الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

06 - كيف امتحن الملك هذين الغلامين الذين كان قد اشتراهما .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

06 - كيف امتحن الملك هذين الغلامين الذين كان قد اشتراهما .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

06 - كيف امتحن الملك هذين الغلامين الذين كان قد اشتراهما .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف امتحن الملك هذين الغلامين
الذين كان قد اشتراهما قبل فترة وجيزة
 
ان الملك اشترى غلامين فاضلين ثم أخذ يكلم أحدهما ، ويسمتع اليه .
فوجده ذكىّ القلب ، حلو الجواب . وما الذي ينبع من الشفة السكرية ؟ انه السكر المذاب !
 
 845  فالمرء مخبوء وراء لسانه . وما هذا اللسان الا الستار الذي يحجب بهو الروح .
فإذا ما عصفت الريح بهذا الستار ، تجلى لنا ما كمن في صحن الدار .
وهل بها جوهر أو قمح ، أو كنز من الذهب ؟ أم أنها مثوى للحيات والعقارب ؟
 
“ 114 “
 
أم أن بها كنزا والى جانبه ثعبان ؟ ذلك لأن كنز الذهب لا يكون بدون حارس .
لقد كان هذا الفتى يلقى الكلام بدون تأمل . مثلما يلقيه سواه إذا تأمل خمسمائة مرة .
 
850  فكأنما كان في باطنه بحر ، وهذا البحر كله كان يقذف بالجوهر !
وكأنما نو ركل جوهرة انبثقت منه كان فرقانا بين الحق والباطل ! 
وهكذا نور الفرقان بالنسبة لنا . انه يفصل الحق عن الباطل ذرة ذرة .
ولقد صار نور الجوهر نورا لأعيننا . فكان منا السؤال وكذلك كان منا الجواب .
فان نظرت بعين حولاء رأيت القمر قمرين . فهذا النظر المشتبه مثل السؤال .
 
855  فسدد بصرك نحو القمر ، لتراه واحدا ، وهذا هو الجواب .
وقل لفكر : “ لا تكن منحرف الابصار ، بل أحسن التأمل ! “ فالفكر هو شعاع ذلك الجوهر .
فكل جواب دخل إلى القلب عن طريق الأذن تقول لك عنه العين :
“ دعك من هذا ، واستمع الىّ ! “ فالأذن سوقية ، وأما العين فأهل للوصال . 
العين من أصحاب الحال ، وأما الأذن فمن أهل المقال .
وفي استماع الاذن تبديل الصفات . وأما شهود العين ففيه تبديل الذات !
 
“ 115 “
 
860  فلو أن علمك بالنار أصبح يقينا من قول ( سمعته عنها ) فأولى بك أن تصلاها لا أن تلزم هذا اليقين .
فما لم تحترق فإنك لن تعاين اليقين . وان أردت اليقين فاجلس في صميم النار ! 
والأذن حين تكون متفتحة تغدو عينا . والا فان الذكر يغدو بها ملتويا ، غامضا .
وليس لهذا الحديث نهاية ، فلتعد لنرى ماذا كان من أمر الملك مع غلمانه .
 
كيف صرف الملك واحدا من غلاميه وسائل الآخر
 
ان الملك - حين رأى هذا الغلام من أهل الذكاء - أشار إلى الغلام الآخر أن يقدم نحوه .
 
865  وليس ذكرى الغلام بكاف “ 1 “ الرحمة تصغيرا له : فقول الجَد :
“ يا بنىّ “ ليس من قبيل التحقير .
وحين مثل ذلك الغلام الآخر أمام الملك ، كان نتن الفم أسود الأسنان .
ومع أن الملك قد ضاق بأنفاسه النتنة ، فإنه أخذ يستجلى خفىّ أسراره .
فقال له : “ نظرا لما أنت عليه من شكل ( زرىّ ) ، وخبث أنفاس ، اجلس بعيدا ، ولكن لا تنصرف !
.................................................................
( 1 ) أشار الشاعر إلى الغلام في البيت السابق بكلمة “ غلامك “ والكاف التي تلحق بآخر الفارسية تفيد التصغير أو الرثاء .

“ 116 “
 
فإنك لي كاتب ومحرر ، وليست لي جليسا وصاحبا ورفيقا .
 
870  وانى لمحدث علاجا لفمك هذا ، فأنت لي حبيب ، وأنا لك خير طبيب .
فليس بلائق أن يحرق بساط جديد من جراء برغوث ، فهذا منك اغلاق للعين .
فمهما يكن فلتجلس ولتحدثنا بقصتين أو ثلاثا ، حتى نرى بجلاء صورة عقلك “ .
ثم صرف غلامه الذكي الذي ما يشغله . . . إلى حمام . وأمره بأن ينطف جسده .
ثم قال للغلام الآخر : “ وأنت يأها الذكىّ . انك بحق مائة غلام ، لا غلام واحد !
 
 875  انك لست كما اظهرك لنا رفيقك هذا ! فهذا الحسود قد . جعلنا نلقاك بيرود !
لقد قال عنك انك لص ، منحرف سىء السيرة خسيس عديم الرجولة ، إلى غير ذلك من الصفات “ .
فقال الغلام : “ لقد كان دائما صادق القول . وانى لم أر مثيلا له في صدق القول !
 وصدق القول خلق راسخ في جبلته . فهما يكن من قوله فليس بخال من الصدق .
ولست أعلم اعوجاجا عند هذا النزيه الفكر . بل انى ازاءه لأتهم ذاتي !
 
 880  فلعله يرى بي عيوبا لا أراها أنا في ذاتي ، أيها المليك ! “ .


“ 117 “
 
وكل من أبصر عيوبه قبل عيوب الآخرين ، كيف يبقى لاهيا عن اصلاح ذاته ؟
فهؤلاء الخلق غافلون عن أنفسهم ، أيها الوالد . فلا جرم أن كلا منهم مشغول بعيب سواه .
انني - أيها السمنى - لا أرى وجهي ، بل أرى وجهك وأنت ترى وجهي .
وأما ذلك الشخص الذي يرى وجه ذاته ، فنوره أجلى من نور مخلوقات الله !
 
 885  فان يمت فابصار يظل باقيا ، ذلك لأن بصره يكون بصر الخالق .
فليس من الحس ذلك النور الذي يبصر به وجه ذاته ماثلا أمامه .
قال الملك : “ الآن فلتذكر لي عيوب رفيقك ولتفعل مثلما فعل حين حدثني بعيوبك .
وذلك لأعلم أنك رؤوف بي ، وأنك أمين على ملكي وأعمالى “ .
فقال الغلام : “ أيها الملك . انى ذاكر لك عيوبه ، مع أنه بالنسبة لي نعم الرفيق !
 
890 ان عيوبه هي الحب والوفاء والرجولة ! عيوبه هي الصدق والذكاء والوفاق ! 
شو أقل عيوبه الجود والانصاف ، ذلك الجود الذي لا يضنّ حتى بالروح .
ان الخالق هو الذي أبدع الألوف من الأرواح ، فأىّ جود يكون عند من لم يبصر ذلك ؟
فان أبصرها فمتى كان يبخل بالروح ؟ وكيف كان يغتم حزنا على روح واحد ؟
 
“ 118 “
 
ان الذي يبخل بالماء عند شاطىء النهر ، هو ذلك الذي لا يبصر الماء في النهر .
 
895  ولقد قال الرسول : ان المرء لو علم علم اليقين ما يكون له من جزاء يوم الدين ، 
وأنه يُجزى عن كل حسنة بعشرة أمثالها “ 1 “ ، لا نبعث منه في كل لحظة جود جديد “ 2 “ .
ان الجود جمعيه منبعث من رؤية الجزاء ، فادراك الجزاء اذن مضاد للخوف ( والحرص ) .
وأما البخل فهو عجز عن ابصار الجزاء . ان رؤية الدر هي التي تسعد الغواص .
وعلى هذا فان العالم ليس فيه من هو بخيل ، فان أحدا لا يقامر بشئ لا يرجو له بديلا .
 
900  فالسخاء يأتي من العين لا من اليد . والرؤية هي التي تنفع ، وليس بناج سوى البصير .
“ ( ولرفيقى ) عيب آخر هو أنه برئ من الغرور . وهو دائم البحث عن العيب في كيانه الذاتي .
انه دائما يعيب ذاته ويتقصى عيوبها . وكان دائما رحيما بجميع الناس قاسيا على نفسه “ .
فقال الملك : “ كفاك مغالاة في مدح رفيقك ! ولا تمتدح ذاتك في سياق مدحك إياه !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الأنعام ، 6 : 160 .
( 2 ) لم أعثر على نص الحديث الذي يشير اليه الشاعر .

“ 119 “
 
فلسوف أضعه موضع الاختبار ، ولربما يعتريك الخجل من جراء ذلك “ .
 
كيف اقسم الغلام لطهر ظنه على صدق رفيقه ووفائه
 
905  فقال الغلام : “ لا وربىّ ! أقسم بالله العظيم ، مالك الملك الرحمن الرحيم .
ذلك الاله الذي أرسل الأنبياء ، لا لحاجة يبتغيها ، بل بفضل وكبرياء .
ذلك الا له الذي خلق من التراب الذليل فرسانا مغاوير ! 
وطهرهم من مزاج أبناء التراب ، وجعلهم يرتقون فوق عوالم الأفلاك ! 
والذي خلق النور الصافي مجردا من النار ، فإذا به يتفوق على كافة الأنوار ،
 
 910  ذلك النور البارق الذي أشرق على الأرواح ، فإذا بآدم يقتبس منه العرفان .
وقد حصدت يد شيث ما أنبته آدم ، فلما رأى آدم ذلك أسند اليه خلافته .
ونوح أيضا كان بتلك الجوهرة جديرا ، فكم كان يمطر الدر في جواء بحر الروح ! 
وروح إبراهيم قد حفلت بتلك الأنوار الهائلة فخاضت لهيب النيران بدون خوف أو حذر .


“ 120 “
 
وإسماعيل - إذ كان قد ارتمى في مجرى هذه الأنوار - أسلم رأسه إلى النصل البارق ( في كف أبيه ) .
 
915  وروح داوود حميت بشعاع تلك الأنوار ، فلان الحديد في يده ، وكانت في النسيج صناعا “ 1 “ .
وسليمان إذ شب على وصال تلك الأنوار ، أصبحت الجن طائعة له ، عبيدا لأمر .
ويعقوب إذ أسلم للقضاء رأسه ، رد لعينيه النور بشذى ولده ! 
ويوسف البدري المحيا حين رأى تلك الشمس ، أصبح هكذا يقظ الفؤاد في تعبير الرؤيا .
والعصا حين شربت الماء من كف موسى بلعت في لقمة واحدة ملك فرعون !
 
 920  وعيسى بن مريم حين وجد سلما إلى هذه الأنوار ، سارع إلى أفق السماء الرابعة .
وحين تحقق لمحمد ذلك الملك والنعيم ، شق في لحظة قرص القمر نصفين .
وأبو بكر حين صار آية للتوفيق ، أصبح صاحبا لمثل هذا المليك ، وصديقا .
وحينما أصبح عمر ثملا بهذا المعشوق غدا مثل القلب فاروقا بين الحق والباطل .
وعثمان إذ أصبح شاهدا لهذا العيان ، غدا نورا فياضا ، وسمى بذى النورين .
.................................................................
( 1 ) إشارة إلى براعة داوود في صناعة الدروع من زرد الحديد .
 
“ 121 “
 
925  والمرتضى ( علىّ ) حين أصبح - بفضل شهود محياه - بالغ الجود “ 1 “ ، صار في مرج الروح أسد الله .
والجنيد حين رأى من جنده ذلك المدد ، أضحت مقاماته أكثر من أن تعدّ .
وبايزيد قد أبصر الطريق بمزيد ( عرفانه ) ، فأسماه الحق بقطب العارفين ! 
وحينما أصبح الكرخي حارسا لمدينته ، صار خليقة العشق وغدا ربانىّ الأنفاس .
وابن أدهم ساق مركبه سعيدا نحو هذا الجانب ، فأصبح لسلاطين العدل سلطانا .
 
930  وشقيق حين شق ذلك الطريق العظيم ، صار شمس الرأي وغدا حديد البصر .
وما أكثر من احتجب عنا من هؤلاء الملوك ، مع أنهم من ذوى المقامات العالية ، في ذلك العالم الروحي ! 
ولقد حجبت غيرة الحق أسماء هؤلاء ، ولهذا فان أهل الفاقة الروحية لا يهتفون بتلك الأسماء .
فبحق ذلك النور ، وبحق هؤلاء النورانيين ، الذين هم كالأسماك في هذا البحر . . .
هذا البحر الذي لو أسميته “ بحر الروح “ أو “ روح البحر “ ما وفيته حقه . وانى لملتمس له اسما جديدا !
 
 935  بل بحق من أخرج إلى الوجود هذا وذاك ومن تكون الألباب
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ ناثر الدر “ .
 
“ 122 “
 
بالنسبة اليه مثل القشور . . .
ان صفات رفيقي وصديقي هذا ، أفضل مائة مرة مما أقوله عنها !
 بل إن ما اعرفه عن وصف ذلك النديم ، لن يتسنى لك تصديقه ، ان ذكرته لك أيها الكريم “ .
فقال الملك : “ الام تحدثني بهذه الصفة أو تلك من صفات رفيقك ؟ ألا فلتحدثنى الآن عن نفسك .
ماذا تملك ، وماذا حصَّلت ؟ وأي درّ قد جلبته من أعمال البحر ؟
 
940  ففي يوم الموت يغدو حسُّك هذا باطل فهل لدى روحك نور يكون رفيقا لقلبك .
وحين يملا التراب في اللحد هاتين العينين ، هل لديك ما ينير لك القبر ؟
وحينما تتمزق يداك وقدماك . أتكون لك قوادم وخوالف تحلق بها روحك ؟
فما دام هذا الروح الحيواني لا يبقى لك ، فمن الواجب أن ترسى كيان روحك الباقي .
والشرط في قوله تعالى :” مَنْ جاءَ بالْحَسَنَة “ *” 1 “ ليس الفعل في ذاته ، بل هو تقديم الفعل إلى الله .
 
945  وهل لديك جوهر انسان أو حمار ؟ وكيف تحمل هذه الأعراض الفانية ( إلى الخالق ) ؟
فهذه الأعراض من صلاة وصيام ، ما دامت لا تبقى زمانين فقد انتفت .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الأنعام ، 6 : 160 .

 
“ 123 “
 
فلست بمستطيع ان تنقل الأعراض ، لكنها تنقى الجوهر من الأمراض .
فيتبدل الجواهر بهذه الأعراض ، كما تزول بالحمية الأمراض .
وان عرض الحمية ليغدو بالجهد جوهرا ، كما يغدو الفم المر بالحمية حلوا كالشهد .
 
950  فالزراعة تجعل من التراب سنابل . ودواء الشعر يجعل من الشعر سلاسل .
ونكاح المرأة كان عرضا وقد انتهى ولكن جوهر الأبناء قد تحقق لنا عن طريقة .
وتزاوج الخيل والجمال ليس الا عرضا ، والغزض منه انجاب الصغار ، وهذا هو الجوهر .
وزراعة البستان أيضا هي عرض ، وأما الجوهر فحصاد البستان ، وهذا هو الهدف .
واعلم أن ممارسة الكيمياء لون من الأعراض ، فإذا تحقق منها جوهر فحصله .
 
955  والصقل أيضا عرض ، أيها الكريم ! ومن هذا العرض يتولد الجوهر صافيا .
فلا تقل : “ انني قد قدمت أعمالا “ ، بل أظهر حصاد هذه الأعراض ، ولا تحد عن ذلك .
فهذه الأعمال الموصوفة عرض ، فالزم الصمت ، ولا تذبح ظل العنزة لتقدمه قربانا !
 “ فقال الغلام : “ أيها الملك ! ان قولك بامتناع نقل الأعراض لا يحقق الا قنوط العقل .


“ 124 “
 
أيها الملك .
ان كانت الأعراض التي ذهبت لا تعود ، فليس أمام العبد الا اليأس .
 
960  فلو لم يكن اللأعراض انتقال وحشر ، فما الأفعال الا باطل وما الأقوال الا هراء “ 1 “ 
ان هذه الأعراض تنقل ولكن بلون آخر . وحشر كل فان يكون بصورة مختلفة .
ونقل كل شئ يكون على ما يليق به . وليس يلائم القطيع الا سائقه .
فلكل عرض صورة في يوم الحشر . وصورة كل عرض لها دورها ( في الظهور ) .
وانظر إلى ذاتك . أولم تكن أنت أيضا عرضا ؟ أولم يكن كذلك الميل إلى النكاح ، ثم النكاح بما ينطوى عليه من غرض ؟
 
965  وانظر إلى تلك الديار والقصور . ألم تكن هذه في ذهن المهندس خيالا ؟
فهذه الدار التي نراها جميلة ، متوازنة الصفة والسقف والباب ، 
كانت عند المهندس خيالا عارضا ، وفكرا جَلَب من أصحاب الحرف الآلة والعمد .
وما أصل كل حرفة وأساسها ؟ انه ليس سوى خيال ووهم عارض وتفكر .
فانظر بتجرد إلى جملة أجزاء العالم . وانظر كيف أنها لم تتحقق الا من العرض .
.................................................................
( 1 ) استعمل الشاعر هنا كلمة “ فشر “ ، وهي شائعة في اللهجة المصرية الحديثة .


“ 125 “
 
970  فما كان في أول الأمر فكرا أصبح في النهاية عملا . واعلم أن بناء العالم جاء على هذا النحو منذ الأزل .
فالثمار تكون أول الأمر فكرا بالفؤاد ، لكنها - من الوجهة العملية - تظهر في النهاية .
فأنت حين عملت وغرست الأشجار ، كنت تطالع في الحرف الأول نهاية قصتك .
ومع أن أول الشجرة أصل وأغصالن وأوراق ، فهذه كلها مرسلة من أجل الثمار .
فالسر الذي كان لباب هذه الأفلاك، أسفر في النهاية عن سيد حديث “ لولاك “ "1".
 
975  فهذا البحث والمقال لنقل الأعراض . وهكذا أيضا هذه الأسد وابن آوى .
لقد كان جميع أهل هذا العالم أعراضا ، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى :
” هَلْ أَتى عَلَى الْإنْسان حينٌ منَ الدَّهْر لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ““ 2 “ فمن أين تولدت هذه الأعراض ؟ من الصور ! 
وهذا الصور أيضا من أين تولدت ؟ من الفكر ! 
فهذا العالم ليس الا فكرة من العقل الكلىّ . فالعقل مثل المليك وأما الصور في الرسل .
.................................................................
( 1 ) يقصد الرسول عليه السلام الذي يرى الصوفية انه المقصود بالحديث القدسي القائل “ لولاك ما خلقت الأفلاك “ .
( 2 ) الانسان ، 76 : 1 .


“ 126 “
 
والعالم الأول هو عالم الامتحان ، وأما العالم الثاني فعالم الجزاء على هذا وذاك .
 
980  فخادمك - أيها الملك - يرتكب جناية ، فيصبح هذا العرض قيدا وسجنا .
وإذا صنع خادمك فعلا حميدا ، أفلا يصبح هذا العرض خلعة ينالها جزاء لسعيه ؟
فهذا العرض مع الجوهر كالبيضة مع الطائر ، تلك تجىء من ذاك .
وذاك يجئ من تلك ، على التوالي “ .
فقال الملك : “ فلنفترض أن هذا هو المراد . فلماذا لم تنجب أعراضك جوهرا واحدا ؟ 
“ فقال الغلام : “ ان العقل ( الكلىّ ) قد أراد الخفاء لهذا ، حتى يبقى غيبا في عالمنا ، عالم الخير والشر !
 
 985  فإنه لو كانت تتضح أشكال الفكر ، لما نطق الكافر والمؤمن الا بالذكر .
انه لو كانت هذه تتجلى ولا تحتجب . . . لو كان نقش الكفر والدين يرتسم على الجبين ،
 فهل كان يبقى في هذا العالم صنم أو عابد للصنم ؟ وهل كان انسان يجترىء على السخرية ؟
ولكانت دينانا هذه كعالم القيامة . ومن ذا الذي يقترف الجرم والخطأ يوم القيامة ؟
 “ فقال الملك : “ ان الله قد حجب جزاء الاثم ، لكن هذا الحجاب مقصور على العامة ، ولا يمتد إلى خواص الله .


 
“ 127 “
 
990  فلو أنني أوقعت في الأسر أميرا لأخفيته عن الامراء الآخرين ، وليس عن الوزير .
فالحق قد أظهر لي جزاء العمل ، كما كشف لي ألوفا من صور الأعمال .
فاذكر لي علامة واحدة ، أعلم منها كل شئ فان الغمام لا يحجب البدر عنى “ .
فقال الغلام : “ فما الذي تريده من قولي ، ما دمت عليما بكل ما كان ؟ “ .
فقال الملك : “ ان حكمة اظهار الدنيا كان في جعل المعلوم عيانا ظاهرا !
 
 995 -  والخالق قبل ان يُظهر ما كان قد علمه ، لم يُلق على الخلق ألم الخاض وعناءه .
وانك الست بمستطيع أن تجلس لحظة واحدة بدون عمل بدون أن ينبثق منك شر أو خير .
وهذه الدوافع إلى الأعمال انما هي موكلة بك لتجعل من سرك عيانا .
فأنى يتحقق السكون “ لبكرة الخيط “ التي هي الجسد ، حينما يكون الضمير هو الذي يجذب طرف الخيط ؟
والقلق الذي تعانيه هو علامة ذلك الجذب . وان خلوك من العمل ليكون عندك شبيها بنزع الروح .
 
1000 - فهذا العالم وذلك العالم يلدان على الدوام . وكل سبب أم وهذه تلد الأثر .
 
“ 128 “
 
وحينما يولد الأثر يصبح هو الآخر سببا ، حتى تتولد منه الآثار العجيبة .
فهذه الأسباب سلالات يتبع بعضها بعضا . والعين ( التي ترى ذلك ) يجب أن تكون مضيئة نافذة الابصار “ .
ولقد وصل الملك في حديثه مع الغلام إلى هذا الحدّ ، حتى أبصر في علامة لم تكن ظاهرة .
ولئن أبصرها ذلك الملك المتطلع فليس هذا ببعيد . لكننا لسنا في حل من ذكر ما أبصر .
 
1005 - وحينما عاد الغلام الآخر من الحمام ، دعاه هذا الملك الهمام إلى الاقتراب منه .
وقال له : “ صحة لك ونعيم دائم ! كم أنت لطيف ظريف مليح الوجه ! أواه لم يكن فيك ذلك الذي يذكره عنك فلان . . .
لأصبح سعيدا كل من شهد وجهك ، فان رؤية وجهك تعدل ملك الدنيا !
 “ فقال الغلام : “ ألا فلتذكر لي - أيها الملك - إشارة لما ذكره عنى ذلك الخرب الدين “ .
 
1010 - فقال الملك : “ ان أول وصفه لك أنك ذو وجهين وأنك في الظاهر دواء ، وفي الخفاء بلاء ! 
“ فحينما استمع من الملك إلى خبث رفيقه جاش على الفور بحر غضبه .
وأزبد ذلك الغلام واحمر لونه ، حتى تجاوز موج هجائه كل حدّ !
 
“ 129 “
 
وقال : “ انه منذ أول لحظة ترافقنا بها ، كان يأكل الروث كالكلب ابان القحط “ .
فلما تتابع منه الهجو تتابع دقات الجرس ، أطبق الملك بيده على شفتى الغلام ليسكته .
 
1015 - وقال : “ انني قد استطعت بذلك أن أمير بينك وبينه . ان النتن في روحك ، وأما هو فالنتن في فمه .
فلتجلس بعيدا عنى أيها النتن الروح ، حتى يكون هو الأمير وتكون أنت المأمور .
ولقد جاء في الحديث أن تسبيح المنافق مثل النبات الأخضر في المزابل “ 1 “ . فاعلم ذلك أيها العظيم .
ولتعلمن أن الصور المليحة الطيبة لا تساوى فلسا ان اقترنت بقبيح الخصال .
وان تكن صورة المرء حقيرة زرية وكان خلقه رضيا فمت عند قدميه .
 
1020 - واعلم أن صورة الظاهر مآلها إلى الفناء ، وأما عالم المعنى فيبقى خالدا !
 فإلى متى تلهو بعشق الإبريق ؟ دعك من صورة الإبريق واطلب الماء .
انك قد رأيت الصورة ولكنك غافل عن المعنى . فالتمس الدرة من الصدف لو كنت عاقلا !
.................................................................
( 1 ) ثم اعثر على نص حديث يقارب ما ذكره الشاعر .
 
“ 130 “
 
وأصداف القوالب في هذه الدنيا ، مع أنها جميعا تستمد الحياة من بحر الروح ،
 ليست تنطوى كلها على الجوهر ، فافتح عينيك جيدا وتأمل باطن كل منها ،
 
1025 - لترى ما تحويه هذه وما تحويه تلك ، وتخير من بينها فان قليلا ما تجد الدرّ الثمين .
فلو توجهت إلى الصورة فان الجبل أعظم في ضخامته من مئات كثيرة من اليواقيت .
وباعتبار الصورة أيضا فان يديك ورجليك وشعرك ، تفوق بأحجامها مائة من صورة عينيك .
لكنه ليس بسر خفيّ عليك أنك ترجح العينين على كافة الأعضاء وبفكرة واحدة تخطر في الضمير ، 
قد ينقلب مائة عالم رأسا على عقب ، في لحظة واحدة .
 
1030 - ومع أن جسم السلطان في الصورة فرد واحد ، فان آلاف الجنود يهرعون لمتابعته .
وشكل هذا الملك أيضا وصورته يحكمهما فكر واحد محتجب .
ولتتأمل هؤلاء الخلق الذين لا يحصون عد وقد جعلتهم فكرة واحدة يتدفقون كالسيل فوق الأرض .
فهذا الفكر يبدو صغيرا أمام الخلق ، لكنه كالسيل قد ابتلع الدنيا واكتسحها .
فإذا كنت ترى أن كل حرفة في هذه الدنيا قائمة على الفكر ،
 
“ 131 “
 
1035 - وأن الديار والقصور والمدائن ، والجبال والصحارى والأنهار ، وكذلك الأرض والبحار 
والشمس والفلك كل أولئك تستمد منه الحياة كما يستمد السمك حياته من البحر .
فلماذا أنت في بلاهتك أيها الأعمى تعد الجسد سليمان ، والفكر نملة ؟
ان الجبل يبدو عظيما أمام عينيك ، فالفرك عندك كالفأر والجبل كالذئب .
والعالم يتجلى لك هائلا عظيما ، فترتعد وتهلع من السحاب والرعد والسماء .
 
1040- أما بالنسبة إلى عالم الفكر - يا أخَّس من حمار - فأنت آمن غافل كالصخرة الصماء ! 
فما دمت صورة لا نصيب لها من العقل ، فلست بآدمى الصفات ، وما أنت الا حمار صغير .
انك لجهلك تحسب الظل شخصا ولهذا فقد أصبحت الشخصية في نظرك لهوا يسيرا !
فمهلا إلى ذلك اليوم الذي ينطلق فيه الفكر والخيال محلقين بقوادم وخوالف ، لا يخفيهما حجاب .
إذ ذاك ترى الجبال وقد أصبحت كالعهن المنفوش ، وهذه الأرض الباردة الساخنة وقد أصبحت عدما !
 
1045 -ولن ترى إذ ذاك سماء ولا أنجما ولا وجودا ، وليس سوى اله واحد حىّ ودود .
وإليك قصة قد تكون صادقة أو كاذبة ، تعين على ايضاح هذه الحقائق :
 

“ 132 “

كيف حسد خدم الملك غلامه الخاص
 
كان أحد الملوك قد آثر بكرمه غلاما من غلمانه على جملة خدامه .
فكان راتبه يعدل ما يتقاضاه أربعون أميرا ، ولم يكن ينال عشر هذا المقدار مائة وزير ! 
فكان لكمال طالعه واقبال بخته مثل أياز ، أما الملك فكان محمود زمانه .
 
1050 وكانت روحه في أصلها ، قبل هذا الجسد ، مرتبطة بروح الملك ، وثيقة القربى بها ! 
ولا اعتبار الا لما كان قبل الجسد ، فدعك من كل ما هو جديد الحدوث .
وهذا شأن العارف ، فهو ليس بأحول ، وعينه متطلعة إلى أقدم الغراس .
فحيثما زرع قمح أو شعير فعينه مترقبة سواء في الليل أو في النهار .
وما ولدت الليالي الا ما كانت حاملة به . فما الحيل والمكر الا هواء وهباء .
 
1055 فكيف يناغى القلب بالحيل الرائعة من كان يرى أن لله حيلة مسلطة فوق رأسه ؟
انه لصيد يلتمس صيدا “ 1 “ ، فأقسم بحياتك ، لن ينجو هذا الصائد ولا شباكه .
فلو أن مائة عشب نمت ثم عراها الذبول ، ففي العاقبة لا ينمو
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ انه لأسير شباك يمد شباكه “ .
 
 133 
 
الا ما غرسه الله .
فها هو ذا الانسان قد ألقى بغراس جديدة فوق الغراس الأولى .
فهذه الغراس المستحدثة فانية ، وأما الغراس الأولى فراسخة .
ان الغراس الأولى صالحة منتقاة ، وأما البذور الثانية فهي فاسدة عفنة .
 
1060  فاطرح عنك هذا التدبير أمام الحبيب مع أن تدبيرك مقتبس من تدبيره .
ان الذي رفعه الحق هو الذي يكون له اعتبار ، وما غرسه في البداية هو الذي ينمو آخر الأمر .
فكل ما زرعته فازرعه من أجله ، ان كنت - أيها المحب - أسير المحبة .
ولا تدر في فلك النفس السارقة ( الأمِّارة بالسوء ) وفعالها . فكل ما ليس من فعل الحق فهو عدم مطلق .
وذلك من قبل أن ينجلى يوم الدين ، وإذ ذاك يفتضح لص الليل أمام المالك .
 
1065  فيكون المتاع الذي سرقه بفن وتدبير لا يزال فوق عنقه يوم الدين .
ان آلاف العقول قد تنطلق مجتمعة ، فتحتال للصيد بشباك غير شباكه ، 
فتجد أنفسها أسارى شباك أقوى وأو في . وكيف يظهر القش قوته أمام الريح ؟
فان أنت قلت : “ ما فائدة الوجود ؟ “ فسؤالك هذا فائدة أيها العنيد .



 134 
 
فإن لم يكن لسؤالك هذا فائدة فما الداعي لأن أستمع اليه عبثا وبدون جدوى ؟
 
1070  وان كانت لسؤالك هذا فوائد متعددة ، فلماذا يكون العالم بدون فائدة ؟
وان يكن العالم من جهة عديم الفائدة ، فهو من جهات أخرى حافل بالفوائد .
وان كان ما يفيدك غير مفيد لي فلا تتخل عنه ، طالما كان مجديا لك .
لقد كان حسن يوسف مفيدا للعالم كله ، مع أنه بالنسبة لاخوته كان عبثا لا جدوى منه .
ولحن داود كان هكذا محببا إلى القلوب ، لكنه لم يتجاوز - في أذن المحرومين - صوت الآلة الخشبية .
 
1075  وماء النيبل كان أغزر من ماء الحياة ، لكنه إزاء الكافرين والمنكرين كان دما !
 والا ستشهاد حياة للمؤمن على حين أنه للمنافق موت وتعفن ! 
فخبرني : أية نعمة بهذا العالم لا تكون احدى الأمم محرومة منها ؟
فما فائدة السكر للثور والحمار ؟ ان كل نفس لها غذاء مباين لما تغتذى به سواها .
لكنها إذا تعلقت بقوت عارض . فالنصيحة هي التي تروضها ( على تركه ) .
 
1080  كمثل ذلك الشخص الذي - من اعتلاله - أولع بالطين ! فمع أنه كان يتصور الطين غذاءه ،
 
 135 
 
فقد نسي قوله الأصلي ، وولى وجهه نحو قوت المرض .
لقد ترك الشهد وتناول السم . والتهم قوت العلة كأنه طعام دسم .
وقوت البشر في الأصل هو نور الله . أما القوت الحيواني فغير لائق بهم .
لكن القلب وقع في هذا لا عتلاله ، فأخذه يتناول صباح مساء من هذا الماء والطين .
 
1085  فغدا شاحب الوجه ، واهى الساقين ، خفيف اللب . فأين منه غذاء السماء “ 1 “ .
فذلك غذاء الخواص في دولة ( الايمان ) ، وتناوله يكون بدون حلق ولا أداة .
ان غذاء الشمس مستمد من نور العرش وأما غذاء الحساد والشياطين فهو من دخان الأرض .
ولقد قال الحق عن الشهداء انهم أحياء يرزقون “ 2 “ ، وما كان تناول هذا الغذاء يقتضى فما ولا طبقا .
بل القلب يتزود بغذاء من كل حبيب ، ويتحلى من كل علم بصفاء
 
1090  وصورة كل آدمي كأنها كأس ، والعين وحدها هي التي تدرك معناها .
وأنت تتزود بشئ من لقاء كل انسان ، وتظفر بفائدة من ملاقاة كل قرين .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : فأين غذاء “ والسماء ذات الحبك “ . ( الذاريات ، 51 : 7) .
( 2 ) انظر : سورة آل عمران ، 3 : 169 .



“ 136 “
 
فالنجم حين يصبح قرينا لنجم آخر ، فمن اليقين أن يتحقق بذلك ما يناسبهما من أثر .
وحين يقترن الرجل والمرأة يولد البشر ، وكذلك باقتران الحجر والحديد يتولد الشرر .
ومن قران التراب بالأمطار تكون الثمار والخضرة والريحان .
 
1095  ومن قران الخضرة بالانسان يكون سرور القلب وتفريج الهم والسعادة .
ومن قران السعادة بأرواحنا ينبثق الخير والاحسان فينا .
فالاجساد تصبح متقبلة للطعام ، حينما تتفتح شهيتها بالرياضة والنزهة .
وحمرة الوجه تكون من اقترانه بالدم . والدم يتدفق بفعل الشمس الجميلة الوردية اللون .
ويخر الألوان هو اللون الأحمر ، وهذا من الشمس وهو يقبل منها الينا .
 
1100  وكل أرض أصبحت قرينة لزجل ، صارت ملحة ولا مجال للزرع فيها .
وقوة الفعل تنبثق من الاتفاق عليه ، كما يكون من اقتران الشيطان بأهل النفاق .
فهذه المعاني الصادقة وان لم تكن ذات مجد ورواء ( في الدنيا ) فلها من الفلك التاسع مجد ورواء !
والمجد والرواء ليسا سوى عرض في الخلق ، على حين أنهما ماهية لمن له الأمر والمقدرة .
 
“ 137 “
 
ان الخلق يتحملون الذل في سبيل المجد والرواء . وهم - على أمل العز - سعداء في مذلتهم !
 
1105  انهم على أمل العز أياما عشرة حافلة بالقلق ، قد جعلوا رقابهم من الهم ناحلة كالمغزل .
فلماذا لا يقبلون إلى هنا ، حيث أقيم في عزة تغمرها اشراقة الشمس .
ومشرق الشمس برج أسود اللون ، أما شمسي فإنها فوق المشارق ! 
ان مشرقها هو نسبتها إلى الذرات العالقة بها . فذاتها لم ترتفع قط ولم تنخفض .
ومع أنى متخلف وراء ذراتة ، فأنا في العالمين شمس لا تغشاها الظلال !
 
1110  وهأنذا دائب الدوران حول الشمس ، فما أعجبها ! ولا سبب لهذا سوى جلال الشمس .
وهذه الشمس مطلعة على الأسباب ، لكنها غير مرتبطة بحبال الأسباب .
ولقد قطعت الأمل ألوف المرات . مم ؟ من هذه الشمس ! فهل تصدق قولي ؟
لا . لا تصدق أنني أصبر عن الشمس ، أو أن السمك يصبر عن الماء .
وحتى لو أنني يئست ، فان يأسى ذاته من صنع الشمس ، أيها الرفيق الطيب !
 
“ 138 “
 
1115 وكيف تنقطع حقيقة الصنع من نفس الصانع ؟ أم كيف يغتذى وجود الا من الوجود المطلق ؟
فجملة الموجودات ترتعى في هذه الروضة ، وسواء في ذلك البراق أو الخيل العراب أو الحمير ! 
والذي لم يبصر دوران هذا البحر يستقبل بوجهه - في كل لحظة - محرابا جديدا .
فهو قد شرب من البحر العذب ماء ملحاء فأعماه ذلك الماء الملح .
والبحر يقول : “ أيها الأعمى ! اشرب بيدك اليمنى من مائي لعلك تغدو بصيرا “ .
 
1120 واليد اليمنى هنا هي الظن الصادق ، الذي يعلم أين سبيل الخير وسيبل السوء .
أيها الرمح ، انك حينا تستقيم ، وحينا تعوج فها هوذا صانع الرماح ! 
وان عشق شمس الدين قد قلم أظافري . والا فكيف لا أجعل هذا الأعمى بصيرا ؟
فيا حسام الدين ، يا ضياء الحق ! ألا فلتعجل بمداواته مهما عميت عين الحسود .
ان توتيا “ 1 “ الكبرياء لعاجلة الأثر ، وهي الدواء المبدد للظلمات ( التي تعمى ) أهل العناد .
.................................................................
( 1 ) انظر عن التوتيا : ابن البيطار : الجامع للمفردات الطبية ، ج 1 ، ص 143 .
 
“ 139 “
 
1125  فهذه لو مسِّت عين أعمى لا نتزعت منها ظلمة مائة من الأعوام ! 
فاعمل لمداواة جميع العميان الا الحسود فإنك لن تلقى منه الا الجحود .
ولا تَجُد بروح منك على حاسدك ، حتى ولو كنت أنا ذلك الحاسد ، بل دعني للحسد يهلكني ! 
فهذا الذي يكون حاسدا للشمس ذلك الذي يضنيه وجودها ألما ، تأمل علته تلك التي لا دواء لها . واها عليه ! 
تأمل ذلك الذي سقط في قاع البئر إلى الأبد !
 
1130  ان هذا يحتم انتفاء شمس الأزل ، فقل لي ، كيف يتحقق مراده هذا ؟
ان الباز هو الذي يرجع ثانية إلى المليك . أما ذلك الذي ضلّ طريقة فهو باز أعمى .
لقد ضلّ طريقة فهبط في احدى الخرائب ثم وقع بين البوم في تلك الأرض الخراب .
وهو نور خالص مقتبس من نور الرضى ، لكن أمير جيش القضاء قد أعماه .
لقد نثر التراب في عينيه ، وأضله الطريق ، ثم ألقى به بين البوم في احدى الخرائب .
 
1135  وفوق ذلك أخذت البوم تضربه فوق رأسه ، وتقتلع من جناحيه القوادم والخوالف الحسان .
وعلا الصياح بينها ، وكانت تقول : “ لقد جاء ليغتصب منا مكاننا “ .


“ 140 “
 
فكانت مثل كلاب الحىّ الغاضبة الرهيبة ، وقد علقت بأذيان دلق درويش غريب ، 
وكان الباز يقول : “ أي تناسب بيني وبين البوم ؟ انى أنزل لها عن مائة مكان مثل هذا .
وما كان مرادي ان أنزل بهذا المكان بل انى كنت راجعا إلى المليك .
 
1140 فيا أيها البوم ، لا تقتلوا أنفسكم . انى لست مقيما هنا بل عائد إلى وطنى .
فهذا الخراب يبدو في أعينكم عمرانا ، أما أنا فلى عودة إلى ساعد الملك !
“ فقالت البوم : “ انّ الباز يحتال ، حتى يقتلعكم من منزلكم ودياركم .
وانه المستول بالمكر على ديارنا ، ولسوف يقتلعنا بالنفاق من أو كارنا .
انّ هذا المولع بالاحتيال يتظاهر بالشبع ، مع أنه - والله - أسوأ من كل الطامعين !
 
1145 انه من الحرص يأكل الطين وكأنه الدبس ، فلا تسلموا أيها الرفاق ذيل الشاة للدب .
انه يباهى بالمليك وبكف المليك ، حتى يجعلنا - نحن البسطاء - نضلّ السبيل .
وأي تجانس بين طائر صغير وبين الملك ؟ فإن كان لديكم قليل من العقل فلا تستمعوا اليه .



“ 141 “
 
أهو من جنس الملك أو جنس الوزير ؟ وهل يكون الثوم ملائما لحلوى الجوز ؟
وأما قوله - بمكر واحتيال وفنّ - “ ان السلطان وحشمه يبحثون عنى “ .
 
1150 فهاكم جنونا لا يتقلبه العقل ! وهاكم مباهاة غرّ ، وفخا يختطف الرؤوس ! 
فلا بد من البلاهة لتصديق هذا ، والا فما للملك وهذا الطائر الصغير النجيل ؟
فان كانت أصغر بومة تحطم رأسه ، فأنى له العون من المليك ؟
فقال الباز : “ لو أنها كسرت لي ريشة واحدة ، لا قتلع ملك الملوك موطن البوم من أساسه ! 
فما البومة في ذاتها ؟ انه لو آذى قلبي باز أو نالني بجفائه ،
 
1155  لجعل المليك في التلال والوهاد بيادر تضمّ تلالا من رؤوس البيزان ! 
وان عنايته لهى حارسي ، فحيثما توجهت فالمليك يتبعني .
وخيالي مقيم في قلب السلطان . وبدون خيالي يكون قلب السلطان سقيما .
فحينما يطيرنى اللميك في مسالكه ، فانى أرتفع إلى أوج القلب ، كشعاع أنواره ! 
وأطير مثل القمر ومثل الشمس . وأمزق أستار السماء !
 
1160  وان استنارة العقول لهى من فكرى ! وان انفطار السماء لهو من فطرتى !
“ 142 “
 
فأنا باز ولكن العنقاء تحار في أمرى ! فما البومة حتى تدرك كامن سرى ؟
ومن أجلى تذكر المليك سجنه فاطلق سراح آلاف من السجناء ! 
لقد جعلني في لحظة رفيقا للبوم ، ثم جعل البوم بأنفاسي بيزانا ! 
فما أسعد بومة صادفت مطارى ، وفهمت لحسن طالعها أسرارى !
 
1165  ألا فلتعلقوا بي لتصبحوا سعداء ، وتصيروا بيزان المليك برغم كونكم من البوم .
فمن كان حبيبا لمثل هذا المليك ، فلماذا يكون غريبا ، مهما اختلفت عليه المنازل “ 1 “ ؟
ومن كان المليك دواء آلامه ، فإنه لا يكون بلا نصيب مهما ناح مثل الناى .
انني مالك الملك ، ولست الذي يهلع من قرع الطبول فالمليك هو الذي يقرع لي الطبول من جانبه .
وطبل الباز ( الذي ألبيه ) هو نداء” ارْجعي ““ 2 “ . والله شاهدي بالرغم من المدعى .
 
1170  انني لست من جنس ملك الملوك فما ، أبعدنى عن ذلك ! وانما أنا مستضىء بنور من تجليه .
والتجانس لا يكون على أساس الشكل والذات فالماء يتجانس مع التراب في النبات .
والريح تجانس في قوامها النار . والخمر تصبح متجانسة مع
.................................................................
( 1 ) حرفيا : مهما حط في أي مكان .
( 2 ) انظر : سورة الفجر ، 89 : 28 .
 
“ 143 “
 
الطبع الانساني .
ولما كان جنسنا مغايرا لجنس مليكنا ، فقد أصبحت ذواتنا فانية في سبيل ذاته .
وحينما فنيت ذواتنا بقي فردا . وانى لأغدو كالغبار أمام حوافر جواده “ 1 “
 
1175  والروح تغدو ترابا وتبقى علامات أقدامه منطبعة فوق ترابها .
ألا فلتصبح ترابا تحت قدميه لتظفر بتلك العلامات ، فإنك - حينذاك - تصير تاجا فوق رؤوس الماجدين ! 
فلا تدع لصورتى سبيلا إلى خداعك ، ولتأكل هنيئا من نقلي ، قبل انتقالى .
فكم من أناس أغلقت الصورة أمامهم السبيل ، فتهجموا عليها ، فكان تهجمهم على الله ! 
وأخيرا فان هذه الروح مرتبطة بالبدن ، فهل هناك من شبه قط بين هذه الروح وبين البدن ؟
 
1180  فاشراق نور العين قرين لقطعة من الشحم “ 2 “ ، ونور القلب كامن في قطرة من الدم .
والفرح في الكلى وأما الحزن ففي الكبد . والعقل مثل الشمعة داخل لباب الرأس .
وهذه العلائق ليست بدون كيف ولا شبه . ولكن العقول ضعيفة في ادراك الكيف .
.................................................................
( 1 ) انى لا تحرك مستجيبا لأدنى سبب من أسبابه ، كما يتحرك الغبار حينما تثيره حوافر الفرس .
( 2 ) يقصد بقطعة الشحم هنا بياض العين .



“ 144 “
 
ان الروح الكلىّ قد التحم بالروح الجزئية ، فأخذت هذه درة منه وجعلتها في جيبها .
فغدت الروح - من احتكاك تلك الدرة بجيبها - حاملا كمريم ، تلك التي حملت مسيحا يسحر القلوب .
 
1185  وليس المسيح هو من كان يمشى على اليابسة والماء ، بل إنه ذلك المسيح الذي سما فوق حدود المكان .
فحينما تلقت الروح جملها من روح الروح ، تلقى العالم كله حملا من مثل تلك الروح .
وهكذا يلد العالم عالما آخر ، وتبدو حقيقة الحشر لهذا الجمع الحاشد ( من البشر ) ! 
ولو أنني حكيت وعددت حتى يوم الساعة ، فسأبقى مقصرا في ايضاح ذلك الحشر .
فهذه الأقوال كلها تعنى دعاء “ يا رب ! “ ، وكلماتها شبَاك أنفاس طرحتها شفاه حلوة .
 
1190  فكيف يقصر المرء ، وكيف ينطوى على نفسه ، ما دام جواب “ لبيك “ يستجيب لدعاء “ يا رب “ .
فكلمة “ لبيك “ هي ( ذلك الجواب الالهىّ ) الذي لا تستطيع سماعه ، لكنك تنذوقه بكل كيانك ، من الرأس إلى القدم .
 
كيف الفي ظامى فوق قمة جدار احجارا في مجرى الماء
 
يُحكى أن جدارا عاليا كان مقاما على شاطىء نهر ، وأنه كان فوق هذا الجدار رجل ظامىء يلاقى العناء .


 
“ 145 “
 
وكان هذا الجدار مانعا له من الماء . فكان في ألم من أجل الماء مثل السمك .
وفجأة ألقى بحجر في الماء ، فوقع صوت الماء في أذانه مثل الخطاب .
 
1195  لقد كان لصوت الماء في سمعه فعل النبيذ ، أو فعل حديث محبوب حلو لذيذ .
فلصفاء صوت الماء ، أخذ ذلك المبتلى يقتلع الأحجار من الجدار ويلقى بها في الماء .
فهتف به الماء قائلا : “ أية فائدة ( حققتها ) من ضرب إياي بالأحجار ؟ “ .
فقال الظمآن : “ أيها الماء . ان لي من ذلك فائدتين . ولهذا فلن أقلع عن هذا الصنع .
فالفائدة الأولى هي سماع صوت الماء . ووقع هذا عند الظماء مثل الرباب .
 
1200  فهذا الصوت صار شبيها بصوت إسرافيل . وبفعل هذا تنبثق الحياة في الموتى .
أو هو كصوت الرعد في أيام الربيع . يظفر منه البستان بمتعدد الصور .
أو هو مثل أيام الزكاة عند الدرويش ، أو مثل رسالة الخلاص عند السجين !
 أو كصوت الرحمن الذي كان يصل إلى محمد من اليمن ، وذلك من غير أن ينقله فم .
أو كعبير أحمد الرسول المصطفى ، حين يدرك بشفاعته أحد العصاة .
 

“ 146 “
 
1205 أو مثل شذى يوسف الطيب اللطيف ، إذ هبّ على روح يعقوب بعد أن براه الأسى .
والفائدة الثانية أنني كلما اقتلعت حجرا من هذا الجدار ، اقترب من الماء المعين .
فكل حجر اقتلع من ذلك الجدار العالي ، كان مدعاة إلى انخفاضه .
وانخفاض الجدار هو السبيل إلى القرب ، والانفصال عنه هو العلاج المؤدّى إلى الوصال .
فاقتلاع تلك الأحجار المتماسكة مثل السجود . والسجود موجب للقرب ، كما جاء في قوله تعالى :” وَاسْجُدْ وَاقْتَربْ ““ 1 “ .
 
1210 فما دام ذلك الجدار شامخا بعنقه ، فهذا مانع له من أن يخفض هامته .
وليس لي سبيل إلى أن أسجد فوق ماء الحياة ، ما لم أجد الخلاص من ذلك الجسم الترابىّ .
وكل من كان - فوق الجدار - أكثر ظمأ فإنه يكون أسرع في اقتلاع الحجر والمدر .
وكل من كان أكثر عشقا لصوت الماء ، كانت الحجارة التي يقتلعها من السور أكبر حجما .
وهو من سماع صوت الماء يغدو مليئا بالخمر حتى العنق ، أما الغريب فلا يسمع من ذلك الا مجرد الصوت .
 
1215 فما أسعد ذلك الذي يغتنم أيامه الأولى ، ويؤدى بها دينه ،
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة العلق ، 96 : 19 .


 
“ 147 “
 
تلك الأيام التي تكون له فيها قدرة وصحة وقوة قلب وشدة بأس .
حيث الشباب مثل بستان أخضر ريان ، ينضج - بدون تقصير - حصادا وثمارا .
وحيث ينابيع القوة والشهوة جارية ، تغدو أرض الجسد بها مخضلة يانعة .
وحيث الدار معمورة وسقفها سامق رفيع ، وأركانها معتدلة ، لم يشو هما ترميم ولا ركائز .
 
1220 وذلك قبل أن تحلّ أيام الهرم ، فتربط جيدك بحبل من مسد “ 1 “ .
وقبل أن يصبح التراب ملحا منحلا واهيا ، والتراب الملح لا ينبت قط نباتا طيبا .
وقبل أن يغدو ماء القوة وماء الشهوة منقطعا ، فلا يكون للانسان نفع في نفسه ولا في غيره .
ويتراخى حاجب العين كالحبل فوق ذيل الدابة . وتصبح العين دامعة وتغشاها والظلمة .
ويغدو الوجه من التشنج شبيها بظهر الحرباء ويقلع عن العمل النطقُ والتذوق والإنسان .
 
1225 ويكون النهار قد ولىّ ، والحمار أعرج ، والطريق طويلا ، والحانوت قد خرب والعمل أصابه البوار .
وجذور الخلق السىّء قد أصبحت راسخة ، والقوة على اقتلاعها قد أصابها الوهن !
.................................................................
( 1 ) في البيت اقتباس من آية كريمة . انظر : سورة المسد ، 111 : 5 .


 
“ 148 “
 
كيف امر الوالي أحد الرجال قائلا :
“ اقتلع ذلك الشوك الذي زرعته فوق الطريق “
 
ومثال ذلك هذا الشخص الغليظ ، الناعم الحديث ، الذي غرس الشوك في وسط الطريق .
وكان العابرون بهذا الطريق يلومونه ، وكم طلبوا اليه أن يقتلع الشوك لكنه لم يفعل ذلك ! 
وكان نبات الشوك يزداد نموا في كل لحظة ، وصارت أقدام الناس من وخزه تقطر دما .
 
1230 وكانت الأشواك تمزق ثياب الخلق ، وأما أقدام الدراويش فما أقسى ما نالها من الألم ! وحينما دعاه الحاكم بجدّ إلى اقتلاع هذه الأشواك ، قال :
“ نعم ، سوف أقتلعها ذات يوم “ .
وبقي مدة يعد في يومه أن يفعل ذلك في غده ، حتى صارت دوحة الشوك راسخة الكيان .
فقال له الحاكم ذات يوم : “ أيها الحانث بوعده . أقيل الانفاذ أمرنا ، ولا تلزم التراجع عنه “ .
فقال الرجل : “ الأيام - يا عم - بيننا ! “ . فقال الحاكم . عجِّل ، ولا تماطل في أداء ديننا “ .
 
1235 فيا من دأبت على قولك “ غدا “ ، اعلم أنه في كل يوم يمرّ من الزمان ،
 تغدو هذه الشجرة الخبيثة أقوى شبابا ، ويغدو مقتلعها شيخا عاجزا .
 
“ 149 “
 
وتكون شجرة الشوك ( قد ازدادت ) قوة وارتفاعا ، في حين أن مقتلع الشوك قد ازداد هر ما وانحدارا .
وشجرة الشوك في كل يوم وكل لحظة ، ذات اخضرار ونضرة ،
 أما مقتلع الشوك فيزداد في كل يوم علة وذبولا .
فهي تزداد شبابا وأنت تزداد شيخوخة ، فسارع ولا تكن مضيعا لوقتك .
 
1240 واعلم أن كل خلق قبيح فيك انما هو شجرة شوك ! ولكم وخزت الأشواك قدميك آخر الأمر ! 
وما أكثر ما غدوت جريما بطباع ذاتك ! انك الست بذى احساس ! 
بل أنت غاية في انعدام الحس ! فان كنت إزاء تجريح غيرك من الناس 
- الذين يرميهم بذلك خلقك القبيح - تغفل عن فعلك أحيانا ، 
أفلست هكذا غافلا عما تحدثه بنفسك من جراح ؟ انك لغداب لنفسك وكل من عداك ! 
فلتحمل الفأس ، ولتضرب مثل الرجال ! اقتلع مثل علىّ باب خيبر هذا !
 
1245 أو اجعل هذا الشوك مقترنا بشجرة ورد . اجعل النار مقترنة بنور الحبيب .
حتى يسحب نورُه ما فيك من نار ، ويجعل وصلُه أشواكك بستان ورد .
فإنك مثيل لنيران الجحيم ، أما المرشد فمؤمن . والؤمن ذو مقدرة على اخماد النار .

 
“ 150 “
 
فلقد أخبر المصطفى عن نطق الجحيم ، وأنها تغدو من خوفها مخاطبة للمؤمن .
تقول له : “ جز يا مؤمن نفقد أظفأ نورك لهبى “ 1 “ .
 
1250 ففنور المؤمن هو الذي يهلك النار . والضدّ لا يمكن دفعه الا بضده .
والنار تكون يون العدل مضادة للنور . فهذه قد انبثقت من قهر الله ، وذاك من فضله .
فان كنت تريد دفعا لشر النار ، فابعث إلى قلبها بماء الرحمة .
والمؤمن هو ينبوع ماء الرحمة هذا . أما ماء الحياة فهو روح المحسن الطاهر .
ولهذا فان نفسك الأمارة بالسوء تغدو هاربة منه ، لأنك من النار ، وأما المؤمن فهو ماء سلسبيل .
 
1255 والنار تولى هاربة من الماء ، فالنار تلقى من الماء الهلاك والدمار .
وحسك وفكرك كلاهما من النار ! وأما حس الشيخ وفكره فهما نور لطيف ! 
فعندما يقطر ماء نوره فوق النار ، يعلو أزيزها وتندلع .
فإذا ما أزِّت فقل لها : “ موتا وهلاكا “ ، وإذ ذاك يغدو جحيم نفسك بردا .
وحينذاك لا يحترق به بستانك ، ولا يشتعل به عدلك واحسانك !
.................................................................
( 1 ) الشاعر قد ذكر الحديث هنا بتصرف ، وقد أوردناه بنصه في الترجمة . وقد روى هذا الحديث في حلية الأولياء لأبى نعم الاصفهاني ، عن يعلى بن منبه قال : قال رسول الله : تقول النار للمؤمن يوم القيامة ، جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى . ( المنهج القوى ، ج 2 ، ص 295 ) .
 
“ 151 “
 
1260 وكل ما تزرعه بعد ذلك يغدو مثمرا ، ويُنبثُ لك الشقائق والنسرين والنمام .
لقد عدنا لنقطع الطريق المستقيم بالعرض ، فلنعد أيها السيد . أين طريقنا ؟
وكنا قد شرحنا لك أيها الحسود ، أن حمارك أعرج والمنزل بعيد ، فسارع بانطلاقك .
فالعام قد فات أوانه ، وليس هذا بوقت الغرس . فلم يبق الا سواد الوجه والفعل القبيح .
ان الدود قد أصحاب أصل شجرة الجسد ، فوجب اقتلاعها والقاؤها في النار .
 
1265 حذار حذار أيها السائر على الطريق فقد تأخر الوقت ، وشمس العمر قد تدانت من بئر المغيب .
وفي يوميك اللذين تملك فيهما القوة ، انشر جناحيك محلقا في طريق الجود ! 
وازرع ذلك القدر الذي بقي لك من البذور ، ينبت لك من هاتين اللحظتين عمر مديد ! 
ولكي لا يخبو هذا السراج اللألاء ، سارع باصلاح فتيله وامداده بالزيت .
وكن حذرا ولا تقل “ غدا “ ، فكم من غد قد مضى ، فلم تبق لك قط أيام للغرس .
 
1270 واستمع إلى نصحى ، وأنت بعدُ في عنفوان قواك الجسدية : ان كنت تميل إلى الجديد ، فتخلص من القديم .
 
“ 152 “
 
أغلق شفتيك ، وافتح كفا مليئة بالذهب ، ودعك من بخل الجسد ، وأقبل على الجود .
وترك الشهوات واللذات سخاء . وما نهض قط انسان صار غريق شهواته .
وهذا السخاء غصن من سرو الجنان . فواها على من رمى من كفه مثل هذا الغصن .
والتخلي عن الهوى هو العروة الوثقى . فهذا الغصن يرتفع بالروح إلى السماء .
 
1275 وإذ ذاك يرفعك غصن السخاء - أيها المؤمن - فتتسامى معه إلى أصله .
انك يوسف الحسن ، وهذا العالم مثل البئر . والحبلُ ( الذي يخصلك ) هو البصر على أمر الله .
يا يوسف ، ها هو ذا حبل ( النجاة ) قد تدلى ، فتعلق به بكلتا يديك ، ولا تغفل عنه ، فقد تأخر الوقت .
والحمد لله أنه قد أدلى هذا الحبل ، فهنا ، قد امتزج فضله برحمته .
وذلك لترى عالم الروح الجديد ، وهو عالم بالغ الظهور وان احتجب عن العيان .
 
1280 فعالم الفناء هذا قدر صار كأنه الوجود ( الحق ) ، وأما عالم الوجود ( الحق ) فقد صار بالغ الخفاء ! كالتراب يتلاعب فوق الهواء ، ويبدي مظهرا كاذبا وينشر أستارا .
فهذا عاطل أجوف ظاهره العمل . وأما ذلك المحتجب فهو لبه وأصله .
 
“ 153 “
 
فالتراب مثل الآلة في يد الهواء ، أما الهواء ، فاعلم أنه عال ، وأنه رفيع المصدر .
فالعين الترابية هي التي يقتصر ابصارها على التراب . أما العين التي تبصر الهواء فهي من نوع آخر .
 
1285 فالحصان يعرف الحصان لأنهما شبيهان . وكذلك الفارس يعلم أحوال نظيره من الفرسان .
وعين الحس هي الحصان وأما نور الحق فهو الفارس . ولا جدوى للحصان بدون الفارس .
فخلص حصانك من الخلق القبيح ، والا فإنه لا يكون مقبولا عند المليك .
وعين الحصان تهتيد في السير بعين المليك . وبدون عين المليك يسوء حال تلك العين .
ولو أنك دعوت عيون الخيل إلى أىّ مكان سوى العشب والمرعى ، لكان جوابها : “ لا “ ، “ لماذا ؟ “
 
 1290 أما حين يمتطى نورُ الحق نور الحس ، فان الروح تغدو مشتاقة إلى الحق .
وماذا يعرف الحصان - بدون راكبه - عن رسم الطريق ؟ فمن أجل أن يعرف الطريق الملكىّ ، لا بدّ له من فارس ملك ! 
فتوجه نحو حس يكون النور رائده ، ذلك لأن النور صاحب كريم للحس .
ونور الحق هو الذي يزين نور الحس ، وذلك معنى قوله تعالى :

“ 154 “
 
“ نُورٌ عَلى نُورٍ ““ 1 “ .
ونور الحس يجتذب الانسان نحو الثرى ، وأما نور الحق فيسمو به نحو العلى .
 
1295 ذلك لأن المحسوسات عالم أدنى . بل إن نور الحق شبيه بالبحر ، وأما الحس فمثل قطرات الندى ! 
لكن راكب الحسن هذا لا يكون ظاهرا الا في جميل الأثر وطيب الكلم .
ان نور الحس مع غلظه وكثافته يكون مستترا في سواد العينين .
فما دمت لا ترى بالعين هذا النور الحسى ، فكيف تستطيع أن ترى بها ذلك النور الروحي ؟
ان نور الحس - بر غم غلظه - محتجب عن الأبصار ، فكيف لا يكون خفيا ذلك الضياء الصافي ؟
 
1300 فهذا العالم كالقشة في أيدي رياح الغيب ، وقد أصبح العجز ازاءها شيمة له “ 2 “ . ذلك لأن حكم الغيب .
حينا يرفعه وحينا يخفضه وطورا يهبه السلامة وطورا يحطمه ! وقد يوجهه حينا نحو اليمين ، وحينا نحو الشمال ! 
وحينا يجعله بستان ورد وحينا يجلعه شوكا ! فتأمل كيف أن اليد مختفية ، والقلم يرسم الخطوط ! 
وكيف أن الحصان يتجول وفارسه غير ظاهر للعيان ! 
وتأمل كيف أن السهم منطلق ، على حين قد خفي القوس . وتأمل كيف أن الأرواح ظاهرة ، وكيف احتجب روح الروح !
………………………………………
( 1 ) انظر : سورة النور ، 24 : 35 .
( 2 ) حرفيا : “ وقد اتخذ العجز حرفة له “ .

“ 155 “
 
1305 ولا تحطم السهم فإنه سهم المليك ، وليس سهما نابيا ، بل هو منطلق من قوس العليم الخبير .
ولقد قال الحق :” وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ““ 1 “ . ان فعل الحقّ سابق على كل الفعال .
فحطم غضبك ولا تحطم السهم . ان عين غضبك هي التي تبصر الحليب دماء ! وقبل السهم - ذلك السهم الملطخ بالدماء ، المبلل بدمك أنت - ثم احمله إلى المليك .
فهذا العالم المتجلى للعيان عاجز مقيد ضعيف وأما ذلك المحتجب فعنيف أبىّ !
 
 1310 اننا نحن الصيد ، فلمن تكون مثل هذا الشباك ؟ ونحن كرة الصولجان ، فأين الضارب بالصولجان ؟
أين هذا الحائك الذي يمزق ويحيك ؟ وأين ذلك النفاط الذي يطفئ “ 2 “ ويشعل ؟
فهو حينا يجعل الكافر صديقا وحينا يجعل الزاهد زنديقا ! ذلك لأن المخلص يكون في خطر من الشباك ما لم يظفر بالخلاص الكامل من ذاتيته .
فهو يكون على الطريق ، وما أكثر قطاع الطريق . وان الناجي لهو الذي يكون في أمان الله .
 
1315 فإن لم يغدُ مرآة صافية ، فهو ( مجرد رجل ) مخلص ، وهو لم يصد الطائر بعد ، بل ما يزال يقتنص .
.................................................................
( 1 ) الأنفال ، 8 : 17 .
( 2 ) حرفيا : ينفخ ، والمقصود بالنفخ هنا الاطفاء ، كما يتضح من السباق .

“ 156 “
 
والمخلص يلقى النجاة حين يكتمل له الخلاص . فهو إذ ذاك يبلغ مقام الأمن ويتحقق له الفوز .
وما عادت مرآة قط إلى سابق عهدها حديدا ، ولا ارتد الخبز فصار قمح البيدر .
ولا عنب ناضج عاد فجا ، ولا ثمار ناضجة عادت بواكير .
فابلغ النضج وابتعد بنفسك عن التغير . اذهب ، واغد نورا مثل برهان المحقق “ 1 “ .
 
1320 فإنك ان خصلت من ذاتيتك غدوت كلك برهانا . وما دمت لم تعد عبدا غدوت سلطانا .
وان أردت العيان فقد أظهره صلاح الدين . فقد جعل الأعين مبصرة ، وجلاها !
 فكل عين استضاءت بنور الوحدانية ، كانت تبصر الفقر في عينيه وسيماه .
ان الشيخ مثل الحق ، فعِّال بدون آلة . فهو يلقن مريديه دروسا بدون قول !
 فالقلب في يده كالشمع الرقيق الطيع . وهو يدمغه تارة بالعار وتارة بالفجار .
 
1325 فالصورة المنطبعة على الشمع شبيهة بالخاتم . ولكن ماذا يحاكيه نقش هذا الخاتم ؟
انه محاكاة لفكر هذا الصائغ . فها هي ذي سلسلة مترابطة الحلقات .
.................................................................
( 1 ) في هذا البيت تمجيد لبرهان الدين محقق الترمذي أستاذ الشاعر .
 
“ 157 “
 
وهذا الصدى في جبال قلوبنا صوت من ؟ وحينا هذا الجبل ملىء بذلك الصوت ، وحينا هو خال منه .
فحيثما كان حكيم ، وأينما كان أستاذ ، فلا يكن جبل قلبه خاليا من ذلك الصوت .
ومن الجبال ما يجعل الصوت الذي يتلقاه ضعفين ، ومنها ما يضاعفه مائة مرة .
 
1330 وان الجبل ليفجر - من هذا الصوت والمقال - مائة ألف عين من الماء الزلال .
فإذا ما فارق الجبل ذلك اللطف ، صارت المياه في الينابيع دماء .
ان هذا المليك الأكبر قد مر بنعليه المباركتين على جبل الطور فجعله ياقوتا .
لقد تقبلت أجزاء الجبل الروح والعقل ، فهل نحن - أيها القوم - أقل من الحجر اداركا ؟
فليس في الروح نبع واحد يتفجر ، ولا الجسم قد غدا يانع الخضرة مزدهرا !
 
 1335 وما تتردد أصوات الشوق في جنباته ، ولا هو اتنشى من صفاء جرعة الساقي .
فأين الحمية التي تقتلع بالفأس والرمح مثل هذا الجبل بأكمله ؟
فلعل قمرا يشرق فوق أجزائه ! لعل نور البدر ينفذ خلاله ، ويجد سبيلا فيه !

 
“ 158 “
 
فما دامت القيامة سوف تقتلع الجبال ، فكيف يكون سبيلها لتنشر فوق رؤوسنا الظلال ؟
ومتى كانت القيامة ( الروحية ) “ 1 “ أقل من قيام الساعة ؟ ان هذه القيامة ( الكبرى ) كالجرح ، وأما البعث الروحي فهو كالمرهم !
 
 1340 فكل من عرف هذا المرهم فقد أمن الجراح . وكل مسُىء أبصر هذا الحسن فإنه محسن .
فما أسعد القبيح الذي غدا الجميل له نديما ! وواها على مليح وردىّ المحيا غدا الخريف له قرينا !
 ان الخبز الميت - حين يصبح رفيقا للروح - يغدو حيا ، بل يغدو عين الحياة ! 
والحطب المظلم يصير رفيقا للنار ، فيذهب عنه اظلامه ، ويغدو كله أنوارا ! 
ان الحمار الميت - حين سقط في منجم الملح - تخلى عن حماريته ، وعن تحلل جسده .
 
1345 وصبغة الله “ 2 “ تكون من وعاء لون الوحدانية . فقيه تغدو الألوان المتنوعة لونا واحدا ! 
فإذا وقع في هذا الوعاء أحد ، وقلت له : “ قم “ ، فإنه يقول لك طربا : “ انني أنا الوعاء فلا تلمني “ .
.................................................................
( 1 ) “ القيامة الروحية “ هي الوصول إلى حال اليقظة الروحية بعد التخلص من سلطان الحس وشهوات الجسد .
( 2 ) انظر : سورة البقرة ، 2 : 138 .
 
“ 159 “
 
وان قوله : “ أنا الوعاء “ لهو عين قول : “ أنا الحق “ . وهل سوى الحديد ما يحوز لون النار ؟
فلون الحديد يمحى في لون النار . وكأنما الحديد في صمته يباهى بناريته !
 فحينما غدا - في حمرته - مثل ذهب المنجم ، فهو يباهى بدون لسان قائلا : “ أنا النار”  !
 
 1350  لقد صار مهيبا بلون النار وطبيعتها . فهو يهتف قائلا : “ انني أنا النار ، أنا النار !
 “ انني أنا النار ، فان كنت في شك من ذلك أو ريب ، فلتجرب ولتضع فوقى يدك .
انني انا النار ، فإن كان لك في ذلك اشتباه ، فضع وجهك فوق وجهي لحظة واحدة ! 
والانسان حين يقتبس النور من الله ، يكون الجدير بسجود الملائكة لأن الله اجتباه .
وكذلك يكون جديرا بسجود الانسان ، الذي خلصت روحه من الشك والطغيان مثل الملائكة .
 
1355 -وما النار ؟ وما الحديد ؟ ألا فتلغلق شفتيك ، ولا تهزأ بلحية تشبيه المشبِّه .
ولا تضع قدمك في البحر ، وأقلل من حديثك عنه . ولتقف على شاطىء البحر صامتا ، تعض ( من الحيرة ) شفتيك .
ومع أنه لا طاقة لمائة مثل بالبحر ، فإنه لا اصطبار لي عن أن أغدو غريق لجه !
 
“ 160 “
 
فليكن روحي وعقلي فداء للبحر . فهذا البحر هو الذي أدى دية العقل والروح .
فما دامت لي قدم تسعى فانى مندفع اليه . وحين لا تبقى لي قدم فأنا فيه مثل البط .
 
1360 -والحاضر - ولو كان عديم الأدب - خير من الغائب . فالحلقة - مع أنها معوجة - أليست فوق الباب ؟
أيها الملوث الجسد . لتدر حول الحوض . والا فيكف يتطهر خارج الحوض انسان ؟
بل إن الطاهر - الذي أقام بعيدا عن الحوض - هو أيضا قد وقع بعيدا عن طهارة ذاته .
فطهارة هذا الحوض لا حدود لها ، أما طهارة الأجسام ، فهي طفيفة القدر .
والقلب حوض ، لكنه محتجب ، ولهذا فان له سبيلا خفيا إلى البحر !
 
 1365 -فطهارتك المحدودة تحتاج إلى مدد ، والا فان العدد يتناقص بالانفاق .
لقد قال الماء للمواث : “ أسرع الىّ “ ، فقال الملوّث : “ انني أخجل من الماء ! 
“ فقال الماء : “ وكيف يذهب عنك هذا الخجل بدونى ؟ أم كيف يزول بدونى هذا التلوّث ؟
فكل ملوّث قد احتجب عن الماء فإنه مصداق لقول القائل :
“ الحياء يمنع الايمان “ .
 
“ 161 “
 
ان سلم حوض الجسد قد لوّث القلب ، أما حوض القلب فقد طهر بمائة الأجساد .
 
1370 -فلتكن - يا بنىّ - قريبا من سلم حوض القلب ، وتنبه ، وكن حذار من سُلم حوض الجسد .
وبحر الجسد ، وبحر القلب يلتقيان ،” بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغيان ““ 1 “ .
فان كنت مستقيما ، أو كنت معوجا ، فتقدم زاحفا نحوه ، ولا تتقهقر عنه “ 2 “ .
فإن كان في القرب من الملوك خطر على الروح ، فان أهل الهم لا يصبرون عن ذلك القرب ! فالمليك إذ كان أحلى من السكر فخير للروح أن تذهب فداء لحلاوته .
 
1375 -فيا أيها اللائم ! لتنعم أنت بالسلامة . وأنت يا طالب السلامة ! انك واهى العرى .
ان روحي كالتنور ، وهي سعيدة بالنار ! وحسب التنور أنه منزل النار .
وللعشق محروقات مثلما للتنور . وكل من عمى من ذلك فليس بتنور .
وحينما أصبح غذاؤك الاعراض عن غذاء الحس ، تحقق لك الروح الباقي ، وانصرف عنك الموت .
.................................................................
( 1 ) الرحمن ، 55 : 20 .
( 2 ) تقدم نحو خالقك مهما كان التقدم بطيئا ، ولا تتراجع عن قربه قيد أنملة .


“ 162 “
 
وحينما استولى عليك ذلك الحزن الذي يزيد السرور ، شاع الورد والسوسن في روضة روحك !
 
 1380- وأصبح أمنا لك ما يخيف سواك . ان البط لقوىّ في البحر ، وأما الطيور الأليفة فواهية ضعيفة .
هأنذا قد عاودنى الجنون ، أيها الطبيب ! وها هوذا الوجد قد عاودنى ، أيها الحبيب ! وان حلقات سلسلتك لذات فنون ، وكل حلقة منها تهب لونا من الجنون .
فعطاءُ كل حلقة فن مختلف عن سواه ، ولهذا فان لي في كل لحظة جنونا فريدا ! ولهذا فان قول القائل : “ الجنون فنون “ ، قد أصبح مثلا .
ويصدق هذا - بخاصة - على سلاسل هذا الأمير الأجلّ
 
 1385 -ومثل هذا الجنون قد حطم عندي كل قيد ، حتى غدا كل مجنون يسدى الىّ النصح !
* * *
شرح كيف امتحن الملك هذين الغلامين
( 841 ) “ قد يسئ العوام فهم ما نقول ، فتصبح محاسننا مثالب في نظر هؤلاء ، برغم أن كل قولنا صادر عن تجرد من الهوى “ .
( 842 ) من كان معرضا عن الذوق الصوفي فخير له ألا يدعى إلى ذلك ، فتلك دعوة لا تلائمه ، ومن الأفضل أن يبقى خارج نطاقها . فهو

 
 “ 456 “
 
في معرفة الروح فقير متسول ، ولامكان له في محفل أصحاب القلوب .
( 848 ) قد يُعثر في الخرائب على كنز ويكون إلى جانبه ثعبان . وقد استعار الشاعر هذه الصورة للانسان الذي يكون قوى الروح نقى الفؤاد ، ومع ذلك لا يخلو من بعض نزعات الحس . فالكنز هو العرفان الروحي ، والثعبان هو نزعات الحس .
( 853 ) عندما يصبح نور القرآن هو نور البصيرة الانسانية ، يكون لدى الانسان الجواب عن كل ما يثور في نفسه من شبهات .
( 854 ) إذا لم يتحقق للعين سداد النظر نور القرآن الكريم ، فهي عين حولاء ، ثنائية الشهود ، أسيرة الشبهات .
( 856 ) “ الفكر شعاع ذلك الجوهر “ يعنى أن الفكر شعاع من نور القرآن الكريم .
( 857 ) بعد دعوة الفكر إلى التأمل والمشاهدة ، يسفه الشاعر هنا المعارف النقلية التي يُعتمد في تلقيها على السماع .
( 858 ) “ ليست المعرفة الروحية المبنية على العيان والمشاهدة كالمعرفة النقلية ، فهذه تبدو سوقية ، إذا قوربت بعرفان أهل الوصال “ .
( 859 ) المعرفة النقلية محدودة الأثر . انها قد تؤدى إلى تبديل في صفات متلقيها ، أما تبديل الذات من حال إلى حال ، فلا سبيل اليه الا بالشهود والعيان .
( 862 ) الأذن حين تحسن الاستماع يمكن أن تصبح سبيلا إلى العلم اليقيني . فالمريد يتلقى من المرشد - عن طريق السمع - ما يمهد له السبيل إلى التأمل الروحي .
( 883 ) السمنى هو عابد الصنم . ويشبه الشاعر من يركز نظره على سواه ، ويغفل عن ذاته بعابد الصنم الذي يلهيه الصنم عن ادراك حقيقة روحه وجوهر كيانه .
 
“ 457 “
 
( 884 ) من عرف نفسه فقد عرف خالقه . فادراك الانسان لحقيقة ذاته يجعله أكثر استنارة من سواه من مخلوقات الله ، وهو ان فنى عن ذاته بالشهود ، بقي له هذا الشهود ، إذ أنه يغدو مبصرا بعين الله .
( 886 ) معرفة الذات ليست مما يمكن ادراكه بالحس . فالانسان لا يرى بالحس سوى الصورة الظاهرية .
( 892 ) من لم يكن مدركا قدرة الله الخالقة لم يَجْد بالروح .
( 893 ) الانسان الذي يكون بصيرا بقدرة الله الخالقةُ لا يضن بحياته على الله ، لأنه يعلم أن الجود بها سوف يجعله مستحقا - من جزاء الله - ما يعوضه عنها بحياة خالدة لا زوال لها .
( 897 ) ان الجود بالروح مبعثه رؤية الجزاء . فمن أدرك حقيقة ذلك الجزاء الإلهي ، هان عليه البذل والعطاء .
( 898 ) البخل - في نظر الشاعر - عجز عن ابصار الجزاء . فمن هذا الوجه يكون البخل جحودا وانكارا لما وعد به الله من حسن المثوبة .
( 899 ) لا وجود اذن للبخل في العالم ، وانما مرد ذلك إلى الجحود .
فمن لا يعتقد بالجزاء ، لا يتقبل بالرضى مبدأ الجود .
 
[ شرح من بيت 900 إلى بيت 1050 ]
( 900 ) رؤية الجزاء الأوفى هي التي تدفع إلى السخاء . ولهذا فان البصيرة هي الدافع إلى السخاء . والمشاهدة الروحية هي وحدها سبيل النجاة .
( 909 ) ترجمة البيت على هذا النحو هي السبيل الوحيد لتفسيره .
فكلمة “ بركرفت “ يجب أن تفهم على أساس “ الامساك “ فالله خلق النور الصافي ، وأمسك عنه حرارة النار . أما أن يفهم من البيت أن الله خلق النور الصافي من النار ، فهذا ما لا يمكن تأويله ، فسواء أكان المقصود بالنور الصافي نور محمد ، أو كان هذا النور هو النور الابداعي الأول ، الذي يتحدث عنه الاشراقيون ، فهو لم يخلق من النار .

“ 458 “
 
يقول السهروردي عن النور الأول : “ فأول ما يجب بالأول واحد لا كثرة فيه ، وليس بجسم فتختلف فيه هيئات مختلفة كالشكل ، ولا هيئة فيحتاج إلى محل ، ولا نفس فيحتاج إلى بدن ، بل هو قائم مدرك لنفسه ولبارئه . وهو النور الابداعي الأول ، لا يمكن أشرف منه ، وهو منتهى الممكنات ، وهذا الجوهر ممكن في نفسه ، واجب بالأول “ . ( هياكل النور ، ص 62 ، 63 ) .
وهذا النور الابداعي الأول ، هو الذي يقول عنه الصوفية انه النور المحمدي . ( انظر : الجيلى : الانسان الكامل ، الباب الثامن والخمسون : “ في الصورة المحمدية ، وأنها النور الذي خلق الله منه الجنة والجحيم ، والمحتد الذي وجد منه العذاب والنعيم “ ، ج 2 ، ص 31 ) .
 
( 910 ) “ لقد اقتبس آدم العرفان من النور المحمدي “ .
يقول ابن الفارض في التائية الكبرى :وانى وان كنت ابن آدم صورة * فلى فيه معنى ناطق بأبوتى( 912 ) “ الجوهرة “ التي كان نوح جديرا بها هي الخلافة في الأرض .
أما قول الشاعر : “ فكم كان يمطر الدر في جواء بحر الروح “ ، فيشبر لاي خرافة قديمة ، تحكى أن اللالىء تتكون من قطرات المطر المتساقط في أجواء البحار “ .
( 913 ) إشارة إلى قصة القاء إبراهيم في النار بأمر النمرود ، وخروجه منها سالما ( انظر : مثنوى ، 1 ، 547 في الترجمة والتعليقات ) ، وانظر القصة في القرآن الكريم ( 21 : 68 - 69 ) .
( 914 ) إشارة إلى قصة إسماعيل واستسلامه لنصل أبيه إبراهيم ، تصديقا للرؤيا التي كان إبراهيم قد رآها . وقد ذكرت هذه القصة في القرآن الكريم ( 37 : 101 - 107 ) . واسم إسماعيل لم يرد بصريح
 
“ 459 “
 
القول في هذه الآيات ، لكن بعصض المفسرين ، وكذلك الثعلبي صاحب قصص الأنبياء يذكر أن الغلام المقصود بقوله تعالى : “ فبشرناه بغلام حليم “ ، هو إسماعيل ، وأنه هو الذي استسلم للقتل تصديقا لرؤيا أبيه ، ففداه الله بذبح عظيم .
( 915 ) عرف داوود بيراعته في صنع الدروع . وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله : “ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون “ . ( 21 : 80 ) .
( 916 ) ذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع أن الجن سُخِّرت لسليمان . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : “ فسخَّرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص ، وآخرين مقرنين في الأصفاد “ . ( 38 : 36 - 38 ) .
( 917 ) كان يعقوب قد فقد بصره من كثرة بكائه على ابنه يوسف .
لكن بصره عاد اليه حينما ألقى على وجهه قميص يوسف . ( سورة يوسف ، 12 : 84 ، 96 ) .
( 918 ) انظر ما رواه القرآن الكريم عن تأويل يوسف للأحلام .
( 12 : 43 - 49 ) .
( 919 ) ان موسى أظهر بعصاه معجزة قضت على ملك فرعون .
قال تعالى عن موسى وسحرة فرعون : “ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون “ . ( 26 : 45 ) . ولم يقتصر أثر هذه المعجزة على السحرة وحدهم ، بل كان من آثارها القضاء على ملك فرعون .
( 920 ) يقول الثعلبي في قصة عيسى بن مريم : “ رفعه الله وكساه الريش وألبسه النور وقطع منه شهوة المطعم والمشرب ، فهو يطير مع الملأئكة حول العرش ، فكان انسيا ملكيا ، أرضيا سماويا “ . ( قصص الأنبياء ، ص 454 ) .
( 921 ) إشارة إلى معجزة شق القمر التي ظهرت على يد الرسول ،

 
 “ 460 “
 
وترى في تفسير قوله تعالى : “ اقتربت الساعة وانشق القمر “ . ( 54 :
1 ) . فالذين فسروا الآية على هذا الوجه ذكروا أن المشركين سألوا رسول الله آية ، فأشار إلى القمر فانشق .
( 926 - 930 ) ذكر الشاعر في هذه الأبيات بعض المشهورين من الصوفية . وهؤلاء هم الجنيد ، وأبو يزيد البسطامي ، ومعروف الكرخي ، وإبراهيم بن أدهم ، وشقيق البلخي - ولهؤلاء تراجم كثيرة في كتب التصوف . انظر : أبو نعيم الاصفهالنى : حلية الأولياء ، السلمى : طبقات الصوفية ، الشعراني : لواقح الأنوار ، اليافعي : مرآة الجنان ، العطار :
تذكرة الأولياء ، القشيري : الرسالة . وانظر كذلك كتب التراجم العامة كوفيات الأعيان لابن خلكان ، وشذرات الذهب لا بن العماد الحنبلي .
( 926 ) الجنيد البغدادي ، من مشهوري الصوفية . توفي عام 297 هـ .
( 927 ) المقصود هنا الصوفي المهشور أبو يزيد البسطامي ، المتوفى عام 260 هـ ، ويقال عام 261 هـ .
( 928 ) الكرخي هو أبو محفوظ معروف بن فيروز أو ابن الفيروزان .
وهو من صوفية بعذاد المعروفين . توفي عام 200 ه ، وقبره ببغداد . وقد ولد لأبوين نصرانيين ، واعتنق الاسلام - كما يروى - على يد علىّ بن موسى الرضى ، امام الشيعة .
( 929 ) إبراهيم بن أدهم ، ويذكر السلمى في ترجمته أنه “ من أهل بلخ ، كان من أبناء الملوك والمياسير . خرج متصيدا ، فهتف به هاتف أيقظه من غفلته . فترك طريقته في التزين بالدنيا ، ورجع إلى طريقة أهل الزهد والورع . وخرج إلى مكة ، وصحب بها سفيان الثوري ، والفضيل بن عياض ، ودخل الشام ، فكان يعمل فيه ، ويأكل من عمل يده “ .
 
( طبقات الصوفية ، ص 27 ) . توفي بالشام عام 160 هـ .
( 930 ) شقيق البلخي هو المقصود بهذا البيت . يقول السلمى :
“ شقيق بن إبراهيم ، أبو علىّ الأزدي . من أهل بلخ . حسن الجرى
 
“ 461 “
 
على سبيل التوكل ، وحسن الكلام فيه . وهو من مشاهير مشايخ خراسان . وأظنه أول من تلكم في علوم الأحوال بكور خراسان . كان أستاذ حاتم الأصم ؛ صحب إبراهيم بن أدهم ، وأخذ عنه الطريقة “ .
( طبقات الصوفية ، ص 61 ) . توفى عام 194 هـ .
( 931 ) يروى عن الرسول حديث قدسي نصه : “ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيرى “ . ويستشهد السلمى “ 1 “ على وجود أولياء مجهولين بقوله تعالى في سورة الفتح : “ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء “ . ( 48 : 25 ) .
وهذه الآية تذكر أن من أسباب كف أيدي المؤمنين عن الكفار يوم فتح مكة أنه كان بين الكفار مؤمنون ومؤمنات لا يعرفهم المؤمنون الفاتحون . وعند الصوفية أن الله “ لم يخل وقتا من الأوقات من داع اليه بحق ، أو دال عليه ببيان وبرهان “ .
( المصدر السابق ) .
( 939 ) “ ماذا حصلت أنت من العرفان ، وأية درة ظفرت بها من بحر الروح ؟ “ ( 943 ) “ ما دامت هذه الحياة المادية لا تبقى فمن الواجب على المرء أن ينشد حياة الروح الخالدة “ .
( 944 - 957 ) في هذه الأبيات يعالج الشاعر موضوع الأعمال وهل قيمة الفعل الحسن في الفعل ذاته ، أم في نتيجة ذلك الفعل . والشاعر قد جعل الملك يشرح لغلامه أن العبرة ليست بالفعل بل بنتيجته . فقوله تعالى : “ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها “ ، لا يقصد به أن الثواب نتيجة للفعل ذاته - وهو عرض - بل هو نتيجة لتقديم الفعل إلى الله وهذا هو جوهر الفعل . وكأنما يريد الشاعر باجراء هذا الرأي على لسان الملك ، أن يقول : ان الله لا يكافىء على الفعل ذاته بل على النية الدافعة
.................................................................
( 1 ) طبقات الصوفية ، ص 1 .
 
“ 462 “
 
اليه والنتيجة المترتبة عليه بالنسبة لفاعله فتسبيح المرائي لا قيمة له ، وصلاة المنافق لا جدوى منها . والهدف من الأعمال الحسنة ليس الفعل ذاته ، بل نتيجة الفعل وهي تنقية النفس وتطهيرها ، والتقدم بها إلى الله نقية بريئة من السيئات . وهذا البحث في قيمة الفعل مرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا ، وهو يختلف عن أبحاث الفعل التي قام بها المتكلمون ، والمعتزلة منهم بوجه خاص ، وكانت أبحاثهم مرتبطة بأسباب الحسن والقبح وهل هي عقلية أو شرعية ، ومتعلقة بالاستطاعة ، وهل هي من الله أو من الانسان .
لكنهم لم يتناولوا هذا الجانب الأخلاقي الدقيق ، الذي يتناول علاقة الفعل بالفاعل من حيث النية والأثر .
( 947 - 948 ) الأفعال الحسنة في ذاتها أعراض تفنى بانتهاء وقتها .
لكن هذه الأعراض تفنى جوهر الروح من الأمراض . فمثل هذه الأعمال لا تنفع الخالق ، بل تنفع صاحبها إذ تنقى روحه ، وتسمو بنفسه .
( 949 ) “ العرض يغدو بالجهد جوهرا “ ، فالأفعال الحسنة التي هي أعراض تغدو جوهرا حين تنقى الروح الانساني وتبلغ به درجة الكمال .
ذلك لأن الفعل في ذاته لا بقاء له ، لكن نتيجته تبقى ببقاء الجوهر الذي أثرت فيه ، وهو الروح الانساني .
 
( 958 - 963 ) يعرض الشاعر وجهة نظر أخرى عن الأعمال على لسان الغلام . فالخادم - الذي هو أدنى مقاما من الملك - هو في أسلوب الرمز أدنى عرفانا من الملك . فهو هنا يمثل الاتجاه العامي في تقويم الأفعال ، وأنها - ليست كما يقول الملك - أعراضا لا توجد في زمانين ، بل تفنى بفناء وقتها ، وانما هي - في رأى الخادم - تعود ، وتحشر مع الانسان ، وتكون لها صورتها الخاصة بها يوم الحشر . ولو كان مآل الأفعال الحسنة إلى النفاء ، لكان ذلك مدعاة لقنوط فاعليها .
 
( 964 - 982 ) يقدم الخادم أمثلة كثيرة للأعراض التي أصبحت جواهر ، فيذكر أمثلة لكثير من الأمور العرضية التي تنبثق عنها جواهر
 
“ 463 “

 
مكتملة . فالديار والقصور الجميلة ، أولم تكن أفكارا عارضة في ضمير المهندس ؟ وكل عمل فنى متكامل ، أولم يكن في أول الأمر خيالا عارضا ؟
فما كان في أول الأمر فكرا مجردا ، أصبح عملا . والزارع حين يزرع يكون دافعه إلى ذلك ما يجنيه من ثمار ، وهذه لا تظهر الا في النهاية . والعالم كله كان عرضا في عالم الامكان ، وفأصبح جوهرا في عالم الوجود .
وكل هذه الأمثلة التي ذكرها الغلام تشير إلى امكان حشر الاعمال ، برغم أنها من الأعراض .
ولقد أبدع الشاعر في عرض وجهتي النظر ، ودافع عن كل منهما بأسلوب بارع . ومع أنه قد رجح في النهاية رأى الملك ، فهو قد أتاح لكل رأى عرضا جميلا ، ودفاعا حارا .
 
( 974 ) كان ظهور محمد - وهو الانسان الكامل - غاية لخلق هذا الكون كله . ويروى الصوفية حديثا قدسيا نصه : “ لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك “ ، وعندهم أن هذا الحديث يعنى أن محمدا هو الغاية من خلق العالم .
( 975 ) هذا البحث والحديث المتبادل بين الملك والغلام كان عرضا يهدف إلى ادراك الحقيقة . وهكذا أيضا قصة الأسد وابن آوى ( من قصص كليلة ودمنة ) ، ان هي الا صورة ، تستخلص منها الحقيقة .
 
( 976 ) هذا البيت يقبل تفسيرين : أولهما أن البشر قبل أن يخلقوا ، كانوا أعراضا لا وجود لها الا في عالم الامكان . لقد كانوا عدما ، ولم يكن يربطهم بهذا الوجود سوى امكان خلقهم .
أما التفسير الثاني فهو أن جميع الناس يخلقون من نطفة لا صورة لها ، ثم يتخذون بعد أن يخلقوا تلك الصورة التي يكونون عليها . وقد يؤيد هذا الشرح أن الشاعر يستشهد هنا بسورة الانسان ، والآية الثانية منها تتحدث عن خلق الانسان من نطفة . قال تعالى : “ هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا

 
 “ 464 “
 
بصيرا “ . ( 76 : 1 - 2 ) .
وبرغم ذلك أعتقد أن التفسير الأول الذي ذكرناه أقرب إلى السياق .
ذلك لأن الشاعر يتحدث في الأبيات التالية عن العقل الكلي ، ومعنى الأبيات يشير إلى أن الشاعر كان يتحدث عن نظرية الخلق ، بلغة القائلين بوحدة الوجود .
( 983 ) الملك يخاطب خادمه قائلا : “ لو سلمنا جدلا برأيك ، وهو أن الأعراض تنجب الجواهر ، فلماذا لم يتحقق ذلك بالنسبة لك ، وبقيت على ظاهرك ، ولم تغير من هذا الظاهر حقيقة باطنك ؟ “ .
( 984 ) أجاب الخادم الملك بقوله : “ ان العقل الكلى حجب صورة الباطن عن الناس في هذه الدنيا . فالدنيا عالم امتزج فيه الخير بالشر ، والإرادة الإلهية قد قضت بألا تتبين فيها حقيقة الضائر والأرواح “ .
( 985 ) “ لو كانت خلجات النفوس وخبايا الضمائر تُرى في هذه الدنيا ، لا ختفى منها الخبث ، وتساوى الناس في نقاء القلب “ . وشرح نيكولسون لهذا البيت بعيد كل البعد عن معناه .
 
( 986 - 987 ) “ لو كان الكفر بقبحه يرتسم على الجبين ، والايمان يتجلى على الوجوده بجماله ورونقه ، فهل كان يبقى كافر واحد في هذه الدنيا ؟ وهل كان انسان يجترىء على الجحود ؟ “ ( 988 ) لو أن الخير والشر ظهرا على حقيقتهما للناس لكانت هذه الدنيا كالعالم الآخر ، ولما كان هناك مقترف للآثام .
 
( 992 ) الملك يقول لخادمه : “ اذكر لي علامة واحدة تشير إلى عرفانك الصوفي ، ولسوف أعلم منها كل شئ وأدارك أسرار عرفانك مهما أحاطت به الحجب “ .
 
( 993 - 994 ) يقول الخادم للملك : “ ما دمت قادرا على كشف المحجوب فما حاجتك إلى قولي ؟ “ فيجيبه الملك بقوله : “ ان الخق ذاته أراد العيان لعمله ، فخلق الدنيا “ .
 
“ 465 “
 
( 995 ) طبيعة العيان تختلف عن طبيعة العلم . فالخالق لم يلق على الخلق أعباء الأمانة والمسؤولية الا بعد أن جاء بهم إلى عالم الوجود . وهذا الوجود الدنيوي قد فرض على الخلق ألم المخاض في سعيهم للتحرر مما يفرضه عليهم من أثقال ، سعيا إلى حياة أسمى ، ووجود أبقى .
( 996 ) من طبيعة الوجود الدنيوي أن الانسان يكون فيه عرضة للدوافع المختلفة . فهذه الدوافع تحركه نحو الخير أو الشر .
( 997 ) من شأن الدوافع التي تحرك الانسان أن تؤدى إلى كشف سره وبيان طبيعته .
( 998 ) طالما أن الضمير يتحرك ، ويثير الدوافع ، فلا سكون للجسد .
( 999 ) دفع الضمير للانسان يجعله يعاني من القلق المستمر . وهذا الاحساس ذاته هو الذي يجعل خلو الانسان من العمل أمرا شديد الايلام ، كأنه نزع الروح .
( 1000 ) في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، تولد الأسباب على الدوام ، وهذه الأسباب تترتب عليها الآثار . فحركة العالمين مبنية على الأسباب ، وما تولده من آثار . ووراء ذلك كله مسبب الأسباب .
( 1001 ) كل أثر ترتب على سبب يصبح بدوره سببا تترتب عليه آثار ، فالبذرة سبب في نمو الشجرة . فالشجرة اذن أثر للبذرة . لكنها من جهة أخرى سبب للثمار . والثمار أثر للشجرة ، ولكنها من جهة أخرى سبب للغذاء ، وهكذا .
( 1003 ) استطاع الملك - بحديثه مع الغلام - أن يرى علامة خفية دلته على ما أن عليه هذا الغلام من العرفان .
( 1023 - 1024 ) كل الأجساد تنطوى على أرواح ، ولكن هذه الأرواح ليست جميعا صافية طاهرة نبيلة .
( 1026 - 1045 ) عالج جلال الدين في هذه الأبيات الصورة والمعنى ،


“ 466 “
 

أي الجسد والفكر . وبين أن العبرة ليست بالضخامة ، فالجبال الضخمة أقل قيمة من اليواقيت الصغيرة . والجسد العظيم يسيره فكر خفى .
وقدم صورا فنية كثيرة لا يضاح هذه المعاني . فالملك وهو فرد واحد ، يتبعه الآلاف من الناس . وهذا الملك ذاته يخضع لسلطان الفكر . والعين وهي صغيرة الحجم أكثر ادراكا من الأيدي والأرجل والشعر ، مع أن هذه تفوق حجم العين مئات المرات . والخلق كلهم يتحركون مندفعين بسيل الفكر . وهذا العالم الواسع الأرجاء ، بأرضه وشمسه ونجومه وأفلاكه ، يتحكم فيه سلطان الفكر . ويوم تقوم الساعة فان سلطان الفكر هذا يجعل كل هذه الظواهر - التي تروعنا برونقها وجلالها - حطاما وعهنا مفنوشا وهباء . فعلى الانسان أن يدرك أين تكمن القوة في الانسان ، فلا يعد الجسد سلطانا في قوة سليمان ، في حين أنه يحسب الفكر نملة .
فالفكر أساس كل الحرف . والفكر هو الذي عمر الأرض بالديار والقصور والمدائن .
( 1049 ) أياز كان غلاما تركيا جميلا ، من عبيد السلطان محمود الغزنوي ( 389 - 389421 - 389421 - 421 ه ) . 
وكان محمود شديد التعلق بأياز ، وقد اشتهر ذلك الحب في تاريخ محمود . ( انظر : نظامى عروضى : جهار مقالة ، ص 39 ، طبعة لندن ) .
 
[ شرح من بيت 1050 إلى بيت 1200 ]
( 1050 ) الأولياء كانوا ذوى أرواح حية مدركة قبل أن يخلق هذا العالم . لقد سبق لجلال الدين ذكر ذلك ( انظر الأبيات 168 - 175 ) .
فالشاعر يعزو هذه الألفة بين الملك وغلامه ، إلى سابق محبة كانت بين روحيهما قبل خلق هذا العالم .
( 1051 ) حياة الجسد لا اعتبار لها إذا قورنت بحياة الروح قبل الجسد ، ويصدق ذلك - بوجه خاص - على الأولياء ، الذين نعموا
 
“ 467 “
 
بحياتهم الروحية قبل خلق الأجساد .
( 1052 ) العارف ذو النظر السديد لا يخطئ الرؤية ، ويبصر الأشياء على حقيقتها ، فيدرك بذلك جوهرها الأصيل ، غير حافل بما آل اليه ظاهر حالها .
( 1053 ) العارف يبصر الحقيقة في جوهرها ، سواء نظر إليها في النهار المضئ أو الليل المظلم .
( 1054 ) ما سبق تقديره فلا سبيل إلى الفرار منه . ومهما احتال المرء للخلاص من قدر الهى سابق ، فان حيلته لا بد أن تذهب هباء .
( انظر : المثنوي ، ج 1 ، الأبيات 950 - 970 ) .
 
( 1055 ) في هذا البيت اقتباس معنوي من قوله تعالى : “ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين “ . ( 3 : 54 ) .
 
( 1058 ) مهما احتال الانسان ليغير الأقدار ، فلا سبيل له إلى ذلك .
فالقضاء راسخ لأنه ارداة الله ، وإرادة الانسان - أمام الإرادة الإلهية - واهية عاجزة .
( 1062 ) ليكن سعيك وجهدك كله من أجل الله ، ان كنت بحق تستشعر المحبة الإلهية .
 
( 1064 - 1065 ) يصور الشاعر النفس الأمارة بالسوء بلص يختلس المتع ، تحجب حقيقته هذه الحياةُ الدنيا ، فإذا تجلى صبح البعث وتكشفت السرائر ، كان في ذلك افتضاح النفس السارقة . وكل ما سرقته يبقى عالقابها ، لأنها تبعث على ما كانت عليه في حياتها الدنيا ، ويتكشف ما كان خافيا من نقائصها ، فكأنها لص ضبط متلبسا بالسرقة .
 
( 1068 - 1070 ) بعد أن بين الشاعر أن الانسان في هذا الوجود أسير القضاء ، تصور أن سائلا يسأله : “ ما فائدة الوجود اذن ، وما جدوى خلق الانسان ؟ “ ويجيب الشاعر على ذلك بأن مجرد السؤال عن



 “ 468 “
 
فائدة الوجود ، هو في ذاته فائدة محققة . فمثل هذا السؤال رمز للتفكر والتأمل .
( 1071 ) لئن كانت الحياة الدنيا - من جهة لذاتها ومتعها ، وصرفها الناس عن خالقهم - تبدو عديمة الفائدة ، فهي من جهة أخرى حافلة بالفوائد : انها مجال لتجلى القدرة الإلهية ، وهي ميدان لتأمل هذه القدرة ، ثم هي السبيل الذي يسلكه الخلق إلى الآخرة .
( 1072 ) إذا كانت الحياة الدنيا تبدو غير مفيدة للعارفين ، فليس معنى ذلك أنها غير مفيدة لسواهم . فمن الممكن أن تصير هذه الحياة - بالنسبة للمحرومين - سبيلا إلى العرفان ، ووسيلة للتحقق به .
( 1075 ) انظر البيت رقم 694 .
( 1076 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون “ . ( 3 : 169 ) .
( 1079 ) النفس المتعلقة بلذات الدنيا تكون متعلقة بقوت عارض .
فهذه الحياة المادية صورة مؤقتة للانسانية ، ترجع منها إلى أصلها الروحي .
ولهذا فان النصح والتهذيب يردان النفس عن هذه الطبيعة المنحرفة .
 
( 1084 ) القلب العليل أصابه ما أصاب النفس الحسية ، فتعلق أيضا بلذات الحس ( الماء والطين ) .
 
( 1085 ) لقد خارت قوى القلب من جراء التلعق بالماء والطين ، “ فأصبح شاحب الوجه ، واهى الساقين ، خفيف اللب . وما ذاك لا لا نصرافه عن غذاء السماء .
 
( 1068 ) الغذاء الروحي لا يقتضى تناوله حلقا ولا أداة طعام .
 
( 1102 ) دأب جلال الدين على ذكر الأفلاك التسعة في المثنوى ، بالرغم من أن المعروف أن السماوات سبع . وقد ذكر بعض شراح المثنوى أن الفلك التاسع هو “ العرش الأعظم “ ( المنهج القوى ، 2 : 267 ) .
 
“ 469 “
 
انظر أيضا : ( تعليقات نيكولسون على هذا البيت ) . ورأيي أن جلال الدين يقصد بالفلك التاسع السماء السابعة . والسماء السابعة هي الفلك التاسع ، إذا أخذنا في اعتبارنا أن بعض الصوفية يضيفون إلى أفلاك السماوات السبع فلكين آخرين يحيطان بالأرض هما فلك الهواء أو “ كرة الهواء وفلك النار أي “ كرة النار “ . ( انظر : الجيلى : الانسان الكامل ، 2 ، 66 ) . فمعنى البيت أن هذه المعاني التي لا تبدو في الدنيا ذات مجد ووراء ، تنتمى إلى أعالي السماء ، ولها مجد ورواء مستمد من تلك الأعالي .
 
( 1106 ) أعتقد أن المتحدث هنا هو الولىّ إلى ينكر على الناس اندفاعهم وراء مجد زائف ، على حين أنه ينعم في عزة ، تغمرها شمس الحقيقة .
 
( 1107 ) قول الشاعر : “ ومشرق الشمس برج أسود اللون “ يحتمل أحد تفسيرين . أولهما أن الناس يترقبون اشراق الشمس من سماء مظلمة . وثانيهما أن الشمس التي تغرب في عين حمئة مظلمة ، ( انظر سورة الكهف ، 18 : 86 ) ، تعود إلى الشروق من حيث غربت . أما “ الشمس التي هي فوق المشارق “ ، فالمقصود بها شمس الحقيقة ، واشراق التجلي الذي لا يحده مكان ولا زمان .
 
( 1108 ) ليس معنى شروق شمس التجلي أنها قابلة للمغيب ، فهي في تجل دائم . فالحديث عن شروقها لا يكون الا باعتبار الذرات العالقة بها ، فهي التي ينقلها تعلقها بالشمس إلى حال الشروق .
 
( 1109 ) “ مع أنني لست من الأولياء المقربين وهؤلاء هم الذرات العالقة بشمس التجلي فان النور الذي يغشانى بتجليه يجعلني شمسا لا تغشاها الظلال “ .
 
( 1110 ) المحبة تنبعث من المحبوب ، ولا فضل للمحب في ايجادها .
( 1111 ) في العلاقة بين المحب والمحبوب يكون الجمال والجلال
 
“ 470 “
 
من بين الأسباب التي تجذب المحب إلى المحبوب ، هذا من وجهة نظر المحب . أما المحبوب فليس الجمال والجلال عنده أسبابا ، وانما هما من صفات الذات . فالعبد قد ينظر إلى بعض الأمور على أساس أنها أسباب ، والخالق يكون مدركا لهذه الأسباب ، لكنه لا يتأثر بها .
( 1114 ) الخالق صانع كل شئ . وهذه حقيقة لا تقبل استثناء فاليأس الذي قد يصيب النفس هو أيضا من خلق الله .
 
( 1115 ) النفس التي صنعها الخالق تبقى مرتبطة بخالقها حتى في حالة اليأس ، لأن الصنع لا ينفصل في وجوده عن ذات الصانع .
 
( 1116 ) البراق والخيل العراب والحمير كلها رموز للناس ، على تفاوتهم في قواهم الروحية ، أو تعلقهم بغرائزهم الحسية . وجميع الموجودات مهما كانت طبيعتها تقتبس وجودها من الوجود المطلق .
 
( 1117 ) من غفل عن حقيقة الصانع ، توجه إلى سواه ، ظانا أنه صاحب القدرة . ويظل يتخبط في هذا الجهل فيقع في كل يوم فريسة لوهم جديد .
 
( 1118 ) قول الشاعر : “ فهو قد شرب من البحر العذب ماء ملحا “ ، يعنى أن هذا الغافل الذي يسعى إلى خالقه لم يسلك في سعيه السبيل القويم ، ولهذا فان هذا السعي قاده إلى الضلال والتيه ، بدلا من أن يقوده إلى أمن اليقين .
 
( 1119 ) “ الشرب باليد اليمنى من البحر “ رمز للسلوك القويم الذي يحقق الغاية المنشودة .
 
( 1122 ) الشاعر يقول إن عشق شمس الدين قد شغله عن كل ما سواه ، فلم يكن لديه مجال للعناية بمن عميت بصيرتهم الروحية . وشمس الدين المقصود هنا هو شمس الدين التبريزي . ولعل الشاعر أشار بذلك إلى ما كان يعانيه حينذاك من أحزان لفقد أستاذه الروحي .
 
“ 471 “
 
( 1123 ) يدعو الشاعر تلميذه حسام الدين إلى أن يقوم عنه بمداواة من كلت بصائر أرواحهم .
 
( 1125 ) قدرة الله وحدها هي التي تستطيع أن تكشف عن النفس والروح ما تراكم فيهما من ظلمات الجهل .
( 1126 ) الحسد يحجب صاحبه عن تلقى نور الهداية ، ويمثل عقبة يصعب على الروح تخطيها . أما الجهلاء الذين خلت نفوسهم من السحد فهم قابلون لتلقى نور العرفان .
 
( 1128 - 1130 ) السحد احدى الرذائل التي أكثر الشاعر من بيان أخطارها . فالحسد هو الذي دفع بعض مريدى جلال الدين إلى القضاء على شمس الدين . وكان الحسد دائما مصدر حقد على الأولياء. وهو علة لا دواء لها ، لأنه كما يقول الشاعر يجعل المرء يسعى إلى اطفاء نور لا يخبو ، وشمس لا تغيب .
 
( 1131 ) روح العارف تهتدى إلى خالقها ، كما يهتدى الباز إلى الملك فيعود اليه . أما الروح التي تضل سبيلها فشبيهة بالباز الأعمى .
 
( 1132 ) “ الهبوط في احدى الخرائب “ كناية عن الركون إلى عالم الدنيا ، هذا الذي حق عليه الخراب ، والفرار من عالم الروح . أما “ اليوم “ فرمز لعشاق الدنيا الدين يتعلقون بها ، كما تتعلق البوم بالأرض الخراب .
 
( 1146 - 1147 ) البوم تكذب الباز حين يذكر لها صلته بالملك .
وكذلك الكفار والمنافقون يكذبون النبي حين يذكر لهم صلته بالخالق .
 
( 1154 - 1155 ) بالرغم من أن الشاعر قد استخدم الباز رمزا للولي أو النبي ، وذلك على اعتبار أن رجل الله يرتبط بالله ارتباط الباز بمليكه ، فقد استخدمه في هذين البيتين رمزا لمعنى حسى هو القوة والسطوة . فالبوم لا تقدر على ايذاء باز المليك ، بل إن البيران الجارحة - وهي هنا رمز لأهل السطوة من الكافرين - تعجز عن أن تمس بالسوء
 
“ 472 “
 
باز المليك . ولا مناسبة بين باز الملك وبين البيزان الجارحة ، فالأول وفىّ لمليكه ، مطيع لندائه ، وأما البيزان الأخرى فمتوحشة تحكمها قوة حسية عارمة .
 
( 1157 ) الباز يباهى بأن خياله مقيم في قلب السلطان ، وأن قلب السلطان يغدو سقيما لو غاب عنه هذا الخيال . وفي هذا تعبير رمزى عن محبة الخالق للانسان الكامل ، تلك المحبة التي جعلته - في رأى كثير من الصوفية - يخلق الأكوان من أجله .
 
( 1162 ) يمكن تفسير هذا البيت على أساس أن الانسان الكامل يشفع للخلق عند الخالق . كما يمكن النظر اليه من زاوية العقيدة الصوفية ، فيكون معناه أن الله قد حرر - على يد الانسان الكامل - كثيرا من الخلق ، كانوا يرسفون في أغلال سجن المادة .
 
( 1163 ) لقد حل الانسان الكامل بين الكفار - أشباه البوم - برهة من الزمان ، فصاروا بفضله ذوى قوة روحية ، وحلقوا في السماء كالبيزان .
 
( 1167 ) المحب الصادق مهما قاسى من الآلام فإنه يكون سعيدا في آلامه ، بما أوتيه من سعادة الروح .
 
( 1169 ) ان المحب الصادق يلبى نداء خالقه : “ يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية “ . ( 89 : 27 - 28 ) . فهذا النداء بالنسبة للمؤمن كالطبل بالنسبة للباز .
 
( 1170 ) يبين الشاعر هنا أن الانسان الكامل مختلف عن خالقه ، وهو ليس سوى عبد لملك الملوك .
 
( 1171 - 1173 ) ليس معنى فناء العبد في الخالق أن هناك تشابها بين ذات العبد وذات الخالق . فالتجانس لا يحتم التشابه بين المتجانسين .
فالماء يتجانس مع التراب في النبات . والخمر تنجانس مع الطبع الانساني .
والفناء في الخالق لا يقتضى تشابها في الذات بين العبد وخالقه .
 
“ 473 “
 
( 1174 ) صورة فنية للأرواح التي تفنى في حب خالقها ، فلا يبقى لها وجود منفصل ، بل تصبح في حضرته هباء ، ويبقى الخالق وحده ، لا شريك له .
 
( 1175 ) في هذا البيت صورة فنية أخرى لفناء الروح في الخالق .
“ فالروح تغدو ترابا “ وهذا رمز إلى فنائها “ وتبقى أقدامه منطبعة فوق ترابها “ وهذا رمز إلى بقائها ، فهي بالفناء تحقق لها البقاء .
 
( 1176 ) الفناء في ذات الخالق يحقق لصاحبه أنبل مجد ، وأخلد بقاء .
 
( 1177 ) هذا البيت يجرى على لسان الولىّ الذي يخاطب سواه بقوله : “ لا تنخدع بظاهرى ، وتحسبنى مجرد انسان مادي ، بل تذوق ما أقدمه لك من غذاء روحي ، قبل انتقالى من هذه الحياة “ .
 
( 1178 ) كم من أناس خدعوا بظاهر الصورة ، فحسبوا رجل الله أو النبي انسانا عاديا ، وغرهم ما شاهدوه من ظواهر انسانيته ، فتهجموا عليه ، فكان تهجمهم على الله .
 
( 1179 ) الصلة بين الله وبين نبيه أو وليه قائمة ، ولا ينفيها ما يكون من بعد الشبه بين ذات الله وذات عبده . ويستدل الشاعر - في هذا البيت وفي الأبيات التالية - على امكان قيام هذه الصلة ، وذلك بما يكون من صلة بين الروح والجسد ، أو بين العين المكونة من شحم وماء وبين البصر ، وهكذا فمثل هذه الصلات بين المعنى والمادة صور تبين امكان قيام الصلة الوثيقة بين الانسان والخالق .
 
( 1183 - 1188 ) أوَّل الشراح هذه الأبيات تأويلات مختلفة لا تستند إلى النص . ورأيي أن هذه الأبيات تتضمن أفكارا عن خلق العالم مستوحاة من مذاهب الاشراقيين . ولسنا نستطيع أن نجزم بأن الروح الكلى هنا يشير إلى الخالق ، أو إلى الحقيقة المحمدية . ثم هناك في البيت رقم 1186 عبارة “ روح الروح “ ، ويتضمن معنى لا يمكن تحديده
 
“ 474 “
 
على وجه اليقين . والشاعر يستخدم هذه المصطلحات كلها في سياق شعري ، يعبر به عن صدور العالم عن الخالق ، وفق نظرية الاشراقيين .
ولكننا لا نستطيع أن نجزم بتفسير يحدد معنى كل مصطلح من المصطلحات ، كما أننا لا نستطيع أن نقطع بمرحلة الخلق التي بدأت بالحديث عنها هذه الأبيات ، وهل هي الفيض الأول الذي صدر عن واجب الوجود ، أم أنها مرحلة تالية لذلك . وخلاصة مضمون هذه الأبيات هي أن هذا العالم المتعدد المظاهر والأشكال قد صدر عن الواحد ، “ روح الروح “ ، الذي أبدع الروح الكلىّ ، ففاض منه هذا العالم ، وأن هناك في كل وقت فيضا جديدا ، وأن هذا العالم سوف يلد العالم الآخر ، وإذ ذاك تتضح للخلق حقيقة الحشر .
 
( 1184 ) لقد كان ميلاد هذا العالم المادي من أصل روحي ، كما كان ميلاد المسيح بصورة حسية صادرا عن أصل روحي .
 
( 1185 ) ومع أن هذا المسيح قد ظهر للناس وخالطهم ، وأظهر من المعجزات ما بهرهم ( ومنها المشي على الماء ) ، فحقيقته أسمى مما شهده الناس منه وعرفوه ، لأنه روح تسامى فوق حدود المكان .
 
( 1186 ) العالم فيض من الروح الكلى ، والروح الكلى فيض من الخالق .
 
( 1187 ) عالم الدنيا يلد بدوره عالم الآخرة ، وإذ ذاك تتجلى للخلق حقيقة الحشر .
 
( 1189 ) يقول الشاعر ان كل هذه الأقوال التي قدمها ليست في جوهرها سوى دعاء الله ، انطلقت كلماته من شفاه طيبة ، ملتمسة من الخالق جواب الدعاء .
 
( 1192 ) يبدأ الشاعر هنا قصة رمزية جديدة ، تصور البدن بصورة جدار عال يقف في سبيل الروح ويعوقها عن الانطلاق إلى عالمها ، وأن الروح تتمنى لو حطمت هذا السجن ، وتحررت منه .
 
“ 475 “
 
( 1194 ) كان صوت الماء في أذنه كخطاب فرج همه ، وبشِّره بالخلاص .
 
[ شرح من بيت 1200 إلى بيت 1350 ]
( 1203 ) إشارة إلى حديث يروى عن الرسول قوله : “ انى لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن “ .
 
( 1207 ) كل غريزة من غرائز الجسد - أمكن التغلب عليها واقتلاعها من النفس - كان في التغلب عليها اقلان من سلطان الجسم على الروح ( 1208 ) الاقلال من سلطان الجسد هو السبيل إلى خلاص الروح ، فهو الذي يقف حائلا بينها وبين اللحاق بعالمها .
 
( 1209 ) أعمال العبادة تؤدى إلى التخفيف عن سلطان الجسد ، وتتيح للروح بعض الانطلاق . وقد رمز لهذه الأعمال في القصة بمتابعة هدم الجدار الذي يقف حائلا بين الرجل وبين الماء .
 
( 1210 ) لا يتسنى يخفض الرأس إذا كان العنق شامخا ، وكذلك لا يمكن الاخلاص في العبادة ، إذا كان الجسد مسيطرا على الروح .
 
( 1212 ) كل من كانت روحه أكثر اخلاصا وشوقا ، كان أكثر اجتهادا في التخلص من سلطان الحواس ونزعاتها .
 
( 1213 ) بقدر ما يكون الاخلاص الروحي تكون القدرة على اخضاع الجسد .
 
( 1214 ) كل اتصال بعالم الروح ( كما يكون في التعبد مثلا ) يغمر الصوفي بالنشوة ، على حين أن الحسى لا يتجاوز ذلك عنده حد أداء العبادات في صورها الحسية .
( 1216 - 1225 ) صور الشاعر الشباب والشيخوخة ، فرسم لنا بأسلوبه البارع صورا فنية رائعة .
( 1227 - 1240 ) ذكر الشاعر في هذه الأبيات قصة رجل زرع الشوك ، فلما نُهى عن ذلك وعد باقتلاعه ، ودأب على اخلاف وعده حتى قويت شجرة الشوك ورسخت ، وأما هو فضعفت قوته ازاءها . بهذه
 
“ 476 “
 
الصورة أراد الشاعر أن يقدم مثالا لمن يترك الأخلاق السيئة تستقر في نفسه، ولا يسعى إلى اقتلاعها حتى تتأصل وترسخ ، ولا تبقى لديه قوة على مقاومتها .
 
( 1241 ) ان صاحب الخلق السىّء - الذي تأصل عنده هذا الخلق - يسئ إلى نفسه من غير أن يشعر بذلك .
 
( 1244 ) الرجل المكتمل الرجولة يكون قادرا على أن يقتلع ما رسخ في نفسه من خلق سىء ، كما اقتلع علىّ باب خيبر ، فكان ذلك تحطيما لما كان يمثله هذا الباب ، وهو تحصن الكفر وراء الأسوار المنيعة .
وقد فتح المسلمون خيبر عام 7 ه / 628 م .
 
( 1245 ) “ ان لم تستطع الخلاص من الخلق السىء فاتخذ لك رفيقا من رجال الله ، حتى يكون شوكك هذا مقترنا بشجرة ورد ، ونارك مقترنة بالنور الصافي “ .
 
( 1246 ) لعل النور الصافي ( ويمثله رجل الله ) يخلصك مما يضطرم بنفسك من النار ، وتغدو أشواكك بفضل صحبته ورودا .

( 1247 ) ذو الخلق السىء شبيه بنيران الجحيم ، أما المرشد فهو مؤمن والمؤمن لا يخشى النار .

( 1248 - 1249 ) انظر : مثنوي ، ج 1 ، 3700 .
 
( 1253 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه “ . فلعل هذا الاحسان هو المقصود من قول الشاعر :
“ روح المحسن الطاهر “ .
 
( 1258 - 1259 ) كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم ، كذلك يكون جحيم النفس بردا وسلاما على المؤمن ، فلا يحرق بستان صفائه واطمئنانه ، ولا يضرم النار في عدله واحسانه .
( 1260 ) “ النمام “ نبت شبيه بالريحان عطرىّ قوى الرائحة ، وسمى بذلك لسطوع رائحته .
 
“ 477 “
 
( 1261 ) “ لقد انصرفنا عن موضوعنا الأصلي إلى سواه ، وأطلنا البحث في ذلك ، فلنعد إلى موضوعنا الأصلي “ .
 
( 1262 ) يعود الشاعر هنا إلى الحديث عن الخلق السىء ، وكيف يصعب اقتلاعه إذا رسخ في النفوس . وهو يربط قوله هنا بما كان قد انتهى اليه في البيت 1225 .
 
( 1264 ) “ ان الفساد قد تأصل في النفس ، فلم يبق لها سبيل إلى الشفاء الا بالفناء “ .
 
( 1266 ) “ ابذل قصارى جهدك وأنت بعد في عنفوان قدرتك ، فهذه القدرة لا تدوم طويلا “ .
( 1267 ) الانسان الذي يحسن استثمار أيام الحياة - على قلتها - يستطيع أن يحقق لفنسيه عمرا روحيا مديدا .
 
( 1268 ) “ السراج اللألاء “ في الانسان هو قلبه أو روحه ، لأن القلب ينير للانسان سبيل الحياة . فعليه أن يعنى بهذا القلب ، ويحافظ عليه وينقيه ، حتى لا تخبو أنواره ، وتتلاشى في ظلمات الحياة الجسدية .
 
( 1271 ) يدعو الشاعر هنا إلى الاقلال من الكلام ، مع الاكثار من صالح الأعمال . ويحث على التخلي عما اقترن بالجسد من البخل ، ويدعو إلى الاقبال على ما ارتبط بالروح من السخاء والجود .
 
( 1274 ) ورد ذكر “ العروة الوثقى “ في موضعين من القرآن الكريم . قال تعالى : “ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى “ . ( 2 : 256 ) . وقال : “ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى “ . ( 31 : 22 ) .
 
( 1276 ) “ يوسف الحسن “ رمز للروح للطاهر . والبئر رمز للدنيا ؛ فكما ألقى يوسف الصديق في البئر ، كذلك دُفع الروح الطاهر إلى هذه الدنيا ، وهي بئر الشهوات .
( 1284 - 1293 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات عن نور الحس ،



“ 478 “
 
ونور القلب أو الروح ، وهو النور الذي يفيضه الله على قلوب أهل الصفاء ، فيجعل لنور الحس ادراكا أوسع ، وشهودا لا يقتصرا على الواقع المحسوس ، وانما يتعداه إلى الغيب المحجب . وقد بحث الغزالي هذا الموضوع في مشكاته . قال : “ اعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ، ولا يبصر ما بعد عنه ، ولا يبصر ما هو وراء حجاب . ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها . ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها . ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له . ويغلط كثيرا في ابصاره : فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا . فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة . فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أم لا ؟
واعلم أن في قلب الانسان عينا هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الانساني . . . “ ويمضى الغزالي بعد ذلك بعد في بيان تنزه نور ، القلب عن هذه النقائص التي يعاني منها ابصار العين . ( مشكاة الأنوار ، 43 - 49 ) .
وأسلوب جلال الدين في الموازنة بين النورين قائم على التصوير الفنى ويكثر فيه استخدام الرمز .
والصبر على أمر الله هو سبيل الخلاص . لقد صبر يوسف ، فأرسل الله اليه من خلصه من البئر . والروح الصابر أيضا يمد الله له أسباب النجاة .
 
( 1279 ) “ عالم الروح الجديد “ يعنى “ العالم الحافل بالرؤى ، المتجدد على الدوام “ .
 
( 1280 - 1283 ) يشبه الشاعر في هذه الأبيات عالم الحس وعالم الغيب بالتراب والهواء .
فالتراب ينتشر في الفضاء ، ويبدو كأنه موجود متحرك ، أما الهواء

 
“ 479 “
 
فيكون خفيا ، مع أنه هو الذي ينشر الغبار ويحركه . فهذا التراب ليس الا ألعوبة في أيدي الهواء .
 
( 1284 ) “ من كانت العين الحسية سبيله الوحيد إلى الابصار فسوف يعجز عن مشاهدة الهواء ، ورؤيته تكون مقصورة على مشاهدة التراب “ .
 
( 1285 ) العين الترابية ( الحسية ) يقتصر ادراكها على ما يكون في مستواها وهو التراب . وشبيه بذلك معرفة الحيوان لأبناء جنسه ، فالحصان يعرف الحصان ، وهكذا . أما الابصار الروحي فمن طراز آخر . انه شبيه بمعرفة الفارس لنظيره .
 
( 1286 ) عين الحس - بدون نور الله - تبقى بعيدة عن الابصار الصحيح ، كالحصان يبقى - بدون الفارس - قاصرا عن ادراك السبيل .
فنور الله يوجه عن الحس ويرشدها ، كالفارس يوجه حصانه ويحسن قيادته .
 
( 1287 ) إذا لم يهذب الحصان ، فإنه لا يكون لائقا بالميلك ، وكذلك العين الحسية لا تكون جديرة بنور الله ما لم تسلك السبيل إلى ذلك بالتزام الغفة والتهذب ، والاعراض عن الطمع ، والطموح إلى لذات الحس .
 
( 1288 ) بدون نور الله يسوء حال العين الحسية ، وتضطرب رؤاها فهي كالحصان يتخبط في سيره ، إذا لم يكن له فارس يهديه .
 
( 1289 ) إذا لم يهتد الابصار الحسىّ بنور الله ، فأي مطمع يكون له سوى لذات الحس ؟ كالحصان إذا ترك وشأنه فلا مطمع له إذ ذاك سوى المرعى . أما النفع الذي يحققه الحصان فلا يكون الا بهداية الفارس .
 
( 1290 ) حين يسيطر نور الله على نور الحس ، يكون هذا السبيل اهتداء الروح ، وباعث شوقها إلى عالمها .
 
( 1291 ) الطريق الملكي هو الطريق إلى الله . والفارس الملك هو

 
“ 480 “
 
الرجل الكامل .
( 1293 ) يشير الشاعر هنا إلى قوله تعالى : “ نور على نور يهدى الله النورة من يشاء “ . ( 24 : 35 ) . وهذه الآية - في نظر الشاعر - دليل واضح على افتقار الحس إلى الهداية ، بدون نور الله .
والهداية هنا روحية ، والله يهب لمن يشاء مثل هذه الهداية . وللنور أهمية كبرى في فلسفة الصوفية . وعليه تقوم عقائدهم الاشراقية . انظر :
( الغزالي : مشكاة الأنوار ) ، ( السهروردي : حكمة الاشراق ، وهياكل النور ) .
 
( 1296 ) الحس الباطني الذي يوجه الحس الظاهري لا يظهر الا في جميل الأثر ، وطيب الكلم .
 
( 1297 ) نور الحس الذي هو - بالقياس إلى نور الروح - غليظ كثيف يكون محتجبا في سواد العين . وكان الأقدمون يعتقدون أن الابصار أشعة تنطلق من العين إلى المرئيات ، وهذه الأشعة لا ترى لأن النور محتجب في سواد العين .
 
( 1298 - 1299 ) من بين ما ذكره الغزالي عن نقائص نور العين أنه “ يبصر غيره ولا يبصر نفسه “ . ( المشكاة ، 43 ) . وما دامت العين تعجز عن مشاهدة نوها المحسوس فيكف تستطيع أن تشاهد النور الروحي ، وهو أكثر من النور الحسى لطفا وخفاء ؟ وهذا البيت أيضا مرتبط بفهم الأقدمين لطبيعة الابصار ، وهو أنه أشعة تنطلق من العين إلى المرئيات .
 
( 1304 ) قول الشاعر : “ وتأمل كيف أن الأرواح ظاهرة “ يعنى أنها ظاهرة الفعل والأثر .
 
( 1305 ) قول الشاعر : “ ولا تحطم السهم “ يعنى : “ ولا تغالب القضاء الإلهي “ ، أما قوله : “ فإنه سهم المليك “ فيعنى أنه نافذ لا محالة .
 
( 1306 ) انظر المثنوي ، ج 1 ، 614 ، 615 .

“ 481 “
 
( 1307 ) الغضب مما تأتى به الأقدار يعمى الانسان عن إرادة الله في ذلك . فالانسان يحارب القضاء ، مع أنه وقع بمشيئة الله ، وينظر إلى الأقدار ، بسخط مع أنها فعل الله .
 
( 1313 ) المخلص لا يكون في مأمن من شباك الأقدار الا إذا خلص من ذاتيته . فالفناء عن الذاتية يجعل الانسان في رحاب الله ، وبذلك يستعصى على ضربات القدر .
 
( 1315 - 1316 ) في هذين البيتين يوازن الشاعر بين الاخلاص والخلاص . فالاخلاص مرحلة أولى في سبيل الخلاص . فلو وقف المرء عند هذه المرحلة الأولى ، فهو رجل مخلص فحسب ، لكنه لم يظفر بعد بمراده ، وهو تحقيق النجاة الكاملة ، فهذه النجاة لا تتحقق الا بتنقية القلب حتى يصبح مرآة صافية . وبدون ذلك فليست هناك نجاة ، بل سعى إلى النجاة . والساعي إلى النجاة كالصياد الذي يبحث عن صيد ، أما مدركها فهو كصياد ظفر بصيده . والفائز بالنجاة يبلغ مقام الأمن الذي لا يشوبه خوف .
 
( 1317 - 1318 ) الواصل الذي بلغ مقام الأمن لا يبقى بعد ذلك عرضة للتغير . فالمرآة التي بلغت درجة الصقل لا تعود حديدا خشنا ، والخبز لا يرتد قمحا ، والعنب الناضج لا يرجع إلى الفجاجة ، وهكذا .
 
( 1319 ) يذكر الشاعر أستاذه برهان الدين محقق بوصفه مثالا لبلوغ النضج ، الذي يجعل الانسان في مأمن من التغير . وقد ذكر الجامي برهان الدين محقق بقوله : “ السيد برهان الدين محقق رحمه الله هو شريف حسنى ترمذى ، وكان من مريدى مولانا بهاء الدين ولد ، وممن ربوا على يديه . واشتهر في خراسان وترمذ بالسيد المطلع على الأسرار ، وذلك بسبب اشرافه على الخواطر . وفي اليوم الذي مات فيه مولانا بهاء الذين وَلَد كان جالسا مع الجماعة في ترمذ ، فقال : واأسفاه ! لقد
 
“ 482 “
 
مات أستاذي وشيخى . وبعد أيام سافر إلى قونية لتربية مولانا جلال الدين “ . ويذكر الجامي بعد ذلك أن جلال الدين تتملذ تسع سنوات على برهان الدين محقق ، وأن برهان الدين قد ذاع صيته في أرض الروم ، وأن السهروردي “ 1 “ قد ذهب لزيارته ووصفه بأنه بحر مواج من درر المعاني . ( نفحات الأنس ، ص 298 ، طبع الهند ، 1893 ) .
 
( 1321 - 1323 ) يذكر نيكولسون أن هذه الأبيات لم ترد في أقدم مخطوطات المثنوى ، وأنها ظهرت لأول مرة في مخطوط يرجع إلى منصف القرن الرابع عشر . كما يذكر أن هذه الأبيات وردت في حاشية احدى النسخ تحت عنوان “ ولدى “ . وقد استنتج نيكولسون من ذلك أن هذه الأبيات ربما كانت من نظم سلطان وَلَد ، الذي كان متزوجا من ابنة صلاح الدين زركوب ، وأراد أن يذكر صهره في المثنوى إلى جانب شمس الدين التبريزي ، وبرهان الدين محقق ، وحسن حسام الدين .
( انظر تعليقات نيكولسون ) . ومهما يكن من أمر فان صلاح الدين زركوب كان من تلاميذ جلال الدين المقربين . وقد ذكره جلال الدين في كثير من غزليات الديوان . وكان صلاح الدين فريدون زركوب ( الصائغ ) من مريدى برهان الدين محقق . ويُروى أن برهان الدين قال :
“ وهبت حالي الصلاح الدين ، ومقالى لجلال الدين “ . ) ( نفحات الأنس ، 299 ) . ويذكر الجامي أن صلاح الدين تخلى عن دكان الصياغة الذي كان يملكه ولزم جلال الدين . وانتهى الأمر إلى ارتباطهما بالمصاهرة ، حيث تزوج سلطان ولد بابنة صلاح الدين زركوب ، وكان جلبي عارف من أبنائهما . ويذكر الجامي أن جلال الدين قال في صلاح الدين :
.................................................................
( 1 ) المقصود هو أبو حفص عمر بن محمد المتوفى 633 ، وصاحب كتاب عوارف المعارف . أما السهروردي الاشراقي فقد مات قبل ذلك بكثير ( عام 588 ) .

 
“ 483 “
 
يكى كنجى بديد آمد درين دكان زركوبى * زهى صورت زهى معنى زهى خوبى زهى خوبى” لقد ظهر كنز في دكان الصياغة هذا ، فما أجمل الصورة ، وما أجمل المعنى ، وما أروع هذا الحسن والبهاء “ . ( انظر : نفحات الأنس ، 304 ، 305 ) .
 
( 1323 ) للشيخ سلطان على القلوب مقتبس من قدرة الله . وهذا السلطان يجعله ذا أثر على القلوب بدون آلة يستعين بها في تحقيق ذلك .
 
( 1325 ) أثر الشيخ المرشد على القلوب شبيه بأثر الخاتم على الشمع ، ولكن من إذا الذي صنع في الأصل نقش الخاتم ؟
 
( 1326 ) صانع هذا النقش هو الصائغ ، وهو هنا رمز للخالق .
فهناك سلسلة مترابطة الحلقات ، تربط المسببات بأسبابها حتى تصلها بالخالق .
 
( 1327 ) من القلوب ما يتردد في جوانبه صوت رسالات السماء ، ومنها ما يكون خاليا من هذا الصوت .
 
( 1329 ) تختلف الجبال في مقدار الصدى الذي تردد به ما تتلقاه من أصوات ، فمنها ما يكون رجع الصدى فيه محدودا ، ومنها ما يكون رجع الصدى فيه عظيما مدويا . وهكذا شأن القلوب بالنسبة لصوت السماء ، فمنها ما يستجيب له بقدر محدود ، ومنها ما يكون عظيم الاستجابة .
 
( 1330 ) ان مئات الألوف من ينابيع الحكمة والمعرفة تتفجر من استجابة العارفين والمؤمنين لدعوة السماء .
 
( 1331 ) إذا ما فارق القلوب صوت السماء صارت المعارف التي تصدر عنها غير سائغة المذاق . ومع أن الأصل في طبيعة القلوب أن تكون لطيفة ، لا يصدر عنها الا ما هو لطيف ، فإنها بالخبث والجحود تفارق
 
“ 484 “
 
طبيعتها فلا يصدر عنها غير ما يؤذى ويضر .
( 1332 ) “ المليك الأكبر “ هنا هو موسى ، عليه السلام ، فقد صعد فوق جبل الطور ، وناجى ربه ، فتجلى له الله . ولقد بورك الجبل بهذا التجلي الإلهي . ولعل الشاعر يستخدم الرمز هنا أيضا ، فيكون مرور موسى فوق جبل الطور رمزا لاشراق نور الرسالات السماوية على قلوب العارفين ، وليس سوى هذا ما يسمو بها ، ويعلى قيمة جوهرها .
 
( 1333 ) “ ان الجبل قد أصبح ذا روح وادراك حين تجلى له الخالق ، فكان أن دُكّ ساعة التجلي . فما هو هذا الجمود الذي أصاب بنى الانسان إزاء رسالات السماء ؟ فهل يكون الناس أقل ادراكا من الحجر ؟ “ . ( انظر : مثنوى ، ج 1 ، 25 - 26 ) .
 
( 1334 - 1335 ) ينتقد الشاعر في هذين البيتين ما يعانيه الناس من جمود روحىّ وجسدي .
 
( 1336 ) “ أين الحمية التي تجعلهم يعملون على افناء هذا الكيان الذاتي الراسخ الذي يقف كالجبل حائلا بينهم وبين تلقى نور الرسالات “ .
 
( 1337 ) لعل فناء النفس الحسية - التي تقف حائلا دون التأمل الروحي - يتيح للقلب أن يتلقى لمحة من أشعة التجلي ، فيستضىء بنورها الكيان الانساني .
 
( 1338 - 1339 ) يوازن الشاعر هنا بين القيامة الكبرى التي تعنى نهاية العالم ، وفيها يصيب العالم الدمار “ وتصير الجبال كالعهن المنفوش “ ، وهذه القيامة لا يهون أمرها على الانسان ، فهي موقف فيه هول ورعب ، على حين أن تلك “ القيامة الروحية “ تحقق الراحة والأمن والسلام . فالقيامة الروحية هي بعث الروح الذي أزهقته الشهوات ، وخنقته الأطماع . ان خلاص الروح من الشهوات والأطماع يمثل لونا من البعث ، يتيح للانسان حياة جديدة . ) ( انظر ما كتبه الجيلى عن “ الساعة الكبرى “ ، و “ الساعة الصغرى “ . الانسان الكامل ، 2 : 52 - 57 ) .
 
“ 485 “
 
( 1340 ) كل من استطاع أن يبلغ هذه اليقظة الروحية ، فقد تحقق له الأمن في موقف البعث الرهيب . وهذه اليقظة ذاتها هي السبيل لمحو ما سبقها من سيئات .
 
( 1345 - 1347 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات عن الصوفية الذين يسعون إلى افناء ذواتهم في ذات الله ، ويستشعرون التحقق بالفناء ، فيدفعهم هذا إلى التعبير عن هذا الاحساس بعبارات تعرف عادة بالشطح .
وهناك عبارات كثيرة تروى عن أهل السكر من الصوفية . ومن أمثله ذلك قول أبى يزيد البسطامي : “ سبحانى ، ما أعظم شأني “ ، وقول الحسين بن منصور الحلاج : “ ما في الجبة غير الله “ .
 
( 1348 ) من الصور التي يتخذها جلال الدين رمزا للفناء الصوفي تلاشى لون الحديد في لون النار . وقد سبق أن قدم صورا مماثلة لهذه الصورة . ( انظر : مثنوى ، ج 1 ، 1531 - 1535 ) .
 
[ شرح من بيت 1350 إلى بيت 1500 ]
 
( 1353 ) الانسان الذي أصبح - بفنائه في الذات الإلهية - مغمورا بنور الله ، يكون جديرا بأن تسجد له الملائكة ، كما سجدت لآدم .
 
( 1354 ) كل انسان خلصت روحه من الشك والطغيان ، يصير كالملائكة ، وإذ ذاك ، يخلص في متابعة هذا الانسان الكامل ، لأن الله هو الذي اجتباه .
 
( 1355 ) خشي الشاعر من تلعق المستمع بالتمثيلات ، وانصرافه عن جوهر المعنى فقال : “ وأي قيمة للنار والحديد في هذا البحث . انهما ليسا سوى مثالين ، فلا تقع أسير التشبيه ، في حين أنك تسخر من التشبيه “ .
 
( 1356 ) “ ما دمت قد تعلقت باللفظ وانصرفت عن الجوهر ، ( وقد تجلى هذا في تعلقك بظاهر المثال ، وانصرافاك عن جوهره ) ، ما دمت كذلك فلا تتقدم نحو بحر الوحدة ، وأقلل من حديثك عنه . والزم الصمت والحيرة إزاء هذه الأسرار ، ولا تخض في الحديث عنها “ .



“ 486 “
 

( 1357 ) البحر رمز للخالق الذي يستوعب في وجوده كل الموجودات .
والشاعر يقول إنه برغم ضعفه البالغ أمام مثل هذا البحر فهو حريص على خوضه ، لا يطيق ابتعادا عن الفناء في لجِّه . والمقصود بخوض اللج السعي إلى افناء الذات الانسانية .
 
( 1358 ) قول الشاعر : “ هذا البحر هو الذي أدى دية العقل والروح “ ، يعنى أن الخالق يمنح البقاء جزاء لمن أفنى ذاته في السعي اليه .
 
( 1359 ) “ سوف أسعى إلى البحر ما دامت إلى إرادة . فإذا ما بلغته - بافناء ارداتى - بقيت ملازما له ، لا أحيد عنه “ .
 
( 1360 ) من تحقق له هذا الوصول - مهما كان مشوبا بشئ من النقص - خير ممن تخلى عن السعي اليه . فالحلقة فوق الباب تكون نافعة حتى ولو كانت معوجة . “ والحلقة “ هي الأدادة التي يقرع بها الباب ، وربما قصد الشاعر أن يجعل منها رمزا للسعى .
 
( 1361 ) “ الحوض “ هنا رمز للقلب . فالشاعر يدعو المتعلقين بالحس - ممن تلوثت أجسادهم - إلى أن يكون تعلقهم بالقلب ، لا بالجسد ؛ فالقلب هو الحوض الذي ينضح بماء الطهر ، ولا سبيل إلى الطهر بدونه .
 
( 1362 ) من كان طاهر الجسد لا يكون طاهر الذات ، إذا تخلى عن حياة القلب .
 
( 1363 ) طهارة القلب لا حدود لها ، أما طهارة الجسد فهيِّنة الأمر ، طفيفة القيمة .
 
( 1364 ) القلب هو الحوض الذي يفيض منه الطهر ، ذلك لأن له اتصالا خفيا ببحر الطهر ذاته .
 
( 1365 ) هذا الطهارة التي تتحقق بالتقوى تحتاج إلى مدد دائم من القلب ، والا تناقصت على مرّ الزمن ، إذ أن العبادات تصبح مجرد عادات ما لم تستند إلى الايمان القلبي المتجدد . فبدون هذا الايمان تخلو العبادات - بمرور الزمن - من روحها .

 
“ 487 “
 
ونور القلب أو الروح ، وهو النور الذي يفيضه الله على قلوب أهل الصفاء ، فيجعل لنور الحس ادراكا أوسع ، وشهودا لا يقتصرا على الواقع المحسوس ، وانما يتعداه إلى الغيب المحجب . وقد بحث الغزالي هذا الموضوع في مشكاته . قال : “ اعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ، ولا يبصر ما بعد عنه ، ولا يبصر ما هو وراء حجاب . ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها . ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها . ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له . ويغلط كثيرا في ابصاره : فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا . فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة . فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أم لا ؟
واعلم أن في قلب الانسان عينا هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الانساني . . . “ ويمضى الغزالي بعد ذلك بعد في بيان تنزه نور ، القلب عن هذه النقائص التي يعاني منها ابصار العين . ( مشكاة الأنوار ، 43 - 49 ) .
وأسلوب جلال الدين في الموازنة بين النورين قائم على التصوير الفنى ويكثر فيه استخدام الرمز .
والصبر على أمر الله هو سبيل الخلاص . لقد صبر يوسف ، فأرسل الله اليه من خلصه من البئر . والروح الصابر أيضا يمد الله له أسباب النجاة .
 
( 1279 ) “ عالم الروح الجديد “ يعنى “ العالم الحافل بالرؤى ، المتجدد على الدوام “ .
 
( 1280 - 1283 ) يشبه الشاعر في هذه الأبيات عالم الحس وعالم الغيب بالتراب والهواء .
فالتراب ينتشر في الفضاء ، ويبدو كأنه موجود متحرك ، أما الهواء فيكون خفيا ، مع أنه هو الذي ينشر الغبار ويحركه . فهذا التراب ليس الا ألعوبة في أيدي الهواء .

* * * 

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: