الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

09 - كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

09 - كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

09 - كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض
وبيان فائدة العيادة
[ بيان القصة ]
مرض أحد أعلام الصحابة وأصبح من جراء هذا المرض في نحول الخيط .
فتوجه المصطفى لعيادته ، فخلق المصطفى كان كله كرما ولطفا .
ففي ذهابك لعيادة المريض فائدة . وفائدة ذلك عائدة إليك .
فالفائدة الأولى أن ذلك الشخص العليل ، ربما يكون قطبا أو .
مليكا ( روحيا ) جليلا .
 
1245 - وان لم يكن قطبا ، فلعله يكون رفيقا للطريق . وان لم يكن مليكا ، فلعله يكون فارس الجيش .
فاعتبر أن من واجبك صلة رفقاء الطريق مهما يكن هؤلاء ، وسواء في ذلك من كان منهم ماشيا أو راكبا .
.....................................................................
( 1 ) انظر : سورة المائدة ، 5 : 1 .
( 2 ) انظر : سورة المائدة ، 5 : 89 .
 
“ 236 “
 
ولئن كان عدوا ، فهذا الاحسان ذاته خير ، وكم من عدو قد غدا بالاحسان صديقا ! 
ولئن لم يغد العدو به صديقا تناقص حقده ، ذلك لأن الاحسان يكون بلسما للحقد .
وكم للاحسان من فوائد أخرى غير ذلك ، لكنني خائف من الإطالة ، أيها الرفيق الطيب .
 
2150 - فالحاصل هو هذا : كن صديقا للجميع ، وكصانع الأصنام انحت من الحجر صديقا !
 ذلك لأن احتشاد القافلة وتجمعها يقصم ظهر قاطع الطريق ، ويحطم سنانه .
وما دام قلبك ليس بذى عينين أيها العنيد ، إلى حدّ أنك لا تميز بين الحطب والعود ، فلا تيأس ما دام في العالم كنز .
 ولا تحسبنّ خربة قط خالية من الكنز .
ولتقصدن كل درويش جزافا ، فإذا ما وجدت عند أحدهم العلامة ، فابذل جهدك في ملازمته .
 
2155 - وما دمت لم ترزق هذه العين البصيرة بالبواطن ، فلتحسبنّ أن في كل وجود كنزا .
 
كيف أوحى الحق تعالى إلى موسى عليه السلام ( قائلا ) :
 “ لماذا لم تحضر لعيادتى ؟ “
 
لقد جاء من الحق إلى موسى هذا العتاب : “ يا من شهدت طلوع البدر من جيبك !

 
“ 237 “
 
يا من جعلتك مشرقا بالنور الإلهي ! لقد غدوت - أنا الحق - مريضا ، فلم تَعُدنى !
 “ فقال موسى : “ سبحانك يا من أنت منزّه عن الضر ! ما هذا الرمز ؟ بينه لي ، يا الهى !
 “ فقال الحق : “ لماذا لم تسأل عنى في مرضى ، على سبيل الكرم ؟ “
 
2160 - فقال موسى : “ يا رب ، ان النقص لا يعتريك . لقد ضاع عقلي ، فاكشف لي سر هذا القول !
 “ فقال الحق : “ نعم ، ان عبدا لي خاصا مختارا قد مرض . وما هو الا أنا ، فتأمل جيدا .
فعذره في مرضه عذر لي وكذلك مرضه ، انه مرض لي ! فمن أراد أن يكون جليسا لله ، فليجلس في حضرة الأولياء .
فان أنت انقطعت عن حضرة الأولياء ، فإنك هالك ، لأنك - حينذاك - تكون جزاء بدون كل !
 
 2165 فكل من فرّقه الشيطان عن أهل الكرم ، فإنه يلقاه - بعد ذلك - وحيدا ، ويلتهم رأسه .
ان الابتعاد عن الأحباب شبرا واحدا ، ولمدة لحظة واحدة لا يكون الا من مكر الشيطان فاعلم ذلك جيدا !
 
كيف فرق البستاني بين الصوفي والفقيه والعلوي
 
بينما كان بستانىّ يتفقد بستانه ، رأى به ثلاثة رجال كأنهم من اللصوص .

 
“ 238 “
 
وكان أحدهم فقيها ، وثانيهم شريفا ، وثالثهم صوفيا . وكل منهم كان وقحا خبيثا ، عديم الوفاء !
 فحدث نفسه قائلا : “ ان لي مائة حجة في مواجهة هؤلاء لكنهم جمع ، والجماعة قوة .
 
2170 - فلن أقدر منفردا على ثلاثة أفراد ، فلافرق بينهم جميعا في أول الأمر .
لأفصلن الواحد منهم عن الآخرين ، فإذا ما أصبح منفردا اقتلعت شاربه “ .
فاصطنع حيلة أخرج بها الصوفىّ إلى الطريق ، حتى يفسد ما بينه وبين رفيقيه .
فقال للصوفىّ : “ اذهب إلى الدار ، وأحضر بساطا من أجل هذين الرفيقين “ .
فلما ذهب الصوفىّ ، قال البستاني في الخلوة لهذين الرفيقين :
“ انك فقيه ، وهذا شريف ذائع الصيت .
 
2175 - وانا لنأكل الخبز بفتواك ! بل انا لنحلق بجناح علمك .
وهذا أيضا أميرنا وسلطاننا . انه سيد من أسرة المصطفى ! 
فمن يكون هذا الصوفىّ الشره الخسيس ، حتى يكون جليسا لأمثالكما من الملوك ؟
فحينما يجئ فاجعلاه ( بضر با تكما ) قطنا ! وأقيما أنتما سبعة أيام في بستاني وسفحى ! 
وماذا يكون البستان ؟ ان روحي لكما ، يا من أتتما لي بمثابة عيني اليمنى ! “

 
“ 239 “
 
2180 - لقد وسوس لهما وخدعهما . أواه . ان من الواجب ألا يصبر المرء على ( بعد ) أصدقائه .
وحينما أخرجا الصوفىّ إلى الطريق ، ومضى تعقبه خصمه بعصا غليظة ، وقال :
 “ أيها الكلب . أيكون من التصوف أنك تسارع إلى دخول بستاني بالرغم منى ؟
فهل أرشدك الجنيد أو أبو يزيد لهذا الطريق ؟ وعن أي شيخ أو مرشد جاءك هذا ؟
 “ لقد أشبع الصوفىّ ضربا حينما ألفاه وحيدا . وكاد أن يجهز عليه ، وشج رأسه .
 
2185 - فقال الصوفىّ : “ ان ما أصابني قد انقضى ، لكن خذا حذر كما جيدا أيها الرفيقان !
 لقد عددتمانى غريبا عنكما ، فتنبها فلست بأكثر غربة عنكما من هذا العُتُلّ .
وانكما لجديران بشرب ما قد شربته . وان مثل هذه الشربة لجزاء لكل دنىء .
فهذا العالم كالجبل ، فما رددتماه من القول سوف يرتد اليكما مع رجع الصدى “ .
وحينما فرغ البستانىّ من الصوفىّ ، فإنه - بعد ذلك - انتحل عذرا من النوع ذاته .
 
2190 - فقال : “ أيها الشريف . لتذهب إلى الدار ، فانى قد أعددت من أجل الافطار رقاقا .

 
“ 240 “
 
ولتهتف بقيماز “ 1 “ من باب الدار أن يحضر ذاك الرقاق ، والأوزة “ .
فلما أخرجه إلى الطريق قال ( للآخر ) : “ أيها البعيد النظر . انك فقيه . وهذا الأمر ظاهر ويقين .
وان هذا يدعى الشرف ، وهي دعوى بارة . فمن ذا الذي يدرى من قد زنى بأمه ؟
فهل تركنون إلى المرأة وإلى فعلها ؟ وهل يُعتمد عليها وهي ناقصة العقل ؟
 
2195  لقد ربط نفسه بعلى وبالنبي وكم بهذا الزمان من غبي ( يصدق قوله ) !
 “ ان كل من جاء من الزنى ، وكان من الزناة ، فهو يحمل مثل هذا الظن في حق الربانيين ! 
وكل من غدا رأسه دائرا من دورانه حول نفسه ، يظن أن الدار دائرة مثله ! فهذا الذي قاله ذلك البستانىّ الفضولىّ كان وصف حاله .
فما أبعد هذا عن أولاد الرسول ! فإن لم يكن من سلالة المرتدين ، فكيف كان يقول هذا عن أسرة الرسول ؟
 
2200  وتفوّه وبخداع أصغى اليه ذلك الفقيه . فمضى الشريف وتبعه ذلك الظالم السفيه .
فقال ( للشريف ) : أيها الحمار . من إذ الذي دعاك إلى هذا البستان ؟ وهل بقيت لك السرقة ميراثا عن الرسول ؟
......................................................................
( 1 ) اسم علم .


“ 241 “
 
ان الشبل يجئ شبيها بالأسد فمن أي وجه تشبه أنت الرسول خبرني ! “
 فهذا الرجل الملتجىء ( إلى الحيلة ) قد صنع بالشريف ما يصنعه خارجىّ بآل الرسول ! 
فكم ذا تحمل الحقد دوما على آل الرسول شياطين وغيلان من أمثال شمر ويزيد .
 
2205  لقد غدا الشريف محطما من ضربات ذلك الظالم . فقال للفقية “ هأنذا قد قفزت إلى خارج الماء .
فاثبت أنت الآن ، فإنك قد بقيت فردا منتقرا ( للعون ) . ولتتلق الضربات فوق بطنك مثل الطبل !
 فإن لم أكن شريفا ، ولا ئقا بك ، وصفيا ، فانى - بالنسبة لك - لست أسوأ من ذلك الظالم “ .
ولقد فرغ البستانىّ من الشريف ، ثم أقبل قائلا : “ أيها الفقيه أي فقيه أنت ، يا عار كل سفيه ! 
فهل فتواك هذه - أيها اللص “ 1 “ - أنك تدخل ( بستاني ) ولا تسأل : هل من اذن ؟
 
2210  وهل قرأت هذه الرخصة في الوسيط ؟ أم هل كانت هذه المسألة في المحيط ؟
 “ فقال الفقيه : “ الحق معك ، فاضرب . لقد حقت لك الغلبة . وهذا هو الجزاء لمن افترق عن أصحابه “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : أيها المقطوع اليد .

“ 242 “

عود إلى قصة المريض وعيادة الرسول 
صلى الله عليه وسلم
 
ان هذه العيادة كانت من أجل تلك الصلة ( الروحية ) . وانها لصلة منطوية على مائة محبة ! 
فهذا الرسول - الذي لا ندّ له - قدء ذهب للعيادة فرأى ذلك الصحابىّ في حال النزع .
انك حين تصبح بعيدا عن حضرة الأولياء ، تكون - في الحقيقة - قد غدوت بعيدا عن الله !
 
2215 - فلئن كان الغم يحدث نتيجة لهجر الرفاق ، فهل تكون الفرقة عن وجه الملوك “ 1 “ أهون من ذلك ؟
فسارع في كل لحظة إلى طلب ظلّ الملوك ، حتى يجعلك هذا الظلّ أبهى رواء من الشمس “ 2 “ ! 
ولئن كنت مسافرا ، فلتسافر على هذه النية . وان كنت مقيما فلا تغفل عن ذلك .
 
كيف قال أحد الشيوخ لأبي يزيد
“ انى انا الكعبة فقم بالطواف حولى “
 
ان شيخ الأمة بايزيد “ 3 “ كان قد توجه إلى مكة مسرعا ، من أجل الحج والعمرة .
وكان كلما نزول مدنية بدأ بالبحث عمن بها من الشيوخ الأعزاء .
.................................................................
( 1 ) الملوك هنا هم الصوفية من ذوى المكانة الروحية الرفيعة .
( 2 ) حرفيا : “ حتى تغدو بهذا الظل أفضل من الشمس “ .
( 3 ) بايزيد ، هو أبو يزيد البسطامي ، الصوفي المعروف ( ت 260 ه ) .

 
“ 243 “
 
2220  لقد كان يتجول سائلا : “ من بهذه المدينة ممن استند على أركان البصيرة ؟
ولقد قال الحق : “ حيثما توجهت في سفرك ، فعليك - في أول الأمر - 
أن تطلب رجلا “ فاقصد إلى الكنز ، فان هذا الربح وتلك الخسارة يأتيانك تبعا .
فلتعدهما من المسائل الفرعية .
فكل من يزرع يكون مقصده القمح ، لكنه يحصل على التبن تبعا لذلك .
ولو أنك زرعت التبن فلن ينبت لك قمحا . ألا فلتبحث عن رجل ! ابحث عن رجل !
 
2225  فلتقصد إلى الكعبة حين يحلّ وقت الحج . فإذا ما أتيت إلى هناك فسترى مكة أيضا .
لقد كان قصد الرسول من المعراج رؤية الحبيب ، فرأى العرش والملائكة تبعا لذلك .
 
حكاية
[ بناء منزل المريد ]
 
لقد بنى مريد جديد منزلا جديدا ، وجاء الشيخ ليتفقد منزل تلميذه ، فقال الشيخ لمريده الجديد ، وذلك ليختبر سداد فكره :
“ لأي شئ جعلت له نافذة أيها الرفيق ؟ “ فقال المريد : “ لينفذ النور اليه من هذا الطريق “ .
 
2230  فقال الشيخ : “ هذا أمر فرعيّ ، والواجب أن تكون حاجتك إليها لتسمع عن طريقها صوت الأذان “ .
 
“ 244 “
 
لقد فتش أبو يزيد كثيرا في سفره ، لعله يجد رجلا يكون خضر زمانه .
فرأى شيخا ذا قد مقوّس كالهلال وشهد فيه الجلال ، وكذلك حديث الرجال .
لقد كان ضرير العينين ، وأما قلبه فكان مثل الشمس كان مثل فيل شهد في منامه بلاد الهند !
 فبينما هو نائم وعينه مغلقة يرى مائة طرب . فإذا ما فتح عينيه لا يرى ذلك . واعجبا !
 
 2235  فكم يتجلى في النوم من أمر عجاب ! ان القلب ليغدو نافذة ابان المنام .
أما ذلك الذي يكون يقظا ويشهد أحلاما طيبة ، فهو عارف .
فلتكحل عينيك بترابه ! فجلس أبو يزيد أمامه ، وسأله عن حاله . فوجده درويشا ، وأيضا صاحب عيال .
فقال الشيخ : “ إلى أين عزمك يا أبا يزيد ؟ وإلى أي مكان سوف تجرّ متاع الغربة ؟
فقال أبو يزيد : “ انى قاصد الكعبة عند انبلاج الصبح “ . فقال الشيخ : “ وماذا تحمل معك من زاد الطريق ؟ “
 
 2240 - فقال أبو يزيد : “ ان معي مائتي درهم من الفضة ، وها هي ذي مثبتة باحكام في زاوية ردائي “ .
فقال الشيخ : “ ألا فلتطف حولى سبع مرات ، ولتعدّ هذا أفضل من طواف الحج !



“ 245 “
 
ولتضع أمامي تلك الدارهم أيها الجواد . ولتعلم أنك أديت الحج ، وتم لك المراد ! 
وأنك قضيت العمرة ، ووجدت حياة الخلود . وصرت صافيا ، وتساميت مسرعا نحو الصفاء .
فبحق ذلك الحق الذي شهدته روحك انه قد فضلني على بيته .
 
2245 - فمهما كانت الكعبة منزل برّه ، فان خلقتى أيضا منزل سرّه .
فهو منذ خلق الكعبة لم ينزل بها . وأما هذه الدار “ 1 “ فلم منزل بها سوى ذلك الحي .
فإذا ما أبصر تنى فقد أبصرت الله ، وطوّفت حول كعبة الصدق .
وما دمت لا تعتقد أن الحق بعيد عنى ، فان أداءك خدمتي طاعة .
وحمد لله ! فافتح عينيك جيدا وانظر الىّ ، حتى ترى نور الحق في البشر .
 
2250 - ولقد أصغى أبو يزيد إلى تلك الأسرار ووضعها في أذنيه ، كأنها قرط ذهبي ! 
ثم انصرف أبو يزيد عن هذا الشيخ وهو في مزيد ( من الطاقة الروحية ) ، وفي النهاية وصل إلى منتهاها .
 
كيف علم الرسول عليه السلام أن السبب في مرض ذلك الشخص 
كان تجاسره في الدعاء
 
حينما رأى الرسول ذلك المريض ، فإنه سرّى بلطف عن ذلك الرفيق الأليف .
.................................................................
( 1 ) يشير بذلك إلى قلبه .

 
“ 246 “
 
فانبعثت فيه الحياة حينما رأى الرسول . وكأنما تلك اللحظة قد خلقته .
فقال : “ لقد وهبني المرض هذا الحظ السعيد فجاء سلطان ( الروح ) ساعة الصبح عندي !
 
 2255 حتى تعود إلى الصحة والعافية ، بقدوم هذا المليك الذي ليست له حاشية .
فيها لها من سعادة ذلك العناء وتلك العلة والحمى ! وكم هو مبارك ذلك الألم وسهر الدجى ! 
فها هو ذا الحق - بلطفه وكرمه - قد وهبني في الشيخوخة مثل هذا الضنى والسقم .
ولقد وهبني أيضا ألم الظهر ، فلا بد أن أقفز من النوم مسرعا في منتصف الليل .
ان الحق بلطفه قد وهبني هذه الآلام حتى لا أنام طول الليل مثل الثور !
 
 2260 - وبهذه العلة تفجرت لي رحمة الملوك ، ولزمت جهنمُ الصمت عن تهديدى “ .
ان الألم كنز ، وكم في داخله من الرحمات ! واللب يغدو أكثر نضرة إذا سلخت عنه القشرة .
يا أخي ! ان المكان المظلم البارد ، والصبر على الحزن والوهن والآلام .
كل أولئك عين ماء الحياة وكأسُ النشوة ، ذلك لأن هذه الأعالي كامنة في المنخفضات !


“ 247 “
 
فهذا الربيع مضمر في الخريف . والخريف مضمر في الربيع فلا تهرب من ذلك .
 
2265 فكن رفيقا للشجى ، واسكن إلى الوحشة . والطلب العمر الطويل في موت النفس ! 
ومهما تقل لك النفس ان هذا المكان قبيح فلا تصغ إليها فان دأبها أن تكون ضد ( الصلاح ) !
ولتخالفها ، فان هذا هو ما قالت به وصية الأنبياء في الدنيا .
وان المشاورة في الأمور لواجبة ، حتى يكون الندم قليلا في العاقبة .
ولقد قالت الأمة : “ ومن ذا الذي نشاوره ؟ “ فقال الأنبياء :
“ شاوروا العقل ( فهو ) الامام “ .
 
2270 - فقال أحدهم : “ فلئن جاء طفل أؤ امرأة لا تملك رأيا ولا عقلا مستنيرا ؟ 
“ قيل : “ شاورها ، واعمل بضد ما تقوله لك ، وامض لسبيلك ! “ واعلم أن نفسك كالمرأة أو أسوأ منها !
 ذلك لأن المرأة جزء ( من الشر ) ، وأما النفس فهي كل الشر ! 
فان أنت شاورت نفسك الأمَّارة بالسوء فخالف تلك الدنيئة في كل ما توحى به ! 
ولو أنها أمرتك بالصلاة وبالصوم فالنفس ماكرة ، ولعلها تلد لك مكرا .
 
2275 - فإذا شاورت نفسك في الأفعال ، فكل ما قالته لك فضده هو الكمال !
 
“ 248 “
 
فإن لم تقدر عليها وعلى حقدها . فاذهب إلى رفيق والزم مخالطته فالعقل يكتسب القوة من عقل آخر .
 وقصب السكر يكتسب الكمال بقصب السكر .
انى قد رأيت من مكر النفس أشياء ، فهي التي تسلب بسحرها كل تمييز ! 
وهي تقدم لك الوعود نضرة بيديها ، بعد أن تكون قد أخلفتها آلاف المرات !
 
 2280 - فلو امتدّ بك العمر لتبلغ مائة عام ، فإنها تتعلل لك كل يوم بعذر جديد ! 
وهي تزجى بحرارة وعودها الباردة . انها لساحرة تربط للرجل رجولته .
ألا فلتحضر يا ضياء الحق ! يا حسام الدين فإنه ! بدونك - لا ينبت العشب في الأرض الملحة !
 فان ستارا قد تدلى من الفلك ، من جراء لعنة قلب جريح .
وليس يدرى علاجا لهذا القضاء الا القضاء . فعقل الخلق حائر ذاهل في قضاء الله .
 
2285  ان الثعبان الأسود - الذي كان دودة ملقاة على الطريق - قد أصبح تنينا .
لكن التنين يغدو يدك عصا ، وكذلك الثعبان يا من أنت روح موسى المنتشى بالمحبة .
فلقد وهبك الله حكم” خُذْها وَلا تَخَفْ ““ 1 “ ، وبذلك يغدو
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة طه ، 20 : 21 .

 
“ 249 “
 
التنين عصا في يدك .
فهيا ، أظهر يدك البيضاء ، أيها المليك واكشف لنا صبحا جديدا من بين الليالي المظلمة ! 
ان جحيما قد اشتعل ، فانفث عليه سحرك ، يا من أنفاسك ، أغنى من أنفاس البحر !
 
 2290 - انها ( النفس ) بحر ماكر ، يبدي قليلا من الزبد . بل هي الجحيم الذي أبدى بمكر قليلا من اللهب .
وهي تظهر صغيرة أمام عينيك ، حتى تراها ضعيفة ، فيثور غضبك ، مثلما ظهر الجيش الكثيف قليل العدد ، أمام عيني الرسول .
فكان أن هاجمه الرسول بدون أن يهاب خطره ، ولو رآه كثيرا لكان التزم الحذر ازاءه .
لقد كانت هذه عناية ( من الله ) ، وكنت أهلا لها يا أحمد .
ولولاها لكنت غدوت وجل الفؤاد .
 
2295  لقد كان الله يهوّن في نظره ونظر أصحابه جهاد الظاهر وجهاد الباطن .
وذلك لكي ييسر له اليسرى ولكي لا يحوّل وجهه عن العسرى .
ولقد كان اظهار الأمر له هينا نصرا له ، ولأنه كان للحق حبيبا ، والحق هو الذي علمه الطريق .
أما من لم يكن الحق ظهيرا له في الظفر ، فويل له لو تبدّى له الأسد الضاري مثل الهرة !
 وواها عليه لو ظهرت له المائة من بعيد واحدا ، فيدفعه الغرور إلى أن يخوض الوغى !

 
“ 250 “
 
2300 - ولهذا فان الله يظهر سيف الرسول وكأنه حربة . ولهذا أيضا يظهر الأسد الضاري وكأنه هرة .
حتى يرتمى ( كل ) أحمق في غمار الحرب متجاسرا ، وبهذه الحيلة يوقعهم في مخالبه ! 
وحتى يقبل كل هؤلاء الحمقى بأقدامهم نحو بيت النار !
 انه يظهر لك وكأنه عود من القش ، فتسارع إلى نفخه لتزيله من الوجود ! 
فحذار فان هذه القشة قد اقتلعت جبالا ! لقد جلعت العالم يبكى وبقيت هي ضاحكة !
 
 2305 - انه يبدي ماء النهر وكأنما لا يتجاوز عمقُه كعب القدم ، على حين أنه قد أغرق مائة من أمثال عوج بن عنق !
 انه يبدي موج الدماء تلا من المسك ! انه يبدي قاع البحر أرضا يابسة ! 
لقد رأى فرعون الأعمى هذا البحر يبسا ، فاقتحمه بكل شجاعته وقوته .
وهو - حين خاضه - أصبح في قاعه . وكيف تكون عين فرعون بصيرة ؟
ان العين تغدو بصيرة بلقاء الحق . وهل يكون الحق نجىّ السرّ لكل أحمق ؟
 
2310 ان الأحمق يبصر القند ، فإذا به السم الزعاف ! وهو يرى الطريق ، ولا يكون ما رآه سوى نداء الغول !
 أيها الفلك . انك لتسرع في دورانك بفتنة آخر الزمان . ألا

 
“ 251 “
 
فلتمهلنا بعض الوقت ! انك لخنجر حاد في تهجمك علينا ! بل انك لرمح ملوث بالسموم !
 أيها الفلك . تعلم الرفق من رحمة الحق . ولا تنهش بمثل لدغة الحية قلوب النمال .
فبحق من جعلك دولابا دائرا فوق هذه الدار ( الدنيا ) .
 
2315  دُر على صورة أخرى ، وكن رحيما بنا ، من قبل أن تستأصل حذورنا !
 بحق أنت كنت مربينا في البداية ، فنمت أغصاننا من الماء والتراب ! 
بل بحق ذلك المليك الذي خلقك صافيا ، وأطلع فيك كل تلك المشاعل ، وجعلك هكذا معمورا باقيا ، 
حتى ظن الدهري انك أزلي ! والشكر ( لله ) أننا قد عرفنا بدايتك فالأنبياء قد أخبرونا بسرك هذا .
 
2320 فالآدمىّ يعلم أن الدار حادثة ، وليس يعلم ذلك العنكبوتُ العابث في جوانبها ! 
وكيف تعلم البعوضة من أىّ وقت كان البستان ؟ وهي التي تولد في الربيع ويكون موتها في الشتاء ! 
والدودة التي تتولد في الخشب وهو واهى الحال ، كيف تعلم حال الخشب حينما كان غصنا ؟
ولو أن الدودة علمت بماهيته ، لكانت عقلا تبدى على صورة دودة .
وان العقل ليظهر ذاته في كثير من الألوان ، لكنه يبعد فراسخ
 
“ 252 “
 
عن هذه الألوان . كبعد الجن ( عن الصور التي تتبدى فيها ) .
 
2325  بل هو أسمى من الملك ، فاىّ مجال هنا للجن ؟ لكنك تطير بجناح الذباب ، ولهذا فإنك تتهاوى في طيرانك !
 ومع أن عقلك يطير محلقا نحو العلا ، فان طائر تقليدك يرتعى في الحضيض .
وما العلم التقليدي الا وبال على أرواحنا . انه عارية ، ونحن قد ركنا إلى أنه علمنا ( الحقيقي ) .
بل إن من الواجب أن يغدو المرء متجاهلا مثل هذا العقل ، ويجب عليه - ازاءه - أن يتشبث بالجنون !
 فكل ما رأيت فيه نفعا لذاتك فاهرب منه ! لتحسُ السهم ولتهرق ماء الحياة !
 
 2330  وكل من يمتدحك كن له معنِّفا وأقرض المفلس ربحك ورأس مالك .
ودع الأمان ، وانزل منزل الخوف ! وتخل عن حسن السمعة وكن مفتضحا ذائع الصيت ! 
انني قد جربت العقل البعيد الفكر . فمن بعد هذا سوف أجعل نفسي مجنونا !
 
كيف اعتذر فتى مستهتر لرجل فاضل انكر عليه زواجه
من احدى العاهرات
 
لقد قال السيد الأجل ذات مساء لذلك المستهتر : “ انك قد تزوجت متعجلا بامرأة فاجرة !


“ 253 “
 
وكان الواجب أن تنبئنى بأمرك . حتى نزوجك من امرأة ذات عفاف “ .
 
2335  فقال : “ انني قد تزوجت تسع عفيفات صالحات ، فغدون عاهرات ، واضمحل من الحزن بدني ! 
فتزوجت هذا العاهرة بدون معرفة بها لأرى ماذا يؤول اليه أمرها .
انني كثيرا ما جربت العقل . وانى - بعد هذا - لملتمس مغر سا للجنون ! “
 
كيف استطاع مستفسر ان يدفع إلى الكلام ذلك العظيم
الذي كان يتظاهر بالجنون
 
كان أحد الرجال يقول : “ انى أريد رجلا عاقلا لكي أشاوره في احدى المشكلات “ .
فقال امرؤ له : “ ما في مدينتنا عاقل قط ، سوى هذا الرجل الذي يبدو كالمجنون !
 
2340  ها هو ذا فلان ، وقد امتطى عودا من القصب وأخذ يعدو به بين الأطفال .
انه صاحب رأى ، ( ذكاؤه ) جذوة من اللهب وقدره ( رفيع ) كالسماء وشأنه كالنجوم ! عدالته “ 1 “
قد أصبحت روحا للملائكة المقربين ! لكنه قد احتجب
.................................................................
( 1 ) العدالة من معاني كلمة “ فر “ ، وقد اخترنا هذا المعنى في ترجمة البيت .

 
“ 254 “
 
وراء هذا الجنون ! “ لكن ، لا تحسبن كل مجنون روحا ( عاقلا ) . لا تسجد للعجل كما فعل السامرىّ ! 
فحينما تحدث إليك الولىّ ، كاشفا لك مائة ألف غيب وسر خفيّ ،
 
2345  فان ذلك الفهم لم يكن لك ، ولا كان لك ذلك العلم . وما كنت تستطيع - من قبل - أن تميز بين البعر وبين العود ! 
فإذا ما حجب الولىّ نفسه بقناع من الجنون ، فكيف تتسنى لك معرفتة ، أيها الأعمى ؟
فلو أنك فتحت عين اليقين ، لأبصرت “ 1 “ بها تحت كل حجر جنديا ( من جنود الله ) .
فأمام تلك العين المفتوحة الرشيدة ، يكون كل رادء صوفىّ محتضنا كليما .
ان الولىّ هو الذي يذيع أمر الولىّ ، ويجعل من يشاء ذا حظ من ذلك .
 
2350  وليس يستطيع انسان أن يعرفه بالعقل ، ما دام هو قد تظاهر بالجنون .
فلو أن لصا بصيرا سرق متاع رجل أعمى ، فهل يستطيع الأعمى أن يتعرف على اللص لو مر بجانبه ؟
ان الأعمى لا يعرف من كان سارقه ، حتى ولو اصطلام به ذلك اللص العنيد .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : فأبصر .
 
“ 255 “
 
فحين يعض كلب رجلا أعمى مهلهل الثياب ، فأنى له أن يعرف ذلك الكلب الضاري ؟
 
كيف تهجم الكلب على السائل الأعمى
 
كان في أحد الطرقات كلب يتهجم كليث الوغى على سائل أعمى .
 
2355 - فالكلب يتهجم غاضبا على الدراويش ، في حين أن القمر يكتحل بتراب أقدامهم ! 
فأصبح الأعمى عاجزا أمام صوت الكلب ومن خشيته . فأقبل الأعمى على الكلب يزجى له التعظيم ! 
قائلا : “ يا أمير الصيد يا ليث القنص ! 
ان الحكم لك ، فارفع يدك عنى ! “ فالضرورة قد دفعت ذلك الحكيم أن يعظم ذلك حمار ويلقبه بالكريم .
ولقد جعلته الضرورة أيضا ، يقول : “ ما الذي يعود عليك من اصطياد نحيف مثلي ؟
 
2360 - ان أمثالك يصطادون حمار الوحش في الفلوات ، وأنت تصيد الأعمى في الطريق ! 
ألا ما أسوأ هذا ! ان نظراءك يطلبون حمار الوحش صيدا ، وأنت للكيد تطلب أعمى في الطريق .
فذلك الكلب العالم هو الذي تصيد حمار الوحش . وأما الكلب الخسيس فهو الذي تهجم على الأعمى .

“ 256 “
 
والكلب حينما تزود بالعلم ، خلص من الضلال . فهو يتصيد في الآجام الصيد الحلال .
والكلب - حينما صار عالما - أصبح سريع الوثبات . وهو حين صار عارفا غدا من أصحاب الكهف !
 
 2365 - لقد غدا الكلب عارفا بمن هو أمير الصيد ! فيا الهى ، أىّ شئ هو ذلك النور العليم ؟
ولا يكون امتناع المعرفة على الأعمى لأنه بدون عينين . بل لعل ذلك يكون لأنه ثمل بالجهالة ! 
وليس الأعمى بأكثر من الأرض افتقادا للعينين . والأرض قد غدت - بفضل الحق - مبصرة للخصوم ! 
لقد رأت نور موسى فأظهرت له الاعزاز ! ولقد خسفت قارون ، ( حينما ) عرفت قارون ! 
ولقد رجفت لا هلاك كل دعىّ “ 1 “ . وفهمت من الحق قوله :” يا أَرْضُ ابْلَعي ماءَك ““ 2 “ .
 
2370 - فالتراب والماء والهواء والنار ذات الشرر ، كلها ليست بذات خبر عنا ، لكنها عارفة بالحق ! 
لكننا - على عكس ذلك - خبيرون بغير الحق ، وأما الحق فلا خبر لنا عنه ولا عن الكثير من نذره !
 فلا جرم أن جملتهن قد” أَشْفَقْنَ منْها ““ 3 “ ، وفتر سعيهن إلى الامتزاج بهذه الحياة .
.................................................................
( 1 ) إشارة إلى قصة صالح مع قومه وكيف زلزلت بهم الأرض .
( 2 ) سورة هود ، 11 : 44 .
( 3 ) انظر : سورة الأحزاب ، 33 : 72 .

 
“ 257 “
 
وقلن : “ اننا جميعا نافرات من هذه الحياة التي يكون المرء فيها حيا إزاء الخلق ، ميتا إزاء الخالق ! 
والمرء حين ينقطع عن الخلق يكون يتيما . وللأنس بالحق لا بد من قلب سليم .
 
2375 - فحينما يسرق لص متاعا من رجل أعمى ، فان هذا الأعمى يظل يصرخ في عماه .
وما لم يقل له اللص : “ انني أنا اللص الذي سرق منك ، أنا اللص البارع ! 
“ فكيف يعرف ذلك الأعمى سارقه ، ما دام لا يمتلك نور العين ولا ذاك الضياء ؟
فإذا قال لك ذلك فأحكم الامساك به ، حتى يذكر لك علامات المتاع ( المسروق ) .
فالجهاد الأكبر هو احكام القبض على ذلك اللص حتى يخبرك بما سرق وما حمل .
 
2380 - فهو - أولا - قد سرق منك كحل عينيك . فلئن أخذته منه استرجعت بصرك ! 
أما متاع الحكمة الذي أضاعه قلبك ، فهو موجود - يقينا - عند أصحاب القلوب .
ان صاحب القلب الأعمى - مهما كان ذا روح وسمع وبصر - لا يعرف اللص الشيطان بآثاره .
فسل عن ذلك أهل القلوب ، ولا تسل عنه جمادا . فالخلق - بالقياس إلى صاحب القلب - مثل الجماد .
 
“ 258 “
 
لقد اقترب طالب المشورة من ذلك ( المتنظاهر بالجنون ) ، وقال :
“ أيها الوالد الذي أصبح طفلا ! أطلعنى على السر ! “
 
 2385 - فأجابه قائلا : “ تخلّ عن حلقة الباب ، فليس هذا الباب مفتوحا .
وانصرف اليوم ، فإنه ليس يوم الأسرار ! فلو كان للمكان سبيل مع الكلامكان ، لكنتُ كالشيوخ ( جالسا أعلم ) فوق دكان ! “
 
كيف نادى المحتسب ثملا أطاح به السكر ليصحبه إلى السجن
 
وصل المحتسب في منتصف الليل إلى أحد الأماكن ، فرأى رجلا منطرحا إزاء قاعدة جدار .
فقال : “ انك لسكران ، فماذا شربت ، خبرني ! “ فأجاب “ لقد شربتُ مما بهذا الإبريق ! 
“ فقال المحتسب : “ فأخبرني ، ماذا بهذا الإبريق ؟ “ ، فقال الرجل : “ بقية ما شربت ! “ ، فقال المحتسب : “ ان هذا لخفىّ ! “
 
2390 - وأردف قائلا : “ ما هذا الذي شربته ؟ “ فقال الرجل : “ انه بعض ما احتواه هذا الإبريق ! 
وتتابع السؤال والجواب في حلقة مفرغة . فوحل المحتسب مثلما يَوحَل الحمار .
وقال للرجل : تنبه ، ثم قل : آه . فأخذ السكران يردد : هو ، هو .
فقال المحتسب : أأقول لك انطق “ آه “ ، فتنطق “ هو “ ؟


 
“ 259 “
 
فقال السكران : انني سعيد وأما أنت فقد حنى الهم ظهرك .
والآه تصدر عن ( الاحساس ) بالألم أو الحزن أو الظلم . وأما “ هو “ ، هتاف السكارى ، فإنه ينبعث من السرور !
 
 2395 - فقال المحتسب : “ لست أعرف هذا ، فانهض ! انهض ! ولا تتكلف العرفان “ 1 “ ، ودعك من هذا العناد “ .
فقال السكران : “ ما شأنك وشأني ؟ اذهب عنى ! “ فقال المحتسب : “ انك سكران ، فانهض ، وأقبل معي إلى السجن “ .
فقال السكران : “ أيها المحتسب ! دعني وامض لسبيلك ! فمن ذا الذي يستطيع أن يأخذ رهنا ممن لا يملك الثياب ؟
فلو كانت لي قوة على الذهاب لذهبت إلى منزلي ، ولما جرى هذا بيننا ! ولو أنني كنت ذا عقل وامكان ، لتبوأت منصة مثل الشيوخ ! “
 
كيف جر المستفسر ذلك العظيم مرة ثانية إلى الكلام
ليزداد علما بحاله
 
2400 - فقال هذا الطالب : “ يا من امتطيت عودا من القصب . سُق حصانك لحظة نحو هذا الجانب ! 
“ فركب نحوه قائلا : “ هيا ، عجل بالقول ، : فان حصانى عنيف ، حاد الطبع ! 
سارع حتى لا يضربك الحصان ، وأوضح ما تريد السؤال عنه “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ لا تنحت العرفان “ ، ومعناه : “ لا تتصنع العرفان “ .



“ 260 “
 
فلم ير السائل مجالا لكي يبوح بسر قلبه . فلجأ إلى المراوغة ، وجرّه إلى المزاح .
فقال : “ أريد أن أتزوج امرأة من هذا الدرب . فأي من نسائه تليق بمثلى ؟
 
2405 - فقال : “ ان في العالم ثلاثة أنواع من النساء ، نوعان منهن عناء ، وأما النوع الثالث فهو كنز الروح ! 
فاحداهن حين تتزوجها ، تكون كلها لك . وآخرى يكون نصفها لك ، ونصفها الآخر منفصلا عنك .
وثالثة لا تكون لك قط فاعلم ذلك . والآن ، وقد سمعت ، فتنحّ عن طريقي ، فانى منطلق .
والا عاجلك حصانى بركلة تطيح بك ، فلا تنهض منها حتى الأبد ! “ وركب الشيخ منطلقا بين الأطفال . فناداه ذلك الشاب مرة أخرى .
 
2410 - قائلا : “ أقبل ، واذكر لي تفسير هذا . لقد قلت إن النساء ثلاثة أنواع ، فاختر ( لي من بينهن ) “ .
فركب نحوه وقال له : “ ان البكر التي تخصك ، تكون كلها لك ، وبها تجد من الغم الخلاص .
والثيب ( بلا ولد ) يكون لك نصفها . وأما ذات الولد فهذه لا تكون لك قط .
فما دامت ذات ولد من زوجها الأول ، فان حبها وكل خاطرها يتوجه اليه .
والآن ابتعد والا سدّد حصانى لك ركلة ، وتلقيت ضربة من حافر هذا الجواد القويّ ! “




 
“ 261 “
 
2415 - وأطلق الشيخ صيحات الوجد ثم انطلق ، ونادى الأطفال ليقبلوا ثانية نحوه .
فناداه ذلك السائل مرة أخرى وقال : “ أقبل ، فقد بقي لدىّ سؤال ، أيها الملك العظيم !
 “ فتوجه ثانية نحوه وقال : أسرع وقل لي ما هذا السؤال ، فان هذا الطفل قد سرق كرتى من الميدان ! 
“ فقال السائل : “ أيها المليك . ما هذا الوله وما هذا الفعل ، مع مثل هذا العقل والأدب ؟ 
ألا ما أعجب ذلك ! لقد تجاوزت العقل الكلىّ في البيان . انك شمس فكيف احتجبت وراء الجنون ؟ “
 
 2420 فقال ( الحكيم ) : “ ان هؤلاء الأوباش قد ارتأوا رأيا ، أن يجعلوني قاضيا في مدينتهم .
ولقد امتنعت من ذلك ، لكنهم أبوا قائلين : “ ليس لدينا عالم صاحب فن مثلك .
فمع وجودك ، يكون من الحرام والخبيث أن يروى الحديث في مجلس القضاء من هو دونك ( علما وعرفانا ) .
فالشريعة لا تأذن لنا بأن نختار من لا يساويك مليكا واماما “ .
فلهذه الضرورة غدوتُ مثل الأحمق المجنون ، لكنني - في الباطن - بقيت على حالي .
 
2425 - فعقلى كنز ، وأنا الخربة ( التي تخفيه ) . فلو أنني أظهرت الكنز لكنت مجنونا ! 
وما المجنون الا من لم يغد مجنونا . انه ذلك الذي رأى العسس ولم يذهب إلى داره .
 
“ 262 “
 
ومعرفتي جوهر ، وليست عرضا . فهي ليست ثمنا لكل غرض ( دنيوىّ ) .
انى منجم القند ، بل أنا منبت قصب السكر ! فهو ينبت منى ، وأنا في الوقفت ذاته آكل منه ! 
والعلم يكون تقليديا مصطنعا ، عندما يأسى صاحبه لنفور مستمعيه .
 
2430 - فلئن كان ( علم الدين ) من أجل الرزق “ 1 “ ، لا من أجل الأستنارة ، فصاحبه دنىء كطالب علم الدنيا .
فهو طالب علم من أجل العام والخاص لا ليجد من هذا العالم الخلاص .
فهو مثل الفأر جعل كل طرف جُحرا ، حينما ردّه عن الباب نور النهار قائلا : “ ابتعد “ .
فلما لم يكن له سبيل إلى المرج والضياء ، فإنه قد أخذ يبذل جهده في تلك الظلمات .
فلو أن الله وهبه جناحين جناحي العقل ، لخلص من طبيعة الفأر وحلِّق مثل الطيور !
 
2435 - وان هو لم ينشُد الجناحين بقي تحت الثرى ، بدون أمل في أن يسلك سبيل السماك “ 2 “ .
ان علم الكلام الذي لا روح فيه ، يكون متعشقا لوجوه من يشترونه !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : من اجل الحبة . السماك أحد الكواكب النيرة .
( 2 ) ويطلق هذا الاسم عادة على كوكبين يعرفان بالسماكين ، أحدهما في جهة الشمال والآخر في جهة الجنوب .


 
“ 263 “
 
ومع أنه وقت البحث فيه يبدو عظيما ، فإنه يعدو موانا ويمضى حينما لا يجد المشترى !
 وأما أنا فمشترىّ هو الله . وهو الذي يرفعني ، ( على مقتضى قوله ) :” إنَّ اللَّهَ اشْتَرى منَ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ ““ 1 “ 
وثمن دمى هو جمال الحق ذي الجلال . وانى لأغتذى من ثمن دمى بكسب حلال .
 
2440 - فدعك من هؤلاء المشترين المفلسين وأي شراء تقدر عليه قبضة من الطين ! 
ولا تأكل الطين ، ولا تكن له مشتريا ولا طالبا ، فآكل الطين يكون دائما مصفر الوجه ( شاحب الطلعة ) .
واغتذ بقلبك حتى تكون دائم الشباب ويجعل التجلي طلعتك مثل الأرجوان ! 
يا رب ، ان هذا العطاء ليس على قدر أعمالنا . فلطفك هذا لائق بما لك من لطف خفىّ فخذ بيدنا ،
 وخلصنا من قبضة ( وجودنا المادي ) ، وارفع الحجاب بيننا وبينك ولا تمزّق سترنا .
 
2445  ثم خلصنا من هذه النفس ( الحيوانية ) الخبيثة ، فان سكينها قد بلغ منا العظام .
فمن ذا الذي يرفع هذا القيد المحكم عنا ، أيها المليك الذي لا تاج له ولا تخت ؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يفتح مثل هذا القفل الثقيل سوى
.................................................................
( 1 ) التوبة ، 9 : 111 .
 
“ 264 “
 
فضلك ، أيها الودود ! فلنحوّل رؤوسنا عن أنفسنا متجهين نحوك ما دمت أنت أقرب الينا من أنفسنا .
وهذا الدعاء أيضا من عطائك وتعليمك والا فكيف ينبت بستان الورد في ( رماد ) الموقد ؟
 
2450 - وليس سوى اكرامك ما يستطيع أن ينقل الفهم والعقل بين الدم والأمعاء .
وهذا النور المنساب من قطعتين من الشحم “ 1 “ ، تلاطم أمواجه السماء ! 
وقطعة اللحم التي قُدَّ منها اللسان ، يتدفق سيل الحكمة منها مثل النهر ،
 نحو فجوات تسمى بالآذان ، ومنها إلى بستان الروح ، وثمراتُه هي العقول .
وشرع الخالق هو الطريق الأرحب إلى بستان الروح . وكل بساتين العالم وحدائقه فرع لهذا البستان .
 
2455 - ذلك أصل السعادة ! ذلك نبعها ! فسارع إلى قراءة قوله تعالى :” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 2 “
 
تتمة نصح الرسول عليه السلام للمريض
 
قال الرسول لذلك المريض ، عندما ذهب لعيادة هذا الصاحب العليل ،
.................................................................
( 1 ) العينان .
( 2 ) سورة البروج ، 85 : 11 .

 
“ 265 “
 
“ لعلك قد دعوت دعاء ، كان لك بمثابة سمّ زعاف تناولته عن جهل .
فلتذكر أي دعاء هتفت به ، عندما غدوت ثائرا من جرّاء مكر النفس “ .
فقال : “ انني لست أذكر ، فاجعل همتك معي ، تَعد إلى الذاكرة برهة من الزمن “ .
 
2460 - ولقد تجلَّى في خاطره هذا الدعاء ، بحضور المصطفى ، الذي أفاض عليه من نوره ! 
فبهمة المصطفى ، معدن النور ، تجلَّى أمام خاطره ما كان قد نسيه ! 
وأشرق من تلك النافذة ، التي تصل بين القلب والقلب ذلك النور الذي يظهر الحق من الباطل .
فقال : “ ها هي ذي ذاكرتى قد عادت ، أيها الرسول ! وها هو ذا الدعاء الذي هتفتُ به ، أنا الفضولىّ !
 فحينما أصبحتُ أسير الاثم ، وأغرقنى ، أخذت أتعلق بالأعشاب ،
 
2465 - وكان يجيئنا منك التهديد والوعيد ، منذرا المجرمين بعذاب بالغ شديد ، فغدوتُ مضطربا ، ولم تكن لي حيلة !
 لقد كان القيد محكما ، لا سبيل إلى فتح أقفاله ! ولم يكن هناك مكان للصبر ، ولا سبيل للهرب ، ولا أمل في التوبة ، ولا مجال للعناد ! 
فأخذت أتأوّه من الحزن مثل هاروت وماروت ، قائلا : يا خالقي !


 
“ 266 “
 
ان هاروت وماروت قد اختارا بوضوح بئر بابل ، على خطر ( عذاب الآخرة ) .
 
2470 حتى يلقيا هنا عذاب الآخرة ، وانهما لما كران عاقلان ، شبيهان بالسحرة ! 
ولقد أحسنا صنعا ، فقد كان ألم الدخان أهون عليهما من عذاب النار .
فإنه لا حدّ لوصف آلام ذلك العالم “ 1 “ ، ولكم يهون أمامه ألم الدنيا ! 
وما أسعد من جاهد البدن ، وكان له زاجرا وألزمه العدالة ! 
ولكي يخلص من عذاب ذلك العالم ، يلزم نفسه بمشقة العبادة .
 
2475 لقد كنت أقول : يا الهى ! أرسل الىّ هذا العذاب عاجلا في الدنيا ، حتى يكون لي فراغ منه في الآخرة ! 
لقد كنت أطرق الباب بمثل هذا الرجاء ! وهكذا ظهر بي هذا المرض ، وأصبحت روحي لا قرار لها من الألم .
وهكذا عجزت عن ذكرى وأورادى ، وأصبحت لا أدرى بنفسي ، ولا بالخير والشر ! 
ولو أنني لم أر وجهك الآن ، أيها السعيد المبارك النفحات ،
 
 2480 لا نطلقت من قيد الحياة انطلاقا كاملا . لقد أضفيت علىّ هذا العطف بأسلوبك الملكىّ “ .
.................................................................
( 1 ) الآخرة .


 
“ 267 “
 
فقال الرسول : “ حذار ، ولا تهتف بهذا الدعاء مرة ثانية ! لا تقتلع نفسك من أصلها وأساسها ! 
فأية طاقة لك - يا من أنت كالنملة الواهية - حتى يضع فوقك مثل هذا الجبل العالي ؟
 “ فقال : “ لقد تبت - أيها السلطان - ولن تدفعني الجرأة بعد ذلك إلى التفوه بجزاف القول !
 ان هذه الدنيا تيه ، وأنت لنا مثل موسى ! ونحن من الاثم قد بقينا في التيه رهن البلاء !
 
 2485  ونحن نقطع الطريق سنين ، وفي آخر الأمر ، نجد أنفسنا أسارى أول منازله ! 
فلو أن قلب موسى كان راضيا عنا ، لبدت لنا السبيل في التيه ، وتجلت حدودها .
وأما ان كان بالغ النفور منا ، فكيف تصل الينا موائدنا من السماء ؟
ومتى كانت الينابيع تتفجر من الصخر ؟ أم كيف يكون لأرواحنا أمان في القفار ؟
بل إن النار لتأتينا بد لا من الخوان ! وان اللهب ليدهمنا في هذا المنزل !
 
2490 فلما أصبح موسى صاحب قلبين إزاء أحوالنا ، فإنه حينا يكون خصمنا 
وحينا يكون صاحبنا ، فغضبه يشعل النار في متاعنا ، وأما حلمه فيكون درعا لنا في مواجهة البلاء .
 
“ 268 “
 
وكيف يتحول الغضب أيضا إلى حلم ؟ ان هذا أيضا ليس بغريب على لطفك ، أيها العزيز .
وان مدح الحاضر لمدعاة للحرج ، ولهذا فانى قد تعمدت - على هذا النحو - ذكر اسم موسى .
والا فكيف يجيز لي موسى أن أذكر أي انسان في حضرتك ؟
 
2495 وعهدنا يتحطم مائة مرة ، بل وألف مرة ، وأما عهدك فهو ثابت راسخ كالجبل !
 وعهدنا كالقش ضعيف أمام كل ريح ، وأما عهدك فجبل ، بل هو أقوى “ 1 “ من مائة جبل ! 
فبحق ما لك من قوة على تلويننا ، كن رحيما بنا ، يا أمير الألوان !
 لقد رأينا أنفسنا ورأينا عارنا ، فلا تزدنا امتحانا ، أيها المليك ! فلعلك بذلك تدع فضائحنا الأخرى مستورة ، أيها الكريم المستعان !
 
 2500  فأنت بدون حدّ في الجمال والكمال ، ونحن بدون حد في العوج والضلال ! 
فوجه - أيها الكريم - ( كمالك ) الذي لا يُحدّ إلى زمرة اللئام ، الذين يعافون عوجا لا يحدّ ! هيا ، فان التمزق لم يُبق منا سوى خيط واحد .
 لقد كنا مصرا ( عامرا ) فلم يبق منا سوى حائط واحد ! ( وتدارك ) البقية ! تداركها أيها المولى ، حتى لا تفعم السعادة روح الشيطان .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : أكثر .



“ 269 “
 
وليس ذلك من أجلنا ، بل من أجل اللطف الأول ، فإنك به تبحث عن التائهين .
 
2505 - فلتظهر لنا الرحمة ، مثلما أظهرت قدرتك ، يا من أودعت الرحمات في اللحم والشحم ! 
ولئن كان هذا الدعاء يزيدك غضبا ، فلتعلمنا أنت الدعاء ، أيها العظيم ! 
مثلما ( صنعت ) بآدم حين سقط من الجنة ، فوهبته الرُجعى ، فخلص من الشيطان القبيح .
وما الشيطان حتى يتفوق على آدم ، وحتى يغلبه في اللعب على مثل هذه الرُقعة ! 
ولقد صار كل هذا - في الحقيقة - نفعا لآدم ، كما صارت الخديعة لعنة على ( الشيطان ) الحاسد .
 
2510 - لقد رأى لعبة واحدة ، لكنه غفل عن مائتي لعبة ، وبهذا دمر دعائم منزله !
 انه - في الليل - قد أشعل النار في مزرعة الآخرين ، فإذا بالريح تحمل النار إلى مزرعته !
 ان اللعنة التي أصابت الشيطان كانت حجابا لعينيه ، وبهذا ظن أن خداعه مضرة لخصمه .
فاللعنة هي التي تجعل المرء مُعوج الابصار ، وتصيره حاسدا مغرورا حقودا ،
 حتى أنه لا يعلم أن كل من عمل السوء ، يرتدّ اليه السوء - في عاقبة الأمر - ويصيبه .


 
“ 270 “
 
2515 - انه يبصر جميع اللعب البارعة معكوسة ، وبهذا تنقلب وبالا عليه ونقصانا ووكسا !
 ذلك لأنه لو أبصر حقيقة نفسه ، لرأى جرحها مُهلكا لا يلتئم ! 
وإذ ذاك تشبّ آلامُه من جراء هذه الرؤية الباطنية ، ويخرجه ذلك الألم من حجابه .
فالأمهات ما لم يشعرن بآلام الوضع ، فان الأطفال لا يجدون سبيلا قط إلى أن يولدوا .
فهذه الأمانة ( الإلهية ) مكانها القلب . والقلب حامل بها . وهذه النصائح شبيهة بالقابلة .
 
2520  وقد تقول القابلة ان المرأة لا تتألم . لكن الألم ضروريّ . انه هو السبيل أمام الطفل .
والذي يكون بدون ألم قاطعُ طريق . ذلك لأن الخلوّ من الألم يجعل المرء يقول : “ أنا الله ! 
“ ان قول : “ أنا “ في غير وقتها لعنة ( على قائلها ) . وأما قولها في وقتها فرحمة عليه “ 1 “ .
فقول المنصور “ أنا “ كان رحمة محقَّقة ! وأما قول فرعون “ أنا “ فكان لعنة ، فتأمل ذلك ! 
فلا جرم أن كل طائر صاح في غير وقته ، يكون قطعُ رأسه واجبا ، ( لضمان صدق ) الاعلام .
.................................................................
( 1 ) يقصد بقول : “ انا “ في غير وقتها ، قولها حين يُوكد الانسان ذاته ، ويظهر غروره . أما “ أنا “ التي تقال في وقتها ، فهي عند الصوفية قول “ أنا “ بعد أن يكون قائلها قد افنى ذاته في الله ، ولم يعد لذاته الانسانية وجود منفصل يستشعره أمام الخالق .


 
“ 271 “
 
2525 - فما قطعُ الرأس ؟ انه قتل النفس ( الحيوانية ) بالجهاد ، وترك القول بتأكيد الذات الانسانية .
فذلك مثل اقتلاعك الإبرة من العقرب ، حتى تظفر هذه بالنجاة من الموت .
وانك لتقتلع أنياب الثعبان المفعمة بالسموم حتى ينجو الثعبان من بلاء الرجم .
وليس يقتل النفس الحيوانية سوى ظل العارف ، فكن وثيق التعلق بأهداب قاتل النفس هذا ! 
فان أنت أحكمت التعلق به ، فذلك توفيق الله . وكل قوة تظهر بك ، فتلك اشعاع منه “ 1 “ .
 
2530 - فكن على يقين صادق من قوله تعالى : “ وما رميت إذ رميت “ .
فكل ما تزرعه الروح يكون من روح الروح .
انه الآخذ باليد ، وهو حامل الأعباء . فكن في كل لحظة على أمل في تلقى الهامه .
ولا بأس عليك لو طال انتظارك إياه . فأنت قد سميته الممهل وكذلك الآخذ .
وانه ليتأخر في أخذك برحمته ، لكنه يحكم انزال الرحمة بك .
وحضوره يجعلك لا تغيب عنه لحظة واحدة .
وان كنت تريد شرحا لهذا الوصل والولاء ، فاقرأ - بتفكير ممعن - سورة “ الضحى “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فتلك من جذبه “ .


 
“ 272 “


 
2535 - وان أنت قلت إن كل الشرور منه ، فمتى كان في ذلك نقصان لفضله ؟
فصنعه للشر يكون أيضا من كماله . وانى لذاكر لك مثالا ، أيها المفضال :
ان نقَّاشا قد نقش لونين من النقوش ، أحدهما صاف ، والآخر خال من الصفاء .
لقد نقش صورة يوسف ، والحور ذات الصور المليحة ، ونقش صورة العفاريت والأبالسة القباح ! 
وكلا هذين اللونين من النقوش ناطق بأستاذيته . وليس ذلك القبح قبحه ، بل إنه جوده !
 
 2540 - لقد جعل القبيح غاية في قبحه ، وقد أحاطت به كافة ألوان القبح ، حتى يتضح كمال علمه ، ويحيق العار بمنكر أستاذيته .
ولو لم يعرف كيف يصنع القبح لكان ناقصا ! ولهذا السبب فإنه هو خلاق الكافر والمخلص !
 فالكفر والايمان - من هذا الوجه - شاهدان على ألوهيته ، وكلاهما له ساجدان !
 لكن المؤمن يكون ساجدا طوعا ، ذلك لأنه ملتمس رضى الله ساع اليه .
 
2545 - وأما الكافر فيكون عابدا الله كرها ، لكن قصده يكون من أجل مُراد آخر .
انه يعمر قلعة السلطان ، لكنه يدعى الامارة فيها ! 
ولقد أصبح باغيا لتغدو القلعة ملكا له ، لكن القلعة تعود - في النهاية - إلى السلطان .
 
“ 273 “
 
وأما المؤمن فإنه يعمر هذه القلعة من أجل المليك ، لا من أجل الجاه .
ان القبيح يقول : “ أيها المليك الذي يخلق القبح ! انك قادر على خلق الجمال والقبح المهين !
 
 2550 - وأما الجميل فيقول : “ يا مليك الحسن والبهاء ! لقد جعلتني نقيّا من العيوب “ .
 
كيف وصى الرسول عليه السلام ذلك المريض وعلمه الدعاء
 
قال الرسول لذلك المريض : “ ادع هكذا : يا من تجعل العسير يسيرا !
آتنا في دار دنيانا حسن * آتنا في دار عقبانا حسن “ 1 “
واجعل طريقنا لطيفا مثل البستان . انك أنت مقصدنا ، أيها الكريم “ .
ان المؤمنين يقولون يوم الحشر : “ أيتها الملائكة ! ألم تكن النار طريقا مشتركا ؟
 
2555 - أليس يجب أن يمرّ بها المؤمن والكافر ؟ انا لم نر في هذا الطريق دخانا ولا نارا ! 
ها هي ذي الجنة وبلاط الأمان ! فأين كان ذلك الممرّ الدنىء ؟ “
.................................................................
( 1 ) هذا البيت عربى في الأصل ، ويتضمن اقتباسا من القرآن الكريم .
انظر : ، سورة البقرة ، 2 : 201 .
 
“ 274 “
 
فيقول لهم الملائكة : “ ان تلك الروضة المخضلة ، التي شاهد تموها في ذلك المكان أثناء عبوركم ، 
كانت هي الجحيم ، ومستقر العذاب الشديد ! ولقد أصبحت لكم حديقة وبستانا وشجرا !
 ذلك لأنكم - إزاء هذه النفس الجهنمية الطباع ، هذه النارية الكافرة ، الباحثة عن الفتنة –
 
 2560 - قد بذلتم الجهود ، فأصبحت مفعمة بالصفاء ، وأطفأتم نارها في سبيل الله .
ونارُ الشهوة التي تقذف باللهب ، صارت - عندكم - روضة من التقوى ، ونور هداية ! 
ونار الغضب أيضا قد أصبحت عندكم حلما ! وظلمة الجهل كذلك قد أصبحت عندكم علما ! 
ونار الحرص قد صارت عندكم ايثارا ! وهذا الحسد كان مثل الشوك فصار بستان ورد ! 
فما دمتم أنتم قد بادرتم من قبل إلى اطفاء نيران أنفسكم ، في سبيل الله ،
 
2565 - فقد جعلتم النفس النارية مثل البستان ، وغرستم بها بذور الوفاء ! 
وها هي ذي بلابل الذكر والتسبيح ، تصدق بالألحان العذبة في روضتها ، على شاطىء النهر !
 انكم قد أجبتم داعى الحق ، فحملتم بذلك الماء إلى جحيم النفس .
وها هو ذا جحيمنا أيضا قد أصبح ازاءكم روضة وحديقة ورد ، وأوراقا وتغريدا ! “
 
“ 275 “
 
فما مكافأة الاحسان يا بنىّ ؟ انها اللطف والاحسان والثواب المعتبر .
 
2570 - ألستم أنتم الذين قلتم : “ ان ( وجودنا الذاتي ) ضحية مبذولة للخالق “ 1 “ ، 
ونحن الفانون أمام صفات البقاء ! ومهما نكن عقلاء أو مجانين ، فانا سكارى ذلك سكارى ذلك الساقي وتلك الكأس .
وانا لنحنى الرؤوس لا رادته ومشيئته . ونهبُ الأرواحَ الحلوة رهنا ( لمحبته ) .
فما دام خيال الحبيب نجىّ أسرارنا ، فدأبنا أن نكون خداما له ونقدم اليه أرواحنا “ .
فحيثما أُشعلت شمعة البلاء احترقت بها مائة ألف من أرواح العشاق .
 
2575  فالعاشقون الذين وصلوا إلى داخل الدار هم الفَراش لشمع وجه الحبيب .
أيها القلب ! توجه إلى حيث تُقابل بالاشراق ، إلى من يكونون لك كالمجن في مواجهة البلاء ! 
إلى من يفسحون لك مكانا في أرواحهم ، حتى يجعلوك مفعما بالحميَّا مثل الكأس ! 
ولتتخذ لك مقرا بين أرواحهم ! ألا فلتجعل الفلك منزلك ، أيها البدار المنير !
.................................................................
( 1 ) ترجمنا الشطر الأول بشئ من التصرف .


 
“ 276 “
 
ولسوف يفتحون أمامك دفتر القلب ، مثل عطارد ، حتى يكشفوا لك الأسرار .
 
2580 - وحين تكون حائرا ، فالتحق بذويك . ولئن كنت قطعة من القمر فالتحق بالبدر .
فلماذا يكون للجزء اجتناب لكله ؟ وماذا يكون كل هذا الامتزاج بالمخالفين ؟
فتأمل كيف أصبح الجنس في مسيره أنواعا . وتأمل كيف أصبحت المغيَّبات بتجليها أعيانا .
فإلى متى تشترى الخداع كالنساء ، أيها الخالي من الرشد ؟
وكيف تتلقى المدد من الكذب والخداع ؟
انك لتأخذ الملق واللفظ الحلو والخداع ، وتضعها بجيبك كأنما هي ذهب !
 
 2585 - وان ( تلقيك ) الشتم والضرب من ملوك ( الروح ) لخير لك من ملق أهل الضلال ! 
فتقبل صفع هؤلاء الملوك ، ولا تقبل شَهد الأخسَّاء ، حتى يجعلك رجلا اقبالُ هؤلاء الرجال .
ذلك لأن الدولة والخلعة تجيئك من هؤلاء . فالجسد يغدو في كنف الروح روحا .
وحيثما رأيت عاريا جائعا ، فاعلم أنه قد هرب من الأستاذ ، 
حتى يغدو على ذلك النحو الذي يبتغيه قلبه ، ذلك القلب ، الكفيف الشرير الذي لا حاصل له !
 
 2590 - ولو أنه غدا على هذا النحو الذي أراده أستاذه ، لا زدانت بذلك

 
“ 277 “
 
نفسه وغدا زينة لذويه ! فكل من يهرب من الأستاذ في الدنيا ، فاعلم أنه انما يهرب من السعادة ! 
لقد تعلمت حرفة يتكسب بها البدن فشمِّر عن ساعدك وتعلَّم حرفة دينية “ 1 “ .
انك قد غدوت في هذه الدنيا غنيا را فلا في الحلل ، فماذا أنت فاعل حين تخرج منها ؟
فتعلم الحرفة التي تعود عليك في الآخرة بدخل ، هو كسب المغفرة !
 
2595 - فذلك العالم ( الآخر ) مدينة حافلة بالأسواق والكسب فلا تظن أن الكسب وقف على هذه الدنيا ! 
فالحق تعالى قال إن كسب الدنيا - أمام ذلك الكسب ( الأخروى ) - كلعب الأطفال .
انه كمعانقة طفل آخر ، يلتصق به التصاق المتحابين .
أو كالأطفال حينما يقيمون في لعبهم دكانا ، لا جدوى منه الا قضاء الوقت !
 فإذا ما جاء المساء فان الطفل ( صاحب الدكان ) يعود إلى منزله جائعا ، وقد ذهب الأطفال وتركوه وحيدا .
 
2600 - فهذه الدنيا ملعب ، والموت هو المساء . وأنت تعود منها خالى الكيس بالغ العناء .
وكسب الدين هو العشق ، والجذب الباطني . انه القابلية لتلقى نور الحق ، أيها الحرون .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : فادفع قبضتك إلى احدى الحرف الدينية .

 
“ 278 “
 
وهذه النفس الخسيسة تريد لك الكسب الفاني ! فالأم تعمل لهذا الكسب الخسيس ؟ ألا فلتدعه ، كفاك ! 
ولو أن النفس الخسيسة التمست لك الكسب الشريف لكان لها من وراء ذلك حيلة ومكر !
* * *
شرح كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض
( 2141 ) بدأ الشاعر في هذا البيت رواية قصة وردت في أحد الأحاديث النبوية . وقد أطال الشاعر الوقوف عند مختلف دقائق هذه القصة ، واستطرد استطرادات كثيرة . والحديث المشار اليه روى على الوجه التالي :

“ 526 “
 
“ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفّ فصار مثل الفرخ . فقال له رسول الله : هل كنت تدعو بشئ أو تسأله إياه . قال : نعم . كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة فعجله في الدنيا . فقال رسول الله : سبجان الله . لا تطيقه ( أو لا تستطيعه ) ، أفلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . قال : فدعا الله له فشفاه “ .
وقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم ، وغيره من المصادر ( انظر : تعليقات نيكولسون . وانظر أيضا : فروزانفر : مآخذ قصص ، 66 ) .
 
( 2143 ) تروى أحاديث متعددة في الحث على عيادة المريض ، وبيان ثوابها . ( انظر : النووي : رياض الصالحين ، 368 - 373 ) .
 
( 2150 ) قول الشاعر “ وكصانع الأصنام ، انحت لك من الحجر صديقا “ ، تعبير رائع عن الدعوة إلى اكتساب الأصدقاء . فالحجر الصلد أبعد الأشياء عن الاستجابة ، وهو هنا رمز للانسان العنيد ، الذي يغلق قلبه دون الناس . ومثل هذا - في رأى الشاعر - يجب ألا يستعصى على المرء اكتساب وده . وكأنما المرء في اكتساب هذا النوع من الأصدقاء صانع أصنام ، ينحت من الحجر تماثيل يتعلق بها قلبه .
 
( 2154 ) “ ما دمت - أيها المريد - عاجزا عن معرفه الأولياء الصادقين ، فاقصد كل درويش ، والتمس حقيقة حاله ، فلعلك بيحثك تهتدى إلى العارف الكامل ، وشأنك في ذلك شأن الباحث عن الكنز ، ينقب عنه في كل خربة حتى يهتدى اليه “ .
 
( 2156 - 2161 ) في هذه الأبيات إشارة إلى حديث سبقت الإشارة اليه . ( انظر البيت 1738 وشرحه ) . ولم يتضمن هذا الحديث ذكر موسى .
 
( 2156 ) قول الشاعر : “ يا من شهدت طلوع البدر من جيبك “ يشير إلى معجزة موسى إذ أدخل يده في جيبه ، فخرجت بيضاء من غير

 
“ 527 “

 
سوء . انظر الآيات الكريمة : ( 7 : 108 ) ، ( 26 : 33 ) ، ( 27 : 12 ) .
( 2167 ) يبدأ الشاعر في هذا البيت رواية قصة وردت في كتاب “ جوامع الحكايات “ لمحمد عوفي . والقصة - كما رواها عوفي - تذكر أن البستاني وجد في بستانه أربعة أشخاص ، أحدهما فقيه والثاني شريف والثالث جندي والرابع بائع “ جوّال “ . والقصة في رواية عوفي تخلو من كثير من التفصيلات التي جاءت في رواية المثنوى . لقد أضاف إليها جلال الدين من التفصيلات ما جعلها تبدو أكثر واقعية ، كما صورها بأسلوب ساخر يختلف كثيرا عن أسلوب عوفي . وقد رأيت أن أورد هنا ترجمة عربية للقصة ، كما وردت في كتاب عوفي .
قال : “ حكى أن أربعة أشخاص من أصناف البشر دخلوا بستانا ، وشغلوا بأكل الفاكهة . وكان واحد من هؤلاء فقيها وثانيهم علويا ، وثالثهم جنديا ورابعهم سوقيا . ودخل صاحب البستان فرآهم وقد أتلفوا كثيرا من الفاكهة .
وكان رجلا ذكيا فتفكر قائلا : انهم أربعة أشخاص ، ولن أقدر على الأربعة مجتمعين .
فتوجَّه إليهم ثم قال للعالم ( الفقيه ) : انك رجل عالم ، وأنت لنا قدوة ومرشد .
وقد ارتبطت مصالح دينانا وأخرانا بيركة أقدام العلماء وحركة أقلامهم . وأما ثانيكم فهو سيد كبير من أسرة النبي ، ونحن جميعا موالى أسرته ، ذلك لأن محبتها واجب أمرنا به الله حين قال : “ قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى “ .
وأما ثالثكم فجندى من أرباب السيف ، وان عمران ديارنا وأرواحنا منوط بسيف هؤلاء . فلو أنكم دخلتم بستاني ، وأكلتم كل فاكهتى بدون حق ما ضننت بها عليكم ، ولكن من ذا يكون هذا الرجل السوقي ؟ وبأية وسيلة دخل في بستاني ؟
وما فضيلته التي تتيح له أكل فاكهتى ؟ ثم مد يده وأمسك بجيب السوقي ، وحمل عليه حملة قوية حتى طرحه أرضا ، ووضع القيد في يديه ورجليه . ثم توجه إلى الجندي وقال : انني عبد للعلماء ولأنباء النبي . وأما أنت ، أفلم تعلم


“ 528 “
 
أنني دفعت للسلطان خراج هذا المال ، وأنه لم يبق له قبلي شئ أكثر مما دفعت ؟ فلو أن الأئمة والأشراف تقاضونى روحي ( لبذلتها ) وعددت نفسي مقصرا ! أما أنت فلم تقل لي من أنت ، ولا بأي حق عدوت على مالي ! وأمسكه هو أيضا ، وأدبه تأديبا كاملا ، وأحكم قيد يديه ورجليه . وبعد ذلك توجه إلى العالم وقال : ان الناس جميعا عبيد لآل بيت الرسول ، وحرمة نسبت هؤلاء ظاهرة للجميع . أما أنت ، يا من تدعى العلم ، أما حصلت من العلم ذلك القدر الذي تعرف به أنه لا يجوز دخول بستان سواك بغير اذن ؟ فأي قدر من العلم بقي لك ؟ انى ومالي وروحي فداء لآل الرسول . أما كل جاهل يدعى العلم ، ويستحل أموال المسلمين ، فإنه يكون جديرا بالتأديب ، مستحقا للتعذيب . ولقد أدبه أيضا ، أدبا بالغا ثم قيده ، وإذ ذاك ، بقي العلوي وحيدا ، فتوجه اليه وقال : أيها المدعى الخسيس ، يا صاحب الشعر الكثيف والجهل الوافر ! انك لم تقل لي بأي سبب أجزت التطاول عى بستاني ، وأضعت على مالي ؟ وهل قال الرسول عليه السلام أن مالي حلال للعلويين ؟ ثم إنه قيد ذلك الرجل أيضا ، وبهذه الطريقة استطاع أن يقيد الرجال الأربعة ، ثم استوفى منهم ثمن كرومه “ . وقد نقل فروزانفر النص الفارسي لهذه القصة ( مآخذ ، 67 - 69 ) ، أما نيكولسون فترجمها إلى الا نجليزية في تعليقاته .
 
( 2183 ) الجنيد البغدادي ، وأبو يزيد البسطامي امامان من أكبر أئمة الصوفية . توفى أبو يزيد عام 260 ه ، وتوفى الجنيد عام 297 ه .
 
( 2196 - 2197 ) يدافع الشاعر في هذه الأبيات عن الأشراف المنتمين إلى بيت الرسول ، إزاء ما اتهمهم به البستاني من الزيف والانتساب الكاذب . وخلاصة دفاعه أن المرء إذا ساءت أحواله وأفعاله ساءت ظنونه بسواه . فما قاله البستاني عن الأشراف ، لم يكن الا صدى لخبث نفسه ، وسوء ظنه . وهذا شبيه بقول الشاعر العربي :
 
“ 529 “
 
إذ ساء فعل المرء ساءت ظنونه * وصدق ما يعتاده من توهم( 2204 ) شمر ، هو شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين يوم كربلاء ، في العاشر من محرم عام 61 ه . وكان قتله للحسين مثالا للخسة والجبن ، لأنه لم ينازله منازلة الرجال ، بل تحين الفرصة حين تكاثر الرجال على الحسين ، فركب صدره واحتز رأسه . أما يزيد فهو يزيد بن معاوية ثاني الخلفاء الأمويين ، وهو الذي حدثت في عهده مأساة الحسين .
 
( 2218 ) يبدأ الشاعر بهذا البيت رواية قصة تحكى عن أبي يزيد البسطامي . ( انظر أصول هذه القصة في “ مآخذ قصص “ لفروزانفر وكذلك في تعليقات نيكولسون “ .
 
( 2221 ) أورد الشراح تفسيرات متعددة لهذا البيت ، وهي جميعا تدخل في باب التأويل البعيد . ( انظر - على سبيل المثال - شرح صاحب المنهج القوى . ج 2 ، ص 473 ) . ولقد نشأت هذه الصعوبة من تفسير كلمة “ حق “ في البيت على أنها تعنى الله . فالقرآن الكريم لا توجد به آية تعبر عن المعنى الذي أشار اليه البيت . وكل ما ذكره الشراح من الآيات لا تعبر عن هذا المعنى الا بكثير من التأويل .
ولعل خير وسيلة لفهم هذا البيت هي أن تفسر كلمة “ حق “ هنا بمعناها الحرفي . فتكون ترجمة البيت : “ ان القول الحق في السفر هو أنك حيثما توجهت يجب عليك أن تلتمس رجلا “ . وبذلك يكون معنى البيت مطابقا للقول العربي : “ خذ الرفيق قبل الطريق “ .
 
( 2222 - 2224 ) “ عليك أن تطلب الجوهر الحقيقي قبل كل شئ ، وإذا ما تحقق لك الجوهر ، تحققت لك معه أعراض كثيرة ، تابعة له . أما من ركز همه في الأعراض فلن يتحقق له الجوهر قط . ومثال ذلك من يزرع القمح ، فهو بالضرورة يحصل على التبن ، إلى جانب

 
“ 530 “
 
القمح ، أما من يزرع التبن ، فلن يحصل قط على القمح . ومن طلب الله بالخلاص قلبي ، وصل إلى الله ، وتحقق له بهذا الوصول كل ما تصبو اليه النفوس من آمال .
 
( 2225 ) من قصد الكعبة للحج ، فسوف يرى مكة - إلى جانب قيامه بالحج . فالحج إلى الكعبة هو القصد الجوهري ، ورؤية مكة عرض جانبي تحقق بدون قصد خاص .
( 2231 ) “ خضر زمانه “ . ( انظر : المثنوى ، ج 1 ، الأبيات 224 ، 2969 ، 2971 وشروحها ) .
 
( 2233 ) “ الفيل الذي يرى في منامه بلاد الهند “ ، رمز للصوفى العارف الذي يشهد في تأمله عالم الروح ، وطنه الحبيب الذي يحلم به ، فكأنما هو فيل مغترب رأى في منامه بلاد الهند .
 
( 2234 - 2235 ) النوم يمثل انطلاق الروح من عقال الجسد .
( انظر : المثنوى ، 1 ، 387 - 389 ) . ولهذا فان الانسان يرى في النوم ما لا يراه في اليقظة .
 
( 2236 ) العارف - وهو من استطاع تخليص روحه من سلطان الجسد - يتحقق له في يقظته شهود روحي .
 
( 2244 ) يتفق معنى هذا البيت مع ما يقوله الصوفية عن “ الانسان الكامل “ ، وهو أنه أفضل مخلوقات الله .
 
( 2245 ) في هذا البيت تعبير عن معنى حديث قدسي ، نصه :
ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن التقى النقى الورع .
 
( 2247 - 2249 ) في هذين البيتين تعبير عن الفناء في الله والاتحاد به ، وهما من النظريات المشهورة عند الصوفية ، والقول بهما مبنى على التجربة الروحية ، التي يتحدث بها العارفون من أهل التصوف .
 
[ شرح من بيت 2250 إلى بيت 2400 ]
( 2252 ) يعود الشاعر هنا إلى رواية “ قصة الصحابي المريض “
 
“ 531 “
 
انتى بدأها في البيت 2141 ، ثم استطرد منها إلى سواها من الموضوعات .
 
( 2257 - 2265 ) في هذه الأبيات يعبر الصحابي عن الألم ، وأثره في تنبيه الروح ، وايقاظ القلب والضمير . وقد سبق له أن عبر عن مثل هذا المعنى في حديثه عن الخزن . ( انظر المثنوى ، ج 1 ، الأبيات 817 - 822 وشرحها ) .
 
( 2270 - 2271 ) “ لو أن المستشار كان امرأة أو طفلا ( وكلاهما مجرد من الحكمة ) ، فان مشاورتهما تجوز ، شريطة أن يعمل المرء بخلاف ما أشارا به “ . وفي هذا البيت تعبير عن معنى الحديث الذي يروى عن الرسول قوله : “ شاوروهن وخالفوهن “ .
 
( 2278 ) “ النفس قادرة على الخداع ، تقدم الوعود البراقة ، وتخلفها ، ومع لا تفقد مقدرتها على الخداع “ .
 
( 2281 ) يذكر هذا البيت خرافة عن أثر السحر على رجولة الرجال ، وهي من الخرافات التي لا تزال شائعة بين السذج والجلاء . وقد اتخذ الشاعر من حالة العجز - التي يقال إنها تصيب الرجل من جراء “ الربط “ - رمزا إلى حالة العجز الروحي الذي يقعد الرجل عن التحرر من سلطان المادة . والنفس هي مسببة هذا العجز الروحي ، بما تزينه للمرء من لذات الحس وشهواته .
 
( 2282 ) حسام الدين مثال للعارف الكامل . ولا سبيل إلى خلاص أسارى الحس من غفلتهم الا بمعونة العارفين أصحاب الكمال .
 
( 2283 ) لقد ألقى الله حجابا على قلوب الخلق من جراء ما ارتكبوه من مظالم . وهذا القضاء ينزل بالناس لو توجه بالضراعة إلى الله قلب جريح .
 
( 2285 ) النفس الحسية تكون في بداية أمرها صغيرة كالدودة ثم تكبر فتصبح كالثعبان ، ثم يتعاظم أمرها فتصبح تنينا .
 
( 2286 - 2287 ) هذه النفس الثائرة العصية تغدو طيعة بفضل
 
“ 532 “
 
تعليم العارف وارشاده ، وقوته الروحية ، فكأنما هي الحية ، وقد أصبحت عصا طيعة في كف موسى . قال تعالى : “ فألقاها فإذا هي حية تسعى ، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى “ . ( 20 : 20 - 21 ) .
 
( 2288 ) لا يزال الشاعر يشبه حسام الدين بموسى . ويشير إلى معجزة أخرى من معجزات موسى ، ذكرت في قوله تعالى : “ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى “ . فهو يطلب من حسام الدين ( مثال الرجل الكامل ) يدا بيضاء ( أي مكرمة جديدة ) ، وهي أن يكشف بعرفانه دياجير الظلمة التي غمرت الناس .
 
( 2290 ) للنفس مكر يخدع الناس ، فهي تظهر لهم في صورة تبديها أهون من حقيقتها ، فيستهينون بأمرها ، على حين أنها تقودهم إلى الهلاك وهم لا يشعرون .
 
( 2291 ) ظهور النفس قليلة الخطر أمام العارف ، لا يخدعه من حقيقتها ، كما هو الحال بالنسبة لعامة الناس ، بل يقويه ، ويزيد من قدرته على مقاومتها . وهذا شبيه بما حدث للرسول في وقعة بدر ، حينما ظهرت جيوش المشركين قليلة في عينيه ، فزاده ذلك استهانة بأمرها ، واقداما على القتال . ( انظر : سورة الأنفال ، 8 : 43 - 44 ) .
 
( 2292 - 2297 ) هذه الأبيات تتحدث عن غزوة بدر ، وما حققه الرسول من نصر فيها ، بعون الله وتأييده . وقد وصف القرآن الكريم هذه الغزوة في سورة الأنفال . وأبيات الشاعر هنا تعبر عن معنى الآيات الكريمة ، التي سبقت الإشارة إليها في التعليق على البيت 2291 .
 
( 2296 ) التأييد الإلهي للرسول أظهر الكفار قلة في عينيه ، فيسَّر له ذلك ما كان ميسورا ، وجعله يقبل على الأمر العسير ، بدون خشية ولا وجل . قال تعالى : “ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر “ . الآية . ( 8 : 43 ) .

 
“ 533 “
 
 
( 2298 ) من لم يظفر بمثل هذا التأييد الإلهي الذي ظفر به الرسول ، يكون من خذلان الله له أن يظهر لعينيه الأمر العسير يسيرا ، فهذا المخذول شبيه بمن أبصر الأسد هرة ، أو رأى المائة مقاتل شخصا واحدا ، فدفعه الغرور وسوء التقدير إلى القتال .
 
( 2300 - 2301 ) من خذلان الكافرين أن سيف الرسول ظهر لهم وكأنه حربة واهية ، وأن هذا الرسول القوى المؤيد بالله بدا لهم ضعيفا ، فتجاسروا على قتاله ، فحاقت بهم الهزيمة .
 
( 2302 ) ظهور الرسول ضعيفا للكفار كان استدراجا إليها ، أدى إلى هزيمتهم ، وقادهم إلى جزائهم في النار .
 
( 2303 - 2304 ) النبي يظهر لخصومه ضعيفا ، فهو في بداية أمره يكون قليل الأنصار ، فيظنون أنهم قادرون على القضاء عليه بأقل جهد .
وهم لا يدركون أن وراء هذا المظهر قوة لا قبل لهم بها ، هي قوة الله .
فظاهر النبي أنه - بالقياس إلى خصومه - ضعيف كالقشة ، وحقيقته أنه أكثر ثباتا من الجبال ، يزول معاندوه ، ويحيق بهم قهر الله ، وتبقى دعوة النبي بين الناس ، ضاحكة من خصومها .
 
( 2305 ) عوج بن عنق : من الشخصيات الأسطورية التي عرفها المسلمون عن أساطير بني إسرائيل شخصية عوج بن عنق . وعنق اسم أمه التي قيل إنها احدى بنات آدم من صلبه . وقد جاء وصف عوج بن عنق في قصص الأنبياء على الوجه التالي :
“ قال ابن عمر : كان طول عوج ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا بالذراع الأول . وكان عوج يحتجز السحاب ويشرب منه الماء ، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس ، يرفعه إليها ، ويأكله .
ويروى أنه أنى نوحا أيام الطوفان فقال له : احملنى معك في سفينتك ، فقال له : اذهب يا عدو الله ، فانى لم أومر بك . فطبق الماء


“ 534 “
 
الأرض من سهل ومن جبل ، وما جاوز ركبتيه . وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يد موسى . وكان لموسى عسكر فرسخ في فرسخ ، فجاء عوج ونظر إليهم ثم جاء إلى الجبل وقدّ منه صخرة على قدر العسكر ، ثم حملها ليطبقها عليهم ، فبعث الله عليه الهدهد ومعه الطيور ، فجعلت تنقر بمناقيرها حتى قورت الصخرة ، وانثقبت فوقعت في عنق عوج بن عنق ، فطوقته وصرعته ، فأقبل موسى وطوله عشرة أذرع ، وطول عصاه عشرة أذرع وققز إلى فوق عشرة أذرع فما أصاب منه الا كعبه وهو مصروع في الأرض ، فقتله . قالوا فأقبل جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتى حزوا رأسه ، فلما قتل ، وقع على نيل مصر ، فحسره سنة “ . ( الثعلبي : قصص الأنبياء ، ص 265 ) .
وقد استخدم الشاعر شخصية عوج في تصوير استدراج الله للكفار ، إذ يظهر لهم الماء ضحلا لا يتجاوز عمقه كعب الرجل ، في حين أن الماء يكون عميقا بحيث يغرق مائة من أمثال عوج بن عنق . وفي البيت إشارة إلى أن قوة الحس ، مهما عظمت ، فهي ضعيفة أمام قوة الروح .
 
( 2307 - 2308 ) في البيتين إشارة إلى قصة هلاك فرعون . ( انظر :
سورة البقرة ، 2 : 50 ) .
 
( 2318 ) الدهري هو المادي الذي يؤمن بقدم العالم وأزليته .
وكان في بلاد العرب قبل الاسلام جماعة آمنوا بذلك . وقد أشار إليهم القرآن الكريم بقوله تعالى : “ وقالوا ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر “ . ( 45 : 24 ) .
 
( 2319 ) “ لولا الأنبياء ما استطاع الناس ادراك أسرار الفلك وأنه مثلهم مخلوق محدث “ .
 
( 2320 ) “ النبي المطلع على أسرار خلق السماوات والأرض هو الذي يخبر عن حدوث الأفلاك . ولا سبيل للانسان إلى ادراك ذلك بتجربته الذاتية ، لقصر عمره . فالانسان بالقياس إلى الأفلاك ،
 
“ 535 “
 
كالعنكبوت بالقياس إلى الدار . فبينما صاحب الدار يدرك سر بنائها ، فان العنكبوت ينسج خيوطه في جوانبها ، من غير أن يدرك من سرها شيئا .
 
( 2321 - 2322 ) في البيتين صورتان بيانيتان ، تعبران عن المعنى الذي ورد في البيت السابق ، وهو أن الكائنات الحسية لا تستطيع أن تتجاوز الحس ، إلى مدركات سبقت وجودها الحسى . وحياة الحس أيضا قصيرة المدى ، وهذا مما يزيدها عجزا فوق عجزها . فالبعوضة لا تستطيع أن تعرف أصل البستان . ودودة الخشب لا علم لها بأصل الخشب .
 
( 2323 - 2325 ) الادراك الحق يكون للعقل وحده . وليس المقصود بالعقل هنا ذلك العقل الجزئي الذي يعتد بقدرته الانسان .
فهذا - في نظر جلال الدين وغيره من الصوفية - محدود المعرفة .
فالعقل المقصود هنا هو العقل الكلى الذي يظهر ذاته في كثير من الصور ، فكأنما هو جنى يتجلى في مختلف الصور ، بل اين منه الجنى ، وهو أسمى من الملك . ولولا عجز المستمع عن ادراك عيمق المعاني ، لما جاز تشبيه العقل الكلى بالجن في قدرته على الظهور بمختلف الصور .
 
( 2328 ) “ الجنون “ هنا معناه الخروج على ما تعارفت عليه عقول أهل التقليد . فالعقل المقلد والعلم التقليدى يتنافيان مع العرفان الصوفي .
 
( 2333 - 2337 ) في هذه الأبيات حكاية قصيرة ساقها الشاعر لا يضاح معنى البيت 2332 ، وفيه يسخر الشاعر من العقل ( المقلِّد ) ، ويفضل عليه عرفان الروح ( وهو ما قد يصفه بعض المقلدين بأنه جنون ) . فهذه الحكاية ترمز إلى أن عشقا روحيا ظاهره الجنون وباطنه العقل خير من عقل مقلد ، ظاهره العلم ، وهو في حقيقة أمره أسير الجهل .
 
( 2338 ) بدأ الشاعر هنا قصة رجل عاقل كان يتظاهر بالحمق ،

 
“ 536 “
 
فيركب قصبة كالأطفال ، ويمضى بها في الطريق . والظاهر أن هذه القصة - كما يقول نيكولسون - كانت شائعة قبل زمن الشاعر . وقد ذكر نيكولسون صورا متعددة لهذه القصة نقلها عن بستان العارفين ، لأبى اليث السمرقندي ، وكذلك عن جوامع الحكايات لمحمد عوفي .
( انظر تعليقات نيكولسون ) . كما أورد فروزانفر صورا أخرى لهذه القصة عن العقد الفريد لا بن عبد ربه ، وربيع الأبرار للزمخشري ، واسكندرنامه ( المنثور ) . ( مآخذ قصص ، 70 - 72 ) .


ويعزى تظاهر الرجل بالجنون في هذه القصص ، إلى أسباب مختلفة . فمنها ما ينسب اليه أنه أراد بذلك الفرار من منصب حكومي كان يراد اسناده اليه . ومنها ما ذكر أنه انما فعل ذلك ليستطيع الأمر بالمعروف والنهى على المنكر من غير أن يقع تحت طائلة العقاب . وقد وجدتُ في العقد الفريد صورة أخرى لهذه القصة ، مرويَّة عن العتبىّ ، وهي كما يلي :
“ سمعت أبا عبد الرحمن بشرا يقول : كان في زمن المهدىّ صوفي ، وكان عاقلا عالما ورعا ، فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين : الاثنين والخميس ، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة .
 فيخرج ، ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان ، فيصعد تلا وينادى بأعلى صوته : ما فعل النبيون والمرسلون ؟ أليسوا في أعلى عليين ؟
فيقولون نعم : فيقول : هاتوا أبا بكر الصديق . فأخذ غلام فأجلس بين يديه ، فيقول : جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية . فقد عدلت ، وقمت بالقسط ، وخلقت محمدا عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة . . . “ .
وهكذا يذكر الخلفاء الواحد بعد الآخر ويبين ما لهم وما عليهم ، حتى بلغ دولة بنى العباس ، فسكت . فقيل له : “ هذا أبو العباس أمير المؤمنين . قال : بلغ أمرنا إلى بني هاشم . ارفعوا حساب

“ 537 “
 
هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا “ . ( العقد الفريد ، 6 ، 152 - 154 ) .
 
( 2343 ) السامرىّ . ( انظر : المثنوى ، 1 ، البيت 2258 وشرحه ) .
والشاعر هنا يحذر من اعتبار الجنون علامة من علامات الولاية . وهذه الخرافة كانت منتشرة بين السذج حتى وقت قريب ، فكثيرا ما ظنوا البله أولياء .
 
( 2347 ) “ لو أبصرت بعين اليقين لرأيت تحت كل مظهر متواضع جنديا من جنود الله ، كما قد يجد المرء كنزا كان مختفيا تحت قطعة من الحجر .
 
( 2348 ) العين القادرة على ابصار اليقين لا يحجبها عن ادراك جوهر العارف بساطة مظهره . انها ترى - في رادء كل صوفي - رجلا يناجى ربه ويسمع منه ، شبيها بموسى الكليم .
 
( 2351 - 2353 ) “ العَمى “ في هذه الأبيات مستخدم بطريقة رمزية . وهو يعنى هنا العجز عن معرفة الأولياء والمرشدين . فمن سلبت المادية والحسية بصيرته ، وصرفته عن جوهر الروح ، لا يستطيع أن يكتشف هذه العلة في نفسه ، لأنه ذو بصيرة مظلمة ، فهو كالأعمى الذي لا يعرف سارقه ، حتى ولو الصطدم به ذلك السارق ، على الطريق .
 
( 2354 ) يبدأ الشاعر هنا حكاية تمثيلية صغيرة عن الأعمى الحكيم ، والكلب العقور . وقد استخدم “ العمَى “ هنا في معناه الحسى . فالعمى الحسىّ لا يقف حائلا دون الحكمة ، ولا يعوق صاحبه عن تحصيل العرفان . وليس افتقاد البصر مؤديا - بالضرورة - إلى الجهل ، لأن بصيرة الروح أقوى وأعمق من ابصار العينين . والكلب العقورفي هذه الحكاية رمز للطاغية الظالم الذي يؤذى الدراويش الصالحين . “ والعمى الحسىّ “ هنا يشير إلى انصراف العارفين عما حولهم من المظاهر التي تأسر الحس ، من غير أن يكون لذلك أثر على حكمتهم وعرفانهم ، بدليل


“ 538 “
 
أن الدرويش الأعمى ، قد استطاع أن يخلص نفسه من الكلب الضاري .
 
( 2362 - 2363 ) “ الكلب العالم “ رمز للمتعلق بالحس الذي حصَّل شيئا من العلم . فمثل هذا يميز بين الكسب الحلال ، والكسب الحرام .
 
( 2364 ) قول الشاعر : “ والكلب حين صار عالما أصبح سريع الوثبات “ ، يعنى أن المتعلق بالحس ، حينما حصَّل العلم ، تحقق له بعض التحرر من سلطان الحس . وهو حين صار عارفا غدا من أصحاب الكهف . والإشارة هنا إلى كلب أصحاب الكهف الذي يشار اليه كثيرا على أنه قد تحققت له مرتبة البشرية المكرمة ، وذلك بملازمة لأصحاب الكهف . قال سعدى :
“ ان ابن نوح عاشر الأشرار ، فضاع بذلك بيت نبوته . وكلب أصحاب الكهف اقتفى أثر الصالحين بضعة أيام ، فصار كالبشر “ .
( الكلستان ، الحكاية الرابعة ) .
وانظر أيضا : المثنوى ، 1 ، 1022 وشرحه .
 
( 2365 ) “ لقد غدا كلب ( أصحاب الكهف ) عارفا بخالقه ، فيا الهى ، ما أعجب نور العرفان ، وما أقواه على كشف الحقائق ! “ ( 2366 ) بيِّن الشاعر هنا أن افتقاد بصر العينين لا يعنى فقدان البصيرة .
 
( 2368 ) قارون : ( انظر : المثنوى ، 1 ، 864 وشرحه ) .
 
( 2369 ) قول الشاعر : “ ولقد رجفت لاهلاك كل دعىّ “ يشير إلى قوله تعالى في قصة صالح : “ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين “ . ( 7 : 78 ) . انظر : المثنوى ، 1 : 2509 - 2569 ، وشرح هذه الأبيات .
أما قول الشاعر : “ وفهمت من الحق قوله : يا أرض ابلعي ماءك “ ، فيشير إلى قصة نوح والطوفان ، وكيف أطاعت الأرض أمر

“ 539 “
 
ربها بعد الطوفان حين أمرها أن تبلع ماءها .
 
( 2370 - 2371 ) قد يعرف بعض الجماد عن الله أكثر مما يعرف بعض عقلاء البشر . يستشهد الشاعر على ذلك بطاعة السماوات والأرض لأمر الله . ( انظر أيضا : المثنوى ، 1 ، 512 - 513 ) .
 
( 2372 ) هذا البيت يشير إلى قوله تعالى : “ انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلموما جهولا “ . ( 33 : 72 ) . انظر : المثنوى ، 1 ، 1958 وشرحه .
 
( 2373 ) يفسر الشاعر اعراض السماوات والأرض والجبال عن حمل الأمانة بأنه نفور من تلك الحياة التي يصبح فيها المخلوق شديد السعي إلى الخلق والبعد عن الحق .
 
( 2374 ) ان الانقطاع عن الخلق يجعل المرء يتيما منفردا . لكن مجرد الانقطاع عن الخلق لا يعنى الأنس بالله ، بل لا بد لذلك من قلب سليم . والقلب السليم قد ذكر في القرآن الكريم مرتبطا بإبراهيم الخليل . انظر الآيات : ( 26 : 89 ) ، ( 37 : 84 ) .
 
( 2375 - 2378 ) “ اللص “ هنا رمز للشيطان ، أو للنفس الحسية وشهواتها . والأعمى هو الانسان الذي لم يرزق الكشف الروحي .
ومعنى “ الامساك باللص “ مراقبة الشيطان ، أو النفس ، حتى يستطيع المرء أن يتخلص من سلطان الشر .
 
( 2379 ) “ الجهاد الأكبر “ هو جهاد النفس الأمارة بالسوء . فعلى المرء أن يقوى في مراقبتها ومحاسبتها حتى يتخلص من آثارها السيئة .
 
( 2380 ) النفس الحسية تغشى بصيرة الروح . وأولى مراحل الابصار الروحي تكون بعد اخضاع تلك النفس .


( 2381 ) “ أصحاب القلوب “ هم المرشدون العارفون .
 
( 2383 ) “ الجهاد “ هنا رمز لمن تجرد من الحياة الروحية . وهو
 
“ 540 “
 
المقابل المضاد لأصحاب القلوب .
 
( 2384 ) عاد الشاعر هنا إلى قصة “ الحكيم الذي كان يتظاهر بالحق “ . وهي التي بدأها بالبيت 2338 .
( 2385 ) قوله : “ تخل عن حلقة الباب “ يعنى لا تطرق الباب .
وهذا القول - على لسان الحكيم - يعنى أنه ليس على استعداد للتباحث مع المستفسر ، فالباب لن يفتح ، لأن ذلك اليوم لم يكن يوم الأسرار . وهذا المعنى يتضح في البيت التالي . فالعارف لا يقبل على التعليم من أجل الكسب والزهو ، كما يفعل العلماء المقلِّدون ، فقد يمر بحالات تجعله راغبا في العزلة والتأمل .
 
( 2386 ) “ لو كانت من علماء الحس المقلدين ، لكان سبيلي أن أجلس فوق دكان وأمارس التلعيم “ .
 
( 2387 ) “ المحتسب “ هو الموظف الادارى الذي كان يناط به الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ومراقبة الأسواق والآداب العامة .
وقد خصص فصل لبيان واجبات المحتسب في كتاب الأحكام السلطانية ، للماوردي ، وكذلك وصلت الينا بعض كتب الحسبة ، ومن أهم مؤلفيها الشيزرى صاحب “ نهاية الرتبة في طلب الحسبة “ ، ومحمد القرشي صاحب “ معالم القربة في أحكام الحسبة “ . وتضم الموسوعات العربية القديمة فصولا عن الحسبة ، ومن أهمها ما ورد في “ نهاية الأرب “ للنويرى .
 
( 2392 ) طلب المحتسبُ إلى السكران أن يقول ( آه ) ، حتى يشم أنفاسه ، لكن السكران لم يستجب له ، وأخذ يهتف “ هو ، هو “ ، وهو هتاف الصوفية عندما تنتابهم سكرة الوجد .
 
[ شرح من بيت 2400 إلى بيت 2550 ]
 
( 2400 ) عاد الشاعر إلى قصة الحكيم الذي كان يتلكف الحمق .
 
( 2412 ) جاء في نص عربى لهذه القصة رواه صاحب العقد الفريد : “ البكر لك ، والثيِّب عليك ، وذات الولد لا تقربها “ .



“ 541 “
 
( 2425 ) يقول الحكيم ان هذا الجنون الذي تظاهر به ، برغم اكتمال عقله ، يشبه أرضا خرابا تخفى في باطنها كنزا . فظاهرها يدعو إلى الزهد فيها ، لكن باطنها عامر بالكنز النفيس .
 
( 2426 ) “ العسس “ رمز للحكام الدنيويين الظالمين ، الذين يهرب منهم الصوفية ، ذلك لأن الصوفية لا يقبلون التورط فيما يرتكبه مثل هؤلاء الحكام من المظالم .
 
( 2427 ) يقول هذا الحكيم انه لا يبيع علمه من أجل أغراض دينوية عارضة ، فعلمه جوهر خالد ، وليس عرضا فانيا .
 
( 2428 ) يعبر الحكيم في هذا البيت عن تساميه على الأغراض المادية . فقلبه الصافي يتلقى العرفان من الخالق ، وهو سعيد بهذا العرفان الذي يتكشف له .
 
( 2436 ) “ علم الكلام يتوقف ازدهاره على مقدار ما يلاقيه من اقبال المستمعين . فهو علم يستمد وجوده من غرور أصحابه ، وحبهم للظهور ، : وليست له حياة ذاتية “ .
 
( 2439 ) انظر : المثنوى ، 1 ، 1750 وشرحه .
 
( 2440 ) أي عطاء يقدر عليه أهل الدنيا ؟ وماذا يكون عطاؤهم إذا قيس بعطاء الخالق الوهاب ؟
 
( 2441 ) “ أكل الطين “ رمز للاسراف في التعلق بالمادية . ومن أصيب بمثل هذا الاسراف اعتل كيانه .
 
( 2442 ) “ غذاء الروح “ هو الذي يجعل الانسان دائم الشباب .
والروح ذاتها لا تشيخ ، أما الجسد فيشيخ ويفنى . وقول الشاعر :
“ اغتذ بقلبك “ يعنى : اجعل غذاء الروح قوام وجودك .
( 2448 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب اليه من حبل الوريد “ .
( 50 : 16 ) .

 
“ 542 “
 
( 2449 ) الدعاء والصلوات - التي يرفعها البشر إلى خالقهم - مستمدة من الخالق‌ذاته ، فهو الذي علمهم إياها ، فتساموا بها ، والا فان الوجود الانساني الذي غلب عليه الحس لا تنبثق منه هذه الصلوات . ان هذه الأفعال الروحية الصادرة عن البشر ، شبيهة بورود نبتت في رماد الموقد .
 
( 2450 ) كرم الله أيضا هو الذي بث الفهم والادارك في اللحم والدم ، وجعل المعاني الفكرية المجردة متعلقة بكيان حسىّ .
 
( 2451 ) الابصار - كما يقول الشاعر - نور يفيض من العينين فتلاطم أمواجه السماء . وفي هذا تعبير عن اتساع البصر لكل هذه المشاهد المتجلية في السماوات والأرض .
 
( 2455 ) جنة الروح هي أصل السعادة ونبعها ومجلاها .
 
( 2456 ) يعود الشاعر هنا إلى قصة الرسول والصحابي المريض ، وهي القصة التي بدأت في البيت 2141 .
 
( 2457 - 2458 ) انظر شرح البيت 2141 .
ويشير هذان البيتان إلى نوع من صحابة الرسول تلقوا تعاليمه بتزمت . وهؤلاء هم الأصل في ظهور فرقة الخوارج التي بنيت تعاليمها على هذا التزمت في التفسير .
وقد أشار الشاعر إلى هؤلاء من قبل . ( انظر : المثنوى ، 1 ، 366 - 370 ) .
 
( 2468 - 2470 ) انظر قصة هاروت وماروت . ( المثنوى ، 1 ، شرح الأبيات 3321 - 3354 ) .
وفي هذه الأبيات تفسير جديد للقصة ، هو أن هاروت وماروت آثرا أن يلقيا - في الدنيا - نصيبهما من العذاب ، لقاء ما اقترفا من الاثم والخطيئة ، بدلا من معاناة ذلك في الآخرة .
 
( 2471 ) “ ألم الدخان “ رمز لعذاب الدنيا ، فهو بالقياس إلى
 
“ 543 “
 
عذاب الآخرة شبيه بالدخان ، إذا قيس بالنار .
( 2481 ) انظر حديث الرسول في شرح البيت 2141 .
 
( 2484 ) كان موسى يريد أن يسير ببنى إسرائيل إلى الأرض المقدسة ، بعد أن خرجوا من مصر ولكنهم خافوا دخولها على من كان بها من الحكام والأقوام ، وجبنوا عن القتال . قال تعالى : “ قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون “ ( 5 : 24 ) . فحزن موسى لذلك وشكاهم إلى الله ، فكان عقابهم أن الله أوقعهم في التيه ، وحرم علهيم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة .
قال تعالى : “ قال رب انى لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين “ . ( 5 : 25 - 26 ) .


يقول الزمخشري عن التيه : “ التيه المفازة التي يتاه فيها . روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ ، يسيرون كل يوم جادين ، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه . . . . . . فان قلت : هل كان معهم في التيه موسى وهارون عليهما السلام ؟ قلت : اختلف في ذلك ، فقيل لم يكونا معهم ، لأن كان عقابا . وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم . وقيل : كانا معهم الا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة ، لا عقوبة ، كالنار لإبراهيم “ . ( تفسير الكشاف ، 1 ، 622 - 623 ) .


ويمكن أن يفسر البيت تفسيرا رمزيا على أساس أن التيه رمز للعالم المادي الذي تاهت الأرواح فيه عن أصلها . وأن الرسول يرشد الأرواح في هذا التيه . وأن الاثم ( وهو التعلق بلذات الدنيا ومتاعها ) هو الذي يبقى الأرواح في التيه رهن البلاء .
 
( 2485 ) مضمون هذا البيت شبيه بما أصاب قوم موسى حين

“ 544 “
 
وقعوا في التيه ، فقد لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ ( انظر شرح البيت السابق ) .
 
( 2486 ) استخدم موسى في هذا البيت رمزا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وفي البيتين 2493 - 2494 تعليل لهذا الرمز .


( 2487 ) “ الموائد “ التي كانت تنزل على بنى اسرئيل هي المن والسلوى . قال تعالى : “ وظلمنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى “. ( 2 : 57 ).
 
( 2488 ) في البيت إشارة إلى معجزة لموسى ذكرت في القرآن الكريم . قال تعالى : “ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا “ . ( 2 : 60 ) .
( 2489 ) إذا غضب الرسول على قومه أصابهم العذاب . ولا يقتصر هذا على ما يصيبهم في الآخرة ، بل إن بعضه قد يصيبهم في الدنيا .
 
( 2490 ) “ القلبان “ هما الرضى والسخط . والرسول يرضى عن قومه إذا أحسنوا ، ويغضب عليهم ان أساؤوا . وكل انسان عرضة لحالى الرضى والسخط ، على مقتضى أفعاله .
 
( 2493 - 2494 ) في هذين البيتين يعتذر الصحابي عن اتخاذ موسى رمزا للرسول في أعماله - وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين - فيقول انه فعل ذلك لأن مدح الحاضر مدعاة للحرج . فهذا الصحابي كان يدلى بهذه الأقوال في حضرة الرسول ، فلجأ إلى الرمز ، والا فان موسى ذاته ما كان ليجيز أن يُذكر اسمه على أنه مثال للتعبير عن كمال محمد .
 
( 2496 ) انتهى الكلام الموجهُ إلى الرسول في هذا البيت .
 
( 2497 ) بدأ الشاعر هنا مجموعة من الأبيات ، في مناجاة الله .
فالصفات التي تضمنتها هذه الأبيات لا تصدق الا على الخالق . وليس من المستطاع أن نعرف ما إذا كان الشاعر يتحدث بهذه المناجاة حديثا



“ 545 “
 
مباشرا ، أم أنه يجريها على لسان الصحابي الذي كان يكلم الرسول .
وهذا الأمر - على أية حال - لا يخلق صعوبة في فهم الأبيات .
( 2507 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم “ . ( 2 : 37 ) .
 
( 2508 ) يصور جلال الدين الشيطان ملاعبا لآدم على رقعة الشطرنج . وقد سبق له التعبير عن هذا المعنى بصورة لطيفة . ( انظر الأبيات 129 - 131 ) .
 
( 2514 ) انظر الآيات الكريمة : ( 35 : 43 ) ، ( 4 : 79 ) ، ( 41 : 46 ) .
 
( 2516 - 2517 ) أول العلاج معرفة الداء . والشيطان وأمثاله قد أعماهم الغرور ، فأصبحوا غافلين عن حقيقة أنفسهم . ولو أنهم فطنوا لقبحها ، لكان ذلك بداية لسعيهم إلى الصلاحها .
 
( 2518 - 2520 ) حين يتألم المرء لسوء حاله يكون ذلك بشيرا بمولد روحي جديد . فالأم تشعر بالألم قبل ولادة طفلها . والمريد يشعر بالألم لما فرط منه قبل انبثاق وعيه الروحي . لكنه بحاجة إلى المرشد ، ليعاونه على استنباط ذلك الوعي الروحي ، كما تحتاج الأم إلى القابلة في ولادة طفلها . وكل انسان قد انطوى قلبه على “ الأمانة “ ، وهي القدرة على الايمان والعلم والمحبة . لكن النفس الحسية - بامعانها في الشهوات واللذات - تحجب عن الانسان الوعي بهذه الأمانة . فالألم من سوء حال النفس هو البداية لذلك الوعي . ونصائح المرشد ضرورية لمعاونة المريد .
 
( 2521 ) من لم يحس بالألم كان طاغيا وتأله ، كما فعل فرعون وأمثاله من الطغاة . وهو أيضا قاطع طريق لأنه يؤذى الأنبياء ، ويقطع على الناس سبيل الاهتداء بهديهم .
 
( 2524 ) إذا كان الاعتماد في معرفة المواقيت على أصوات الطير ،
 
“ 546 “
 
فوجب قطع رأس الطائر الذي يصيح قبل وقته ، حتى يكون هناك تحقق من صدق الاعلام . والطائر الذي يصيح قبل وقته رمز للنفس الحسية التي تدفع صاحبها إلى الغرور والاعتداد بذاته ، فيؤكد لها وجودا منفصلا عن خالقه .
 
( 2526 - 2527 ) قتل النفس الحسية في الانسان شبيه باقتلاع الإبرة من العقرب ، أو الأنياب من الحية . فقتل النفس الأمارة بالسوء يهيىء للمرء النجاة بروحه . واقتلاع الإبرة أو الأنياب يبعد خطر الموت عن العقرب والحية ، وبذلك تتحقق لهما النجاة من القتل .
 
( 2530 ) كل ما يتجلى في الروح فهو من الهام الخالق .
 
( 2534 ) سبق للشاعر أن قدم تأويلا صوفيا لبعض آيات هذه السورة ( انظر الأبيات 295 - 301 ) .
ويفهم من هذا البيت - على ضوء الأبيات السابقة عليه - أن الله لا يتخلى عن عبده المؤمن النقى القلب ، مهما طال بالعبد انتظارُ الهام الخالق .
 
( 2535 - 2543 ) يقدم الشاعر تفسيرا لخلق الشر في هذه الأبيات فهو يقول إن خلق الله للشر دليل على كمال قدرته . فكأنه بذلك يقول إن الله هو الفنان الأعظم ، الذي يخلق الجميل ، ولا يعجز عن خلق القبيح .
 
( 2537 - 2541 ) أراد جلال الدين أن يقرب إلى الأذهان معنى تجلى القدرة الكاملة في خلق الخير والشر ، فمثل لذلك بالفنان الذي يصور الجمال والقبح على السواء . ويكون تصويره لهذا وذاك دليلا على كمال فنه . فكأن جلال الدين بذلك قد ذهب إلى أن الفن ليس مقصورا على صنع الجمال ، بل هو أيضا في القدرة على تصوير القبح .
فالفن اذن هو الخلق ، وليس مقصورا على صنع الجمال . وشاعرنا - بهذا الرأي - قد سبق شاعر الألمان جوته بمئات السنين . . فهذا
 
“ 547 “
 
الأخير قد قال : الفن قوة مشكلِّة قبل أن يكون جميلا . . . وحين يكون كذلك ، يكون فنا صحيحا عظيما ، أصح وأعظم من الفن الجميل .
نفسه “ . ( انظر : كاسيرر : مدخل إلى فلسفه الحضارة الانسانية .
الترجمة العربية لاحسان عباس ، ومحمد يوسف نجم ، ص 246 ) .
 
( 2543 ) انظر : المثنوى ، 1 ، 2446 ) .
 
( 2544 - 2545 ) كل من المؤمن والكافر يكون خاضعا لله ، لكن المؤمن يخضع عن طواعية ورضى ، وأما الكافر فيخضع مكرها . قال تعالى : “ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها “ .
( 13 : 15 ) .
 
( 2546 ) الكافر قد يعمر الأرض ، ويبذل في ذلك جهده ، ولكن عمله هذا لا يكون في سبيل الله ، بل من أجل نفسه ، وغروره الذاتي .
فهو يدعى الامارة على ما هو ملك الخالق .
( 2547 ) يظن الكافر الباغي أنه قد تملك الأرض بطغيانه . ولكن كل شئ يؤول إلى الخالق ، في نهاية الأمر . قال تعالى : “ انا نحن نرث الأرض ومن عليها والينا يرجعون “ . ( 19 : 40 ) .
 
( 2549 ) الكافر القبيح الأفعال يتخذ من الجبر حجة يبرر بها سوء عمله . فهو يعزو ذلك إلى إرادة الله ، الذي لو شاء لخلقه من الأخيار الصالحين .
 
[ شرح من بيت 2550 إلى بيت 2700 ]
( 2550 ) الصالح الخير ينسب حسن فعله إلى الله ، ويشكره على ما وهبه من هداية لتجنب الأخطاء .
 
( 2551 ) استأنف الشاعر من جديد قصة الرسول والصحابي المريض .
 
( 2552 ) يتضمن هذا البيت نظما لآية كريمة . كان الرسول قد علم صاحبه المريض أن يدعو بها ربه ، هي قوله تعالى : “ ربنا آتنا في الدنيا

 
“ 548 “
 
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار “ . ( 2 : 201 ) .
انظر نص الحديث في شرحنا للبيت 2141 .
 
( 2553 ) “ ما دمت أنت مقصدنا - أيها الخالق الكريم - فهون علينا أهوال الطريق ، واجعل طريقنا إليك لطيفا كالبستان “ .
 
( 2554 - 2555 ) قول الشاعر : “ ألم تكن النار طريقا مشتركا “ .
يشير إلى قوله تعالى : “ وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا “ . ( 19 : 71 ) .
 
( 2569 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى : “ هل جزاء الاحسان الا الاحسان “ . ( 55 : 60 ) .
 
( 2574 - 2575 ) ان المحبين يحترقون بنار المحبة ، يجذبهم إليها نور وجه الحبيب ، فيندفعون نحوها كما يندفع الفراش نحو الشموع .


( 2576 ) بدأ الشاعر هنا يوجه الخطاب إلى المريد ، ويبين فضل المرشد على المريد . فالمرشد نور يغمر المريد ، وهو مجن يقيه محنة العالم الحسى وبلاءه .
 
( 2578 ) شبِّه الشاعرُ المرشد بالأفق السماوي ، والمريد بالكوكب الذي يتعلق بهذا الأفق .


( 2579 ) عطارد كاتب الفلك ، فهو الذي يفتح دفتر الفلك ويسجل به الأحداث ، والمرشدون يفتحون لك دفتر القلب ليكشفوا لك خفى الأسرار .
 
( 2580 ) دعك من الحيرة ، والتحق بذوي قرباك من أهل القلوب .وان كنت قطعة من النور ، فالتحق بالكل الذي أنت منه .
 
( 2581 ) “ لماذا يكون اجتنابك للمرشدين العارفين ؟ وما هذا التخلي عنهم والا متزاج بالمخالفين ؟ “


( 2582 ) يعبر هذا البيت عن نظرية الفيض المستمدة من الأ فلا طونية المحدثة . يقول اخوان الصفاء : “ ان الأشياء كلها بأجمعها صور وأعيان


 
“ 549 “
 
غيريات أفاضها الباري تعالى على العقل الفعال . . . ومن العقل على النفس الكلية الفلكية التي هي نفس العالم بأسره . . . . ومن النفس الكلية .
فاضت على الهيولى الأولى . . . . ومن الهيولى على النفس الجزئية .
البشرية . . . . فمن أراد أن يعرف صور الأشياء في النفس الكلية قبل فيضها على الهيولى ، فليعتبر صور مصنوعات البشر ، كيف تكونها في نفوسهم قبل اظهارهم لها في الهيولات الموضوعة لهم في صناعتهم . . . .


ومن أراد أيضا أن يعرف كيف كانت صور الأشياء في العقل الفعال قبل فيضه على النفس الكلية ، وكيف كان قبولها تلك الرسوم والصور ، فليعتبر حال رسوم المعلومات التي في أنفس العلماء . . . . ومن أراد أيضا أن يعرف حال المعلومات في علم الباري عز وجل ، قبل فيضه على العقل ، فليعتبر حال العدد كيف كان في الواحد الذي قبل الاثنين “ . ( رسائل اخوان الصفاء ، 1 ، 398 - 399 ) .


لقد انتقد الشاعر - في البيت السابق - اجتناب الجزء لكله ، واندفاعه إلى ما يصرفه عن هذا الكل . ثم بين في هذا البيت الصلة بين الواحد وبين الكثرة ، وكيف يتوالى الفيض حتى تتحول الأجناس إلى أنواع ، وتصير المغيبات الروحية أعيانا حسية ملموسة .
( 2583 ) من خدعه ظاهر الحس ومغرياته عن حقيقة جوهره ، كان كالنساء يخدعهن معسول القول ، وكاذب الثناء .
 
( 2584 ) هذا المغتر بالكذب والخداع ، يحرص عليهما حرصه على الذهب .
 
( 2585 ) ان ما قد يلقاه المريد من تعنيف المرشد وقسوته خير له من كذب المدح وزائف الثناء .
 
( 2596 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون “ .
( 29 : 64 ) .

* * *

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: