وجاء المؤذن ، فأفلتت من أحدهم كلمة ( إذ قال ) : “ أيها المؤذن هل أذنت ؟ لقد حان الوقت “ .
 
3030 فقال ثاني هؤلاء الهنود ( بدافع ) من ضراعته : “ لقد تكملت ، فأصحبت صلاتك بالطلة “ .
فقال ثالثهم لثانيهم : “ أيها العم ، لماذا توجه اليه هذا اللوم ؟
خاطب به نفسك ! “ أما رابعهم فقال : “ حمد الله أنى لم أقع في البئر كهؤلاء الرجال الثلاثة !
 “ وهكذا بطلت صلاة كل من هؤلاء الأربعة ، وكان الهاتفون بالعيب منهم أكثر ضلالا !
 فما أسعد الروح التي ترى عيبها ، والتي إذا هتف انسان بعيب حملته على نفسها ،


 
“ 320 “
 
3035 ذلك لأن نصف الانسان كان من عالم العيب ، وأما نصفه الآخر فكان من عالم العيب !
 فما دام رأسك يعاني من عشرة جراح ، فالواجب عليك أن تتخذ المرهم لعلاج نفسك .
فحين يُعاب الجرح فهذا ( بداية ) علاجه ، وأما حين يقع الكسر فهنا مكان الرحمة .
وان لم تكن تعاني من عيب فلا تستسلم ( لهذا الظن ) ، فلربما يظهر ذلك العيب منك أيضا .
ألم تستمع إلى قوله تعالى : “ لا تخافوا “ ؟ فلماذا اذن رأيت نفسك آمنا طيب الحال ؟
 
3040 لقد عاش إبليس سنين وهو ينعم باسم طيب ، ثم افتضح ، فتأمل أي اسم أصبح له الآن !
 لقد كان في الكون معروفا بعلاه ، فأصبح معروفا بعكس هذا ، فواها عليه !
 فما لم تكن آمنا فلا تطلب الشهرة ! واغسل بالخوف وجهك ثم أظهره !
 وما لم تنبت لحيتك - أيها الرجل الطيب - فلا تنتقد سواك ان تجرد من اللحية .
فتأمل من أصيبت روحه بالبلاء حتى سقط ، وأصبح عبرة لك .
 
3045 وأما أنت فلم تسقط لتكون عبرة له . لقد شرب سمّ ( الخذلان ) ، فكل أنت سكر ( الرضى ) !


“ 321 “

كيف قصد الغز أن يقتلوا رجلا وذلك ليخيفوا سواه
 
لقد أقبل هؤلاء الأتراك الغزّ سفاكو الدماء للغارة فدخلوا احدى القرى .
فوجدوا اثنين من أعيان تلك القرية فبادروا مسرعين إلى الفتك بواحد منهما .
فقيدوا يديه ليجعلوه قربانا ، فناداهم : “ أيها الملولك والأركان العظام !
 لأىّ سبب قد قصدتم قتلى ؟ و . ما الغاية من تعطشكم هذا لدمى ؟
 
3050 وأية حكمة وأي غرض يتحقق بقتلى . ما دمت هكذا درويشا عريان الجسد ؟
فقال ( أحدهم ) : “ لكي نوقع الفزع برفيقك ، فيخاف ويظهر لنا الذهب ! 
“ فقال : “ ولكنه أشد فقرا منى “ . فقال التركماني : “ لقد قصد ( اظهار ذلك ) ، وانه ليمتلك الذهب “ .
فقال ( الأسير ) : “ ما دام الأمر بالنسبة لكلينا وهم ، فنحن متساويان في مقام الاحتمال والشك .
فاقتلوا صاحبي أولا - أيها الملوك - حتى أخاف وأرشدكم إلى مكان الذهب “ .
 
3055 فتأمل كرم الله ، إذ جعلنا نجىء في آخر الزمان ، وهو يوشك على النهاية .
 
“ 322 “
 
وان القرون الأخيرة لهى السابقة على القرون . وقد جاء في الحديث : “ نحن الآخرون السابقون “ .
وهكذا أظهر داعى الرحمة لأرواحنا هلاك قوم نوح وقوم هود .
انه ( الخالق ) قد قتلهم حتى نخافه ، ولو أنه فعل عكس ذلك لكان وبالا عليك .
 
بيان حال المغرورين الذين لا يستشعرون نعمة
وجود الأنبياء والأولياء عليهم السلام
 
ان كلا من هؤلاء تكلم عن العيب والاثم ، وعن القلب المتحجر والروح المظلمة ،
 
3060  وعن تلقى أو امر ( الله ) باستهانة ، وعن الخلو من هموم الغد ، وعن الهيام بهذه الدنيا وتعشقها ،
 كما تخضع المرأة للنفس الأمارة ، وعن ذلك الفرار من محكم أقوال الناصحين وعن الهرب من لقاء الصالحين
 ، وعن الغربة عن القلب ، وأصحاب القلوب ، وعن التزوير ولعب الثعالب إزاء الملوك ( الروحيين ) .
وعن التفكر بأن القانعيين متسولون ، واضمار الحسد والعداوة لأولئك القانعين !
 
3065 فلو أن واحدا من هؤلاء ( الأنبياء والأولياء ) تقبل منك شيئا تقول : انه متسول !
 وان لم يقبل قلت : ان هذا نفاق ومكر وخداع !


 
“ 323 “
 
فهو لو خالط الناس قلت : “ انه طامع “ . ولو لم يفعل ذلك قلت : انه مولع بالكبر !
 أو تلتمس لنفسك عذرا كعذر المنافق قائلا : “ انني مُعَوَّق بنفقة ولدى وامرأتي ! 
فليس لدىّ وقت أحك به رأسي ، ولا عندي فراغ لانماء ديني .
فاذكرنا - يا فلان - بهمتك ، فلعلنا نغدو - في عاقبة الأمر - من الأولياء ! “
 
 3070 وهو لا ينطق بهذا الكلام في ألم وحرقة . انه كمثقل بالنعاس هذى بكلمات ثم عاد إلى الوسن .
( انه يقول ) : “ ليس لي مناص من كسب قوت العيال وأنا أحصل بغاية الجهد “ 1 “ على الكسب الحلال “ .
وأي حلال ذلك يا من غدوت من أهل الضلال ! انني لست أرى حلالا سوى دمك !
 ( فمثلك ) له مناص من الله ولا مناص له من الطعام ! وله إزاء الدين حيلة ، ولا حيلة له إزاء الطاغوت ! 
فيا من لا اصطبار لك عن الدنيا الدون ، كيف يكون اصطبارك عمن ( اتصف بقوله ) :” فَنعْمَ الْماهدُونَ ““ 2 “ .
 
3075 ويا من لا صبر لك عن الدلال والنعيم ! كيف يكون صبرك عن الرب الكريم !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ وانا أحصل بأنيابى . . . “
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ والأرض فرشناها فنعم الماهدون “ ، ( الذاريات ، 51 : 48 ) .
 
“ 324 “
 
ويا من لست تطيق صبرا عن النظيف والملوث ! كيف تطيق صبرا عن خالقهما ! 
أين الخليل الذي خرج من الغار ، فقال : هذا ربى . ألا فلتتنبه ! أين الخالق ؟
فلست بناظر إلى كلا العالمين ما لم أعرف من هو مالك هذين المجلسين .
فلو أنني أكلت الخبز - بدون أن أتأمل صفات الله - لا حتبس في حلقي !
 
 3080 وكيف تهضم لقمة بدون مشاهدته ، وبدون اجتلاء وورده وبستان ورده .
وبدون الأمل في الله من ذا الذي كان يشرب من هذه العين لحظة واحدة سوى ثور أو حمار .
فمن كان ممن ( وصفهم القرآن ) بأنهم :” كَالْأَنْعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ “ *” 1 “ ، وفهو نتن الريح ، برغم ما قد يكون له من دهاء بالغ .
ان مكره منقلب ، وهو ذاته منقلب ( على رأسه ) . ولقد عاش برهة قصيرة ثم انقضى يومه .
ولقد غدا فكره متراخيا وعقله خرفا ، وانقضى عمره من غير أن يظفر بشئ ، ( فهو في تجرده ) كحرف الألف “ 2 “ .
 
3085 وذلك التفكر الذي يقول : انه ملازم له ، لا يعدو أن يكون أقصوصة من أقاصيص تلك النفس الحسية !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الأعراف ، 7 : 179 .
( 2 ) الألف دائما مجردة من كل الحركات .

 
“ 325 “
 
وأما ما يهتف به من قوله : “ غفور رحيم “ ، فليس الا حيلة النفس اللئيمة ! 
فيا من قتلك الغم لخلو يديك من الخبز ، لماذا هذا الخوف ما دام الله غفورا رحيما ؟

* * *
شرح كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا : قم فقد حان وقت الصلاة 
“ 550 “
 
( 2604 ) يبدأ الشاعر هنا قصة عن معاوية وإبليس ، خلاصتها أن إبليس أيقظ معاوية في وقت الصلاة ، فشك معاوية في اخلاصه ، وظل يحاوره حتى كشف خبث سريرته ، وأنه ما قصد من ذلك إلى خير .
وقد أبدى نيكولسون شيئا من العجب إزاء اختيار الشاعر لشخصيتة معاوية في هذا القصة ، برغم ما عرف عن الأمويين من اقبال على الدنيا وبعد عن الزهد ، ثم التمس للشاعر عذار في ذلك ، هو أن معاوية كان من صحابة الرسول ، كما أن الرسول أيضا تزويج أخت معاوية .
ورأيي أن اختيار معاوية هنا لم يكن لمكانته في الاسلام فحسب ، وانما لما كان يعرف به معاوية من دهاء وسعة حيلة . فلقد وضع الشاعر - في القصة - داهية لا يسهل خداعه ، في مواجهة الشيطان ، فطال بذلك الحوار بين هذين المتصارعين ، واستطاع الشاعر أن يملأه بكثير من الصور الفنية الرائعة ، والمعاني التي تكشف عن قدرته في تصوير الصراع ، والتعبير عن وجهات النظر المتعارضة ، حتى ولو كان الشيطان - عدو الانسانية الأكبر - يمثل أحد الجانبين المتصارعين .
وقد أورد فروزانفر نصوصا تعبر عن الفكرة الأساسية لهذه الحكاية ، بايجاز ، وبدون أي تصوير فنى ، مما يجعل عمل جلال الدين ابداعا مستقلا لا يكاد يدين بشئ لمثل هذه النصوص . وفيما يلي مثال للصور التي وردت بها هذه القصة :
“ يروى أن رجلا كان يعلن إبليس كل يوم ألف مرة . فبينما هو ذات يوم نائم إذ أتاه شخص فأيقظه وقال ، قم فان الجدار ها هو يسقط . فقال له : من أنت الذي أشفقت علىّ هذه الشفقة . فقال له :
أنا إبليس . فقال : كيف هذا وأنا ألعنك كل يوم ألف مرة . فقال : هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله ، فخشيت أن تكون منهم فتنال معهم

 
“ 551 “
 
ما ينالون “ . ( عن قصص الأنبياء للثعلى ، ص 36 . انظر أيضا : فروزانفر :
مآخذ قصص ، 72 - 73 ) .
 
( 2620 ) “ ختن ) بضم أوله وفتح ثانيه ، وآخره نون ) : بلد وولاية دون كاشغر ، ووراء ، يوزكند ، وهي معدودة من بلاد تركستان .
وهي في واد بين جبال في وسط بلاد الترك ، وبعض يقول بتشديد التاء “ . ( ياقوت : معجم البلدان ، مادة ختن ) .
 
( 2635 - 2637 ) هذه الأبيات تعبر عن معنى حديث قدسي ينقل عن الرسول أنه روى عن الله قوله : “ انما خلقت الخلق ليربحوا علىّ ، ولم أخلقهم لأربح عليهم “ .
 
( 2640 ) يجادل إبليس قائلا : “ انه لا ينظر إلى سبب ضلاله ، وهو عصيان الخالق بالامتناع عن السجود لآدم ، والا إلى الجزاء الذي وقع من جراء هذا العصيان ، وهو غضب الخالق .
 
( 2641 ) الخالق لطيف رحيم ، سبقت رحمته على غضبه . وإبليس ينظر إلى ذلك اللطف الأزلي ، ولا يصرفه عن ذلك ما أصابه من غضب الله نتيجة لعصيانه . ان العصيان حادث ولا اعتبار للحادث إذا قيس بالأزلىّ .
 
( 2642 - 2644 ) ساق الشاعر على لسان إبليس حجة أخرى يعتذر بها عن عصيانه ، خلاصتها أن هذا العصيان جاء نتيجة لحبه للخالق ، وحرصه على أن يكون التقديس له وحده ، وغيرته من أن يظفر آدم بمنزلة تفوق ما كان لا بليس من منزلة عند الخالق .
 
( 2645 ) يقول إبليس : “ ان الخالق قد قدر على العصيان منذ الأزل ، ولهذا لهم يكن في وسعى أن أفعل سوى ذلك “ . ( انظر : المثنوى ، 1 ، 1488 ) .
 
( 2647 ) يدعى إبليس أنه - برغم ما يقاسيه من قهر وخذلان - ينعم بالمحبة الإلهية .
 
“ 552 “
 
( 2648 ) “ الجهات الست “ رمز للحواس الخمس . والحس المشترك ، ( وهو الحس الذي تُدرك به الصورة ) . والمراد أن التخلص من سلطان الحواس الست أمر بالغ العسر . وقد شُبهت الحواس الست بالأقسام الستة في لوحة النرد ، فالوقوع تحت سلطان الحواس يحدث الهزيمة ، وكذلك احتباس أحجاز لا عب النرد في “ الخانات “ الست يؤدى إلى هزيمته .
وحاصل المعنى أن المراء لا يستطيع أن يجرى في ستة اتجاهات في وقت واحد .
وحديث إبليس هنا يبدو وكأنه صادر عن انسان ذي حواس . ولا غرابة في ذلك ، فأسير الحواس عند الصوفية صنو إبليس .
 
( 2649 ) أعتقد أن المقصود “ بجزء الستة “ هنا هو الحس المشترك ( الذي تُدرك به الصور ) . فمثل هذا الحس لا يصلح سبيلا إلى معرفة روحية ، ما دام يستمد كل مدركاته من الحواس . فلا قدرة لهذا الحس المشترك على التخلص من سلطان العالم الحسى .
 
( 2650 ) كل من كان واقعا تحت السلطان الحواس فهو في جحيم لا يخلصه منه سوى الخالق القدير .
 
( 2658 ) شبه معارف إبليس بالصفير الذي يحدثه الصياد ليوقع الطيور . فالناس ينخدعون بحديث إبليس ، كما تنخدع الطيور بصفير الصياد .
 
( 2661 ) ان سيطرة الشيطان على قوم نوح جعلت هؤلاء يعصون نبيهم هذا ، فحل بهم غضب الله وأغرقهم الطوفان .
 
( 2662 ) انظر : المثنوى ، 1 ، 854 - 855 وشرحهما .
 
( 2663 ) في البيت إشارة إلى قصة قوم لوط ، وكيف هلكوا من جراء ما كانوا يتعلقون به من الآثام . قال تعالى : “ وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل “ . ( 15 : 74 ) . وقال أيضا : “ وأمطرنا عليهم مطرا فساء
 
“ 553 “
 
مطر المنذرين “ . ( 26 : 173 ) . ولقد كان هلاك قوم لوط بحجارة أمطرتها عليهم السماء . أما وصف الشاعر لقوم لوط بأنهم “ غرقوا في المياه السوادء “ ، فلعل ذلك إشارة إلى ما أصابهم من عمى ، جاء ذكره في قوله تعالى : “ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم “ . ( 54 : 37 ) .
 
( 2664 ) انظر المثنوى ، 1 ، 1189 وشرحه .
 
( 2665 ) فرعون ، الملك الذكي القادر ، صار عديم الفهم من جراء مكر الشيطان ، فلم يستمع إلى رسالة السماء .
 
( 2666 ) أبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب ، عم الرسول .
كان من أشد أقرباء الرسول عداوة له . يقول البلاذري : “ لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : “ وأنذر عشيرتك الأقربين “ ( 26 : 214 ) ، اشتد ذلك عليه ، وضاق به ذرعا ، فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته ، حتى ظن عماتُه أنه شاك ، فدخلن عليه عائدات . 
فقال : ما اشتكيت شيئا ، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فأردت جمع بنى عبد المطلب لأدعوهم إلى الله . 
قلن فادعوهم ، ولا تجعل عبد العزى فهيم - يعنين أبا لهب - فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه اليه “ . 
وتاريخ أبى لهب وامرأته ابان الدعوة حافل بالكيد والعداء المرير لرسول الله .
وقد نزلت في ذمهما سورة من القرآن الكريم ، وهي سورة المسد ، ( 111 ) أما أبو جهل ، فهو أبو الحكم عمرو بن هشام ، وكان من أشد الكفار عداء للرسول . ) ( انظر : المثنوى ، 1 ، 2154 - 2160 ، والشرح ) 
 
( 2670 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى ( حكاية عن ابن نوح ) :
“ قال سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم “ . ( 11 : 43 ) . العصمة وحدها هي التي تنجى الانسان من مكر الشيطان ، كما كانت رحمة الله هي المنقذ الوحيد يوم طوفان نوح .


“ 554 “
 
( 2672 ) يدعى إبليس أنه محك لتمييز الخير من الشر . وهو بهذا يجعل نفسه على مستوى الأنبياء . ( انظر المثنوى ، 2 ، 284 - 287 ) .
وإبليس - من هذه الناحية - محك سلبىّ فهو يدعو إلى الشر ، وبهذا يتبين الشرير من الخير ، على العكس من الأنبياء ، فهم يدعون إلى الخير ، فيتميز الخير من الشرير .
 
( 2674 ) “ ليس الشر من صنعي ، بل هو كامن في النفوس التي تستجيب لي . وقيمة هذه النفوس تظهر على حقيقتها باستجابتها لي ، فكأنما أنا صير في حدد قيمتها “ .
( 2675 ) الشيطان يظهر السبيل للطيبين ، فهو يجعلهم شهودا لما حاق بالعصاة الهالكين من سوء المصير . وهو الذي يقود العصاة إلى نهايتهم .
 
( 2676 ) “ ألوان العلف “ ، هي ألوان المعزيات التي يظهرها إبليس للناس .
 
( 2682 ) الأبتر هو من لا يكون له أثر من نسل ولا ذكر حسن .
والمقصود هنا أن من عاش حياة حسية ، فلن يكون لحياته أثر ، فكل ما هو حسى فمآله إلى الفناء .
 
( 2684 ) ان الخير والشر - برغم اختلافهما - يقومان بعمل واحد ، هو التمييز بين الأخيار والأشرار . فكما يُظهر الأنبياء الأخيار من الأشرار ، كذلك يظهر الشيطان الأشرار وهم الذين يلبون نداءه ، والأخيار وهم الذين لا يستجيبون لاغرائه .
 
( 2686 - 2687 ) في هذين البيتين يتضح الفرق بين فكرة الشيطان في الاسلام وسائر الأديان السماوية من جهة ، وبين تلك الفكرة في الأديان الثنوية من جهة أخرى . فبينما تؤمن الأديان الثنوية بقدرة الشيطان على الخلق ، ومقاومته لإرادة الله ، تنفى الأديان السماوية عن الشيطان القدرة على الخلق ، وتنفى عنه أية قدرة على مشاركة الله في ملكه .
 
“ 555 “

 
( 2688 ) إشارة إلى حكاية صغيرة وردت بصور متعددة في مصادر أخرى . ( انظر : فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، ص 74 ) . وتعبر احدى الروايات العربية عن هذه القصة كما يلي : “ ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة ، فنظر وجهه فيها ، فإذا هو سمج بغيض ، فرمى بها ، وقال : ما طرحك أهلك من خير “ .
 
( 2690 ) هنا يعود إبليس إلى ادعاء صفات لنفسه شبيهة بصفات الأنبياء . فالنبي هو الشاهد على الخلق ، وليس إبليس .
 
( 2692 ) يدعى إبليس أنه يقتلع الفساد من الأرض حتى يسودها الصلاح ! 
 
( 2693 - 2696 ) الشجرة الذابلة هنا رمز لا ستقامة الظاهر وفساد الباطن . فهذه الشجرة تقف مستقيمة كغيرها من الأشجار لكنها في الحقيقة ذابلة جافة . واستقامتها الظاهرية لا تشفع لها في البقاء ، بل إن البستاني يستأصلها . وهكذا حال من استقام ظاهرهم ، وفسد باطنهم .
 
[ شرح من بيت 2700 إلى بيت 2850 ]
( 2702 - 2703 ) ان إبليس يدور حول الانسان ، متظاهرا بأنه يريد مؤازرته ، على حين أنه لا يريد له الا الهلاك . فهو مثل قاطع الطريق ، يسلب ، ولا يشترى . وان تظاهر بالشراء كان ذلك كيدا وخداعا .
 
( 2706 ) “ ان لم تأخذ بيدي غدوتُ مجللا بسواد الاثم والخطيئة “ .
 
( 2708 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة “ . ( 2 : 31 ) .
فآدم - وهو الذي تعلم من الحق - وقع ضحية لخداع إبليس .
 
( 2710 ) في البيت إشارة إلى قصة سقوط آدم وندمه . قال تعالى حكاية عن آدم وزوجه : “ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين “ . ( 7 : 23 “ .
 
( 2718 - 2720 ) يقول إبليس : “ ان النفس الأمارة بالسوء تقود
 
“ 556 “
 
الانسان إلى ارتكاب الخطايا ، حتى يسوء من جراء ذلك حاله . وهو يلعن إبليس ويعزو اليه ما أصابه ، والواقع أن نفسه هي التي جلبت عليه الوبال ، وهو غافل عن خداعها .
 
( 2722 ) يشير البيت إلى معنى المثل القائل : “ ألية في برية ما هي الا لبلية “ “ 1 “. فأذناب الخراف كانت توضع في أشراك لاصطياد الوحوش الكاسرة .
 
( 2724 ) في الشطر الأول من هذا البيت نظم لمثل عربى معروف نصه : “ حبك الشئ يعمى ويصم “ “ 2 “ .
( 2726 ) “ انى منتظر أن يكشف الله عنى ما غشينى من ليل الاثم والخطيئة “ .
 
[ شرح من بيت 2850 إلى بيت 3000 ]
 
( 2758 ) يقول معاوية لا بليس : “ هأنذا قد كشفت زيفك وألزمتك الحجة ، فلتقل الصدق . . . “ .
 
( 2765 ) قول الشاعر : “ فنطق إبليس من تحت أسنانه “ ، يعنى أن إبليس أرغم على البوح بسره .
 
( 2770 ) “ ان احساس العبد بالحسرة على فرض فاته أداؤه ، وأساه المنبثق من اخلاص روحه ، ربما كانا معا يعدل عند الله مائة صلاة “ .
هذا هو المعنى الذي عبر عنه البيت . وهو مرتبط بنصوص صوفية سابقة . ومن أمثلة ذلك ما نقله أبو نعيم الاصفهاني . قال : “ ان الشيطان يزين للعبد الذنب حتى يكسبه ، فإذا كسبه تبرأ منه ، ولا يزال العبد يبكى منه ويتضرع إلى ربه ، ويستكين ، حتى يغفر له ذلك الذنب وما قلبه ، فيندم الشيطان على ذلك الذنب ، حين أكسبه إياه ، فغفر له الذنب وما قلبه “ . ( حلية الأولياء ، 3 ، 335 ) . وقال أيضا : “ ان
.................................................................
( 1 ) الميداني : مجمع الأمثال ، ج 1 ، ص 122 .
( 2 ) المصدر السابق ، ج 1 ، ص 273 .

 
“ 557 “
 
العبد ليعمل الذنب ، فإذا ذكره أحزنه ، فإذا نظر الله عز وجل اليه قد أحزنه ، غفر له ما صنع ، قبل أن يأخذ في كفارته ، بلا صلاة ولا صيام “ .
ومما يجب الاتنباه اليه هنا أن التقصرى الذي يُقابل بمثل هذا الغفران هو تقصير غير مقصود ، كالنوم حتى يفوت موعد الصلاة ، كما هو واضح من قصة إبليس ومعاوية ، في رواية الشاعر ، وكما يتضح أيضا من القصة التي يرويها الشاعر في الأبيات التالية ( 2771 - 2779 ) .
 
( 2788 ) “ انني روح مأمنة ، لا يتملكنى سوى الحق ، فأنا كالباز الأبيض ، لا يصيدنى الا المليك ، وليس لصياد الذباب قدرة على اصطيادى “ . وصياد الذباب هنا رمز للشيطان ، كما أن تشبيه ضعاف النفوس المتهالكين بالذباب يصور هؤلاء تصويرا رائعا ، يعبر عن ضعفهم وتراميمهم ، تهالكهم على اللذات المهلكة ، وسرعة هلاكهم ، ثم زوالهم الكامل .
 
( 2793 - 2807 ) ساق الشاعر في هذه الأبيات قصة يمثل بها لخداع الشيطان الذي يصرف الانسان من الحقيقة إلى الوهم . ففي القصة نرى رجال يطارد لصا حتى يوشك على الامساك به ، فيناديه لص آخر بطريقة مثيرة ، فيتراخى في القبض على اللص ، ويتجه نحو المنادى ، وهناك يخبره اللص الآخر بأنه يريد أن يريه آثار قدمي اللص الهارب .
وقد استطرد الشاعر من هذه القصة إلى الحديث عن “ العلم اليقيني “ وهو - في نظره - العرفان الصوفي ، و “ العلم الوهمي “ ، ويقصد به علم الكلام وما شاكله .
 
( 2811 ) العلم الدنيوي مرتبط بالحس ، أما العلم اليقيني فقد تحرر من الحس .
 
( 2812 ) يشير الشاعر في هذا البيت إلى درجات ثلاث من المعرفة .
أولاها ادراك الصنع ، وهذا ما نتيجة للانسان معارف الحس . والثانية
 
“ 558 “
 
معرفة الصفات الإلهية ، وتلك هي ألأسباب الكامنة وراء الصنع ، فمثل هذه المعرفة تشغل المتكلمين ، الذين يقفون عند حد الأسباب والعلل .
وأما الثالثة فهي معرفة الذات ، وهي التي ينشدها الصوفية العارفون .
وقد يفهم البيت على أساس ترجمة أخرى يسمح بها النص وهي : “ ان المحجوب ( عن الذات ) يرى أن الصنع ( ينبثق ) من الصفات ، فمن أضاع الذات ، يتلعق بالصفات “ . ( فالمعنى - على أساس هذه الترجمة - يشير إلى أن هناك نوعين من المعرفة ، أحدهما هو الفكر العقلي القائم على الأسباب والعلل ، وثانيهما هو العرفان الروحي ، المستند إلى الذات الإلهية وحدها .
 
( 2813 ) “ الواصلوان الغارفون في الذات “ هم الصوفية . وهؤلاء قد ركزوا نظرهم في الذات ، فصرفهم ذلك عن الصفات . فعندهم أن من عرف مسبب الأسباب ، هانت عليه معرفة الأسباب .
 
( 2814 ) من غاص إلى أعمق أعماق العرفان لم تعد تهمه القشور ، فهو كمن غاص إلى قاع البحر ، فلم يعد بصره متعلقا بلون الماء .
 
( 2815 ) من أدرك العلم اليقيني ، ثم عاد منه إلى بحث الأسباب والعلل ، فهو شبيه بمن أخذ ثوبا خشنا لقاء فراء .
 
( 2816 ) كل انسان تكون عبادته على قدر عرفانه وادراكه . فطاعة العوام - التي تقتصر على أداء الفروض من غير ادراك لجوهرها ومعناها - تُعد اثما في نظر الخواص . وما يحسبه العوام كشفا إليها ، وشهودا روحيا ، فهو عند العارفين حجاب .
 
( 2817 ) ان من وصل إلى مقام القرب ، ثم هبط إلى منزلة أدنى من ذلك ، يشبه من كان وزيرا ثم جعله الملك محتسبا .
 
( 2818 ) يُذكر في تفسير هذا البيت قوله تعالى : “ ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “ . ( 13 : 11 ) .
 
( 2821 - 2824 ) في هذه الأبيات تعبير عن قدرة الانسان على
 
“ 559 “
 
تحديد مصيره بعمله . فيجب على المرء ألا يعزو ما يحيق به من سوء المصير إلى ما يسمى عادة “ بالقسمة “ أو “ النصيب “ بل عليه أن ينظر إلى عمله ، ويلتمس فيه تفسيرا لمصيره .
ويؤيد معنى هذه الأبيات قوله تعالى : “ ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك يبدأ من سيئة فمن نفسك “ . ( 4 : 79 ) .
 
( 2825 ) يبدأ الشاعر هنا قصة “ مسجد الضرار “ . وقد أشار إليها القرآن الكريم ، في قوله تعالى : “ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان أردنا الا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون . لا تقُم فيه أبدا المسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطِّهرين “ . ( 9 : 107 - 108 ) .
وقصة مسجد الضرار مشهورة . وقد وردت في كافة كتب التفسير بصور متقاربة . وننقل فيما يلي نصا لهذه القصة عن ابن فضل الله العمرى في كتابه مسالك الأبصار ( ج 1 ، ص 129 - 130 ) .


“ روى أن بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء - وكان يأتيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويصلى فيه - حسدهم اخوتهم بنو غنم بن عوف . وقالوا : نبنى مسجدا ونرسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلى فيه ، ويصلى فيه أبو عامر الراهب ، إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على اخواتهم . زعموا . وأبو عامر هو الذي سما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق . وقال لرسول الله :
لا أجد قوما يقاتلونك الا قاتلتك معهم . فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين .
فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام . وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، فانى ذاهب إلى قيصر ، وآت بجنود ، ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة “ .
أما القسم الذي صوره جلال الدين من هذه القصة فهو ما يلي :

 
“ 560 “
 
“ فبنوا مسجد الضرار إلى جانب مسجده قباء ، وقالوا للنبي :
بنينا مسجدا الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية . ونحن نجب .
أن تصلى لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة “ . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) :
“ انى على جناح سفر وحال شغل . وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه “ .
فلما قفل من غزوة تبوك ، سألوه اتيان المسجد ، فنزل قوله ( تعالى ) :
“ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا “ إلى قوله : “ لا تقم فيه أبدا “ . فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة ، فقال لهم : “ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه واحرقوه “ . ففعلوا . وأمر أن يُجعل مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة “ .
 
( 2829 ) قول الشاعر : “ وزينوا أرضه وسقفه وقبته . . . “ ، يجب ألا يؤخذ على معناه الحرفي ، ففن انشاء القباب لم يكن قد انتقل إلى الحجاز في عهد الرسول .
 
( 2831 - 2833 ) جاء في قصة “ مسجد الضرار “ أن المنافقين خاطبوا الرسول قائلين : “ بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلى لنا فيه وتدعوا لنا بالبركة “ .
( انظر القصة في شرح البيت 2825 من هذا الكتاب ) “ .
 
( 2835 ) قول الشاعر : “ وان صحبة الاخوان لتجعل المر حلوا “ ، قد بدا لبعض الشراح محتاجا إلى التأويل ، لأنهم فهموا من قوله “ تجعل المرا حلوا “ أن الجماعة تخفف مرارة العبادة . والواقع أنه لا داعى لهذا التأويل ، وينبغي أن يفهم هذا القول على معناه الحرفي بدون تأويل ، فتزول بذلك الصعوبة في فهمه . وما دامت صحبة الاخوان تجعل المر حلوا ، فمن الطبيعي أنها تزيد الحلو حلاوة . فالعبادة تزداد بالجماعة حلاوة وتأثيرا في النفس .
 
“ 561 “
 
( 2840 - 2843 ) من الصور الرائعة في هذه الأبيات تشبيه اللطف الذي ينطق به اللسان - بدون اخلاص من القلب - بالخضرة فوق رماد المواقد ، وكذلك تصوير اللطف الزائف بأنه جسر مهدم ، لا يمكن الركون اليه .
 
( 2854 - 2856 ) تعبر هذه الأبيات عن معنى الحديث الذي يروى عن الرسول قوله : “ انما مثلي ومثل أمتي كرجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش تفعن فيها وأنا آخذ بحجزكم وأتتم تقتحمون “ .
( انظر : المنهج القوى ، 2 ، 557 ) .
 
( 2860 ) قول الشاعر : “ لقد بنوا مسجدا على جسر النار “ ، مقتبس بمعناه من قوله تعالى : “ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين “ . ( 9 : 109 ) .
 
( 2861 ) جاء في مسالك الأبصار للعمرى ( ص 130 ) نص يروى عن عطاء قوله : “ لما فتح الله الأمصار على عمر أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه “ .
 
( 2862 ) المقصود باليهودي في هذا البيت هو أبو عامر الراهب .
( انظر قصة مسجد الضرار ، شرح البيت 2825 من هذا الكتاب ) .
 
( 2863 - 2864 ) انظر من قول الرسول في قصة مسجد الضرار .
شرح البيت 2825 .
 
( 2872 ) قال تعالى : “ اتخذوا أيمانهم جنة “ . ( 58 : 16 ) ، ( 63 : 2 ) . والجُنَّة هي الوقاية . فهؤلاء المنافقون قد احتموا بالأيمان الكاذبة ، واستتروا وراءها .
 
( 2883 - 2884 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى انى أنا الله رب العالمين “ . ( 28 : 30 ) .

“ 562 “
 
( 2903 ) يشير الشاعر هنا إلى “ القليس “ وهي كنيسة بناها أبرهة ، القائد الحبشي الذي فتح اليمن ، قبل ظهور الاسلام بفترة وجيزة .
يقول ياقوت : “ وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة ، وجشمهم فيها أنواعا من السخرة ، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع ، والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس ، صاحبة سليمان ، عليه السلام ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ . . . . ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ونابر من العاج والأنبوس . . . ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي : انى قد بيت لك - أيها الملك - كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب “ . ( معجم البلدان ، 4 ، 394 - 395 ) .


ويقال إن رجلا من العرب غضب - حين سمع بذلك - وتوجه إلى الكنيسة ، ودخلها ولوثها . فلما علم بذلك أبرهة ، جهز جيشا وسار لهدم الكعبة ، فكانت قصة الفيل التي رواها القرآن الكريم . ( انظر : المصدر السابق ) .
 
( 2911 ) الجمل الضال في القصة رمز للحكمة الروحية التي ينشدها المريد ، فالحكمة ضالة المؤمن .
 
( 2915 - 2922 ) ان ملتمس الحكمة عند علماء الدنيا شبيه بمن أضاع جملا ، ثم أخذ يسأل عنه العوام ، فكان كل منهم يدله عليه ، بأسلوب يخالف أسلوب الآخرين ، طمعا في مكافأته . فهذا التناقض في الارشاد إلى الجمل الضائع ، شبيه بتناقض الباحثين في الارشاد إلى الحقيقة ، وبخاصة حين يكون هؤلاء من علماء الحس . ويتبين مغزى هذه الصورة في أبيات تالية . ( 2923 - 2926 ) .
 
( 2926 ) “ كل منهم يشير إلى الحقيقة بأقوال توهم أنه عارف بها ، عليهم بجوانبها “ .

 
“ 563 “

 
( 2927 ) هؤلاء الباحثون الضالون يطلبون الحق ، فيهتدون إلى باطل يحسبونه حقا .
 
( 2928 ) لا أحد يطلب الباطل لذاته . فالذين يقبلون النقد الزائف يكون قبولهم له على أساس أنه نقد صحيح .
 
( 2931 ) المستقيم السوىّ يسوغ للأعوج وجوده . فالجاهل يتقبل الأعوج ، على أنه مستقيم ، والجهل هو الذي يجعل الأعوج مستقيما في نظره . ان الأمل في الصالح يسوغ قبول الطالح ، كما يجعل السكرُ السم سائغا لمن يجعل حقيقته .
 
( 2935 ) لقد احتجبت الحقيقة بين الأباطيل ، كما احتجبت ليلة القدر بين الليالي . واحتجاب الحقيقة بين الأباطيل يلقى على الروح مسؤولية اكتشافها ، وكذلك الحال بالنسبة لليلة القدر . فمن المعروف أنها احدى الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان . فالروح التي تطمع إلى اكتشافها قمينة بأن تسهر الليالي لعلها تصادفها .
وقد ذكرت ليلة القدر في القرآن الكريم على أنها الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن الكريم . قال تعالى : “ انا أنزلناه في ليلة القدر “ .
( 97 : 1 ) .
 
( 2937 ) بين المتظاهرين بالزهد يكون هناك زاهد صادق . والبحث الدائب هو الذي يهدى إلى حقيقة مثل هذا الزاهد .
 
( 2939 ) من مزايا وجود الباطل أنه محك لقدرة الروح على اكتشاف الحق . فلو لم توجد في هذه الدنيا سلع معيبة لكان من الميسور لجميع البله أن يصبحوا تجارا .
 
( 2943 ) تجارة الأنبياء ذات طبيعة روحية ، وهي تحقق ربحا جوهريا . أما تجارة الحس فلا تجىء بربح حقيقي . وقول الشاعر :
“ تجار الألوان والروائح “ يرمز للمتعلقين بالمادة ، المنصرفين إلى لذات الحس .

“ 564 “
 
( 2946 - 2947 ) بدأ الشاعر هنا يتحدث عن وجوب امتحان كل شئ حتى يظهر ما فيه من خير ومن شر . فما دامت الحقيقة قد اختلطت بالباطل ، فهذا البحث واجب على كل روح يطمع إلى اليقين .
وقد ضرب - في هذين البيتين - مثلا بالسموات التي يتجلى فيها كمال خلق الله ، وبرغم ذلك ، أمرنا الخالق أن نظر إليها فاحصين .
قال تعالى : “ الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير “ . ( 67 : 3 - 4 ) .
فهذه الدعوة إلى النظر والتأمل في السماوات لا دراك ما فيها من احكام الخلق ، تبين لنا مدى ما نحتاج اليه من نظر ثاقب لا جتلاء حقيقة ما نلاقيه في هذا العالم الحسى .
 
( 2951 - 2964 ) اتخذ الشاعر من الأرض ، وما تُمتحن به من عوارض ، مثلا للانسان . فالأرض تنطوى على كثير من ألوان الجمال :
انها تبدو في ظاهرها ترابية كالحة ، لكن معدنها ينبت الأزهار والرياحين وطيب الثمار . ولا بد من الربيع والخريف ، والحرّ والبرد ، والبرق والرعد ، لكي يُستخلص من هذه الأرض الترابية ما تنطوى عليه من أنوان الجمال . وهكذا الحال بالنسبة للانسان . فهو يتعرض لألوان متعددة من البلاء تظهر حقيقة جوهره ، وتبين ما كمن في ذاته من صفات الكمال .
 
( 2957 ) “ مخاطبة الأرض بقول لطيف كالسكر “ كناية عن الربيع ، والاعتدال ، أما “ تعليقها في الهواء “ فكناية عن الرياح التي تعصف بها ، فتثير غبارها ، وتجلعه معلقا بالهواء .
 
( 2963 - 2964 ) يعبر الشاعر هنا عن معنى قوله تعالى :
“ ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين “ . ( 2 : 155 ) .
 
“ 565 “

 
( 2965 ) أطلق الله الوحد والوعيد ليفصل بين الخير والشر اللذين امتزجا باذنه .
 
( 2969 - 2972 ) صور الشاعر المحك الصادق لاختبار ، الحقائق - وهو العرفان الحق - فاتخذ من قصة موسى في طفولته مثالا لذلك .
فموسى كان قد عرف حليب أمه ، فلم يتقبل سواه . وكل من شربت روحه من حليب اليقين يوم حشد الله الأرواح قبل خلق هذا العالم بقي لها مذاق اليقين ، ورزقت القدرة على ادراكه . فمن كان حريصا على سلامة ادراكه فليغذ قلبه باليقين ليعرف مذاقه ، كما غذت أم موسى طفلها موسى بالحليب ، فعرفها ، ورفض سواها من المراضع .
 
( 2969 ) من تلقى العرفان الحقيقي من مرشد صادق ، خاض غمار هذه الحياة ، بدون أن يتعرض لمخاطرها ، كما كان من أمر موسى حين ألقى في اليم وهو طفل ، ومع ذلك سلم من أخطاره .
 
( 2970 ) من أتيح له أن يتذوق العرفان الحق - يوم أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - قبل خلق هذا العالم ، فهو يستطيع تمييز العرفان الصادق ابان وجوده في هذه الحياة ، لأنه يُذكرِّه بما سبق أن تذوقته روحه قبل خلق العالم .
 
( 2972 ) من تلقى الارشاد من مرشد عارف ، أدرك منذ البداية مذاق العرفان الصادق ، ولم يكن عرضة لا لتماس معارف الحس ، عند أصحابها من علماء الحس المغرورين الجهلاء .
 
( 2973 ) عاد الشاعر هنا إلى مثال الرجل الذي أضاع جملا . ( انظر الأبيات 2915 - 2922 ، وشرحها ) .
 
( 2975 ) عالم الحس يمارى ويجادل ، ويتظاهر بالبحث عن الحقيقة ، في حين أنه لا يبحث عن شئ .
 
( 2976 ) أسلوب هذا العالم الحسىّ هو التقليد . فهو يردد ما يقوله العارفون المخلصون من طلاب الحقيقة .

 
“ 566 “
 
( 2982 ) قول الشاعر : “ يغدو جسدك نفسا ، ونفسك روحا “ ، يعنى أن من تلقى الالهام الروحي تسمو حواسه من مستواها المادي إلى مستوى معنوي هو مستوى النفس ، كما تسمو نفسه من مستواها الانفعالي إلى مستوى الروح في تساميها وتجردها .
 
( 2983 ) “ الأمين “ هو العارف الذي يكشف الحقيقة لطالب العرفان .
 
( 2985 - 2986 ) طالب العرفان لا يطول به الوقت حتى يكشف صدق المرشد ، واحاطته بجوهر الحقيقة وسرعان ما يقتفى أثره ، ملتمسا تحقيق العرفان لروحه ، بمعونة هذا المرشد العارف .
 
( 2987 - 2998 ) قد يتحقق للمقلد وصول إلى جوهر الحقيقة ، إذا اقتفى أثر المحققين ، واستعار قبسا من حرارة صدقهم . فهو من بداية أمره يدعى أنه مثلهم طالب للحقيقة ، لكنه سرعان ما يدرك اخلاصهم في الطلب ، وإذ ذاك يفطن إلى أنه أيضا يبحث مثلهم عن ضالة ، هي الحكمة الحقيقة . وبجده واخلاصه يصل هو أيضا إلى الحقيقة ، فيلتقى حينذاك مع العارفين .
 
( 2988 ) المقلِّد لا يفيد من تقليد المحقق الا بمقدار ما يعتقده من صدق هذا المحقق .
 
( 2989 ) اخلاص المحقق ، وحرارة يقينه ، ينبهان المقلد ، فيفطن إلى طريق الحقيقة .
 
( 2990 ) الفطنة إلى طريق الحقيقة - التي يقتبسها المقلد من العارف - تنبهه أيضا إلى أن له ضالة ينشدها ، شبيهة بما ينشده هذا العارف .
 
( 2991 ) “ الطمع في جمل الغير “ رمز إلى الطمع في الوصول إلى الحقيقة من غير طريقها . فالمقلد يظن أنه قادر على كشف الحقيقة عن طريق التقليد .
 
( 2992 ) قد يؤدى تقليد المقلد للمحقق إلى أن يصبح هذا شريكا لذاك في عناء الطلب والبحث والتحري .



“ 567 “
 
( 2993 ) اقتفاء المقلد للمحقق قد ينتهى بالمقلد إلى أن يصبح هو أيضا من أهل التحقيق . وتلك حال شبيهة بحال الكاذب الذي يصحب صادقا ، ويقتنفى أثره ، فيصبح كذبه - من جراء ذلك - صدقا .
 
( 2994 ) عثر المقلِّد - بعد أن جعله الاجتهاد من أهل التحقيق - على الحقيقة ، وسط متاهات الخيال والأوهام .
 
( 2995 ) حينما اهتدى هذا المقلد إلى الحقيقة ، بعد ان سلك سبيل أهل التحقيق ، أدرك أنها هي الهدف الذي كان يسعى لادراكه ، واطمأنت روحه إليها ، وبرئت من المراء والجدال والطمع .
 
( 2996 ) كانت المجاهذة سبيل شهود الحقيقة . وبشهودها أصبح المقلد محقِّقا .
( 2997 ) شهود الحقيقة جعل السالك المقلِّد طالبا لها .
 
( 2998 ) شهود الحقيقة فتح عين السالك المقلد على نور جديد ، ترك كل ما عداه ، وتوجه نحوه .
 
( 2999 ) يستاءل المحقق في هذا البيت عما دعا السالك المقلِّد إلى تركه ، وكان من قبل يقتفى أثره .
 
[ شرح من بيت 3000 إلى بيت 3150 ]
 
( 3000 ) يكشف المقلِّد عن الدافع الذي دفعه إلى اقتفاء أثر المحقق .
ولم يكن هذا سوى الطمع ، إذ لم يكن في بداية أمره قد عرف الاخلاص في الطلب ، والصدق في المجاهدة .
( 3001 ) وحدة السلوك الروحي توحد بين السالكين وان تفرقت الأجساد ، وذلك على العكس من التفاء الناس بأجسادهم ، فمثل هذا اللقاء لا يترتب عليه وحدة هدف ولا غاية .
( 3002 ) يذكر المقلد أن معرفته التقليدية كانت أوهاما مستقاة من عرفان الغير ، أما شهود الحقيقة فقد ملأ عليه نفسه .
( 3004 ) تبين للسالك المقلد أن هذا العرفان الذي تكشف له ، أسمى وأنبل بكثير مما كان يطلب . انه شئ لم يكن يخطر له على بال . كان



“ 568 “
 
طلبه على مستوى نفسه ذات المعدن الخسيس ، لكن هذه النفس قد أصبح معدنها كالذهب بفضل إكسير العرفان .
 
( 3006 - 3007 ) “ المجاهدة والسعي توصل المقلد إلى الصدق واليقين اللذين يتحلى بهما المحقق . لكن الطلب لا ينتهى عند بلوغ مرتبة التحقيق . فاليقين موقف يقتضى دوام الطلب ، طلب الروح لخالقها ، وسعيها اليه “ .
في رأيي أنه يجب المتييز بين طلب السالك المقلد ، ليصل إلى منزلة التحقيق ، وبين طلب المحقق ، الذي أشرقت روحه باليقين .
وقد نقل نيكولسون عن الهجويرى نصا يفهم منه أن الصدق والطلب مقترنان ، فلا صدق الا ويقترن بطلب ، ولا طلب الا ويقترن بالصدق . وأعتقد أن هذا النص يتعلق بالعارف المحقِّق وحده ، وليس بالسالك الساعي إلى التحقيق .
 
( 3008 - 3009 ) يشبه السالك مجاهدة النفس ، وما لاقاه فيها من عناء ، بشق الأرض وزراعتها . وكان - لشدة عنائه - يظن ذلك العمل من قبيل السخرة التي لن يؤجر عليها ، فإذا به يحقق له أعظم الكسب ، وإذا بكل حبة قد أنبتت مائة حبة .
 
( 3010 ) “ اللص “ رمز للمقلد الذي كان يسرق لغة العارفين . وهو الذي اقتفى أثر العارفين ، فأصبح عارفا . فكان اليقين الذي اطمأنت اليه نفسه - على غير توقع منها لذلك - شبيها بمنزل تسلل اليه أحد اللصوص ، ثم تبين له أن المنزل منزله .
 
( 3011 ) في هذا البيت دعوة للمقلد إلى أن يستشعر حرارة اليقين ، فلعلها تخلصه من برودة تقليده ، وإلى أن يصير على عناء السعي والمجاهدة ، فلعل ذلك العناء ينتهى به إلى راحة اليقين .
 
( 3012 ) الحقيقة واحدة ، وان اختلفت سبل السالكين ، الساعين إليها .

 
“ 569 “
 
( 3013 ) إشارة إلى حديث يروى عن الرسول قوله : “ من عرف الله كلّ لسانه “ .
 
( 3014 ) ان الحديث عن المعاني الروحية لا يعبر الا عن لمحات قليلة من حقيقتها ، فهو كالاصطرلاب فيما ينبئ به من معلومات عن الفلك والشمس .
 
( 3015 ) سبر أغوار هذا الفلك وشمسه لا يعد شيئا بالقياس إلى سبر أغوار فلك الروح وشمسها . فهذا الفلك - بالقياس إلى فلك الروح - كالفراشة ، وشمسه - بالقياس إلى شمس الروح - كأنها ذرة .
 
( 3017 ) مما روى من أخبار مسجد الضرار أن الرسول أمر بأن يهدم ، ويجعل مكانه كناسة تُلقى فيها الجيف والقمامة . ( انظر القصة في تعليقنا على البيت 2825 ) .
 
( 3018 ) المقصود “ بصاحب المسجد “ أبو عامر الراهب . ( انظر شرح البيتين 2825 ، 2826 ) .
 
( 3022 ) لكل شئ ظاهر وحقيقة . والأصل في تقدير الأشياء حقيقتها . وفي عالم الحقائق توجد فروق وفصول شبيهة بما يكون في عالم الظاهر من فروق وفصول ، لكن الفروق في عالم الحقائق تكون أصدق ، وأكثر اقترانا بالصواب . وينطبق هذا على حقائق الناس التي قد لا تكون مقفقة مع ظواهرهم .
 
( 3025 ) “ بناء مسجد الضرار “ رمز للنفاق .
 
( 3035 ) الانسان مزيج من الحس والروح ، والحس ينتمى لعالم العيب والخطايا ، وأما الروح فتنتمى لعالم الغيب .
 
( 3039 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تننزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون “ . ( 41 : 30 ) .
فما دام المؤمنون من أهل الاستقامة بحاجة إلى أن يطمئنهم الملائكة ،
 
“ 570 “
 
فيجب ألا يغتر الانسان بعمله ، ويحسب أنه قد خلا من العيوب ، وتحقق له حسن الجزاء . سئل الجنيد عن الخوف فقال : “ هو توقع العقوبة على مجارى الأنفاس “ .
 
( 3042 ) على الانسان ألا يصاب بالغرور لقيامه بعمل صالح ، يرجو من ورائه الشهرة والتظاهر ، بل إن عليه أن يكون خائفا حذرا من ارتكاب الاثم .
 
( 3046 ) الأتراك الغز شعب من شعب آسيا الوسطى ، بدؤوا غاراتهم على خراسان منذ أوائل القرن الخامس الهجري . وقد اشتهرت من بينهم قبيلة قوية هي قبيلة السلاجقة التي استطاعت أن تقيم في القرآن الخامس الهجريّ دولة السلامية عظيمة سيطرت على غرب آسيا .
 
( 3055 - 3058 ) عالج الشاعر هذه الفكرة من قبل في قصة “ الأسد والذئب والثعلب “ . ( انظر : مثنوى ، 1 ، 3117 - 3123 ) .
 
( 3077 ) يشير الشاعر إلى تساؤل إبراهيم عن الخالق ، واهتدائه اليه . ( انظر : سورة الأنعام ، 6 : 76 - 79 ) .
( 3078 - 3080 ) المؤمن الحق لا يستطيع أن يستمتع بشئ من لذات الحياة ، من غير أن يقترن ذلك بتأمل صنع الخالق ، وذكر فضله .
 
( 3082 ) من كان من أهل الضلال المخادعين ، فلا بد أن يتضح أمره ، مهما حاول أن يخفيه وراء ستار كثيف من الدهاء والمكر . فأعماله تنبىء عن خبث سريرته ، كما تنبى ، الرائحة النتنة عن قذارة صاحبها .
 
( 3803 ) قول الشاعر : “ ولقد عاش برهة قصيرة ثم انقضى يومه “ ، يعنى أن المنافق المنصرف إلى لذات الحس يستمتع بأيام قليلة تنفضى بانقضاء هذه الحياة الدنيا ، وبعد ذلك يلاقى سوء المصير .
 
( 3086 ) النفس اللئيمة تخدع صاحبها المنافق ، فتسهل له ارتكاب الآثام ، على أساس أن الله غفور رحيم .
 
( 3087 ) لو كان المنافق مؤمنا بالله حقا ، معتقدا برحمته وغفرانه ،
 
“ 571 “
 
فلماذا يقتله الغم لو خلت يداه من الخبز ، ولماذا يرهقه الخوف ما دام الله غفورا رحيما .
 
( 3088 - 3101 ) في هذه الأبيات حكاية صغيرة تصور الشيخوخة الحسية ، بما تجلبه من ضعف وآلام ، وتبين كيف أن الأخلاق تتأثر أيضا بعوارض الوهن ، لكن الشاعر يعقب على القصة بقوله ، ان الشيخ الذي هو ثمل بالحق يكون في الظاهر شيخا ، لكنه في الباطن فتيّ . ومعنى ذلك أن حياة الروح هي الحياة الخالدة التي لا تتأثر بشيخوخة الجسد ، ولا يذهب بنضرتها كرّ الأعوام .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: