الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

08 - كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

08 - كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

08 - كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي
 
[ رؤية موسى الراعي ومناجاته ]

1720 -  رأى موسى راعيا على الطريق ، وكان هذا يردد : “ الهي ، يا من تصطفي ( من تشاء ) ،
 أين أنت حتى أصبح خادما لك ، فأصلح نعليك ، وأمشط رأسك ! وأغسل ثيابك ، 
وأقتل ما بها من القمل ! وأحمل الحليب إليك ، أيها العظيم ! 
وأقبل يدك اللطيفة وأمسح قدمك الرقيق ، وأنظف مخدعك حين يجئ وقت المنام .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الأحزاب ، 33 : 41 .



“ 195 “
 
يا من فداؤك كل أغنامى ! ويا من لذكرك حنينى وهيامي ! “
 
 1725 وأخذ الراعي يردد هذا النمط من هراء القول . ورآه موسى ، فناداه قائلا : “ مع من تتحدث أيها الرجل ؟ 
“ فقال الراعي : “ مع ذلك الشخص الذي خلقنا . مع من ظهرت بقدرته هذه الأرض ، وتلك السماوات “ .
فقال موسى : “ حذار ، انك قد أو غلت في ادبارك . وما غدوت بقولك هذا مسلما بل صرت من الكافرين .
ما هذا العبث وما هذا الكفر والهذيان ؟ ألا فلتحش فمك بقطعة من القطن .
ان نتن كفرك قد جعل العالم كله منتنا ! بل إن كفرك قد مزق ديباجة الدين !
 
 1730 ان النعل والجورب يليقان بك . ولكن متى كان مثل هذين يليقان بالشمس ؟
فلو أنك لم تغلق حلقك عن مثل هذا الكلام ، فان نارا سوف تندلع وتلتهم الخلق ! 
وان لم تكن النار قد أندلعت فما هذا الدخان ؟ ولماذا أصبحت نفسك مسودة وروحك مردودا ؟
وان كنت تعلم أن الله هو الحاكم ، فكيف اعتقدت بمثل هذا السفه والوقاحة ؟
ان صداقة الأحمق هي عين العداوة . وما أغنى الحق تعالى عن مثل هذه العبادة ! 
 
1735 فمع من تتحدث ؟ أمع العم أو الخال ؟ وهل الجسم والحاجة من صفات ذي الجلال ؟


 
“ 196 “
 
ان الحليب يشربه من يكون قابلا للنشأة والنماء . والنعل يلبسه من هو بحاجة إلى القدم .
وحتى لو كان هذا القيل والقال ( موجها ) لعبد الله الذي قال عنه الحق : “ انه ذاتي وأنا ذاته “ ، 
هذا العبد الذي هو مغزى حديث الحق : “ مرضت فلم تعدنى .
لقد غدوت مريضا ، وليس عبدي وحده هو الذي مرض “ ،
 لكان مقالك هذا عبثا وهراء في حق هذا العبد ، بعد أن غدوت له سمعا وبصرا “ 1 “
 
 1740 ان التحدث بدون أدب مع خواص الحق ، يميت القلب ويجعل الصحائف سودا .
فمع أن الرجال والنساء جميعا من جنس واحد ، فإنك لو سميت رجلا “ فاطمة “ ، 
لسعى لقتلك ان وجد إلى ذلك سبيلا ، مع أنه قد يكون حسن الخلق حليما وادعا .
ان اسم فاطمة مدح في حق النساء ، لكنك لو دعوت رجلا به كان كطعن السنان ! 
واليد والقدم هما في حقنا من صفات المديح . لكنهما في حق الخالق المنزه ذم !
 
 1745 وقوله : “ لم يلد ولم يولد “ هو الوصف اللائق به ، مع أنه خالق الوالد والمولود .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ وقد غدا بي يسمع وبي يبصير “ .



“ 197 “
 
وكل ما كان جسما فالولادة صفة له . وكل ما يولد فهو من هذا الجانب من النهر .
ذلك لأنه من عالم الكون والفساد ، فهو مهين . ومن المحقق أنه حادث ويقتضى محدثا “ .
فقال الراعي : “ يا موسى ، لقد ختمت على فمي ! وها أنت ذا قد أحرقت بالندم روحي ! 
“ ومزق ثيابه وتأوه ، ثم انطلق مسرعا إلى الصحراء ومضى .
 
كيف عاتب الحق تعالى موسى عليه السلام من اجل الراعي
 
1750  فجاء موسى الوحي من الله ( قائلا ) : “ لقد أبعدت عنى واحدا من عبادي ! 
فهل أيتت لعقد أواصر الوصل ، أم أنك حئت لايقاع الفراق ؟
فما استطعت لا تخط خطوة نحو ايقاع الفراق ، فأبغض الحلال “ 1 “ عندي هو الطلاق ! 
لقد وضعت لكل انسان سيرة ، ووهبت كل رجل مصطلحا للتعبير ، 
يكون في اعتباره مدحا على حين أنه في اعتبارك ذم . ويكون في مذاقه شهدا وهو في مذاقك سم !
 
 1755 انني منزه عن كل طهر وتلوث ، وعن كل روح ثقلت ( في عبادتي ) أو خفِّت .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ أبغض الأشياء . . . “

“ 198 “
 
والتكليف من جانبي لم يكن لربح أنشده . لكن ذلك كان لكي أنعم على عبادي .
فأهل الهند لهم أسلوبهم في المديح . ولأهل السند كذلك أسلوبهم .
ولست أغدو طاهرا بتسبيحهم بل هو المتطهرون بذلك ، الناثرون الدر .
ولسنا ننظر إلى اللسان والقال ، بل نحن ننظر إلى الباطن والحال .
 
1760  فنظرنا انما هو لخشوع القلب ، حتى لو جاء اللسان مجردا من الخشوع .
فالقلب يكون هو الجوهر ، أما الكلام فعرض . والعرض يأتي كالطفيلى أما الجوهر فهو المقصد والغرض .
فإلى متى هذه الألفاظ ، وذلك الاضمار والمجاز ؟ انى أطلب لهيب ( الحب ) ،
 فاحترق ، وتقرّب بهذا الاحتراق ! أشعل في روحك نارا من العشق ، ثم احرق بها كل فكر وكل عبارة !
 يا موسى ! ان العارفين بالآداب نوع من الناس ، والذين تحترق نفوسهم وأرواحهم ( بالمحبة ) نوع آخر “ .
 
1765 ان اللعشان احتراقا في كل لحظة ! وليس يفرض العشر والخراج على قرية خربة ! 
فلو أنه أخطأ في القول فلا تسمه خاطئا . وان كان مجللا بالدماء ، فلا تغسل الشهداء فالدم أولى بالشهداء من الماء ! 
وخطأ المحب خير من مائة صواب ! فليس في داخل الكعبة رسم للقبلة .
وأي ضرر يحيق بالغواص
 
“ 199 “
 
ان لم يلبس النعل الواقى من الغوص في الثلوج ؟
فلا تلتمس الهداية عند السكارى . وكيف تطلب ممن تهلهلت ثيابهم رفو تلك الثياب ؟
 
1770 ان ملة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان . فمذهب العشاق وملتهم هو الله .
ولو لم يكن تلياقوتة خاتم فلا ضير في ذلك . والعشق في خضم الأسى ، ليس مثيرا للأسى !
 
كيف جاء الوحي موسى عليه السلام 
موضحا عذر ذلك الراعي
 
ولقد ألقى الله - بعد ذلك - أسرارا في أعماق قلب موسى ، ليست مما يُباح به .
لقد تدفقت الكلمات إلى قلب موسى ، وامتزج الشهود بالكلام .
فكم ذهل عن ذاته وكن عاد إلى الوعي ! وكم طار محلقا من الأزل إلى الأبد !
 
 1775 فلو أنني شرحت أكثر من هذا لكان من البلاهة . ذلك لأن شرح هذا يتجاوز علمنا .
ولو أنني ذكرته لا قتلعت العقول ! ولو أنني كتبته لا نشق كثير من الأقلام ! فحين سمع موسى هذا العتاب من الحق ، هرع وراء الراعي موغلا في البيداء .


 
“ 200 “
 
وانطلق مقتفيا آثار قدمي ذلك الحيران . فكان نيثر الغبار من أذيال الصحراء .
وان خطوة قدم الانسان الموله لهى متميزة عن خطى الآخرين .
 
1780 فتارة يمضى مستقيما كالرخ من القمة نحو القرار . وتارة يمضى بخطى متقاطعة مثل الفيل “ 1 “ .
وتارة يمضى كالموج متطاولا رافعا علمه . وتارة يمضى زاحفا فوق بطنه كالسمكة .
وتارة يخط وصف حاله فوق التراب ، كالرمِّال الذي يضرب الرمال .
وفي النهاية أدرك موسى الراعي ورآه . وقال البشير ( للراعى ) .
“ ان الاذن قد جاء ! فلا تلتمس آدابا ولا ترتيبا ، وانطق بكل ما يبتغيه قلبك الشجي ! 
 
1785 ان كفرك دين ، ودينك نور للروح ! وانك لآمن ، والعالم بك في أمان ! أيها المعافي ! 
ان الله يفعل ما يشاء . فاذهب ، وأطلق لسانك بدون محاباة “ “ 2 “ .
فقال الراعي : “ يا موسى . انى قد تجاوزت ذلك . انني الآن مجلل بدماء قلبي ! 
لقد تجاوزت سدرة المنتهى . وخطوت مائة ألف عام في ذلك الجانب !
.................................................................
( 1 ) الإشارة هنا لقطع الشطرنج وطريقة نقل الرخ والفيل .
( 2 ) بدون أية مراعاة للمجاملة ولطيف القول .


 
“ 201 “
 
انك قد أعملت سوطك ، فدار حصانى ، فبلغ قبة السماء ، ثم تجاوز الآفاق !
 
 1790 فعسى الله أن يجعل جوهرنا الانساني نجي سر لاهوته . وليبارك الله لك يدك وساعدك ! 
فالآن قد تجاوز حالي نطاق القول . فهذا الذي أقوله ليس حقيقة حالي “ .
انك تبصر النقش الذي يكون في المرآة . وهذا النقش صورتك أنت ، وليس صورة المرآة .
والأنفاس التي ينفثها لاعب الناى في الناى ، هل تنتمى للناى ؟
لا ، بل هي منتمية للرجل .
فكن متنبها حين تنطق بالحمد والثناء ، واعلم أنهما شبيهان بهراء ذلك الراعي ! 
 
1795 فحمدك ان بدت أفضليته بالقياس إلى حمد الراعي ، فإنه بالقياس إلى الحق عاجز أبتر ! 
فلكم تقول - حين يرتفع الغطاء - “ ليس هذا ما كانوا يظنون “ .
فقبول ذكرك هذا انما هو من الرحمة . لقد رُخص لك به ، مثل صلاة المستحاضة ! 
فصلاتها تكون ملوثة بالدماء . وذكرك يكون مشوبا بالتشبيه والكيف ! والدم نجس ، لكنه يغسل بالماء ، لكن للباطن نجاسات ،
 
 1800 لا تتناقص من باطن الرجل المجد ، الا بماء لطف الخالق ! 
فليتك في سجودك كنت تدير وجهك ، وتدرك معنى دعائك :
سبحان ربى .
 
“ 202 “
 
قائلا : “ يا من سجودى مثل وجودي ، غير جدير به ، ألا فلتبهنا الخير جزاء منك على شرنا ! 
“ ان هذه الأرض لتحمل أثرا من حلم الحق . فهي قد تلقت النجس ولكنها جادت بالورد ثمارا !
 انها تحجب لنا أقذارنا ولقاء ذلك تنبت منهما الأزاهير !
 
 1805 فحين رأى الكافر أنه في العطاء والجود أقل من التراب ، وأدنى أصالة منه ، 
وأنه لم ينبت من وجوده ورد ولا ثمار ، وأنه لم ينشد سوى فساد كل ما هو نقى ،
 قال : “ انني قد تقهقرت في السير ، فواحسرتاه ! ( يا ليتني كنت ترابا “ 1 “ ) .
يا ليتني ما اخترت السفر من ترابيتى ، اذن لكنت أتلقى الحب كما يتلقاه التراب .
فحينما قمت بالسفر امتحنني الطريق . فماذا كانت الهدية التي جلبتها من هذا السفر ؟ “ 
 
1810  فهو من جراء كل هذا الميل نحو التراب ، لم يكن يبصر أمام وجهه أية فأئدة للسفر .
لقد كان اعراضه بوجهه هو ذلك الحرص والطمع ! أما توجهه نحو الطريق فكان ذلك الصدق ، وتلك الضراعة ! 
فكل عشب يكون له ميل نحو العلا ، فهو في ازدياد وحياة ونماء .
فإذا ما حوّل رأسه نحو الثرى ، فهو في تضاؤل وذبول ونقص وغبن .
.................................................................
( 1 ) سورة النبأ ، 78 : 40 .


 
“ 203 “
 
فحينما يكون ميل روحك إلى العلو ، فأنت في ارتقاء ، ويكون مرجعك إلى هناك .
 
1815 وان كنت منقلبا فوق رأسك متوجها نحو الأرض ، فأنت آفل ، والله لا يجب الآفلين “ 1 “ .
 
كيف سال موسى عليه السلام الحق تعالى 
عن سر غلبة الظالمين
 
فقال موسى : “ أيها الكريم الفعَّال . يا من ذكرك لحظة واحدة يعدل عمرا طويلا ! 
لقد رأيت نقوشا مشوهة عوجاء من الماء والطين ، فاعترض قلبي عليها كما فعلت الملائكة .
فماذا يكون القصد من تصوير نقش ثم غرس بذور الفساد فيه ؟
أو من اشعال نار الظلم والفساد ، التي تحرق المسجد والساجدين ؟
 
1820 ولماذا إثارة نبع الدموع الدامية ، أو الملوثة بالدم “ 2 “ ، من أجل الضراعة ؟
وانى لأعلم يقينا أن هذا عين حكمتك ، لكن مقصودى هو العيان والمشاهدة .
فذلك اليقين يدعوني إلى أن ألزم الصمت ، وأما الحرص على المشاهدة فيدفعنى إلى الجيشان !
.................................................................
( 1 ) انظر قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم : “ لا أحب الآفلين “ .
( 6 : 76 ) .
( 2 ) حرفيا : “ الدموع الدامية أو الصفراء . . . “ .
 
“ 204 “
 
لقد كشفت للملائكة سرك ، ( وأظهرت ) أن مثل هذا الشهد جدير بأن ( تكتنفه ) الابر ! 
فعرضت عليهم نور آدم عيانا ، فانجلت بذلك المشكلات أمام الملائكة .

1825 وحشرك هو الذي يخبر عن سر الموت ، كما تنبىء الثمار عن سر الأوراق .
والدم والنطفة هما سر الحسن الآدمي ، فالقلة - في النهاية - سابقة على كل كثرة .
فالطفل الجاهل يبدأ بغسل اللوح ، وبعد ذلك يكتب فوقه الحروف .
والله يجعل القلب دما ودمعا مستهانا ، وبعد ذلك يخط فوقه الأسرار ! ففي وقت غسل اللوح ، يجب على الطفل أن يعلم أن اللوح سيُجعل دفترا .
 
1830 وحينما يوضع أساس لأحد المنازل ، فان أساس المنزل القديم يُقتلع في أول الأمر .
والطين يُرفع من قاع الثرى في البداية ، حتى تستطيع - في النهاية - أن تحسب الماء المعين .
والأطفال يبكون من الحجامة بكاء مرا ، ذلك لأنهم لا يعلمون سر ذلك الأمر .
أما الرجل فهو يدفع الذهب للحجَّام ، ويعتز بالإبرة التي تشرب الدماء !

“ 205 “
 
والحمَّال يجرى نحو الحمل الثقيل ، ثم يختطف ذلك الحمل من الآخرين .
 
1835 فتأمل صراع الحمالين من أجل الحمل . فهكذا يكون اجتهاد البصير بالأمور .
ولما كانت الأحمال هي أساس الراحة ، فان المرارة أيضا هي البشير بالنعمة .
ولقد حُفت الجنة بمكروهاتنا ، كما حُفت النار بشهواتنا “ 1 “ .
فالبذرة التي انبثقت عنها مادة نارك ليست سوى غصن ندى “ 2 “ .
وأما من احتراق بالنار “ 3 “ فهو قرين الكوثر ! وكل من كان في السجن قرين المحنة ، فذلك جزاء له على لقمة وشهوة !
 
 1840 وكل من كان في القصر قرين السعادة ، فذلك جزاء له على كفاح وعناء ! وكل من رأيته فريدا بما يحوز من ذهب وفضة ، فاعلم أنه قد لزوم الصبر في تكسبه .
فحينما تصبح العين نفِّاذة فإنها تشاهد ( الحقيقة ) بدون أسباب .
أما أنت - يا أسير الحس - فلتنصت إلى الأسباب .
.................................................................
( 1 ) هذا البيت مقتبس من حديث عن أبي هريرة رواه أحمد في مسنده وكذلك رواه مسلم . ونص الحديث أن الرسول قال : “ حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات “ .
( 2 ) يقصد “ بالغصن الندى “ اللذات والشهوات .
( 3 ) من عانى نار مجاهدة النفس ومكافحة الأهواء .


 
“ 206 “
 
وكل من تحررت روحه من سلطان الطبائع ، فهو الذي بلغ منزلة تجاوز الأسباب .
فإذ ذلك تبصر العين نبع معجزات الأنبياء غير مقترن بالأسباب ولا منبعث من الماء والعشب .
 
1845 فهذا السبب شبيه بما بين الطبيب والعليل ، أو هو مثل ما بين السراج والفتيل .
فافتل لسراج ليلك فتيلا جديدا ، وكن على علم بأن ضياء الشمس أنقى من كل ذلك .
اذهب ، وهيىء الطين من أجل سقف الدار وكن على علم بأن سقف السماء منزه عن الطين ! 
أواه لقد انقضت خلوة الليل وبزغ النهار ، ساعة أن غدا حبيبنا مبددا لنا الهموم .
 
وما يكون تجلى البدر الا في الظلام . فلا تنشد مُراد القلب الا بعناء القلب !
 1850 لقد أعرضت عن عيسى ، وربيت الحمار “ 1 “ ، فلا جرم أنك كالحمار خارج الأستار ! والعلم والعرفان هما طالع عيسى ، وليسا طالع الحمار ، أيها الحمارى الصفات .
انك تسمع أنين الحمار فتستشعر الرحمة . ثم أنت لا تدرى - أيها الحمار - أن حمارا يسيطر عليك “ 2 “ .
.................................................................
( 1 ) لقد أعرضت عن الروح وربيت الجسد .
( 2 ) حرفيا : “ يأمرك “ .
 
“ 207 “
 
فكن رحيما بعيسى ولا تكن رحيما بالحمار ! ولا تجعل الطبع سيدا على عقلك ! 
ولتدع الطبع يبكى بكاء حارا مريرا ! ولتأخذن منه لكي تؤدى دين الروح .
 
1855 لقد قضيت السنين غلاما للحمار ، فكفاك هذا . ذلك لأن غلام الحمار يكون متخلفا وراء الحمار .
ونفسك هي المراد من قول الرسول “ أخروهن . . . “ فالنفس يجب أن تكون الأخيرة في حين أن العقل يكون الأول .
وهذا العقل الوضيح قد أصبح شريكا للحمار في مزاجه ! فليس له تفكر الا في طريقة للحصول على العلف ! أما حمار عيسى فقد تخلق بمزاج القلب ، واتخذ له منزلا في مقام العقلاء .
ذلك لأن العقل كان غالبا والحمار ضعيفا ، فالراكب القوى قد جعل الحمار نحيفا .
 
1860 وهذا الحمار الذابل قد غدا تنينا ، من جراء ضعف عقلك يا من لست تعدو في قيمتك الحمار ! 
فلو أن عيسى جعلك عليل القلب ، فلا تتركه فان منه أيضا تجيئك الصحة .
وكيف أنت مع الآلام يا عيسى ، يا صاحب الأنفاس العيسوية ؟
انه ليس في العالم كنز بدون ثعبان .
وماذا تستشعر يا عيسى من رؤية اليهود ؟ وكيف أنت يا يوسف مع المكار الحسود ؟


 
“ 208 “
 
لقد كانت كل أيامك ولياليك وقفا على هؤلاء الحمقى ، وكنت تمدهم بالحياة وكأنك الليل والنهار ! 
 
1865 فآها من هؤلاء المجردين من الفضل ذوى الوجوه المصفرة ! وأي فضل يتولد من الصفراء ؟ شئ سوى ألم الرأس .
فلتفعل بالنفاق والاحتيال والسرقة والخداع ما تفعله بها شمس المشرق .
فأنت في الدنيا والدين عسل ، ونحن خل . وعلاج هذه الصفراء هو مزيج الخل والعسل .
ونحن نزيد الخل لأننا قوم نعانى من الزحير . فلتزد أنت العسل ، ولا تمسك كرمك عنا ! 
فهذا ما كان لأنقا بنا ، وهكذا جاء فعلنا . والرمال في العين ماذا تزيدها ؟ لا شئ الا العمى .
 
1870 وذاك ما كان لائقا بك ، أيها الكحل العزيز ! فكل من ليس بشئ يجد عندك شيئا .
ولقد أصبح قلبك مكتويا بنار هؤلاء الظالمين . ولم يكن لك من خطاب سوى قولك : “ اهد قومي “ “ 1 “ .
انك منجم العود ، فلو أنهم أشعلوا بك النار ، للمؤوا هذا العالم بالعطر والريحان .
ولست أنت بذلك العود الندى تنتقص منه النار ، ولا أنت بذلك الروح الذي يغدو أسير الحزن .
.................................................................
( 1 ) إشارة إلى ما رروى من أن الرسول عليه السلام - حينما كسرت سنه في غزوة أحد - دعا ربه قائلا : “ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون “ .
 
“ 209 “
 
فالعود يحترق ويبقى منجم العود بمنأى من الاحتراق وكيف تحمل الريح على منبع النور ؟
 
1875  يا من ( قبست ) منك السماوات الصفاء ! يا من جفاؤك أحلى من الوفاء .
ذلك لأنه لو وقع من العاقل جفاء ، فإنه يكون أفضل من وفاء الجاهلين .
ولقد قال الرسول : “ عداوة العاقل ، خير من صداقة الجاهل “ .
 
كيف ازعج أمير رجلا نائما كانت أفعى 
قد دخلت في فمه
 
كان أحد العقلاء ممتطيا صهوة حصان ، ( فمر بالقرب من ) أفعى كانت تدخل في فم رجل نائم .
ولقد أبصر ذلك الراكب الأفعى ، فسارع إليها ليفزعها لكن الفرضة أفلتت .
 
1880  ولما كان لهذا الرجل مدد كبير من عقله ، فإنه ضرب النائم بضع ضربات قوية بالدبوس .
فحملته ضربات ذلك الدبوس القوى على الفرار حتى التجأ إلى احدى الأشجار .
وكان قد تساقط من الشجرة تفاح كثير ، وغدا عفنا . فقال الأمير :
“ كل من هذا ، يا من تعلقت بالآلام ! “ .
وأعطى الرجل كثيرا من التفاح ليأكلة ، حتى صار ذلك التفاح يتساقط من فمه .
 
“ 210 “
 
فصاح قائلا : “ وما نهاية هذا ، أيها الأمير ؟ لماذا تسلطت على ؟
وماذا صنعت بك ؟
 
1885  فان كنت من الأصل تستشعر عداء لروحي ، فاضرب بسيفك ضربة واحدة ، وأرق دمى ! 
فما أشأم تلك الساعة التي ظهرت لك فيها ! وما أسعد من لم يقع بصره على وجهك !
 فلا جناية ، ولا اثم ولا كثير ، ولا قليل . ان الملحدين لا يجيزون هذا الظلم .
ان الدم ليتفجر من فمي مع الكلمات ! فلتجره على ذلك يا الهى في النهاية “ .
وكان في كل لحظة يلقى سبابا جديدا . أما الأمير فكان يضربه ، ( قائلا ) : “ اجر في هذه الصحراء “ .
 
1890  فمن ضربات الدبوس ، ( ومن خوف ) ذلك الفارس المنطلق كالريح ، كان الرجل يعدو ، ثم يعود فيسقط فوق وجهه .
لقد كان ممتلئا بالطعام مثقلا بالنعاس ، مرهقا . وقد أصابت قدميه ووجهه آلاف الجراح .
وظل حتى المساء يجرة ثم يرخى ليه العنان حتى أصابه القئ من تأثير الصفراء .
فخرجت منه المآكل ، رديئها وطيبها . وقفزت الأفعى خارجة منه مع ذلك القئ .
فحينما رأى أن تلك الأفعى قد خرجت من جوفه ، سجد أمام ذلك الطيب الفعال !


 
“ 211 “
 
1895  وما أن أبصر تلك الأفعى السوادء الرهيبة ، القبيحة الجسيمة ، حتى ذهبت عنه تلك الآلام .
وقال : “ انك أنت جبريل الرحمة ! أم لعلك الاله الذي هو ولى النعمة ! فبوركت تلك الساعة التي رأيتك فيها ! 
لقد كانت ميتا ، وأنت وهبتانى روحا جديدا ! لقد كنت لي طالبا ، كما تفعل الأمهات . وكنت أنا هاربا منك كما تفعل الحمير .
فالمحار يدفعه الغباء للفرار من صاحبه . وصاحبه يدفعه كرم العنصر إلى اقتفاء أثره .
 
1900 وهو لا يطلبه من أجل نفع ولا ضرر . لكنه يطلبه حتى لا يمزقه ذئب أو وحش كاسر .
فما أسعد هذا الذي يرى وجهك ، أو يقع فجأة على جادتك ! يا من أثنت عليك الروح الطاهرة ! 
لكم وجهت إليك من الكلمات ما هو عبث وهراء ! فيا أيها السيد الملك الأمير !
 انى لم أتكلم ، بل جهلي هو الذي تكلم ، فلا تؤاخذني على ذلك ! 
فلو أنني عرفت القليل عن هذه الحال ، فكيف كنت أستطيع النطق بالسخف ؟
 
1905  ولو أنت حدثتني بإشارة واحدة إلى تلك الحال . لكنت قد لهجت بالثناء عليك يا مليح الخصال ! 
لكنك كنت مثيرا بالتزامك الصمت ، وكنت في صمتك تضربني فوق رأسي !



“ 212 “
 
قصار رأسي ذاهلا وطار العقل من رأسي ، وبخاصة لأن رأسي هذا قليل العقل .
فاصفح عنى يا من أنت مليح الوجه والفعال . وتجاوز لي عما وجهته إليك بدافع من الجنون .
فقال الأمير : “ لو أنني كنت نطقت بإشارة إلى ذلك لذابت مرارتك في الحال رعبا “ 1 “ .
 
 1910  ولو أنني كنت قد ذكرت لك أوصاف الأفعى ، لكان الخوف قد جلب على روحك الدمار ! 
ولقد قال المصطفى : لو أنني أفضت في شرح ذلك العدو الكامن في أرواحكم ،
 لتفجرت مرائر الشجعان ، ولما سلك أحدهم سبيلا ولا اهتم بعمل .
ولما بقيت لقلبه حرارة في الضراعة . ولا بقيت لجسمة قوة على الصوم والصلاة ! 
ولغدا عدما مثل الفأر أمام القط ! ولزلزل مثل الحمل أمام الذئب ! 
 
1915 ولم تبق عنده حيلة ولا حراك . ولهذا فقد جعلت سكوتى عن ذكر هذا تدعيما لكم .
فهأنذا صامت مثل أبى بكر الربابى ، وهأنذا أضرب الحديد بيدي مثل داوود .
حتى يغدو المحال بيدي محققا . ويصير الطائر المفتقد جناحيه ذا
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ لغدت مرارتك في الحال ماء “ . والمرارة تذكر كثيرا على أنها موطن الشجاعة في الرجل .

 
“ 213 “
 
قوادم .
فما دام الخالق قد قال :” يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْديهمْ ““ 1 “ ، فان الله قد أعلن أن أيدينا هي يده .
ولهذا فانى على يقين أن لي يدا طولى ، تصل إلى ما فوق السماء السابعة .
 
1920  ولقد أظهرت يدي فضلها فوق السماء . فيا قارىء القرآن ! أقرأ آية شق القمر “ 2 “ .
وهذا الوصف أيضا انما هو من أجل ضعاف العقول ! وكيف يتسنى شرح القدرة للضعفاء “ 3 “ ؟
ولسوف تعلم بنفسك حين ترفع رأسك من غفوتك ، أن قد حان ، اختتام ( قولي ) ، والله أعلم بالصواب .
فأنت لم تكن ذا قوة على تناول الطعام ، ولا كان لك سبيل إلى القئ ولا اهتمام به “ 4 “ .
وكنت أستمع إلى فحشك وأسوق حماري . وكنت أتمتم بقولي :
“ رب يسر “ .
 
1925  ولم يكن لدى اذن بأن أبوح بالسبب . ولا كانت لي قدرة على أن أقول بتركك .
وكنت في كل لحظة أهفت من آلام قلبي : “ اللهم اهد قومي ، انهم لا يعلمون “ .
.................................................................
( 1 ) سورة الفتح ، 48 : 10 .
( 2 ) سورة القمر ، 54 : 1 .
( 3 ) اظهار المعجرة المشهودة كان ضرورة املاها ضعف عقول الناس فالضعفاء عاجزون عن تصور معنى القدرة بدون دليل محسوس .
( 4 ) الخطاب هنا موجه إلى الرجل الذي ابتلع الثعبان . 

“ 214 “
 
وكان ذلك الرجل الذي برئ من الألم يوالى السجود ( قائلا ) :
“ يا من أنت لي سعادة واقبال وكنز ! لسوف تلقى جزاءك من الله أيها الشريف ! 
فليس يملك القوة على شكرك هذا الضعيف ! ان الحق هو الذي سيؤدى شكر ،
 أيها المقتدى فليست لي شفة ولا فم “ 1 “ ، ولا صوت كفء ذلك “ .
 
1930  فعلى هذا المثال تكون عداوة العقلاء . ان سمهم يكون بهجة للروح ! 
أما صداقة الأبله فهي عناء وضلال . فاستمع إلى هذه الحكاية ، على سبيل المثال :
 
الاعتماد على تودد الدب ووفائه
[ بيان الحكاية ]
كان تنين يجتذب ( بين فكيه ) دبا ، فأقبل رجل شجاع وقام بنجدته .
والرجال الأبطال في هذا العالم هم المدد ، حينما تدرك أسماعهم صرخات المظلومين .
انهم يستمعون من كل جانب إلى صرخات المظلومين ، فيسرعون نحوها مثل رحمة الله .
 
1935 فهؤلاء هم العمد لهذه الدنيا المتداعية ! هؤلاء هم الأطباء لخفىّ الأدواء !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : فك .



“ 215 “
 
انهم محض محبة وعدالة ورحمة ! بل هم مثل الحق بريئون من العلة والرشوة ! 
( فان سألت أحدهم ) : “ لماذا تبادر إلى منح ( المستغيث ) كل هذا العون ؟ “ أجابك قائلا : “ دافعى إلى ذلك حزنه وافتقاره “ .
ان المحبة هي صيد الرجل الشجاع ، وليس للدواء ما ينقِّب عنه في الدنيا سوى المرض .
فحيثما يوجد المرض يذهب اليه الدواء . وحيثما توجد القيعان ، يندفع نحوها الماء .
 
1940  فان كنت بحاجة إلى ماء الرحمة ، فامض وكن للتواضع ملتزما ، 
ثم اشرب بعد ذلك خمر الرحمة خرم الرحمة وكن بها منتشيا .
وسوف تنوالى الرحمات حتى تغمر . فلا تقتصر - يا بنىّ - على الدخول تحت رحمة واحدة .
واجعل الفلك تحت قدمك ، أيها الشجاع ! واستمع من فوق الفلك إلى ألحان السماع ! 
وأخرج من أذنك قطن الوسواس ، حتى ينفذ إلى سمعك هتاف الأفلاك .
ونظف كلتا عينيك من شعر العيب ، لتستطيع شهود حديقة الغيب وبستانه .
 
1945  وادفع عن ذهنك وعن أنفك الزكان ، حتى تنفذ إلى مشامك نسمات الله .
ولا تدع ( في كيانك ) قط أثرا للحمى أو الصفراء ، وذلك لكي تجد للكون مذاق السكر .
 
“ 216 “
 
وعالج رجولتك ولا تتخذ العنة مهربا ، حتى تظهر لك مائة لون من ملاح الوجوه .
وانزع قيد الجسد عن قدم الروح لتكون قادرة على التجول حول المنتدى .
وأبعد عن يدك وعنقك غلّ البخل . وحقق لنفسك حظا جديدا في هذا الفلك العتيق ! 
 
1950 وان لم تقدر على ذلك فطر إلى كعبة اللطف ، واعرض عجزك هذا على المعين .
فالنواح والبكاء ذخيرة عظيمة أما الرحمة الكلية فهي المربى الذي يفوقهما قوة واقتدارا .
ان المربية والأم لتلتمسان الذرائع ( للعطف ) . وانهما - لهذا - تترقبان بكاء الطفل .
ولقد خلق الله لك طفل الحاجات ، وذلك لك يبكى فيأتيه - إذ ذاك - الحليب .
قال تعالى :” قُل ادْعُوا اللَّهَ ““ 1 “ ولا تكفوا عن الضراعة ، وذلك لينهمر عليكم حليب رحماته .
 
1955 فهزيم الرياح ، والسحب التي تمطر الحليب هما لتفريج همنا ، فاعتصم بالصبر ساعة .
ألم تسمع قوله تعالى :” في السَّماء رزْقُكُمْ ““ 2 “ ؟ فلماذا تشبثت بهذا المكان الوضيع ؟
.......................................................
( 1 ) سورة الاسرارء ، 17 : 110 .
( 2 ) انظر : سورة الذاريات : 51 : 22 .

 
“ 217 “
 
فاعلم أن خوفك ويأسك هما صوت الغول الذي يجتذب أذنك إلى قرارة الوضاعة .
وكل نداء يجتذبك نحو العلا ، فاعلم أنه قد جاءك من الأعالي 
وأما كل نداء يستشير فيك الحرص ، فاعلم أنه صوت الذئب الذي يمزق الناس !
 
 1960 وليس الارتفاع هنا باعتبار المكان بل إنه هو كلّ تعال نحو العقل والروح .
وكل سبب قد جاء أسمى من الأثر . فالحجر والحديد هما أكثر تفوقا من الشرر .
فهذا رجل قد احتل مكانة أرفع من آخر يشمخ برأسه مع أنه - في الصورة - قد جلس إلى جانبه .
فالارتفاع هنا هو من ناحية الشرف . فالمكان النائي عن صدارة الشرف يُستخف به .
والحجر والحديد - من جهة سبقهما في العمل - هما جديران بهذا التفوق .
 
1965 لكن ذلك الشرر - ( ان نظر اليه ) من جهة المقصود منه - كان من هذا الوجه أكثر تفوقا من الحديد والحجر .
ان الحجر والحديد هما البداية ، وأما الشرر فهو النهاية ؛ لكن هذين هما الجسد ، وأما الشرر فهو الروح .
ولئن كان هذا الشرر متأخرا في الزمان ، فإنه في الصفة أسمى من الحجر والحديد .
فالغصن أسبق في الزمن من الثمار . لكن الثمار أكثر فضلا من الأغصان .

“ 218 “
 
ولما كان المقصود من الشجر هو الثمر . فالثمر هو الأول وأما الشجر فهو الآخر .
 
1970 ان الدب - حين استغاث من التنين - أنقذه من بين مخالبه رجل شجاع .
فالحيلة والرجولة قد تضافرتا معا ، فاستطاع ( الرجل ) أن يقتل التنين بهذه القوة .
فالتنين قوىّ ، لكنه ليس بصاحب حيلة . وهناك أيضا حيلة فوق حيلتك ! 
فحينما ترى حيلتك فارجع وعد إلى البداية لترى من أين أتت .
فكل ما كان في المنخفض فقد جاء من القمم . فسارع وارفع بصرك نحو الأعالي .
 
1975 ان النظر إلى أعلى يهب البصر نورا ، مع أنه في بداية الأمر ، بلاء ، يخطف الأبصار ! 
فلتجعلنّ العين أليفة للنور . وان لم تكن خفاشا ، فانظر نحو ذلك الجانب .
وان ابصارك للعاقبة لهو علامة اشراق نورك . . أما الشهوة العاجلة فهي حقيقة قبرك ! 
فمن كان بصيرا بالعاقبة ، وقد شهد مائة لعبة لا يرقى إلى مشابهته من سمع بلعبة واحدة .
لقد أصبح هذا مغترا بتلك اللعبة الواحدة ، إلى حدّ أن التكبر أبعده عن الأساتذة .


 
“ 219 “
 
1980 فهو كالسامرىّ حينما شهد في نفسه مثل هذا الفضل ، فدفعه الكبر إلى عصيان موسى .
انه كان قد تعلم هذا الفضل من موسى ، ثم أغمض العينين عن معلمه .
فلا جرم أن موسى قد لعب لعبة أخرى ، محت لعبة السامرىّ واختطفت حياته ! 
فما أكثر المعرفة التي تسرع إلى الرأس فتؤدى إلى تفوقه ثم هي ذاتها تذهب بالرأس ! 
فان كنت تريد ألا يذهب رأسك ، فكن قدما . ثم التجىء إلى حمى قطب من أصحاب الرأي .
 
1985 ولئن كنت ملكا فلا تعتبر نفسك أسمى منزلة منه ! وان كنت شهدا فلا تحصد سوى نباته .
ان فكرك صورة أما فكره فهو روح ! ونقدك زائف وأما نقده فهو المنجم ! انه أنت فابحث عن ذاتك فيه !
واهتف : “ كوكو “ “ 1 “ ، وطر كالفاختة نحوه .
فإن لم ترد أن تخدم ( الشيوخ ) من أبناء الجنس الانساني فأنت مثل الدب في فم التنين ! 
فلعل أستاذا يقوم بانقاذك ، ويسحبك بعيدا عن الخطر .
 
1990 وما دمت لا تملك القوة فالزم الضراعة . وما دمت أعمى فلا تنمرد على البصير .
..............................................................
( 1 ) “ كوكو “ معناها “ أين أين ؟ “ ، فهنا تورية بين لفظ الكملة وبين معناها .



“ 220 “
 
وانك لأسوأ من الدب ، لأنك لست تنوع من الألم . فالدب قد نجا من الألم حينما استغاب .
الهى ! اجعل قلوبنا الحجرية مثل الشمع ! واجعل ضراعتنا إليك حلوة ، مستجابة برحمتك !
 
كيف قال سائل أعمى : “ انني اعانى من عمى مضاعف! “
 
كان أعمى قد دأب على أن يقول : “ أمانا ، فانى أقاسى لونين من العمى ، يا أهل الزمان ! فانتبهوا ، واشفقوا علىّ اشفاقا مضاعفا ، ما دام على نوعان من العمى ، أنا واقع بينهما “ .
 
1995 فقال أحدهم له : “ انا نرى لك عمى واحدا . فما هو العمى الآخر ؟
أظهره لنا !
 “ فقال : “ انني قبيح الصوت خشن الدعاء ! وقد اقترن قبح الصوت عندي بالعمى ! فصوتى القبيح صار مصدرا اللغم .
ومن وقع صوتي ينكمش عطف الخلق .
وان صوتي القبيح لينطلق إلى كل مكان ، فيغدو مصدرا للسخط والغمّ والبغضاء .
فضاعفوا رحمتكم لهذا العمى المضاعف !
وأفسحوا مجالا لهذا الذي لا مجال له “ .

 
“ 221 “
 
2000  ولقد تناقص - بهذه الشكوى - قبحُ صوته ، وصار الناس - في العطف عليه - قلبا واحدا ! 
فلطفُ صوت قلبه - حين أعلن السرّ - قد جعل صوته لطيفا وأما من كان صوت قلبه قبيحا فان عما المثلث يبعده بعدا سر مديا .
لكن الوهابين ( من أصل الكمال ) يمنحون بدون ما سبب ، فلعلهم يضعون يدا فوق رأسه القبيح .
فحين غدا صوت ذلك السائل حلوا مثيرا للشفقة ، كانت تلين له كالشمع قلوب من تحجرت قلوبهم .
 
2005  أما ضراعة الكافر فهي إذ كانت قبيحة كالنهيق ، فإنها - من جراء ذلك - لم تقترن بالإجابة .
ان قوله تعالى :” اخْسَؤُا ““ 1 “ ، قد انطبق على قبيح الصوت ، الذي هو كالكلب ثمل بدم الخلق .
ولما كانت ضراعة الدب قد الجتذبت الرحمة ، وضراعتك لم تكن كذلك بل كانت قبيحة .
فاعلم أنك سلكت إزاء يوسف “ 2 “ مسلك الذئاب ، أو أنك شربت من دم برئ ! 
فقدم التوبة ثم استفرغ ما شربت . وان كان جرحك قديما ، فاذهب وداوه بالاكتواء .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة المؤمنون ، 23 : 108 .
( 2 ) انظر : سورة يوسف ، 12 : 8 - 20 .

“ 222 “
تتمة حكاية الدب وذلك الأبله الذي كان قد ركن إلى وفائه
 
2010  ان الدب حين خلص من التنين ، ورأى هذا الكرم من ذلك الرجل الجسور ، ذلك الدب المسكين أصبح مثل كلب أصحاب الكهف ، مقتفيا أثر من حمل عنه العبء ! وقد استلقى من العناء ذلك المسلم وصار الدب - لتعلقه به - حارسا له ! ومرّ به رجل فقال له : “ ما الحال ؟ وما صلة هذا الدب بك ، أيها الأخ ؟ “ فذكر له القصة وحديث التنين : فقال الرجل : “ لا تعلق قلبك بدب ، أيها الأحمق .
 
2015 ان صداقة الأبله أسوأ من عدواته . فأولى بك أن تدفعه عنك بكل حيلة تعلمها “ .
فقال صاحب الدب : “ والله ما قال هذا الا عن حسد ! والا فأي خليقة الدب تراها فيه ؟ أنظر إلى هذه المحبة !
 “ فقال الرجل : “ ان مودة الحمقى لخادعة . وحسدي هذا خير لك من محبة الدب ! 
فهيا ، أقبل معي ، وادفع عنك هذا الدب . لا تتخذ الدب صفيا !
 لا تترك أبناء جنسك ! “ فقال صاحب الدب : “ اذهب عنى . اذهب لشأنك أيها
 
“ 223 “
 
الحسود ! “ فقال الرجل : “ لقد كان هذا شأني ، لكنه لم يكن من نصيبك “ 1 “ .
 
2020  انني لست أقل من الدب ، أيها الشريف . فلتتركه حتى أصبح لك رفيقا .
فقلبي يرتعد قلقا من أجلك فلا تدخل الأجمة مع مثل هذا الدب .
فقلبي هذا لم يرتعد قط جزافا . انه نور الحق ، ولا ادعاء في ذلك ولا غرور .
انني مؤمن وقد أصبحت ناظرا بنور الله . فحذار حذار . اهرب من بيت النار هذا ! 
“ لقد قال عابر السبيل كل هذا ، ولم ينفذ قوله إلى أذن صاحب الدب ، فسوء الظن سد عظيم بين المرء وسمعه .
 
2025  وأمسك الرجل بيد صاحب الدب ، فسجها ذلك منه . فقال “ سأنصرف الآن ما دمت لست بصاحب رشيد “ .
فقال صاحب الدب : “ اذهب ولا تحمل الهم من أجلى . وأقلل من تكلف العرفان “ 2 “ ، يا أبا الفضول ! 
“ فعاد اى مخاطبته قائلا : “ انني لست عدوا لك . ولو أنك أقبلت ورائى لكان ذلك لطفا منك “ .
فقال صاحب الدب : “ انى مثقل بالنعاس فاتركنى واذهب “ .
فقال الناصح : “ ليتك تنقاد “ 3 “ للرفيق في آخر الأمر ،
.................................................................
( 1 ) لم يكن من نصيبك ان تفيد من نصحى لك وتدخلى في امرك .
فقد كان نصحى إياك واجبا افترضته على نفسي ، وشأنا يعنيني .
( 2 ) حرفيا : “ وأقلل من نحت العرفان . . . “
( 3 ) حرفيا : “ كن منقادا للرفيق . . . “ .


 
“ 224 “
 
حتى تنام في ظل عاقل ، وفي جوار محب من أصحاب القلوب ! “
 
2030 فاستولى الخيال على صاحب الدب ، لما أبداه هذا الرجل من دأب ، 
وسرعان ما تملكه الغضب وتغير وجهه ، قائلا : “ لعل هذا جاء للعدوان علىّ . أم لعله قاتل ، 
أو سائل طامع ، أو أتونىّ “ 1 “ حقير ، أو أنه عقد رهانه مع أصدقائه على أن يخيفنى من صحبة هذا الجليس ! 
“ ومن خبث ضميره لم يرد بخاطره قط أي ظن حسن .
وكان كل ظنه الحسن موقوفا على الدب ! فلعله كان من ذات جنس هذا الدب !
 
2035  فالخسِّة “ 2 “ قد جعلته يتهم أحد العقلاء ، ويعتقد أن الدب ، من أهل المحبة والعدالة .
 
كيف قال موسى عليه السلام لعابد العجل :
“ أين خيالك المتفكر واين حزمك ؟ “


قال موسى لرجل ثمل بالخيال : “ يا من ساء ظنُّك من جراء شقائك وضلالك ! لقد كان لك مائة شك في نبوّتى ، مع مثل هذا البرهان ، وهذا الخلق الكريم !
.................................................................
( 1 ) “ الأتونى “ هو الذي يشعل النار في الحمامات ، وكان هذا العمل من المهن الحقيرة .
( 2 ) حرفيا : فالكلبية . . .



“ 225 “
 
ولقد شهدت منى آلاف المعجزات فتضاعفت بها أو هامك وظنونك وشكك مائة مرة ! 
لقد كنت تضيق بما ينتابك من خيال ووسواس ، فتوجه الطعن إلى نبوّتى !
 
 2040 انى رفعت التراب من قاع البحر عيانا ، حتى أن أنقذتكم من حتى أنقذتكم من شر آل فرعون ! 
وكانت المائدة والأطباق تنزل من السماء طوال أربعين عاما ! وبدعائى تفجر الماء “ 1 “ من الحجر ! 
فهذه ومائة من أمثالها ، وكل هذه الدلائل الحارة والباردة لم تنتقص من الأوهام عندك أيها البارد ! 
لقد أطلق العجل خوارا ، فسجدت مسحورا ، وهتفت قائلا : أنت الهى ! 
فكأنما طوفان قد جرف إليك تلك الأوهام ، وتغلب النومُ على عقلك البارد .
 
2045  فكيف لم تستشعر سوء الظن ازاءه ! وكيف سجدت على هذه الصورة أيها القبيح الوجه ؟
ولماذا لم يتطرق إليك خيال عن تزويره “ 2 “ ، أو عن فساد سحره الذي يستولى على الأحمق ؟
فمن ذا يكون السامرىّ - أيها الكلاب - حتى يصوغ في الدنيا الها ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ النهر “ .
( 2 ) المقصود بالضمير هنا هو السامري الذي أضل بني إسرائيل ، ودعاهم إلى عبادة العجل . وسيرد ذكره في البيت التالي .


 
“ 226 “
 
فكيف غدوتم معه قلبا واحدا على هذا التزوير ؟ وكيف غدوتم عاطلين من كل اشكال حوله ؟
فهل يصبح العجل - بالدجل - جديرا بالألوهية في حين أن نبوة مثلي يقع حولها مائة خلاف ؟
 
2050  ان الغباء دفعك إلى أن تسجد أمام العجل . وغدا عقلك صيدا لسحر السامرىّ .
لقد سرق عينيك من نور ذي الجلال ما أنت عليه من هذا الجهل الوافر ، والضلال الحق ! 
فساء عقلك هذا وساء اختيارك . فمن كان مثلك منجما للجهل فما أجدره بالقتل ! 
لقد أطلق العجل الذهبي خواره ، فماذا قال ، حتى تفتقت لدى الحمقى كل هذه الرغاب ؟
ولقد شهدتهم منى الكثير الذي يفوق ذلك عجبا ، ولكن متى كان كل خسيس يتقبل الحق ؟
 
2055  فما الذي يجتذب أهل الباطل ؟ انه الباطل . وما الذي يروق العاطلين ؟ انه العاطل ! 
ذلك لأن كل جنس يجتذب جنسه . فكيف يتوجه الثور نحو الأسد الضاري .
وأيان يستشعر الذئب عشق يوسف ؟ الا ان كان ذلك عن مكر يعلله بافتراسه .
فان خلص من طباع الذئاب غدا نديما للأسرار ، ككلب أصحاب الكهف الذي بلغ مرتبة البشر .


 
“ 227 “
 
ان أبا بكر - حين تنسم أريج محمد - قال : “ ليس هذا ! الوجه وجه كاذب “ .
 
2060  أما أبو جهل - فهو إذ لم يكن من أصحاب الشجن - فقد رأى انشقاق القمر مائة مرة ، ولم يصدق ! 
فنحن نخفي الحقيقة عن الملتاع ، الذي افتضح أمره “ 1 “ ، لكنها لا تخفي عليه ! 
وأما ذلك الذي يكون جاهلا بها ، بعيدا عن ألم هواها فكثيرا ما يُرشد إليها ، لكنه لا يراها ! 
فيجب أن تكون مرآة القلب صافية ، لتستطيع أن تميز بين ما ينعكس فيها من صور جميلة وأخرى قبيحة .
 
كيف قرر ذلك الرجل الناصح ترك المغتر بالدب
بعد ان بالغ في نصحه
 
ان ذلك المسلم ترك الأبله ، وعاد مسرعا ، وهو يتمتم : “ لا حول ولا قوة الا بالله “ .
 
2065  وقال : “ ما دام اجتهادي في النصح والجدال ، يزيد تولد الأوهام في قلبه ، فقد سدّ سبيل الموعظة والنصح ، والله قد أمرنا بالاعراض عنه “ 2 “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ الذي وقع له من السطح طشت “ ، وهذه العبارة كناية عن الفضيحة .
( 2 ) حرفيا : واتصل بنا أمر “ أعرض عنهم “ وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ فأعرض عنهم وانتظر انهم منتظرون “ . ( السجدة ، 32 : 30 ) .
 
“ 228 “
 
فحين يكون دواؤك مما يزيد الداء ، فادخر القصة لمن يكون راغبا فيها ، واقرأ قوله تعالى :” عَبَسَ وَتَوَلَّى ““ 1 “ .
فلئن جاءك الأعمى طالب حق فليس يجوز أن تجرح قلبه من جراء فقره .
انك - يا محمد - لحريص على رشاد الكبراء وذلك لكي يتعلم العوام من سراتهم .
 
2070  يا أحمد ! لقد رأيت أن جماعة من الأمراء أصغوا إليك ، فسعدت بذلك ،
 لعل هؤلاء الرؤساء يصيرون للدين ولاة مؤيدين ، وهم السادة بين العرب والحبش .
ويتجاوز صيت ذلك البصرة وتبوك ، ذلك لأن الناس على دين الملوك .
ولهذا فقد حوّلت وجهك عن هذا الضرير المهتدى ، وضاق به صدرك .
قائلا : “ ان هذه الفرصة قلما يتاح لها هذا الجو ، وأنت من الأصدقاء وأمامك فسحة من الوقت .
 
2075  ولقد زحمتنى في هذا الوقت الضيق . وانى أسدى لك هذه النصيحة لا عن غضب ولا خصام “ .
يا أحمد ! ان ضريرا واحدا كهذا خير عند الله من مائة قيصر ، ومائة وزير ! 
فلتذكرن أن الناس معادن ، وأن معدنا واحدا خير من مائة ألف !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة عبس ، 80 : 1 - 4 .

 
“ 229 “
 
فمنجم الياقوت والعقيق المستور ، خير من مائة ألف منجم للنحاس ! 
يا أحمد . ان المال هنا ليس بذى جدوى . بل لا بد من صدر ملىء بالعشق والألم والآهات .
 
2080  لقد جاءك أعمى مستنير القلب . فلا تغلق الباب . وابذل له النصح فان النصح من حقه .
فلو أن أبلهين أو ثلاثة أصبحوا لك منكرين ، فكيف تصير مرا ، ما دمت أنت منجم السكر ؟
ولو أن أبلهين أو ثلاثة يلقون عليك التهم ، فان الحق هو شاهدك الذي يؤيدك .
فقال الرسول : انني لست أحفل باقرار الخلق بي . فمن كان الحق له شاهدا فأي غم يعتريه ؟
فلو أن خفاشا وجد ما يلائمه في احدى الشموس فقد قام الدليل على أنها ليست هي الشمس !
 
 2085 فنفرة الخفافيش ( منى ) قد نهضت دليلا على أنى أنا الشمس المشرقة الجليلة .
فلو أن جُعَلا أقبل راغبا على ماء ورد ، فهذا يقوم دليلا على أنه ليس بماء ورد .
ولو أن نقدا زائفا غدا مقبلا على المحك فهذا دليل على أن المحك يتطرق اليه النقص والشك ! واللص يريد الليل ولا يطلب النهار ، فاعلم ذلك . وأنا لست الليل بل أنا النهار الذي يضئ العالم !
 
“ 230 “
 
انني أنا الفارق ، وأنا الفاروق . أنا مثل الغربال ، لا سبيل للقش إلى أن ينفذ خلاله .
 
2090  انني أفصل الدقيق عن النخالة ، فأظهر أن هذه هي القشرة ، وذاك هو اللب “ 1 “ .
فأنا في الدنيا مثل ميزان الخالق ، فأنا أميز بها بين كل خفيف وكل ثقيل .
ان العجل يظن أن الثور هو الاله . فالمشترى ( هنا ) حمار والبضاعة لائقة به “ 2 “ .
وأنا لست بثور ، ولا العجل بمقبل على شرائى . أنا لست شوكا حتى تتخذني الجمال مرعى .
ان الكافر ليظن أنه قد آذاني بالجور ، ولعله لم يعدُ إزاحة الغبار عن مرآتى .
 
كيف تملق أحد المجانين جالينوس
وكيف خاف جالينوس من ذلك
 
2095 قال جالينوس لأصحابه : “ ليعطنى ( واحد منكم ) هذا الصنف من الدواء “ .
فقال له أحد هؤلاء : “ يا صاحب الفنون ! ان هذا الدواء يطلب .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فأظهر ان هذه هي النقوش وذاك هو النفوس “ .
والنقوش رمز لأهل الصورة أما النفوس فهي رمز لأهل المعنى .
( 2 ) أخطا الشراح كثيرا في فهم هذا البيت . والمراد بالمشترى هنا العجل الذي يبحث عن الله ، فيظن أنه الثور . فما دام هذا الباحث غبيا كالحمار ، فهو لم يستطع ان يتصور كائنا أعظم من الثور .
 
“ 231 “
 
من أجل الجنون ! وما أبعد هذا عن عقلك ! فلا تعدالى ذكر هذا “ . فقال جالينوس : “ لقد تطلع أحد المجانين بوجهه نحوى ! ونظر بلطف إلى وجهي برهة من الوقت . وغمز لي بعينه ، وجذب “ 1 “ كمي ! فلو لم يكن لي تجانس معه ، لما كان هذا القبيح الطلعة يتجه بوجهه نحوي .
 
2100 ولو لم يشاهد فيّ جنسه فيكف كان يقبل نحوي ؟ وكيف كان يتعلق بمن لم يكن من جنسه ؟ “ فحين يرتبط شخصان معا ، فليس من شك قط أن شيئا مشتركا يجمعهما .
وكيف يطير طائر مع غير جنسه ؟ ان صحبة غير المجانس معناها القبر واللحد .
 
السبب الذي من اجله طار طائر والتمس الغذاء
مع طائر آخر لم يكن من جنسه
 
قال أحد الحكماء : “ لقد رأيت في برية غرابا ولقلقا يجريان معا .
فبقيت في عجب من ذلك ، وبحثت حاليهما ، لعلى أجد أثرا لما يربط بينهما .
 
2105 وحينما اقتربت منهما حيران متعجبا ، وجدت أن كليهما كان أعرج “ .
.................................................................
( 1 ) فضلنا رواية “ كشيد “ في هذا البيت بدلا من “ دريد “ في نص نيكولسون .

“ 232 “
 
وأي ارتباط للباز الملكي المتسامى إلى العرش ببومة عالقة بمنخفض من الأرض .
فهذا ينتمى إلى الشمس في آفاقها العالية ، وأما تلك فليست الا خفاشا من قرارة سجين ! هذا نور برئ من كل عيب . وأما تلك فعيماء متسولة على كل باب ! هذا قمر يطاول في تعاليه المشترى . وأما تلك فدودة تغوص بين البعر .
 
2110 هذا يوسفىّ المحيا ، عيسوى الأنفاس ، وأما تلك فهي ذئبة أو هي أتان ذات جرس .
هذا قد أصبح محلقا في اللامكان ، وأما تلك فقابعة في الحظائر مثل الكلاب .
ان الورد يقول - بلسان الحال - للجعل : “ أيها النتن الإبط ! لئن كنت تفرّ من بستان الورد ، فليس من شك أن نفرتك علامة على كمال البستان ! ان غيرتى لعصا تضربك فوق رأسك قائلة : “ أيها الخسيس اذهب بعيدا عن هنا !
 
 2115  فإنك لو اختلطت بي أيها الدنىء لوقع الظن بأنك من معدنى .
فالخميلة هي المكان الذي يليق بالبلابل . وخير موطن للجعلان هو المزابل .
فما دام الحق هو الذي صاننى من القذارة فكيف يجوز أنه يرسل الىّ القذارة ؟


“ 233 “
 
لقد كان بي عرق واحد منها ، قطعه الله . فكيف السبيل إلى أن ينفذ الىّ هذا العرق الخسيس ؟
لقد كانت لآدم علامة منذ الأزل ، أن الملائكة - لمكانته - خرّت ساجدة له .
 
2120  وعلامة لآدم أن إبليس لم يسجد له ، قائلا : “ انى أنا الملك وأنا الرئيس “ .
فلو كان إبليس قد سجد له ، لما كان ذلك آدم ، بل كان شخصا سواه ! فسجود كل ملك آدم كان ميزان ( فضله ) ، وكذلك كان جحود كل عدوله برهان ( صدقه ) .
وكما أن اقرار الملك شاهد له ، فكذلك كفران الكلب الخسيس “ 1 “ شاهد له !
 
تتمة قصة اعتماد ذلك المغرور على تملق الدب
 
لقد نام الرجل ، وكان الدب يدفع عنه الذباب . لكن الذباب كان يرجع بعناد .
 
2125  ولقد ذبه بضع مرات عن وجه الشاب ، لكنه سرعان ما كان يعود اليه .
فصار الدب غاضبا من الذباب ، فمضى ، وأخذ من الجبل حجرا غليظا ،
.................................................................
( 1 ) “ الكلب الخسيس “ هنا يقصد به “ إبليس “ .
 
“ 234 “
 
وأحضره معه ، فرأى الذباب قد اتخذ مكانه من جديد فوق وجه الرجل النائم .
فرفع حجر الطاحون هذا ، وضرب به الذباب ، لعل الذباب يتراجع وينصرف .
فجعل الحجر وجه الرجل حطاما . ولقد أعلن هذا المثل للناس جميعا :
 
2130 أن حب الأبله هو - على وجه اليقين - مثل حب الدب . فبغض الأبله محبة ، وأما محبته فهي البغضاء .
وعهده واه خرب ضعيف . وكلامه سمين وأما وفاؤه فنحيف ! ولو أنه أقسم لك فلا تصدقه . فالرجل المعوج الكلام يحنث في القسم .
وما دام كلامه - من غير قسم - كان كذبا ، فلا يخدعنك مكره وقسمه “ 1 “ .
فنفسه هي الحاكمة ، وأما عقله فأسير ! فافترض أنه أقسم مائة ألف مرة على القرآن .
 
2135 فما دام يحنث في العهد - بغير قسم - فهو لو أقسم يحنث أيضا في قسمه .
ذلك لأن نفسه تغدو أكثر ثورة من جراء ذلك ، فإنك قد قيدتها بالقسم العظيم .
……………………................................................
( 1 ) حرفيا : “ فلا تقع في اللبن المخض بمكره وقسمه “ ، أي لا يجعلنك مكره وخداعه ضحية لغشه فتأخذ اللبن المخض منه على أنه حليب .


 
“ 235 “
 
فحين يضع أسير قيدا على الحاكم ، فان الحاكم يحطم القيد ، وينطلق خارجه .
وفي غضب يدق بهذا القيد رأس الأسير ، ويلقى بقسمه في وجهه .
فلتنفض يدك من ( استجابته لقوله تعالى ) :” أَوْفُوا بالْعُقُود ““ 1 “ .
ولا تخاطبه ( بقوله تعالى ) :” احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ““ 2 “ .
 
2140  وأما ذلك الذي يعرف العهد لمن عاهده فإنه يجعل من جسده خيطا ويلتف حول صاحب عهده .
* * *

شرح كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي
 
( 1719 ) لو كان تنزيه الخالق يستند إلى وصفه بأنه ليس بحائك أو ماشابه ذلك من الصفات الجسدية ، فليس هذا بتنزيه . ولا يصدر مثل هذا القول الا عن جاهل .
 
( 1720 - 1760 ) يروى الشاعر في هذه الأبيات قصة عن موسى - عليه السلام - وأحد الرعاة ، توضح التباين في تصور الله بين الراعي ، وبين ذلك النبي المرسل . ثم يتحدث الشاعر بعد ذلك عن مدى مسؤولية الجاهل عن هذا التصور الخاطىء .
وقد وردت في العقد الفريد صورة بسيطة لهذه القصة ، لم يذكر فيها موسى ، ولكن جوهرها مشابه لجوهر قصة موسى والراعي ، كما رواها الشاعر . وفيما يلي نص قصة العقد الفريد .
“ قال الأصمعي : كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته ، وله حمار يرعى حول الصومعة ، فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى ، فرفع يديه إلى السماء ، فقال : لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري ، وما كان يشق علىّ . فهم به نبىّ كان فيهم في ذلك الزمان ، فأوحى الله اليه . دعه ، فإنما أثيب كل انسان على
 
“ 509 “
 
قدر عقله “ . ( العقد الفريد ، 6 ، 164 ) .
وذكر فروزانفر صورا متعددة لهذه القصة من مصادر مختلفة .
( مآخذ قصص وتمثيلات ، 59 - 61 ) .
وقد تناول جلال الدين هذه القصة بأسلوبه الفنى ، فصاغ لها حوارا رائعا ، وأغناها بكثير من الصور .
 
( 1737 - 1739 ) يصف الشاعر في هذه الأبيات الانسان الكامل .
ويقول على لسان موسى : ان مثل هذه الأوصاف الجسدية التي تحدَّث بها الراعي عن الخالق لا تجوز في حق الانسان الكامل ، فهي - من باب أولى - غير جائزة في حق الله ، جل وعلا .
 
( 1737 ) “ العبد الذي قال عنه الحق : انه ذاتي وأنا ذاته “ هو العبد الذي أفنى ذاته في ذات الحق ، فصدق عليه قوله تعالى : “ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى “ . ( 8 : 17 ) .
 
( 1738 ) يتضمن هذا البيت إشارة إلى حديث رواه أبو هريرة عن الرسول . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ ان الله عز وجل يقول يوم القيامة ، يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدنى ! قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده . أما علمت أنك لو عدته لو جدتنى عنده ؟ يا ابن آدم ، استطعمتك فلم تطعمنى ! قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟
قال : أما علمت أنه استطمعك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لو جدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ! قال :
يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟ “ . رواه مسلم .
( النوري : رياض الصالحين ، 369 - 370 ) .
 
( 1739 ) “ بعد ان غدوت له سمعا وبصرا “ : هذه العبارة تتضمن إشارة إلى الحديث القدسي الذي رواه الرسول بقوله : “ يقول الله
 
“ 510 “
 
تعالى : ما زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها ، وسمعه الذي يسمع به ، ويده التي يبطش بها “ .
( السراج : اللمع ، 463 ) .
 
( 1746 ) “ هذا الجانب من النهر “ ، كناية عن عالم الدنيا .
 
( 1752 ) في البيت اقتباس من حديث يَروى عن الرسول قوله :
“ ما خلق الله مباحا أحب اليه من العتاق ، وما خلق الله مباحا أبغض اليه من الطلاق “ . ( المنهج القوى ، 2 : 396 ) .
 
( 1753 - 1754 ) كل مؤمن يعبد ربه ، ولكن درجة الادراك لمعنى العبادة ، وأسلوب التعبير عنها ، يختلف من شخص إلى آخر . فتعبد الرجل الساذج لا يمكن أن يكون شبيها بتعبد النبىّ أو العارف .
 
( 1755 - 1756 ) ذات الخالق منزهة عن كل طهر وتلوث ، فمقاييس الانسان في هذين الأمرين لا تصدق عليها ، كما أن الخالق غنى عن العالمين ، لا حاجة به إلى عبادة الناس . وقد فرض عليهم التكاليف لا لربح ينشده منها ، وانما لتكون سبيل الناس للسمو بأنفسهم ، والوصول إلى درجة الكمال الروحي ، وهذان هما السبيل إلى رضى الله ، وتحقيق السعادة الأبدية .
 
( 1760 ) في هذا البيت يبدو أنت الشاعر يدافع عن أهل الشطح من الصوفية ، الذين
قد ترد على ألسنتهم عبارات منافية لمألوف القول ومعقولة ، ومع ذلك لا يعوز قلوبهم الاخلاص والايمان والخشوع .
 
( 1765 ) يدافع الشاعر هنا عن أهل الشطح من الصوفية . فعنده أن هؤلاء من العشاق الذين تحترق قلوبهم في كل لحظة . فليس يفترض فيهم ما يفترض في أهل الصحو من مراعاة للآداب ، فالعاشق صار - من جراء احتراقه - مثل القرية الخربة ، وهذه لا يفرض عليها خراج ولا عشور .
 
( 1768 ) الصلاة في كل اتجاه جائزة في الكعبة . والتوجه إلى الله ممكن

 
“ 511 “
 
في كل أنجاه ، لأن الله منزه عن المكانية . وكما لا يكون الغواص ، بحاجة إلى ارتداء ما يقيه من الغوص ، فكذلك طالب الوصال لا يتوسل إلى ذلك بما هو من معوّقات الوصال .
 
( 1769 ) سكارى المحبة لا يكون سلوكهم من ذلك اللون التقليدى المعروف ، فهؤلاء لا تلتمس عندهم الهداية التي ينشدها العوام . ومن يَفترض فهيم الاقلاع عن سلوكهم فهو شبيه بمن يطلب إلى من تهلهلت ثيابه أن يقوم برفوها .
 
( 1771 ) افتقار العارف المحب إلى الصور الظاهرية لا ينتقص منه ، كما لا ينتقص من الياقوتة أن تكون مجردة من نقش الخاتم . وإذا كان العاشق غريق بحار الأسى ، فلا ضير عليه من آلام العشق .
 
( 1788 ) “ سدرة المنتهى “ هي نهاية المكانة التي يبلغها الانسان ، في سيره إلى الله تعالى . ( انظر : مثنوى ، 1 ، شرح 1066 ) .
 
( 1790 ) يعتبر الحلاج من أقدم من تحدث عن الناسوت واللاهوت في الاسلام . قال :سبحان من أظهر ناسوتُه * سرّ سنا لا هوته الثاقبوقال : “ اللهم انك المتجلى من كل جهة ، المتخلي عن كل جهة ، بحق قيامك بحقي ، وبحق قيامي بحقك ، وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي ، فان قيامي بحقك ناسوتية ، وقيامك بحقي لا هوتية ، وكما أن ناسوتيتى مستهلكة في لا هو تيتك ، فلا هو ، تيتك مسؤولة عن ناسوتيتى ، غير مماسة لها “ .
وقول جلال الدين - على لسان الراعي - لا يتعدى دعاء الله أن يجعل كيانه الانساني جديرا بأن يكون نجى سرّ الخالق .
 
( 1792 - 1795 ) انتهى حديث الراعي إلى موسى في البيت 1791 .
وعاد الشاعر من جديد إلى سرد آرائه . وقد وقعت شبهات حول تفسير البيتين
 
( 1792 - 1793 ) إذ اعتبرهما بعض الشراح من كلام
“ 512 “
 
الراعي لموسى . والواقع أنهما حديث مباشر من الشاعر ، وهما مرتبطان بالبيتين التاليين لهما . فالشاعر يحذر المتعبدين من الاغترار بما يوجهونه إلى الخالق من مدح وثناء ظانين أنهم بذلك قوة وفوه حقه . فالثناء مهما علا لن يتجاوز ما يفهمه قائله من معنى الكمال . ولهذا فان الانسان يستمد تصورة المثالي من صورة نفسه ، ظانا أن هذا التصوره شئ خارج عن ذاته ، وليس الأمر كذلك . فهو كمن نظر إلى المرآة فرأى صورته ، فحسبها شيئا مختلفا عن ذاته ، أو كمن نفخ في النار ، وحسب الأنغام أمرا منفصلا عن أنفاسه .
 
( 1797 ) المستحاضة ، هي الحائض التي لا ينقطع عنها الدم بعد انقضاء فترة الحيض .
( 1799 - 1800 ) من اليسير التطهر من النجس الذي يصيب ظاهر الانسان ، أما النجس الذي يصيب باطنه فيصعب التطهر منه .
 
[ شرح من بيت 1801 إلى بيت 1950 ]
 
( 1808 ) عبر الشاعر عن اغترار الكافر بحياته الدنيوية ، وحرصه عليها ، بأنه اختار الخروج عن ترابيته ، ثم يقول : انه لو بقي ترابا ، لاستطاع أن يكون كالتراب ، يتلقى الحبة وينمينها . فالخروج عن الترابية يرمز إلى غرور الكافر - في تناسيه أصله - وكذلك يرمز إلى عقمه ، وعجزه عن الأثمار .
 
( 1809 ) ان رحلة الكافر في الحياة الدنيا لم تكن رحلة مثمرة ، ولهذا فقد عاد منها بدون أن يحصل شيئا .
 
( 1811 ) الاعراض عن طريق اليقظة الروحية مبعثه الحرص والطمع ، وأما الانطلاق في هذا السبيل فدافعه الصدق والاخلاص .
 
( 1817 ) “ اعتراض الملائكة “ ، هو القول الذي روى القرآن الكريم أنهم خاطبوا به ربهم حين أخبرهم بخلق آدم . قال تعالى : “ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . . “ . ( 2 : 30 ) .
 
( 1821 ) يريد موسى أن يطمئن بالشهود والعيان ، كما فعل إبراهيم .
قال تعالى : “ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى ، قال
 
“ 513 “
 
أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي “ . ( 2 : 260 ) .
 
( 1823 ) “ لقد كشفت للملائكة سر خلق آدم ، وأظهرت لهم أن مثل هذا المخلوق كان جديرا بأن يُخلق برغم أنه كان عرضة لا رتكاب المعاصي ، فهو قد تحقق بصفات كمالية تفوق ما كان يتوقع أن يقترف من مخالفات “ . وقد رمز الشاعر للروح الآدمي بالشهد ، وأما الجسد فقد رمز له بالابر .
 
( 1824 ) حين عرض الخالق نور آدم على الملائكة تبين لهم ما لم يكونوا يعلمون ، وأدركوا حكمة الله في خلق الانسان .
 
( 1825 ) كل ما بدا للادراك الآدمي سرا غامضا ، يكشفه الله في نهاية الأمر . فهو الذي كشف للملائكة سر خلق آدم . وهو الذي يكشف بالحشر سر الموت ، كما يكشف الثمار عن سر الأوراق .
 
( 1826 ) الموجودات تبدأ بداية متواضعة ، ثم تتجلى بعد ذلك امكاناتها . فالدم والنطفة هما بداية الوجود الانساني . ومن هذه البداية يتشكل الجمال الانساني بصورته ، ثم بمعناه .
 
( 1827 - 1828 ) العلم هو أحد الأمور التي تكون ذات بداية متواضعة . فالعالم يكون - في أول أمره - طفلا يغسل اللوح ليكتب فوقه . وكذلك القلب الانساني ، هو - في بداية أمره - دم ودموع ( أي مجرد حياة حسية عاطفية ) ، ثم ينتهى به الأمر إلى أن يكون موضعا لتجلى الأسرار الإلهية .
 
( 1829 ) لكي يحقق كل عمل امكاناته الكاملة يجب أن يتضح هدفه منذ البداية . فالطفل الذي يغسل اللوح يجب أن يعلم أن ذلك للتعلم ، وليس للعب .
 
( 1830 ) من الواجب أن يبدأ العمل على أساس سليم . فعند الشروع في بناء منزل ، يجب أن يزال من موقعه الأساس القديم ، قبل وضع الأساس الجديد .

 
“ 514 “
 
( 1831 ) للوصول إلى النتيجة المثمرة لا بد من التعب والعناء . لا بد من الحفر ، ورع الطين ، من أجل الوصول إلى الماء .
 
( 1832 - 1833 ) عناء الكد والسعي يكون بغيضا إلى الجهلاء ، الذين لا يدركون عاقبة الأمور . أما العارفون المدركون لتلك العاقبة فالعناء محبب إلى نفوسهم . ان الجلاء شبيهون بالأطفال الذين لا يدركون من إبرة الحجام سوى وخزها . أما العارفون فهم شبيهون بالرجال المدركين لجدوى إبرة الحجام ، ولهذا فإنهم يقبلون عليها راغبين ، ويبذلون في سبيلها المال .
 
( 1834 - 1835 ) كل من أدرك نتيجة الجهد سارع إلى بذله . فهو كالحمال الذي يسابق الآخرين إلى حمل الأثقال ، لأنه يعلم ما يعود عليه من ربح لقاء ذلك . وهكذا البصير بالعواقب . يبذل جهده في هذه الحياة ، لأنه يعلم نتيجة ذلك .
 
( 1842 - 1844 ) من صفت نفسه ، وأصبح ذا بصيرة روحية فهو قادر على ادراك الحقائق من غير حاجة إلى أسباب ومبررات . أما من يعتمد في معارفه على الحواص فهو أسير الأسباب والعلل . وليست تتحقق منزلة الكشف الا لمن تحررت روحه من سلطان المادة . فمثل هذا يكون قادرا على ادراك معجزات الأنبياء ، على أساس حقيقتها الروحية المستمدة من عالم الغيب ، ولا يقف ازاءها موقف أسير الحس ، الذي ينظر إليها نظرة سطحية ، لا تخرج عن نطاق العالم المادي .
 
( 1845 ) “ الأسباب “ قادرة على أن تبين أمورا حسية محدودة ، كما يكون من شفاء المريض بمعالجة الطبيب ، أو إضاءة السراج باشعال الفتيل .
 
( 1846 ) “ ابذل جهدك لتصحيح هذه الأسباب التي تستند إليها في تحصيل المعارف . وكن على يقين أن هناك عرفانا أسمى من كل ذلك ، يشبه نور الشمس ، على حين أن معارف الحس شبيهة بنور السراج “ .

 
“ 515 “
 
( 1847 ) الطين الذي يتكون منه سقف الدار رمز للأسباب التي تُستمد منها معارف الحس . أما سقف السماء فهو رمز لعرفان الروح .
وهذا العرفان منزه عن الأسباب .
 
( 1848 ) “ لقد انقضت خلوة التجلي بما شاع فيها من أنس ، وبزغ صبح الوعي الحسىّ “ .
 
( 1849 ) لا بد للقلب أن يلقى العناء حتى يتحقق له مثل هذا التجلي .
فالبدر لا يتجلى الا في الظلام .
 
( 1850 ) “ نبي الله عيسى وقد امتطى الحمار “ رمز للروح وهي مرتبطة بالجسد . فمن عُنى بجسده وغفل عن روحه شبيه بمن يرعى الحمار ويعرض عن عيسى . فلا جرم أن من يفعل هذا يكون خارج نطاق العرفان .
 
( 1852 ) “ أنين الحمار “ رمز لنداء البدن وهو يلتمس الشهوات .
فمن استجاب لهذا النداء شبيه بمن وقع تحت سيطرة حمار ، لأن البدن في حسيته وتعلقه باللذات شبيه بالحمار .
 
( 1853 ) “ كن رحيما بالروح ، ولا تكن رحيما بالجسد . ولا تتح لغرائزك سبيل التحكم في عقلك “ .
( 1856 ) في البيت إشارة إلى حديث يَروى عن الرسول قوله :
“ أخروهن من حيث أخرهن الله “ . ويقال إن المقصود من هذه الحديث تأخير النساء عن الرجال في صلاة الجماعة ، أي جعلهن في الصفوف الخلفية . وقد فسر الشاعر هذا الحديث تفسيرا رمزيا ، فاعتبر المرأة رمزيا ، للنفس الأمارة بالسوء ، وهذه يجب أن تتنحى جانبا لكي يتقدم عليها العقل .
 
( 1857 ) العقل الوضيع ينحط في تفكيره ، ولا يبقى له نشاط خارج نطاق الحس . وإذ ذاك يصبح شريكا للجسد ، لا هم له الا تحصيل اللذات .
 
( 1858 - 1859 ) لقد تغلبت روح عيسى على جسده وأخضعته ،


“ 516 “
 
فالروح القوية يتضاءل أمامها الجسد .
( 1860 ) الجسد الضعيف يقوى ويتسلط ، حينما يقترن بعقل ضعيف .
 
( 1861 ) “ فلو أن المرشد الروحي قسا عليك وآلمك ، فلا تعرض عنه ، فان هذا الألم هو السبيل الذي تكسب منه روحك قوة ومناعة “ .
 
( 1862 ) ان المرشد العارف يلقى جحودا وحسدا من الناس ، برغم أنه كنز روحي أتيح لهم . فهذه الآلام التي يعانيها العارف شبيهة بالثعبان الذي يحرس الكنز . فهناك خرافة شعبية تؤمن بأن كل كنز لا بد له من ثعبان يحرسه . فكأنما يريد الشاعر أن يقول إن كل مرشد عارف لا بد له أن يقابل بحسد الحاسدين وكيدهم .
 
( 1863 ) المرشد العارف يلقى من الحاقدين والحاسدين ما لقيه عيسى من اليهود ، وما لقيه يوسف من اخوته الحاسدين .
 
( 1865 ) لا فضل عند الحاقدين ذوى الوجوه الصفراء . انهم شبيهون بمرض الصفراء ، لا فضل له سوى ما يحدثه من صداع . وفي الشطر الثاني من البيت تأكيد للدم بما يشبه المدح .
 
( 1866 ) ورد الشطر الثاني من البيت : “ ما نفاق . . . “ بدلا من “ بانفاق . . . “ ، في بعض الروايات . فيكون معنى البيت :
“ فلتفعل أنت ( أيها المرشد ) ما تفعله شمس المشرق . وأما نحن ( أهل الدنيا ) ففعلُنا نفاق واحتيال وسرقة وخداع “ .
 
( 1867 ) “ أنت - أيها المرشد - في تساميك ، واستقامتك في الدين والدنيا ، شبيه بالعسل ، ونحن في سوء أخلاقنا شبيهون بالخلّ .
ولا علاج لعلتنا باقتباسنا من أخلاقك “ .
 
( 1868 ) “ لتزدد - أيها المرشد - فضلا كلما ازددنا نحن سوء خلق ! ذلك لأن سوء خلقنا ناشىء من اعتلالنا ، فنحن في حاجة إلى مزيد من عنايتك وكرمك “ .
 
“ 517 “
 
( 1869 ) “ لئن ساءت أفعالنا فهذا مدى قدرتنا . فالنفس السيئة لا يصدر عنها سوى السوء . وكل ما يصدر عنها من سوء يزيدها خبثا ، كالرمل في العين يزيدها عمى “ .
 
( 1870 ) أفعال المرشد الخيرة جديرة بنفسه الخيرة . انه كالكحل ينير لضعاف النظر أبصارهم . وهو لا يبخل بعونه على أحد ، مهما بلغ هو ان أمره .
 
( 1871 ) الانسان الكامل يكتوى بنار الظالمين ، ومع ذلك لا يحقد عليهم ، بل إنه لا يضن عليهم بالحب والحنان . وهذا ما أثر عن الرسول عندما أصيب في غزوة أحد ، فدعا ربه قائلا : “ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون “ .
 
( 1872 - 1875 ) في هذه الأبيات يصف الشاعر الانسان الكامل .
 
( 1872 ) “ منجم العود “ : العود بطبيعة الحال نبات . فكلمة “ منجم “ هنا استعملت استعمالا مجازيا . وقد ترجمنا بها كلمة “ كان “ الفارسية . ويقصد بمنجم العود منبته أو مصدره .
 
( 1877 ) لم يقف الشاعر عند مفهوم هذا الحديث ، وهو أن عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل ، بل تعدى ذلك إلى بيان النفع الذي يتحقق من عداوة العاقل ، والضرر الذي يحدث من صداقة الجاهل ، فساق قصتين لبيان ذلك : أو لا هما قصة “ الأمير والرجل الذي دخلت في بطنه حية “ . ( الأبيات 1878 - 1930 ) ، والثانية قصة “ الرجل الذي صاحب الدب “ ( البيت 1932 وما يليه ) .
 
( 1878 ) الفارس العاقل في هذه القصة رمز للمرشد الروحي ، أما الرجل النائم فهو رمز للجاهل الغافل .
 
( 1911 - 1913 ) لعل الحديث المشار اليه بهذه الأبيات هو ذلك الذي ذكره صاحب المنهج القوى ( مرويا عن أبي الدرداء ، باخراج الطبراني
 
“ 518 “
 
والحاكم ) ، ونصفه : “ لو تعلمون ما أعلم ، لبكيتم كثيرا ، ولضحكتم قليلا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى ، لا تدرون تنجون أو لا تنجون “ . ( المنهج القوى ، 2 ، 426 ) .
وعن أنس بن مالك أن الرسول عليه السلام خطب فقال : “ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا “ . ( النووي : رياض الصالحين ، ص 209 ) .
 
( 1914 - 1920 ) مضى الشاعر في شرح الحديث ، وتصوير معناه .
وقد أجرى هذا الشرح على لسان الرسول ، لتقريب المعنى إلى أفهام سامعيه .
 
( 1916 ) مما يكثر ذكره في كتب الصوفية أن الرسول عرف الأولياء الذين جاءوا بعده ، وأنه كان يظهر لهم ويخاطبهم . وهم كثيرا ما ينسبون إلى الرسول أقوالا ، يذكرون أنه حدث بها هؤلاء الأولياء . ولهذا لا يستغرب أن ينسب اليه معرفة أبى بكر الربابى ، وما اشتهر به من طول الصمت .
أما قوله : “ وهأنذا أضرب الحديد بيدي مثل داوود “ ، فمعناه :
“ وهأنذا ألين تلك القلوب القاسية ، وأسعى إلى تغييرها ، كما كان داوود يصنع بالحديد “ .
 
( 1920 ) معجزة شق القمر أظهرت - فوق السماء - ما كان ليد الرسول من المقدرة .
 
( 1921 ) قول الشاعر : “ وهذه الصفة أيضا هي من جراء ضعف العقول “ ، يمكن أن يفهم على وجهين ، حسب تفسيرنا لما أراده الشاعر بكلمة “ الصفة “ . فربما كان المقصود بهذه الصفة لزوم الصمت حتى لا يخطئ ضعاف العقول فهم المعاني . وربما كان المقصود بها الحديث عن قدرة الله بأسلوب تمثيلى ، ينسب إلى الله اليد ، وغيرها من الأعضاء .
 
“ 519 “
 
( 1926 ) انظر التعليق على البيت 1871 .
 
( 1932 ) يبدأ الشاعر هنا حكاية معروفة هي حكاية الدب الذي قتل صاحبه . ( انظر : تعليقات نيكولسون ، وانظر أيضا : فروزانفر :
مآخذ قصص ، 62 ) .
 
( 1938 ) الرجل الشجاع لا يهدف إلى نفع من وراء أعماله الخيرة ، وليس له من دافع ولا هدف سوى المحبة . انه كالدوا ، لا غاية له سوى إزالة المرض .
 
( 1943 ) “ هتاف الأفلاك “ : كان المعتقد في زمن الشاعر أن للأفلاك أنغاما وألحانا . والنص التالي - وهو من رسائل اخوان الصفاء - يوضح لنا هذا المفهوم :
“ ولما كانت الأفلاك دائرات ، والكواكب والنجوم متحركات ، وجب أن يكون لها أصوات ونغمات . ولما كانت مستوية في نظامها ، محفوظة عليها صورة تمامها وكمالها ، وجب أن تكون حركاتها منفصلة ، وأصواتها متصلة ، وأقسامها معتدلة ، ونغماتها لذيذة ، وألحانها بديعة ، ومقالتها تسبيحا وتقديسا وتكبيرا ، وتهليلا تفرح له نفوس المستعمين لها ، والحافين بها من الملائكة والنفوس التي تقدم عليها ، وتصعد إليها . وتلك الحركات والأصوات هي مكيال الدهور والأزمان التي بها يحكم على عالمها بالبقاء من حيث هي . . . وقد استمعتها النفوس وهي في عالم الكون والفساد ، فتذكرت بها عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك ، من فسحة الجنان ، وروضة الريحان ، وعلمت أنها في أحسن الأحوال ، وأطيب اللذات ، وأتم الأشكال وأدوم السرور . . “ . ( رسائل اخوان الصفاء : 3 ، 90 - 91 ) .
 
( 1944 ) “ نزه بصرك وبصيرتك عن الحسية ، والتعلق بالمادة ، وإذ ذاك تستطيع شهود حديقة الغيب “ .
 
( 1946 ) “ خلِّص كيانك من علل الحس وأمراضه ، لأن هذه الأمراض تعوقك عن تذوق حلاوة العرفان الروحي “ .

 
“ 520 “
 
( 1947 ) “ الرجولة “ هنا رمز لقوة الروح وانطلاقها ، و “ العنة “ رمز لضعفها وتراخيها . والشاعر يدعو إلى تقوية الروح حتى تصبح بقوتها وتحررها مجلى للشهود ، وما يكشفه من ألوان الحسن والجمال .
 
( 1949 ) “ الفلك العتيق “ ، هو عالم الحس الذي يؤول إلى بلى وفناء .
 
[ شرح من بيت 1950 إلى بيت 2100 ]
 
( 1951 ) قول الشاعر : “ فالنواح والبكاء ذخيرة عظيمة “ ، يعنى أن دموع الندم والخوف هما من أسباب رحمة الله وغفرانه .
 
( 1956 ) “ ان لكم في السماء أرزاقا روحية عظيمة ، فلماذا تشبثتم بعالم الحس الوضيع ؟ “ .
 
( 1957 ) “ صوت الغول “ رمز للضلال . فالخوف واليأس يبعدان المرء عن سلوك سبيل اليقظة الروحية ، ويقودانه إلى الهلاك ، كما تفعل الغول بالمسافرين في البيداء .
 
( 1959 ) “ صوت الذئب “ هو نداء الحرص والشهوات الحسية .
 
( 1980 - 1982 ) السامري : ( انظر : مثنوى ، ج 1 ، البيت 2258 ، وشرحه ) .
 
( 1987 ) قول الشاعر : “ انه أنت فابحث عن ذاتك فيه “ ، يعنى :
أن المرشد بمثاليته وتساميه يمثل حقيقة جوهرك ، فاطلب عنده تلك الحقيقة .
 
( 1988 ) “ فان أعرضت عن المرشدين العارفين ، فأنت أسير الحرص والطمع ، ومآلك إلى هلاك محقق ، كما كان مآل ذلك الدب بين فكى التنين “ .
 
( 1993 ) بدأ الشاعر في هذه البيت قصة قصيرة ، هي حكاية السائل الأعمى . وقد وردت هذه القصة في محاضرات الراغب الأصفهاني على الوجه التالي :
“ كان أعمى يقول : ارحموا ذا الزمانتين ، فقيل : ما هما ؟

 
“ 521 “
 
قال العمى ، وقبح الصوت . أما سمعتم :فبى عيبان ان عدا * فخير منهما الموت
فقير ما له قدر * وأعمى ما له صوتكما وردت بصورة مشابهة لهذه في شرح نهج البلاغة ، نقلا عن الجاحظ . ( انظر : فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 65 ) .
 
( 2006 ) “ قبيح الصوت الذي يكون ثملا بدم الخلق “ هو من يجيز لنفسه قذف الأعراض ، ويتناول بالسوء سيرة الخلق .
 
( 2009 ) الجرح القديم لا سبيل إلى مداواته الا بالكى . والنفس الموغلة في الآثام والخطايا هي في أمس الحاجة إلى مثل هذا العلاج القاسى .
 
( 2010 ) في الأبيات التالية يصور الشاعر ذلك الرجل الذي أنقذ الدب وكأنه شخص عنيد أبله . ولا تناقض بين هذه الصورة ، وبين ما سبق وصفه به من الشجاعة والنجدة . فهذا الرجل الشجاع ، كانت تنقصه اليقظة الروحية ، وسلامة الادراك ، ولهذا فان شجاعته لم تنقذه من المصير الذي ينتظر أمثاله .
 
( 2023 ) قول الشاعر : “ انني مؤمن وقد أصبحت ناظرا بنور الله “ ، يتضمن اقتباسا من حديث يروى عن الرسول قوله : “ اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله “ . ( انظر : المثنوى ، 1 ، البيت 1331 وشرحه ) . أما قوله : “ اهرب من بيت النار هذا “ ، فمعناه : “ دع عنك محبة الدب - ( وهي هنا رمز لصداقة الأبله ) - لأنها شبيهة بعبادة النار “ .
 
( 2040 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون “ . ( 2 : 50 ) .
 
( 2041 ) في البيت إشارة لبعض معجزات موسى التي ورد ذكرها في القرآن الكريم . قال تعالى : “ وأنزلنا عليكم المن والسلوى “ .
( 2 : 57 ) . وقال : “ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك
 
“ 522 “
 
الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم “ .
( 2 : 60 ) .
 
( 2044 ) في هذا البيت يعاتب موسى عابد العجل ذلك الذي شك فيما أظهره موسى من معجزات عظيمة ، على حين أنه خر ساجدا عندما سمع صوت العجل . فكأن صوت العجل طوفان جرف إلى نفسه الأوهام ، وكل ما ثار عنده من شكوك حول الدين والايمان ، وكأنما عقل هذا الكافر المخالف قد غلبه نوم الغفلة ، فلم تبق له أية مقدرة على التفكير .
( 2047 ) السامرىّ : ( انظر : المثنوى ، 1 ، البيت 2258 وشرحه ) .
 
( 2068 - 2075 ) في هذه الأبيات تعبير عن قصة معروفة ، رويت على أنها سبب لنزول سورة “ عبس “ ، وأوردها صاحب الكشاف على الوجه التالي :
“ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ( الأعمى ) . .
وكان عنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الاسلام ، رجاء أن يسلم باسلامهم غيرهم . فقال :
يا رسول الله ، اقرئنى وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت “ عبس وتولى “ . فكان رسول الله يكرمه ويقول إذا رآه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربى . ويقول : هل لك من حاجة “ .
( الزمخشري : تفسير الكشاف : 4 ، 700 - 701 ) .
 
( 2071 ) الحبش : من الواضح أن المقصود بهذه الكلمة تلك الجماعة التي كانت تعرف “ بأحابيش قريش “ . وهناك خلاف حول تفسير كلمة أحابيش ، فقد فهمها البعض على أنها تعنى عبيدا من الحبشة ، ولكن نصوصا تاريخية متعددة بينت أنهم كانوا جماعات تنتمى إلى بعض
 
“ 523 “
 
القبائل العربية ، وكانت قريش تستخدم هذه الجماعات في حراسة قوافلها التجارية ، فكأنهم كانوا لها بمثابة الحلفاء . ( انظر : عبد الحميد العبادي : أحابيش قريش ، هل كانوا عربا أو حبشا ؟ بحث في مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة ، مايو 1932 ) .
 
( 2072 ) “ بصره “ تمثل في هذا البيت مشكلة تاريخية . فإن كان المقصود بها مدينة البصرة العراقية ، فإنها لم تنشأ الا بعد وفاة الرسول ببضع سنوات . واجتماع الرسول بصناديد قريش كان قبل الهجرة ، فمعنى ذلك أن هذه المدينة قد ذكرت في قصة جرت وقائعها قبل بناء هذه المدينة بنحو خمسة عشر عاما . فهل هذا خطأ تاريخي وقع فيه الشاعر ؟ أم أن المقصود مدينة بُصرى ، “ من أعمال دمشق ، وهي قصبة حوران “ “ 1 “ والتي يصفها ياقوت بأنها “ مشهورة عند العرب قديما وحديثا “ ، وقد فتحها العرب عام 13 ه . ومما يساعد على مثل هذا التفسير أنها اقترنت في ذكرها هنا بتبوك “ وهي أيضا من أرض الشام “ توجه إليها النبي عليه السلام في عام تسمع للهجرة - وهي آخر غزواته - ولما وصلها وجد أن من تجمع فيها من الروم وبعض القبائل العربية قد تفرقوا “ 2 “ .
وربما كان ذكر الشاعر للبصرة هنا مبنيا على استبعاد عنصر الزمن في مثل هذا المقام . فالأبيات تعبر عن تفسير عتاب الخالق لرسوله ، كما ورد في سورة “ عبس “ . ويكون المراد بذكر البصرة هنا الموقع الذي قامت عليه هذه المدينة . . بعد فتح العراق .
ومما روى عن علي بن أبي طالب أن الرسول ذكر البصرة ، وتنبأ بحدوث موقعة الجمل . قال : “ سمعت رسول الله يقول : تفتح أرض
.................................................................
( 1 ) ياقوت : معجم البلدان ، مادة بصرى .
( 2 ) المصدر السابق : مادة تبوك .
 
“ 524 “
 
يقال لها البصرة “ 1 “ . . الخ “ . وهذا الخبر - برغم ما يمكن أن يوجه اليه من النقد - يشيع أن الرسول ذكر البصرة ، وتنبأ بما يحدث فيها .
ومما له مغزاه أن هذا الخبر مذكور في معجم البلدان لياقوت . وهذا المؤلف - مثل جلال الدين - من رجال القرآن السابع ، كما أنه جمع الكثير من معلوماته في ذات المنطقة التي عاش بها جلال الدين .
 
( 2077 ) روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال : “ الناس معادن كمعادن الذهب والقضة “ . ( المنهج القوى : 2 ، 452 ) .
 
( 2086 ) “ الجعل “ حشرة صغيرة تقبل على الروائح الكريهة ، وتنفر من الروائح الطيبة .
 
( 2090 ) “ انني أمير بين أهل الصورة وبين أهل المعنى “ .
 
( 2095 - 2102 ) رويت هذه القصة في مصادر أخرى بشئ من الاختلاف عن رواية جلال الدين . فقد ذكرها ابن حزم في طوق الحمامة ، وهي في روايته تدور حول أبقراط . وذكرها صاحب قابوس نامه ، وروايته أشبه برواية جلال الدين ، الا أن بطلها هو محمد بن زكريا الرازي ، وليس جالينوس . ( انظر : تعليقات نيكولسون ، وانظر أيضا :
فروزانفر : مآخذ قصص ، 66 ) .
 
[ شرح من بيت 2100 إلى بيت 2250 ]
 
( 2103 - 2105 ) تناول الغزالي المعنى الذي عبرت عنه هذه الأبيات على الوجه التالي : “ وكان مالك بن دينار يقول : لا يتفق اثنان في عشرة الا في أحدهما وصف من الآخر ، وأن أجناس الناس كأجناس الطير ، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران الا وبينهما مناسبة . قال :
فرأى يوما غرابا مع حمامة ، فعجب من ذلك فقال : اتفقا وليسا من شكل واحد ، ثم طارا ، فإذا هما أعرجان “ . ( انظر : فروزانفر ، مآخذ قصص ، 66 ) .\
.................................................................
( 1 ) المصدر السابق : 1 ، 436 .

“ 525 “
 
( 2107 ) سجِّين : هذه الكملة تعنى هنا الجحيم . ( انظر :
المثنوى : 1 ، 640 ) .
 
( 2118 ) “ الورد “ في الأبيات السابقة رمز لأهل الكمال .
والشاعر - في هذا البيت - يقول : “ لقد خلصت من الحسية خلاصا كاملا ، وكانت بي آثار منها . فالله - الذي طهرني منها - لن يرجعها الىّ “ .
 
( 2135 - 2136 ) عبر الشاعر عن مثاليته الخلقية بقوله : ان من لا يتقيد بعهده ، فإنه لا يتقيد بقسمه . ويمضى في تحليل هذه الفكرة على أساس نفسي فيقول : ان القسم يكون بمثابة قيد فرض عليه ، وهذا القيد يجعل نفسه الحسية أكثر ميلا إلى الثورة على العهد ، والتخلي عنه .
 
( 2137 - 2138 ) “ الأسير “ في هذين البيتين رمز للعقل ، و “ الحاكم “ رمز للنفس الحسية . فالانسان المتعلق بشهوات الحس ولذاته تحكمة نفسه الحسية . فإذا حاول عقله أن يقيد هذه النفس بقسم أو عهد كان بمثابة أسير وضع قيدا على حاكمه . والحاكم لا يبقى في القيد بل ينطلق منه ، ثم يحطم عبده الذي قيده . وهكذا النفس الطاغية ، ما لم تهذب فان العقل لا يستطيع السيطرة عليها بأية صورة ، ولئن حاول أن يحد من طغيانها عن طريق الزامها بالعهود ، كان ذلك مدعاة لازدياد ثورتها واندفاعها .
 
( 2140 ) قول الشاعر : “ يجعل من جسده خيطا ، ويلتف حول صاحب عهده “ ، يعنى أنه يرهق جسده في الوفاء بالعهد لمن عاهده ، ولا يحيد قط عن دائرة الوفاء له .

* * * 
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: