الأربعاء، 5 أغسطس 2020

11 - كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

11 - كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

11 - كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)


كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب
 
قال شيخ لأحد الأطباء : “ انني في عذاب من ألم الدماغ “ .
فقال الطبيب : “ ان ضعف الدماغ هذا من الشيخوخة “ ، فقال الشيخ : “ وفوق عيني سحب من الظلمة “ .
 
3090 - فقال الطبيب : “ هذا من الشيخوخة ، أيها الشيخ القديم “ .
قال الشيخ : “ وظهري ينتابه ألم عظيم “ .
فقال الطبيب : “ هذا من الشيخوخة ، أيها الشيخ الضعيف “ . قال الشيخ : “ وكل ما آكله ليس يهضم “ .
فقال الطبيب : “ ضعف المعدة أيضا من الشيخوخة “ . قال الشيخ : “ وفي وقت التنفس تتعثر أنفاسى “ .
فقال الطبيب : “ نعم ، هذا هو انقطاع النفس . فحينما تحل الشيخوخة ، تجىء معها مئتان من العلل !
 “ قال الشيخ : “ أيها الأحمق ، لقد وقفت عند هذا ، فهو قصارى ما تعملته من الطب !
 
 3095 - أما أرشدك عقلك - أيها المخبول - إلى أن الله قد جعل لكل داء دواء ؟

 
“ 326 “
 
انك لحمار أحمق ضعفت همته ، فبقى طريح الأرض لعجز قوائمه ! “ .
فقال له الطبيب : “ يا من بلغت الستين من عمرك ! ان غضبك هذا وسخطك هما أيضا من ( آثار ) شيخوختك ! 
فما دامت كل ملكاتك وأعضائك قد ضعفت ، فقد ضعف معها صبرك وسيطرتك على نفسك ! 
“ ان الشيخ لا يطين كلمتين فيعلو من جرائهما صياحه . ولا طاقة له بجرعة واحدة ، فهو يقيئها .
 
3100 وليس كذلك الشيخ الذي هو ثمل بالحق ، ففي باطن هذا حياة طيبة !
 فهذا يكون في الظاهر شيخا لكنه في الباطن فتىّ ! فما كنه ذاته ؟ انه ولى أو نبي ! فإن لم تكن ( حقيقة ) هؤلاء ( الأنبياء والأولياء ) ظاهرة أمام الأخيار والأشرار . 
فلماذا يحمل لهم الأخساء مثل هذا الحسد ؟
ولو كان الأشرار يعرفونهم معرفة يقينية ، فلماذا هذا البغض والتآمر والحقد ؟
ولو أنهم كانوا موقنين بالبعث والقيامة ، فكيف ألقوا بأنفسهم فوق هذا السيف الحاد ؟
 
3105 - ان ( النبي أو الولىّ ) يبتسم لك ، فلا تأخذ الأمر على ظاهره ، فقد احتجبت في باطنه مائة قيامة ! 
فالنار والجنة كلاهما أجزاء منه ، وانه لفوق كل ما قد يخطر بفكرك !

 
“ 327 “
 
وكل ما تتفكر فيه قابل للفناء . والله وحده هو الذي لا يتسع له الفكر .
فلماذا يتبجحون على باب هذه الدار ، ما داموا يعرفون من بداخلها ؟
ان الحمقى يقومون بتعظيم المسجد ، على حين أنهم يسعون في خراب أصحاب القلوب !
 
 3110 وما هذا ( المسجد ) الا مجاز ، وأما هذه ( القلوب ) فهي الحقيقة ، أيها الحمير !
 فما المسجد الا قلوب ( هؤلاء ) الكبراء ! فذلك المسجد الذي انطوت عليه قلوب الأولياء هو مسجد كافة الخلق ، فهناك الله .
وما دمغ الله بالعار قرنا من القرون الا حين تألم - من جرائهم - قلب واحد من رجاله “ 1 “ ! 
فقد ان هؤلاء يعمدون إلى مجاربة الأنبياء . فهم كانوا يرون جسم النبي فيحسبونه مجرد آدمىّ .
وان فيك لأخلاق هؤلاء الأوائل ! فكيف لا تخاف أن تصبح مثلهم ؟
 
3115 - فما دامت بك كل هذه العلامات ، وما دمت واحدا منهم ، فإلى أين تريد النجاة ؟
 
قصة جحى وذلك الطفل الذي كان ينوح امام نعش أبيه
 
كان طفل ينوح بمرارة ، ويدق رأسه أمام نعش أبيه ،
.................................................................
( 1 ) ترجم هذا البيت بشئ من التصرف ليتضح معناه . والقرن في الناس أهل زمان واحد . قال الشاعر :إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم * وخلفت في قرن فأنت غريب


“ 328 “
 
( قائلا ) : “ أبتاه ! إلى أين يحملونك آخر الأمر ، حتى يعتصروك تحت التراب ؟
انهم يحملونك إلى منزل ضيق مؤلم ، ليس به بساط ولا بداخله حصير .
لا سراج به في الليل ، ولا خبز في النهار . وليست به رائحة للطعام ولا أثر منه .
 
3120 - وليس به باب معمور ، ولا سبيل إلى سطح ، ولا جار واحد يكون ذلك ملاذا .
وجسمك الذي كان موضع قبل الخلق ، كيف ينزل دارا كهذه مظلمة تعسة ؟
انه منزل لا قيام فيه ، بالغ الضيق وليس يبقى فيه وجه ولا لون ! 
“ وأخذ يعدد أوصاف المنزل على هذا النحو ، وهو يعتصر الدموع الدامية من عينيه .
فقال جحى لأبيه : “ يا سيدي ، والله انهم ليحملون هذا إلى منزلنا ! “
 
 3125 - فقال الأب لجحى : “ لا تكن أبله “ ، فقال جحى : “ استمع يا أبى إلى هذه العلامات :
فهذه العلامات التي ذكرها واحدة واحدة هي لمنزلنا بدون ريب ولا شك ! 
فليس به حصير ولا سراج ولا طعام ! ولا بابه معمور ، ولا صحن له ولا سقف ! “

 
“ 329 “
 
فعلى هذا النسق يحمل الطغاة على أنفسهم مائة علامة ، ولكن متى كان هؤلاء يبصرون أنفسهم ؟
فمنزل القلب الذي يبقى بدون ضياء من شعاع شمس الكبرياء ،
 
3130 - ضيق مظلم مثل أرواح اليهود ، وقد حرم رزقه من نفحات السلطان الودود ! 
فليس يشرق في هذا القلب نور الشمس وليست له عرصة رحبة ولا باب مفتوح !
 فالقبر خير لك من قلب مثل هذا ! ألا فلتنهض الآن من ضريح قلبك ! 
انك حىّ وقد ولدت من حىّ ، أيها المرح الضحوك أفلا تضيق أنفاسك بهذا القبر الضيق ! 
انك يوسف الوقت ، وشمس السماء فاصعد من قرارة هذا الجب وذلك السجن وتجلّ بطلعتك !
 
 3135 - انك مثل يونس ، وقد طُبخت في بطن الحوت ، فمن أجل خلاصك لا بد لك من التسبيح !
 فلو لم يكن يونس مسبحا في بطن الحوت ، لبقى في حبسه وسجنه إلى يوم يبعثون !
 فهو بالتسبيح قد خلص من جسد الحوت . فماذا يكون التسبيح ؟
انه آية يوم “ ألست “ .
فلئن كنت قد نسيت تسبيح الروح هذا ، فاستمع الآن إلى تسبيح هذه الحيتان ! 
فكل من رأى الله فهو الهىّ . وكل من شهد هذا البحر ، فهو ذلك الحوت .


“ 330 “
 
3140 - ان هذه الدنيا بحر ، والجسم فيها حوت ، وأما الروح فهو يونس المحتجب عن النور الصبوح .
فإن كان الروح مسبِّحا نجا من الحوت ، والا هضمه الحوت وتلاشى كيانه ! 
وان أسماك الروح لتملأ هذا البحر ، وأنت لا تبصرها وهي تطير حولك ! 
وان هذه الأسماك لتدفع بأنفسها نحوك ، فافتح عينيك حتى تشهدها عيانا ! 
فان أنت لم تر هذه الأسماك ظاهرة ، فان أذنك قد سمعت تسبيحها في عاقبة الأمر .
 
3145 - والصبر هو روح تسبيحاتك فكن صابرا فان هذا هو التسبيح الحق ! 
وليس لتسبيح قط مثل هذه الدرجة ، فاصبر فان الصبر مفتاح الفرج .
ان الصبر كجسر الصراط والجنة في تلك الناحية . وفي صحبة كل جميل مرب قبيح .
فما دمت تفرّ من المربى فلن يكون وصال ، ذلك لأن المربى لا يفترق عن الجميل .
وماذا تعرف عن مذاق الصبر يا من قلبك مثل الزجاجة ، وبخاصة إذا كان الصبر عن حسان جكل .
 
3150 ان الرجل يتذوق الغزو والكر والفر ، وأما المخنث فلا يتذوق الا الفسوق “ 1 “ .
فليس للمخنث دين ولا تسبيح الا الفسوق ، ذلك لأن فكره يحمله إلى أسفل “ 2 “ .
.................................................................
( 1 ) ترجمنا هذا البيت بقليل من التصرف .
( 2 ) ترجمنا هذا البيت بقليل من التصرف .

 
“ 331 “
 
فلو أنه تسامى إلى الفلك فلا تحسب له حسابا ، ذلك لأنه حذق درسه في عشق التسفل .
انه يركض فرسه نحو الدنايا مع أنه يلوّح بجرسه نحو الأعالي ! 
وأية مهابة تكون لرايات الشحاذين ؟ ان هذه ليست الا وسيلة إلى كسر الخبز .
 
كيف خاف صبي من شخص غليظ الجسد وكيف قال ذلك الشخص للصبي :
 لا تخف ، فانى لست برجل .
 
3155 ان مخنثا غليظ الجسد لقى صبيا على انفراد فاصفر وجه الصبى خوفا من قصد ذلك الرجل .
كفت أيمن باش اى زيباى من * كه تو خواهد بودبر بالاى من “ 1 “
من اكر هو لم مخنث دان مرا * همجو اشتر برنشين مىران مرا “ 2 “
فصورة الرجال إذا اقترنت بمثل هذا المعنى فهي مظهر آدمىّ ، في باطنه شيطان لعين ! فيا من تشبه بضخامتك قوم عاد انك لشبيه بذلك الطبل الذي كانت الريح تقرعه بالغصن .
.................................................................
( 1 ) أعرضنا عن ترجمة هذا البيت لأنه ينطوى على مضمون لا تلبق ترجمته .
( 2 ) هذا البيت كسابقه ينطوى على مضمون لا تليق ترجمته . والبيتان يشيران إلى مرض اجتماعي خطير . وخلاصتهما ان ذلك المخنث كشف للصبي عن حقيقة حاله ، فاتضح بذلك أنه صورة هائلة لكنها لا تنطوي على حقيقة .

 
“ 332 “
 
3160 ان ثعلبا قد أضاع صيده من أجل طبل كحقيبة امتلأت بالهواء ، 
فلما لم يجد في ذلك الطبل شحما قال : “ ان خنريرا هو خير لي من تلك الحقيبة الجوفاء
 “ والثعالب هي التي تخاف من قرع الطبول . أما العاقل فكثيرا ما يقرعها حتى تلزم الصمت .
 
قصة رامى السهام وخوفه من ذلك الفارس 
الذي كان يتجول في الغابة
 
كان فارس مسلح ذو مظهر مهيب يتجول في الغابة على فرس نجيب .
فرآه أحد الرماة - فشدّ - من خشيته - قوسه ،
 
 3165 حتى يرميه بسهم ، فصاح به الفارس : “ انني ضعيف برغم أن جسدي عظيم !
 فحذار حذار ، لا تنظر إلى ضخامة جسمي ، فاننى في وقت الحرب أهون من امرأة عجوز !
 “ فقال له الرامي : “ اذهب فقد أحسنت القول ، ولولا ذلك لدفعنى الخوف إلى أن أرميك بسهم “ .
فكم من رجال قتلتهم آلات الحرب ، وكانوا يحملون بأيديهم مثل هذا السيف ، وهم مجردون من الرجولة !
 فلو أنك لبست سلاح أمثال رستم ، ولم تكن أهلا لذلك ، ذهبت روحك .

 
“ 333 “
 
3170 فاجعل روحك درعا لك ، وتخلّ عن السيف ، أيها الفتى ! فكل من كان بدون رأس ، ظفر برأس من المليك .
ان سلاحك هو حيلتك ومكرك ، وهما قد انبثقا منك ، كما أنهما قد جرحا روحك .
وما دمت لم تحقق ربحا من هذه الحيل ، فتخلّ عنها لعل السعادة تقبل إليك .
وطالما أنك لم تظفر في لحظة واحدة بثمرة من الخداع ، فقل بترك الخداع ، 
والطلب رب المنن ! وما دامت هذه العلوم لم تكن ذات بركة عليك . فاجعل نفسك غرّا ، وتخلص من الشؤم !
 
 3175 وقل مثل الملائكة :” سُبْحانَكَ لا علْمَ لَنا إلَّا ما عَلَّمْتَنا ““ 1 “ .
 
قصة الأعرابي الذي وضع رمالا في كيس 
وكيف لامه ذلك الفيلسوف
 
وضع أعرابي على ظهر جمله كيسين كبيرين ، ممتلئين بالحب ، وركب الأعرابي فوق رأسي هذين الكيسين .
 وكان أن جاذبه الحديث رجل لبق المقال .
فسأله عن وطنه وجرّه إلى الكلام ، ونظم كثيرا من درر القول أثناء مساءلته .
وبعد ذلك قال له : “ بماذا امتلا هذان الكيسان ؟ ألا فلتخبرنى بحقيقة الحال “ .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة البقرة ، 2 : 32 .

 
“ 334 “
 
3180 فقال الأعرابي : “ ان في أحد الكيسين قمحا ، وأما الآخر فيحتوى رملا ، لا يقتات به الناس “ .
فقال ( المتفلسف ) : “ ولماذا حملت ( الجمل ) هذه الرمال ؟ “ ، قال الأعرابي : “ حتى لا يبقى هذا الكيس وحيدا “ .
فقال ( المتفلسف ) : “ فلتصب نصف ذلك الكيس المتخم في الآخر ، تمشيا مع الحكمة .
حتى يخف ( ثقل ) الكيسين ، وكذلك الجمل “ . فقال الأعرابي :
“ مرحى أيها الحكيم القدير الحر ! أمثل هذا الفكر الدقيق والرأي الصائب 
( لديك ) ، وأنت هكذا عريان ، تمضى على قدميك في عناء ؟ “
 
 3185  وشعر الأعرابي بالشفقة على هذا الحكيم ، واعتزم هذا الرجل الطيب أن يركبه فوق الجمل .
ثم أردف قائلا : “ أيها الحكيم البارع القول ، تحدث الىّ قليلا عن حالك ! 
فبمثل ما لك من عقل وما أنت عليه من كفاية ، أأنت وزير أم ملك ؟
ألا فلتصدقنى القول ! “ فقال المتفلسف : “ انني لست ( واحدا من ) هذين ، بل أنا من العامة !
 انظر إلى حالي وإلى ثيابي ! “ قال الأعرابي : “ فكم تملك من الجمال والثيران ؟ “ ، فقال المتفلسف : “ لا هذه ولا تلك ، فلا تجرحنا ! “
 
 3190 قال الأعرابي : “ فأي بضاعة تملكها في دكانك ؟ “ ، فقال المتفلسف : “ ومن أين إلى الدكان ، وأنى لي المكان ؟ “
 
“ 335 “
 
قال الأعرابي : “ سأسألك عن النقد كم تمتلك منه . فأنت متفرد السبيل ، ونصحك محبب .
وان لديك كيمياء لكل نحاس العالم ! وعقلك وعلمك جوهر تراكم بعضه فوق بعض ! 
“ فقال المتفلسف : “ والله يا وجيه العرب ليس كل ما أملك بكاف للانفاق على قوت ليلة واحدة ! 
وانني لأعدو عارى الجسد حافى القدمين ، وأسعى نحو كل من يقدم إلى الخبز ،
 
3195 ولم يتحقق لي من هذه الحكمة والفضل والذكاء سوى الخيال ووجع الرأس !
 “ فقال له الأعرابي : “ ابتعد الآن عن جانبي ، حتى لا يمطر شؤم طالعك فوق رأسي ! 
واحمل حكمتك المشؤومة هذه بعيدا عنى ، فنطقك شؤم على أهل الزمن !
 أو اذهب أنت في تلك الناحية ، وسأنطلق أنا من هذه الناحية .
فلو كان طريقك أمامى فسوف أرجع إلى الوراء ! ان كيسا من القمح وكيسا من الرمل هما خير لي من هذه الحيل الجوفاء .
 
3200 انني أحمق ، لكن هذا الحمق كثير البركة ، فقلبي صاحب رزق ، وروحي ذات تقوى ! 
فإذا أردتَ أن يقل شقاؤك فابذل جهدك لكي تقل حكمت ! 
فالحكمة التي تتولد من الطبع ومن الخيال هي حكمة مجردة من نور رب الجلال .
 
“ 336 “
 
ان حكمة الدنيا تزيد من الظن والشك ، وأما حكمة الدين فتحلق فوق الفلك !
 ان حكماء آخر الزمان الأخساء قدر فعوا أنفسهم فوق السلف !
 
 3205 لقد أحرقوا أكبادهم وهم يتعلمون الحيل وحذقوا أفعالا وألوانا من المكر ! 
وأسلموا إلى الريح الصبر والايثار وسخاء النفس والجود ، وتلك ( الصفات ) إكسير كل ربح .
ان الفكر هو ذلك الذي يفتح طريقا ، والطريق هو ذلك الذي يسير فيه أحد الملوك .
أما الملك فهو من يكون ملكا بذاته ، وليس ملكا بخزائنه وجيشه ! وذلك ليبقى ملكه سرمديا ، كما بقيت عزة الملك للدين الأحمدي .
 
كرامات إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه العزيز 
على شاطىء البحر
 
3210 هكذا يروى عن إبراهيم بن أدهم أنه جلس على شاطىء البحر ليستريح من الطريق ، وأخذ يرتق دلقه . 
وفجأة وصل إلى المكان أمير كان يتجول على الساحل .
وكان هذا الأمير من عبيد الشيخ ، فعرف الشيخ وسارع بالسجود له ! 
ولقد حار هذا الأمير في الشيخ وفي دلقه . لقد أصبح خلقه وخلقه على صورة أخرى .
انه قد تخلى عن مثل ذلك الملك العظيم واختار ذلك الفقر الموغل في رقة الحال .
 
“ 337 “
 
3215 فها هوذا قد أضاع ملك سبعة أقاليم ، وها هوذا كالمتسول يعمل الإبرة في دلقه ! 
وانكشف للشيخ تفكير هذا الأمير ، فالشيخ مثل الأسد وأما القلوب فهي غابته .
انه يدخل القلوب مثل الخوف والرجاء وليست تخفى عليه أسرار الدنيا ! 
فراقبوا قلوبكم أيها العاطلون من الثمار حينما تمثلون في حضرة أصحاب القلوب .
فأمام أصحاب الأجساد يكون الأدب مقتصرا على الظاهر ، ذلك لأن الله قد حجب عنهم الباطن .
 
3220 وأما أهل القلوب فالأدب أمامهم أدب الباطن ، ذلك لأن قلوبهم ذات فطنة بالسرائر ! 
وأنت على عكس ذلك : تقبل بمزيد من الأدب على العميان - طلبا للجاه - وتجلس في أدنى مكان !
 وأمام المبصرين تعمد إلى ترك الأدب ، انك قد غدوت حطاب لنار الشهوة !
 فما دمت لا تملك فطنة ولا نور هدى ، فلتبالغ في جلاء وجهك العميان ! 
ولطِّخ وجهك بالأقذار أمام المبصرين ! وتدل عليهم برغم ما أنت عليه من نتن الحال !
 
3225 لقد بادر الشيخ إلى رمى ابرته في الماء ، ثم عاد فناداها بصوت جهير .

 
“ 338 “
 
فإذا بآلاف من الأسماك الإلهية ، بين شفتى كل منها إبرة من ذهب ، وقد رفعت رؤوسها من بحر الحق ، 
( قائلة ) : “ خذ أيها الشيخ ابر الحق ! “ فالتفت إلى الأمير وقال له : “ أممكلة القلب خير أم مثل هذا الملك ( المادّى ) الحقير ؟
وهذه هي العلامة الظاهرة ، وليست بشئ قط ! ( فمهلا ) حتى تصل إلى الباطن لترى عشرين ( من أمثالها ) !
 
 3230 فقد يُحمل إلى المدينة غصن من الحديقة ، ولكن أنى للمدينة أن تحمل إليها الحديقة والبستان ! 
وبخاصة تلك الحدقية ، التي ليس هذا الفلك الا ورقة واحدة منها ، بل لعلها هي اللب ، وكل ما عداها كالقشور !
 فإن لم تكن تتوجه بخطاك نحو هذه الحديقة ، فالتمس زيادة العطر ، وادفع عنك الزكام ، 
حتى يغدو هذا العطر جاذبا لروحك ، ويصير هذا العطر نورا لعينيك .
فمن أجل الشذا قال يوسف بن يعقوب النبي :” اذْهَبُوا بقَميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْه أَبي ““ 1 “ .
 
3235 وبسبب هذا الشذا قال أحمد في عظاته : جعلت قرة عيني في الصلاة “ .
.................................................................
( 1 ) يوسف ، 12 : 93 .

 
“ 339 “
 
ان الحواس الخمس مرتبط بعضها بالبعض الآخر ، ذلك لأنها جميعا قد نبتت من أصل واحد ، 
فقوة واحدة منها قوة لباقيها ، وكل واحدة منها تكون ساقية للأخريات .
فابصار العين يقوّى النطق والنطق يزيد العين تصديقا .
ويصبح الصدق منبها لكل حسن ، فيغدو الذوق مؤنسا ( لجميع ) الحواس !
 
بداية استنارة العارف بالنور الذي يرى الغيب
 
3240 حينما تصبح احدى الحواس متحررة من قيدها ، فان ما بقي من الحواس تصبح كلها مبدلة ! 
وحينما تغدو احدى الحواس مبصرة لغير المحسوسات فان الغيب يصير ظاهرا لكل الحواس ! 
فلو أن كبشا من القطيع قفز من فوق القناة فان سائر القطيع يقتفى أثره نحو ذلك الناحية .
فسق خراف حواسك وادفعها إلى الارتعاء في ذلك المرعى ( الذي يعنيه قوله تعالى ) :” وَالَّذي أَخْرَجَ الْمَرْعى ““ 1 “ .
حتى تأكل هناك السنبل والنسرين وتسلك سبيلا إلى رياض الحقائق !
.................................................................
( 1 ) سورة الأعلى ، 87 : 4 .

 
“ 340 “
 
3245 ويغدو كل حس من حواسك نبيا للحواس ، فيقودها جميعا إلى تلك الجنة ! 
فتناجى الحواس حسك بالأسرار ، بدون لسان ولا حقيقة ولا مجاز ! 
ذلك لأن هذه الحقيقة قابلة للتأويلات كما أن هذا التوهم أس التخيلات ، أما تلك الحقيقة التي تكون عينا وعيانا ، فليست تتسع قط لأي تأويل .
وإذا ما صارت الحواس خاضعة لحسك ، فلن يكون للأفلاك بدّ ( من طاعتك ) .
 
3250 فلو أن دعوى قامت حول امتلاك القشور . فان الذي يملك اللباب هو مالك القشور .
وإذا وقع تنازع حول حمل من القش ، فانظر من يكون مالك الحب .
فالفلك اذن هو القشر ونور الروح هو اللب ، والفلك ظاهر ، وأما نور الروح فخفىّ فلا تخطىء فهم هذا المعنى ! 
ولقد جاء الجسم ظاهرا ، وأما الروح ( الحيواني ) “ 1 “ فهو محتجب : فالجسم مثل الكم وأما الروح فهو مثل اليد .
كما أن العقل أكثر خفاء من الروح ( الحيواني ) ، فالحس أكثر سرعة في سلوكه سبيل الروح .
.................................................................
( 1 ) الحديث هنا عن الروح الحيواني ، وهو الذي يبث الحياة في الأجساد . وهذا مختلف عن الروح الانساني الذي يمثل عند الصوفية جوهر الانسان ، وحقيقته .

 
“ 341 “
 
3255 فلو أنت أبصرت كائنا يتحرك لعرفت أنه حي ، ولكنك لا تعرف من ذلك أنه ممتلئ بالعقل ، 
حتى تظهر منه حركات موزونة ، وحتى يجعل نحاس الحركة بالعرفان ذهبا ! 
فمن التناسب الذي يظهر في أفعال اليدين ، يجيئك الفهم بأن هناك عقلا .
وأما الروح الملهم “ 1 “ فهو أكثر خفاء من العقل ذلك لأنه غيب ، فهو ينتمى لذلك الجانب ( الآخر ) .
فعقل أحمد لم يكن خافيا على شخص قط ، أما روح الملهم فلم يكن مما يدركه كل روح .
 
3260 وللروح الملهم هذا أفعال متناسبة أيضا ، ولكن العقل لا يدركها ، لأن ذلك الروح عزيز ( ممتنع على الادراك ) .
فالعقل قد يرى هذا ( الروح ) جنونا ، وقد يحار فيه . والأمر كله رهن بأن يغدو هذا العقل روحا “ 2 “ .
فهكذا كانت أفعال الخضر المتناسبة مصدر كدر لعقل موسى ، حين كان يراها ! 
فموسى - إذا لم تكن له ذات حال الخضر - كانت أفعال الخضر غير مقبولة في نظره .
فإن كان عقل موسى عانى القيد في ملاحقة الغيب ، فماذا يكون عقل الفأر ، أيها المفضال ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ روح الوحي “ وهو الروح الذي يتلقى الوحي .
( 2 ) لا سبيل للعقل إلى ادراك حقيقة الروح الا إذا آمن بها وعمل على اتخاذ طبيعتها .

 
“ 342 “
 
3265 ان العلم التقليدى يكون من أجل البيع ، فما أكثر ما يلتمع حين يجد المشترى ! 
وأما العلم الحقيقي فمشتريه هو الحق ، ولهذا فان سوقه دائما ذات رونق !
 فصاحب هذا العلم قد أغلق شفتيه فهو ثمل في البيع والشراء والمشترون بدون حصر لأن” اللَّهَ اشْتَرى ““ 1 “ .
فالملائكة هم المشترون لدرس آدم ، وأما الجن والشياطين فليسوا بأهل لتلقيه .
فيا آدم ، أنبئهم بالأسماء ، وألق عليهم درسك ، واشرح أسرار الحق بكل تفصيلاتها “ 2 “ .
 
3270 فمثل ذلك الشخص الذي يكون قصير النظر ، غريق التلوّن عديم التمكن ، 
قد دعوته فأرا ، لأن مقره في التراب ، والتراب للفأر مستقر ومعاش .
انه يعرف كثيرا من الطرق ولكنها جميعا تحت التراب ، ولقد سق لنفسه تحت الأرض سبلا في كل اتجاه .
فلا هم لنفس الفأر الا مضغ اللقم ، ولهذا فقد أعطى الفأر عقلا على قدر حاجته .
ذلك لأن الخالق العزيز لا يعطى انسانا قط شيئا لا تكون له حاجة اليه .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة التوبة ، 9 : 111 .
( 2 ) حرفيا : “ واشرح اسرار الحق شعرة شعرة “ .

 
“ 343 “
 
3275 - فلو لم تكن للعالم حاجة إلى الأرض لما كان رب العالمين قط خلقها .
ولو لم تكن هذه الأرض المضطربة محتاجة للجبال لما أبدعها الله ( راسخة ) ذات جلال .
ولو لم تكن للأفلاك حاجة إلى السماوات السبع لما أوجدها من العدم .
والشمس والقمر وهذه النجوم ، هل ظهرت للعيان من غير حاجة إليها ؟
فالحاجة هي الوهق الذي يجتذب ( الكائنات ) إلى الوجود وللانسان آلات على قدر حاجته .
 
3280 - فلتعجل أيها المحتاج بزيادة حاجاتك حتى يجيش بالسخاء بحر الجود .
فهؤلاء المتسولون ، وكل المبتلين يظهرون حاجتهم للخلق على الطريق ،
 ( انهم يظهرون ) العمى والشلل ، والمرض والألم فلعل هذه الحاجة تحرك رحمة الناس .
وليس أحد هؤلاء قط يقول : “ أيها الناس ، تصدقوا علىّ بالخبز فان لي مالا وخزائن ومائدة !
 “ ان الله لم يجعل للخُلد “ 1 “ عينين ذلك لأنها لا تحتاج اليهما في تحصيل قوتها .
.................................................................
( 1 ) الخلد فارة عمياء أو دابة تحت الأرض ويضرب بها المثل في شدة السمع . واسمها الفارسي “ كور موش “ ، ومعناه “ الفارة العمياء “ .

 
“ 344 “
 
3285 - انها تستطيع العيش بدون العين والبصر ، فهي في التراب الرطب قد خلت من حاجة إلى العينين .
وهي لا تخرج من باطن الأرض الا متلصصة وانها لكذلك حتى يطهرها الخالق من السرقة ، 
فإذ ذاك توهب جناحين وتصير طيرا ، فتحلق وتترنم بتسبيح الخالق ! 
وتتغنى في بستان شكر الله كالبلبل بمائة لحن في كل لحظة !
 قائلة : “ يا من خلصتنى من الوصف القبيح ! أيها الصانع من الجحيم جنة !
 
 3290 - انك أنت الذي تضع النور في قطعة من الدهن “ 1 “ ، وأنت - أيها الغنى - وأهب السمع لقطعة من العظم “ 2 “ ! 
“ فأي تعلق لهذه المعاني “ 3 “ بالجسم ، وأي تعلق لفهم الأشياء بالاسم ! ان الجسم كالوكر ، والمعنى هو الطائر ! 
الجسم كمجرى النهر ، والروح هو الماء ! فهو منطلق وأنت تقول : انه واقف ! 
وهو جار مندفع وأنت تقول : انه عاكف ! فان كنت لا ترى انطلاق الماء بين الطين ، فما هذا القش الذي يتوالى ظهوره فوق ( صفحته ) ؟
.................................................................
( 1 ) يقصد “ بقطعة الدهن “ العين .
( 2 ) يقصد “ بقطعة العظم “ الأذن .
( 3 ) البصر والسمع .

“ 345 “
 
3295  وصور فكرك هي لك شبيهة بهذا القش ، تتوارد منها على التوالي أشكال بكر .
ونهر فكرك في انطلاقه لا تخلو صفحته من قش محبوب وقش قبيح الشكل .
فهذه القشور فوق صفحة هذا الماء الجاري قد أقبلت مندفعة من ثمار بستان الغيب .
فابحث في البستان عن لباب هذا القشر ، ذلك لأن الماء يقبل إلى مجراه من البستان .
فان كنت لا تبصر جريان ماء الحياة فانظر إلى حركة هذه الأعشاب في النهر .
 
3300  فحينما يزداد اندفاع الماء في جريانه ، تزداد به قشور الفكر سرعة في انطلاقها .
فإذا ما بلغ هذا النهر غاية سرعته في جريانه ، لا يستقر غم في ضمير العارفين .
فهذا النهر حين يكون في قمة امتلائه وسرعته ، فإنه لا يبقى به متسع الا للماء .
 
كيف طعن غريب في أحد الشيوخ
وكيف أجابه مريد الشيخ
 
اتهم شخص أحد الشيوخ ( قائلا ) : “ انه فاسد : لا يسلك سبيل الرشاد ! 
فهو شارب للخمر منافق خبيث ، فأنى له أن يكون مغيثا لمريديه ؟ “
 
“ 346 “
 
3305  فقال له أحد ( المريدين ) : “ الزم الأدب ، فليس بهين مثل هذا الظن بالكبار ! 
ولكم هو بعيد عنه وعن صفاته أن يعكر صفاءه سيل ( من الخطيئة ) ! فلا ترم بمثل هذا البهتان أهل الحق ! ان هذا ليس سوى خيالك فافتح صفحة ( جديدة ) .
ان هذا لا يجوز ، أيها الطائر البرىّ ! وهب أنه جاز ، فأىّ خوف لبحر القلزم من أن ترمى به جثة ؟
انه ليس حوضا صغيرا ، دون القلَّتين ، حتى يمكن أن تلوثه قطرة ( من الدنس ) .
 
3310 فالنار لا تكون خطرا على إبراهيم . أما كل نمرود ، فادعه إلى أن يحذرها !
 “ ان النفس هي النمرود ، وأما العقل والروح فهما الخليل .
فالروح ( مستقرها ) عين الحقيقة وأما النفس فعالقة بالدليل .
والدليل انما هو للسائر في الطريق ، الذي هو - في كل لحظة - عرضة للضلال في البيداء .
أما الواصلون فليس لهم سوى العين والسراج ، وقد استراحوا من ( هم ) الدليل والطريق .
فلو أن رجلا من الواصلين ذكر أحد الأدلة ، فإنه يفعل ذلك ليفهم أصحاب الجدال .
 
3315  ان الأب يصطنع أصوات الطفولة لوليده الجديد ، مع أن عقله قد يبدع هندسة الدنيا !
 
“ 347 “
 
فليس يهبط فضل الأستاذ من عليائه لو أنه قال : ان الألف لا تقبل أي تحريك .
فالمرء - من أجل تلعيم ذلك ( الطفل ) المعقود اللسان - يجب عليه أن يخرج عن لسانه .
ان عليك أن تصطنع نطقه حتى يتعلم منك العلم والفن .
فمن اللازم للشيخ في وقت النصح أن يعتبر جميع الخلق مثل أطفاله .
 
3320  واعلم أن هناك حدّ للكفر ومداه ، أما الشيخ ونوره فليست لهما حدود ! 
فالمحدود عدم أمام اللامحدود . وكل شئ سوى وجه الله مآله إلى الفناء “ 1 “ .
فحيثما وجد الشيخ فلا مجال للكفر والايمان ، ذلك لأنه لب ، وليس هذين سوى ألوان وقشور !
 فهذه الأمور الفانية أصبحت حجابا لذلك الوجه ، كما اختفي نور اسراج تحت طست .
فرأس هذا الجسد اذن حجاب لذلك الرأس ( الروحىّ ) ! ورأس الجسد كافر إذا قيس بذلك الرأس !
 
3325 فمن الكافر ؟ انه الغافل عن ايمان الشيخ ! ومن الميت ! انه من لا علم له بروح الشيخ !
 شان الروح ليست الا خبرا ( قابلا ) للتجربة فكل من ازداد علما بها ، زدات روحه قوة .
.................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ كل شى هالك الا وجهه “ . ( القصص ، 28 : 88 ) .


 
“ 348 “
 
وروحنا أعظم من روح الحيوان ، فلماذا ؟ لأنها أكثر علما من روح الحيوان .
وأرواح الملائكة أعظم من أرواحنا ، لأنها منزهة عن الحس المشترك .
وأما ملوك القلوب “ 1 “ فأرواحهم أعظم من أرواح الملائكة فدعك من الحيرة !
 
3330  ولهذا السبب كان سجود الملائكة لآدم ، فروح آدم أعظم من كيانهم .
والا لما كان من اللائق قط أن يؤمر كائن أعظم بالسجود لمن هو دونه .
وكيف تروق عدالة الخالق ولطفه أن تخر الوردة ساجدة للشوك ؟
فالروح حين قوى وتجاوز المنتهى ، أصبحت أرواح جملة الكائنات طوع حكمه ،
 ( سواء في ذلك ) الطير والسمك والجنّ والناس ذلك لأن هذا الروح ( الكامل ) عظيم ، وتلك الأرواح ناقصة .
 
3335 فالأسماك تغدو صانعة الابر لدلق الشيخ ، وتكون تابعة له كما يتبع الخيط الإبرة !
 
بقية قصة إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه
على شاطىء البحر
 
حين رأى ذلك الأمير نفاذ أمر الشيخ بقدوم الأسماك نحوه ظهر عليه الوجد ،
.................................................................
( 1 ) الصوفية .



“ 349 “
 
وتأوه قائلا : “ ان السمكة عارفة بالشيوخ فساء من كان طريد بلاطهم ! الأسماك عارفة بالشيخ ونحن بعيدون عنه ! 
فنحن ( بحرماننا ) من هذا الحظ - أشقياء ! وتلك الأسماك سعيدة ! فخرّ ساجدا ، ومضى باكيا ولها ، وجُنّ بتعشقه فتح ذلك الباب !
 
3340  فما الذي أنت مشتغل به ، يا من لم تغسل وجهك ! ومع من أنت في صراع وحسد ؟
انك تعبث بذيل أسد ! انك تشنّ غارة على الملائكة ! لماذا حديثك بالسوء عن الخير المحض ؟ 
حاذر ، ولا تحسبن هذا التوقح رفعة ! فماذا يكون الخبيث ؟ انه النحاس المفتقر المهان ! ومن هو الشيخ ؟
انه الكيمياء التي لا حدّ لها .
فلئن كان النحاس غير متقبل للاكسير ، فان الإكسير لا يغدو قط نحاسا بفعل النحاس .
 
3345 وماذا يكون الخبيث ؟ انه العنيد النارىّ الفعل ! ومن الشيخ ؟
انه بحر الأزل بعينه ! والنار دائمة الخوف من الماء أما الماء ، فهل خاف قط من اللهيب ؟
انك لتتفرس في وجه القمر باحثا عن عيب ! بل انك لتملتمس الأشواك في فردوس !
 فيا ملتمس الشوك ! لو أنك دخلت الجنة ، فلن تجد فيها شوكة سواك .
“ 350 “
 
فهل تسعى إلى تغطية الشمس بقطعة من الطين ؟ أم هل تلتمس صدعا في البدر المكتمل ؟
 
3350 فهذه الشمس التي تضيء الدنيا ، كيف تحتجب من أجل خفاش ! 
ان العيوب قد صارت - برفض الشيوخ لها - عيوبا ، والغيوب قد أضحت - بغيرتهم عليها - غيوبا !
 ولو كنت بعيدا عنهم ، فكن لهم صديقا بخدمتهم أحيانا . وسارع إلى الندم ثم بادر إلى العمل .
فلعل نسيما يهب نحوك من هذا السبيل . فلماذا تدفع عن نفسك ماء الرحمة بالحسد ؟
ومهما كنت بعيدا عنهم فأظهر لهم أمارات الودّ وحيثما كنتم فولوا وجوهكم ( نحوهم ) .
 
3355 فلو أن حمارا انزلق في الوجل من جراء خطوة مسرعة ، فإنه يتحرك على الدوام لكي ينهض .
وهو لا يمهد ذلك المكان من أجل الإقامة ، فقد علم أنه ليس مكانا للعيش ! 
فحسك كان أدنى من حسّ الحمار ، ذلك لأن قلبك لم ينهض من هذه الأوحال !
 فها أنت ذا تتأول رخصة للإقامة في الوحل ، ما دمت لا تريد أن تنتزع منه قلبك ! 
قائلا : “ ان هذا يجوز لي فأنا مضطر ، والحق بكرمه لن يأخذني بعجزى ! “
 
 3360 وهو في الحقيقة قد أخذك ولكنك كالضبع الأعمى لم تر أخذه إياك ، من جراء غرورك !
 
“ 351 “
 
ان الصيادين يقولون : “ الضبع “ 1 “ غير موجود هنا ، فابحثوا عنه في الخارج فإنه ليس في كهفه “ .
يقولون هذا وهم يضعون فوقه القيود ، على حين أن الضبع يقول : “ لا خير لديهم عنى !
 فلو أن هذا العدوّ كان يعرف مكاني ، فكيف كان يهتف : أين هذا الضبع ؟ “
 
كيف ادعى رجل ان الله تعالى لن يأخذه بالاثم
وكيف اجابه شعيب
 
قال رجل في عهد شعيب : “ ان الله رأى منى كثيرا من العيب !
 
 3365 فكم من اثم شهده منى ، وكم من جرم ، لكن الله بكرمه لا يأخذني بذلك !
 “ فأجابه الحق تعالى بكلام فصيح ألقاه من الغيب في أذن شعيب :
( قائلا ) : “ انك قد قلت : كم ارتكبت من آثام ، لكنّ الله بكرمه لم يأخذني بجرمى ! 
وأنت تقلب ( الحقيقة ) وتقول بعكسها أيها السفيه ! يا من تخليت عن الطريق وتمسكت بالتيه ! 
فكم آخذك بجرمك وأنت لا تشعر بذلك !  ها أنت ذا مقيد بالسلاسل من قدميك إلى رأسك !
 
3370 ان الصدأ المتراكم عليك طبقة فوق طبقة - أيها الوعاء الأسود - قد خرّب سيما باطنك !
.................................................................
( 1 ) الضبع في رأى بعض اللغويين مؤنث . وفي رأى بعضهم أنه يذكر ويؤنث . وقد أخذنا بالرأي الأخير .


 
“ 352 “
 
لقد تراكمت فوق قلبك طبقات من الصدأ حتى أصبح أعمى عن ( مشاهدة ) الأسرار !
 “ فلو أن هذا الدخان هبط فوق قدر جديدة لبقى أثره فوقها ، مهما قلّ هذا الأثر “ 1 “ .
ذلك لأن الشئ يتميز بضده فذلك السواد تظهر شناعته فوق البياض .
فإذا ما أصبحت القدر سوادء فمن ذا الذي يلحظ بعد ذلك تأثير الدخان عليها بالنظرة العجلي ؟
 
3375 ان الحداد الزنجي يكون لون الدخان من لون وجهه .
أما الرومي الذي يحترف الحدادة فوجهه يغدو أبلق من تلقى الدخان .
فهو سرعان ما يعلم تأثير الاثم ، فينوح بلهفة قائلا : “ يا الهى ! 
“ وحينما يلزم الاصرار ويحترف السوء فهو يذرّ الرماد في عين الفكر ، فلا يتفكر في التوبة ، 
ثم يصبح ذلك الجرم حلوا في مذاق قلبه ، حتى يصير مجردا من الدين ،
 
 3380 وقد زايله ذلك الندم ، ودعاء الله وتراكمت فوق مرآته خمس طبقات من الصدأ ! 
وبدأ الصدأ يأكل حديدها ، كما أنه أخذ ينتقص من جوهرها ! انك حين تكتب فوق ورقة بيضاء فان هذه الكتابة تقرأ بمجرد النظر إليها .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ لبقى اثره فوقها ، ولو كان مقدار حبة من شعير “ .
“ 353 “
 
فإذا ما كتت فوق كلام مكتوب ، لو يتيسر فهمه ، ووقع الخطأ في قراءته .
ذلك لأن سوادا قد وقع فوق سواد ، فاستغلق كلا الخطين ، ولم يعطيا معنى .
 
3385  فلو أنت كتبت فوق ذلك اللمرة الثالثة لأصبح السواد مثل روح الكافر .
فأية حيلة تكون بعد ذلك ، سوى اللجوء إلى المعين . ان اليأس نحاس اكسيره نظر ( الله ) .
فلتضع أمامه نوازع يأسك حتى تنجو من السقم الذي لا دواء له ! 
فحينما حدث شعيب الرجل بهذه الحكم ، تفتحت في قلبه الورود بتلك الأنفاس الروحية .
فاستمعت روحه إلى وحى السماء وقال : “ ان كان قد عاقبنى ، فأين علامة ذلك ؟ “
 
3390  فهتف شعيب : “ يا رب ! انه يجادلنى ، ويطلب علامة على مؤاخذتك إياه ! 
“ فقال ( الحق ) : انني ستار ، فلن أذيع من أسراره الا رمزا وأحدا لأبلوه به :
ان هناك علامة واحدة على مؤاخذتى إياه ، هي أنه رجل صاحب طاعات من صوم ودعاء ،
 وصلاة وزكاة وغير ذلك ، لكنه ليست لديه ذرة واحدة من ذوق الروح !


 
“ 354 “
 
انه يؤدى الطاعات ويقوم بسنىّ الفعال ، لكنه لا يملك ذرة واحدة من الذوق .
 
3395  ان طاعته نبيلة ولكنها لا تنطوى على معنى نبيل ! فالجوز كثير ولكنه لا يشتمل على لباب ! 
فلا بد من الذوق حتى تؤتى الطاعات ثمرا ، ولا بد من اللب حتى تنبت البذور شجرا .
فالبذرة التي لا لبّ لها كيف تصير غصنا ؟ والصورة التي لا روح لها ليست سوى خيال .
 
بقية قصة ذلك الغريب وطعنه في الشيخ
 
ان ذلك الخبيث كان يتفوه بهراء عن الشيخ ، فأحولُ النظر يكون دائما أحوال العقل !
 ( قائلا ) : “ انني قد رأيته في أحد المجالس ، فإذا هو عار من التقوى ، مفلس منها !
 
3400 وان كنت لا تصدقني فانهض معي هذه الليلة ، لترى فسق شيخك عيانا !
 “ واقتاده في الليل إلى احدى النوافذ ثم قال : “ تأمل هذا الفسق ، وتلك المنادمة !
 تأمل ذلك النفاق بالنهار ، وهذا الفسق بالليل ! انه أثناء النهار كالمصطفي ، وفي الليل مثل أبى لهب ! 
ففي النهار كان اسمه “ عبد الله “ . وفي الليل أعاذنا الله منه ، وهو يحمل كأس الشراب ! “


 
“ 355 “
 
ورأى ( المريد ) الكأس ممتلئة في كف الشيخ ، فقال : “ واشيخاه ! أأنت أيضا من أصحاب الخداع ؟ “
 
3405   تو نمى گفتى كه در جام شراب * ديو مى ميزد شتابان ناشتاب “ 1 “
فقال الشيخ : “ انهم ملؤوا كأسي على هذه الصورة ، حتى لا يبقى بها متسع لحبة من بخور “ 2 “ .
انظر إليها ، هل فيها متسع لذرة ؟ ولقد حمل الغرّ هذا الكلام معنى معوجا !
 “ فليست هذه كأس الظاهر ولا خمر الظاهر ! فما أبعد هذا عن ذلك الشيخ البصير بالغيب !
 ان كأس الشراب هي وجود الشيخ أيها الأحمق ، وهذا لا يتسع لقطرة من خبث الشيطان “ 3 “ .
 
3410  انه ممتلئ طافح بنور الحق ! ولقد حطم كأس البدن ، فهو نور مطلق ! 
ولو أن نور الشمس وقع فوق نفاية قذرة فإنه يبقى نورا ، ولا يتقبل منها الخبث .
قال الشيخ : “ ليست هذه بكأس ، وليس ما تحتوبه خمرا ، فانزل الينا - أيها المنكر - ثم تأملها ! “
.................................................................
( 1 ) أعرضنا هنا عن ترجمة هذا البيت ، حيث وجدناه غير لائق بالترجمة . وخلاصته أن المريد قال لشيخه : “ ألم تكن أنت الذي يشتد في النهى عن الشراب ؟ “ .
( 2 ) المراد أن الكأس لم يبق بها متسع لا ضافة شئ مهما صغر .
( 3 ) ترجمنا الشطر الثاني من البيت بشئ من التصرف فعبرنا عن معناه من غير تقيد بألفاظه .



“ 356 “
 
فاقترب منها فرآها عسلا صافيا فعمى ( من الخجل ) ذلك العدوّ الضال التعس ! 
حينذاك قال الشيخ لمريده : “ اذهب والتمس لي خمرا ، أيها العظيم !
 
 3415  فانى أحس بألم ، وقد أصحبت مضطرا ! لقد تجاوز بي الألم حد المخمصة !
 ففي وقت الضرورة تكون كل ميتة نظيفة . فلينزل تراب اللعنة على رأس المنكر !
 “ فدخل ذلك المريد إلى غرفة الدنان ، وأخذ - من أجل الشيخ - يتذوق من كل دنّ ! 
فلم ير في كل غرف الدنان خمرا ، فكل دنان النبيذ كانت قد غدت ممتلئة بالعسل ! 
فقال : “ أيها السكارى ما هذه الحال ؟ ما هذا الأمر ؟ انني لست أرى عقارا في أي دنّ ! “
 
3420  فأقبل جميع السكارى نحو ذلك الشيخ ، بعيون باكية وهم يضربون رؤوسهم بأيديهم ، 
( قائلين ) : “ لقد جئت إلى حانتنا ، أيها الشيخ الأجل ، فأصبحت - بقدومك - جملة خمورنا عسلا ! 
لقد أبدلت الخمر ، ( وطهرتها ) من الدنس ! فأبدل نفوسنا أيضا ( وطهرها ) من الخبث !
 “ فلو أن العالم امتلأ بالدماء حتى طفح ، فمتى كان عبد الله يشرب غير الحلال !

 
“ 357 “

كيف قالت عائشة رضي الله عنها للمصطفي عليه السلام :
انك تؤدي الصلاة في كل مكان بدون مصلى
 
قالت عائشة ذات يوم للرسول : “ يا رسول الله ! انك في العلن والخفاء ،
 
 3425  تصلى في كل مكان تجده ! وقد يتجول في الدار النجس والدنىء ، 
وذات الحيض والطفل والملوث القذر ، وهؤلاء يلوثون كل مكان يقربونه .
فقال الرسول : “ اعلمى أن الله يصنع للكبراء من النجس طهرا .
فلطف الحق - من هذا الوجه - قد طهر لي مكان السجود حتى السماء السابعة ! 
“ فحذار ، حذار لا تضمر حسدا الملوك ( الروح ) ، والا غدوت شيطانا في هذه الدنيا !
 
3430  فان ( الواحد منهم ) لو شرب سما لصار شهدا ، على حين أنك لو شربت شهدا لغدا سما !
 انه قيد تبدل حاله وتغير ، فأصبح لطفا ، وصارت جلمة ناره نورا ! 
فأبابيلُ الطير كانت ( تنعم ) بقوة من الحق ، والا فكيف يقتل طائر فيلا ؟
ان جماعة من صغار الطير قد هزمت جيشا ، وذلك لكي تعلم أن تلك الصلابة كانت من الحق !
 
“ 358 “
 
فان اعتراك وسواس من هذا القبيل ، فاذهب ، واقرأ سورة الفيل .
 
3435 وان أنت سلكت ( إزاء العارف ) سبيل المراء والمطاولة ، فانسبنى إلى الكفر لو أنك نجوت برأسك من هؤلاء ( العارفين ) .
 
كيف سحب الفار مقود الجمل وكيف اعتراه العجب بنفسه
 
خطف فأر صغير بكفه مقود جمل ثم غدا منطلقا بدافع من المراء !
 فانطلق الجمل معه بما لديه من سرعة ، فاغتر بذلك الفأر وظن نفسه من الأبطال ! 
وسرى شعاع من تفكير الفأر إلى الجمل ، فقال ( هامسا ) : “ اهنأ الآن بالا ، ولسوف أكشف أمرك “ .
( ومضى الفأر ) حتى وصل إلى شاطىء نهر عظيم ، يضعف أمامه كل أسد وكل ذئب ،
 
 3440 فتوقف هناك الفأر وجمد ، فقال له الجمل : “ يا رفيق الجبل والصحراء ! 
ما هذا التوقف ؟ ولماذا أنت حائر ؟ ضع قدمك بشجاعة في النهر ثم تقدم ! 
انك دليلي ومرشدي ، فلا تتوقف في وسط الطريق وتسكن ! 
“ فقال ( الفأر ) : “ ان هذا ماء هائل عميق وأخشى أن أغرق فيه ، أيها الرفيق ! “
 
“ 359 “
 
فقال الجمل : “ دعني أختبر هذا الماء “ ، ثم سرعان ما وضع في الماء قدمه ،
 
3445  وأردف قائلا : “ ان الماء يبلغ الركبة ، أيها الفأر الأعمى ! فلماذا بقيت حيران ، وخرجت عن صوابك ؟
 “ فقال ( الفأر ) : “ انه بالقياس إليك نملة ، وهو بالنسبة الىّ تنين ، فهناك فروق بين ركبة وأخرى .
فما كان بالنسبة لك يبلغ الركبة - أيها المفضال - فهو يعلو مائة ذراع فوق قمة رأسي !
 “ فقال الجمل : “ فلا تتوقح بعد ذلك مرة أخرى ، حتى لا يحترق جسمك وروحك بهذا الشرر ! 
وليكن مراؤك مع أمثالك من الجرذان ، فليس يكون للفأر حديث مع الجمل .
 
3450 فقال ( الفأر ) : “ لقد تبت ، فهلا تصدقت على وجزت بي هذا الماء المهلك “ .
فاستشعر الجمل الرحمة بالفأر ، وقال له : “ الآن اقفز واجلس فوق سنامي .
ان العبور أصبح منوطا بي ، وأنا ( قدير ) على أن أحمل عبر النهر آلافا مثلك ! 
“ فما دمت لست برسول فامش على الطريق ، لعلك تنتقل “ 1 “ ذات يوم من بئر ( الشهوات ) إلى مستقر الجاه !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ تصل “ .
 
“ 360 “
 
وكن من الرعية ، ما دمت لست بسلطان . ولا تقد السفينة بنفسك ما دمت لست القبطان !
 
 3455 وطالما لم تكن مكتملا فلا تنفرد بتجارة “ 1 “ . وكن لينا في الأيدي ( كالعجين ) لتصبح خيمرا .
وكن صامتا ، وأصغ لما أمر به الخالق من الانصات وما دمت لست لسان الحق ، فكن أذنا ! 
وإذا تكلمت فليكن كلامك على صورة استفسار . وكن كالمسكين في حديثك مع هؤلاء الملوك “ 2 “ .
ان الشهوة هي بداية الكبر والحقد ، ورسوخ الشهوة ينشأ من الاعتياد عليها .
فإذا رسخت عندك بحكم العادة خليقة سيئة ، ينتابك الغضب على من ( يسعى ) لا قتلاعها منك !
 
 3460 فما دمت قد غدوت آكلا للطين فكل من سعى لا قتلاعك من الطين صار عدوا لك !
 وعباد الصنم ، حين رسِّخوا خلائقهم في تلك العبادة ، أصبحوا أعداء لمن اعترض سبيلهم إلى الصنم ! 
وإبليس - إذ كان قد اعتاد على التخلق بالرئاسة - 
نظر إلى آدم بعين الانكار ، قائلا : “ أيوجد رئيس آخر أعظم قدرا منى ، حتى يتسحق أن يسجد له كائن مثلي ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : بدكان .
( 2 ) الملوك هنا هم المرشدون الروحيون .



“ 361 “
 
ان الرئاسة سم الا بالنسبة لتلك الروح التي تكون من البداية مترعة بالترياق !
 
 3465  فلو كان الجبل مليئا بالثعابين فلا تخش شيئا ما دام في الباطن ترياق غزير ! 
فإذا ما أصبحت الرئاسة نديما لدماغك ، فكل من خالفك صار لك خصما قديما !
 ولو أن انسانا تكلم على خلاف طبعك ، لثار في نفسك نحوه كثير من الأحقاد ! 
( قائلا ) : “ انه يريد أن يقتلعنى من أخلاقي ! انه يريد أن يجعل منى تلميذا وتابعا له ! 
“ فلو لم يكن الخلق السىّء قد أصبح راسخا ، فيكف كان بيت النار يشتعل من ( مجرد ) خلاف !
 
 3470 وقد يسعى ( هذا ) إلى مداراة المخالف ، ويجعل لنفسه مكانة في قلب من خالفه !
 ذلك لأن الخلق السىّء قد أصبح متمكنا منه ، وصارت نملة الشهوة - بتحكم العادة - مثل الثعبان !
 فاقتل - من البداية - ثعبان الشهودة ، والا فهاك ثعبانك ، وقد أصبح تنينا !
 لكن كل انسان يرى ثعبان نفسه نملة ! فالتمس عند صاحب قلب تفسيرا لحال نفسك !
 فما لم يصبح النحاس ذهبا فلن يعرف أنه ( كان ) نحاسا ! 
وما لم يغد القلب ملكا فلن يعرف أنه ( كان ) مفلسا !



“ 362 “
 
3475 فاجعل نفسك النحاسية خادمة للاكسير ، واحتمل الجور - أيها القلب - ممن تملك .
فمن مالك القلب ؟ ان أهل القلوب ( هم مالكوه ) فاعلم ذلك جيدا ، وان هؤلاء ليهربون من الدنيا كالنهار والليل ! 
ولا يكن منك ذم لمن كان لله عبدا ! ولا تتهم الملك بأنه أحد اللصوص !
 
كرامات ذلك الدوريش الذي اتهم بالسرقة في أحدى السفن
 
كان درويش في احدى السفن ، وقد اتخذ لنفسه من بضاعة الرجولة ظهيرا .
وضاعت صرة من الذهب، وكان نائما ، ففتشوا الجميع، وهو أيضا ووجه بذلك “1“ .
 
3480 - ( إذ قالوا ) : “ فلنفتش أيضا هذا الفقير النائم “ ، فأيقظه صاحب المال ( الملتاع ) بالحزن .
( قائلا ) : “ لقد فقدت في هذه السفينة صرة ( من الذهب ) وقد فتشنا الجيمع ولا خلاص لك من ذلك ! 
فاخلع دلقك وتعرّ منه ، حتى تبرأ من ظن السوء بك أوهام الخلق ! فقال ( الدرويش ) :
 “ يا رب ، ان هؤلاء الأخساء قد اتهموا غلامك ، فأنفذ ارادتك ! “
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ وهو أيضا ظهر له ذلك “ .


 
“ 363 “
 
وحينما تملك الألم قلب الدرويش من جراء ذلك ، ظهرت برؤوسها - على الفور - في كل ناحية
 
 3485 آلاف الأسماك من البحر الخضم ، وفي فم كل منها درة عظيمة ! 
فهاتيك الألوف من أسماك البحر العميق ، كانت كل منها تحمل بفمها درة ، وأية درة ! 
لقد كانت كل درة تعدل خراج مملكة ، وان هذا ( العطاء ) من الله ، ولا صلة له بسواه ! 
فنثر في السفينة درّا كثيرا ، ثم قفز واتخذ الهواء كرسيا ، وجلس ! 
وتربع سعيدا فوقه كأنه ملك فوق عرشه ! لقد كان في أوج رفيع ، والسفينة أمامه !
 
3490 - وقال : “ اذهبوا ، فالسفينة لكم ، والله لي ! فلا ينبغي أن يكون في صحبتكم لص متسول ! 
( ولننظر ) لمن تكون الخسارة في هذا الفرق ! انى سعيد لا تصالى بالحق ، وانفرادى عن الناس !
 فهو لن يرميني بتهمة السرقة ، ولا هو يسلم قيادى إلى نمام ! “ فهتف أهل السفينة قائلين : “ أيها الهمام !
 كيف أعطيت هذا المقام العالي ؟ “ فقال : “ كان ذلك بسبب القائكم التهمة على الفقير ، واغضابكم الحق من أجل شئ حقير !
 
 3495 - حاش لله . بل ذلك كان لتعظيم الملوك ( الروحيين ) فانى لم أكن سىّء الظن بالفقراء ،



“ 364 “
 
هؤلاء الفقراء ، ذوى اللطف والأنفاس الطيبة الذين نزلت في تعظيمهم ( سورة ) عبس “ .
ان التصوف ليس من أجل ( اجتناب ) تعقيد ( الحياة ) ، بل التصوف لأنه ليس من موجود حق سوى الله ! 
فكيف أتهم من جلعهم الحق أمناء على خزائن السماء السابعة ؟
ان التهمة توجه إلى النفس لا إلى العقل الشريف ! المتهم هو الحس ، وليس النور اللطيف !
 
 3500 - النفس سوفسطائية فاضربها ، فالضرب هو الذي ينفعها ، لا الجدل والحجاج !
 فهي ترى معجزة فيشتعل ( بها الوجد ) حينذاك ، ثم تعود فتقول :
“ ان ذلك لم يكن سوى خيال ! ولو أن هذه الرؤية العجب كانت حقيقة للبثت أمام العين صباح مساء !
 “ وهذه تكون مقيمة أمام أعين الطاهرين ، وليست تكون قط قرينة لعين الحيوان “ 1 “ .
فان هذه المعجزة تحتقر هذا الحس وتزدريه . وكيف يكون مقر الطاووس حفرة ضيقة ؟
 
3505 - ( وهأنذا أسكت ) حتى لا تنعتنى بالاسراف في القول . وأنا لا أقول الا لمحة “ 2 “ ( مما ينبغي قوله ) ، فكائما هي همسة “ 3 “ !
.................................................................
( 1 ) العين الحسية .
( 2 ) حرفيا : “ وانا لا أقول الا واحدا بالمائة . . “ .
( 3 ) حرفيا : “ فكأنما هذه شعرة “ .

* * *
شرح كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب
( 3102 ) لو لم تكن حقيقة الأنبياء والأولياء وفضائلهم معروفة للأخيار والأشرار على السواء . فعلى أي شئ يحسدهم الأشرار ؟
 
( 3103 ) ان كان الأشرار يعرفون الأنبياء معرفة يقينية ، ويدركون حقيقتهم ، فلماذا اذن يناصبونهم العداء على تلك الصور المريرة .
 
( 3104 ) يعجب الشاعر من الأشرار ، يعرفون البعث والقيامة ، ومع ذلك يحاربون الأنبياء والأولياء ؟ فكيف يُعرّضون أنفسهم لانتقام يوم الحساب .
وقد رمز الشاعر إلى عقاب الآخرة “ بالسيف الحاد “ .
 
( 3105 ) ان ظاهر النبي أو الولي يخدع الناس عن حقيقته . فهو في ظاهره وديع رقيق ، يبدو لهم ضعيفا ، على حين أنه يمتلك من القوة ما يقيم مائة قيامة ، لأنه يكون مؤيدا بالله .
 
( 3106 ) يتضمن هذا البيت لمحة من فكرة “ الانسان الكامل “ عند الصوفية .
يقول الجيلى : “ واعلم أن الانسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه ، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته ، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته . . . “ . ( انظر ، الانسان الكامل ، ج 2 ، 50 - 52 ) .
 
( 3108 ) كيف يتهجم السفهاء على الأنبياء والأولياء ، وهم يعلمون


“ 572 “
 
أن قوتهم مستمدة من قوة الله وتأييده ؟
( 3109 ) يسخر الشاعر من أدعياء الايمان الذين يتقربون إلى الله بتعظيم المسجد ، في حين أنهم يوقعون الأذى بقلوب العارفين من رجال الله .
 
( 3110 ) المسجد بيت الله ، على سبيل المجاز ، وأما قلب العارف فهو - على التحقيق - بيت الله .
 
( 3116 - 3127 ) حكى الشاعر في هذه الأبيات قصة عن جحى .
وهذه القصة ذات أصل عربى ، رويت في مصادر متعددة ، لكنها لا تدور حول جحى . فمن صورها العربية تلك التي وردت في كتاب الأغانى ، على النحو التالي :
“ قال إن دراج الطفيلى : مرت بي جنازة ومعي ابن ومع الجنازة امرأة تبكى وتقول : بك يذهبون إلى بيت لا فراش فيه ولا وطاء ولا ضيافة ولا غطاء ، ولا خبز ولا ماء . فقال لي ابني : يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة . فقلت : كيف ويلك . قال : لأن هذه صفة بيتنا “ .
انظر : ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 77 - 78 ) ، ( تعليقات نيكولسون ) .
 
( 3128 ) الطغاة لا يستطيعون أن يروا من الأمور سوى ظاهرها .
فابصار هؤلاء شبيه بابصار الطفل ، في القصة السابقة .
 
( 3129 - 3131 ) القلب الذي لم يتلق نور الهداية ، ولا شعاع الالهام ، يكون مظلما ، لا قدرة له على الادراك السليم .
 
( 3132 ) من كان قلبه مظلما فهو دفين ظلمة الجهل . وبعض الموتى أحسن حالا من الأحياء الذين يعيشون في ظلام الجهل . أما قول الشاعر :
“ فلتنهض الآن من ضريح قلبك “ فمعناه : “ حطم سجن الجهالة الذي يغشاك بظلمة شبيهة بظلام القبر ، وانطلق إلى بعث روحي جديد مشرق بنور العرفان “ .
 
“ 573 “
 
( 3133 ) من كان سبيل آدم - الذي علمه الله الأسماء كلها - كيف يستريح إلى الجهل ، ولا تضيق به أنفاسه ؟
 
( 3134 ) الروح الانساني الذي أحاطت به الظلمة شبيه بيوسف في قرارة الجب ، أو بشمس السماء وسط الظلمات . والجب لا يليق بيوسف ، وكذلك الظلمات لا تناسب الشمس .
 
( 3135 ) يشير هذا البيت إلى قصة يونس حين ابتلعه الحوت ، ثم انقذه الله .
لقد ذكر القرآن الكريم قصة يونس في قوله تعالى : “ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين . فاستجبنا ليه ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين “ . ( 21 : 87 - 88 ) .
وقد وردت قصة يونس في تفسير هذه الآيات . وخلاصة القصة أن يونس كان رجلا صالحا يتعبد في جبل . وكان من أهل نينوى فبعثه الله إليهم ليدعوهم إلى الايمان بالله ، وترك عبادة الأصنام . وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، فتعجل الأمر وخرج مغاضبا ، وأتى البحر . قال الثعلبي : “ فلما أتى يونس البحر إذا قوم يركبون سفينة فحملوه بغير أجرة ، فلما دخلها احتبست السفينة ووقفت ، والسفن تسير يمينا وشمالا فقال الملاحون : ان فيها عبدا آبقا من سيده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر . فاقتر عوا فوقعت القرعة على يونس . فقال أنا الآبق .
فقالوا تُلقى في الماء . فاقترعوا ثانيا وثالثا فخرجت القرعة على يونس ، فزج نفسه في الماء ، فذلك قوله تعالى : “ فساهم فكان من المدحضين “ ( 37 : 141 ) . فلما وقع في الماء وكل الله به حوتا فابتلعه ، وأوحى الله تعالى إلى الحوث انى لم أجعله لك رزقا بل جعلناك له حرزا ومسكنا ، فخذه ولا تسكر له عظما ولا تخدش له لحما “ . ( قصص الأنبياء 462 - 463 ) .


“ 574 “
 
وبينما يونس في جوف الحوت تاب إلى ربه وسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحة . وشفعت له الملائكة فأمر الله الحوت فقذفه إلى ساحل نينوى . وكان ضعيفا من جراء ما مر به فأنبت الله عليه شجرة من يقطين .
وقد ذكر القرآن الكريم قصة ابتلاع الحوت ليونس ونجاته منه بقوله تعالى : “ وان يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون .
فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلو لا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . فنبذناه بالعراء وهو سقيم .
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا فمتعناهم إلى حين “ . ( 37 : 139 - 148 ) .
( 3136 ) يشير هذا البيت إلى قوله تعالى : “ فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثنون “ . ( 37 : 143 - 144 ) .
 
( 3137 ) قول الشاعر : “ فماذا يكون التسبيح ؟ انه آية يوم ( ألست ) “ يعنى أن التسبيح الحق هو ذلك المنبثق من ايمان الروح بالخالق ، من قبل أن يخلق العالم . ويوم “ ألست “ يُقصد به ما جاء في قوله تعالى : “ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى “ . ( 7 : 172 ) .
 
( 3138 ) “ ان كانت روحك قد نسيت تسبيحها الذي عرفته قبل خلق هذا العالم ، فاستمع إلى تسبيح أهل الكمال ، فإنه يذكرك بما كانت روحك قد عرفته “ . والحيتان هنا رمز للعارفين ، وكثيرا ما يشبههم جلال الدين بالحيتان ، كما يشبه عالم الروح بالبحر .
 
( 3139 ) قول الشاعر : “ وكل من شهد هذا البحر فهو ذلك الحوت “ ، يعنى كل من شهد بحر الروح فهو صوفي عارف .
 
( 3140 ) بدأ الشاعر هنا يستخدم البحر والحوت للتصوير البياني ، وليس للرمز ، كما فعل في البيتين السابقين .

 
“ 575 “
 
( 3141 ) الروح قد انطوى في الجسد ، كما انطوى يونس في جوف الحوت . ولولا تسبيح الروح لقضى عليه الجسد ، ومحا وجوده ، فالتسبيح هو الذي يمكن الروح من أن يطرح عنه أغلال الجسد ، كما استطاع يونس بالتسبيح أن يخلص نفسه من جوف الحوت . ( انظر :
سورة الصافات ، 37 : 143 - 144 ) .
 
( 3142 ) هذه الدنيا لا تخلو من صوفية عارفين ، ولكن أهل الحس ، الغارقين في اللذات ، لا ينتبهون إلى هؤلاء .
 
( 3143 ) ليس احتجاب العارفين عن أهل الحس ناشئا من حرص هؤلاء على الابتعاد عنهم ، بل الحقيقة أن العارفين كثيرا ما يسعون إلى ارشاد أهل الحس ، لكن هؤلاء لا يفطنون إلى هذا السعي الكريم .
 
( 3144 ) ان كنت قد اخفقت في ملاقاة الرجال العارفين ، فلا بد أن أذنك قد استعمت إلى تسبيحهم .
 
( 3145 ) يكثر الصوفية من الثناء على الصبر . ويروون في الصبر أقوالا كثيرة ، منها قول علي بن أبي طالب : “ الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد “ . والصبر - عند الصوفية - محمود في كل المواقف ، الا الصبر عن الله ، ومن ذلك قول الشاعر :الصبر يجمل في المواقف كلها * الا عليك فإنه لا يجمل( انظر : رسالة القشيري ، باب الصبر ، 84 - 87 ) .
 
( 3147 ) “ الصبر “ هو الطريق الموصل إلى السعادة . انه كالصراط الذي يعبره المؤمن إلى الجنة .
 
( 3149 ) جكلcheyelبلدة وراء نهر سيحون من بلاد تركستان ( ياقوت : معجم البلدان ) . وقد اشتهرت هذا البلدة بجمال نسائها . وقد ذكر جلال الدين هذا المعنى مرارا في شعره . قال في ديوان شمس تبريز .
 
“ 576 “
 
گفت له اين خانه دل برهمه نقشست جرا * كفتم كين عكس تواست اى رخ توشمع جكَل( قال : لماذا قد حفل منزل القلب هذا بالصور قلت إن هذه خيالات محياك يا من وجهك شمع جكَل ) .
والمراد بالصبر هنا الصبر عن الجمال الأسمى ، وهو ما لا تكون للمحب العارف طاقة به .
 
[ شرح من بيت 3150 إلى بيت 3300 ]
 
( 3150 ) عاد الشاعر هنا إلى استخدام الصبر بمعنى القوة على مقاومة البلاء ومعاناة الشدة . وهذا ما يكون من الفضائل التي يتحلى بها الرجال . ومثل هذا الصبر في مجاهدة الحياة يعتبر درجة أدنى من الصبر في مجاهدة النفس ، فهو أيضا يحتاج إلى قوة وجلد ، هما من صفات الصوفي العارف .
 
( 3154 ) هناك فرق بين رايات ترفع للجهاد ، ورايات يرفعها المتسولون ملتمسين كسر الخبز . وليست العبرة بالارتفاع وانماهى بجوهر هذا الارتفاع .
 
( 3159 ) يشير البيت إلى مثل الثعلب والطبل ، وهو من أمثال كليلة ودمنة ، ونصه كما يلي :
“ زعموا أن ثعلبا أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرة ، حركتها فضربت الطبل فسُمع له صوت عظيم باهر . فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته . فلما أتاه وجده ضخما ، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم ، فعالجه حتى شقه .
فلما رآه أجوف لا شئ فيه قال : لا أدرى لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة “ . ( كليلة ودمنة ، 132 ) .
أما قول الشاعر : “ فيا من تشبه بضخامتك قوم عاد “ ، فيشير إلى ما اشتهر به هؤلاء من ضخامة الأجساد . وقد أخبر القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : “ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في
 
“ 577 “
 
الخلق بسطة “ . ( 7 : 69 ) .
( 3163 - 3175 ) نقل فروزانفر أصلا لهذه القصة عن “ مقالات شمس “ . انظر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 78 - 79 .
 
( 3176 - 3183 ) لهذه القصة أصل عربى جاء في عيون الأخبار لا بن قتيبة .
قال : “ مر رجل من العباد وعلى عنقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه ، في أحدهما برّ وفي الآخر تراب . فقيل له : ما هذا ؟ قال :
عدلت البرّ بهذا التراب لأنه كان قد أمالنى في أحد جانبي . فأخذ الرجل زنبيل التراب فقلبه ، وجعل البرّ نصفين في الزنبيلين ، وقال له : احمل الآن ، فحمله ، فلما رآه خفيفا قال : ما أعقلك من شيخ “ . ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 79 ) .
 
( 3201 ) الصوفية لا يؤمنون بالفلسفة العقلية ، ويرون أنها لا توصل إلى علم يقيني ، وأن حاصلها الشقاء والحيرة .
 
( 3207 ) “ الفكر الحق هو الذي يفتح طريقا للهداية الروحية “ . أما “ الملك “ هنا فهو رمز للمرشد الكامل .
 
( 3208 ) العارف يكون ملكا بذاته ، لا بخزائنه وجيشه .
 
( 3210 ) بدأ الشاعر هنا قصة صغيرة عن إبراهيم بن أدهم . . وقد وردت هذه القصة في تذكرة الأولياء للعطار ( ج 1 ، ص 155 ) . وترجمة القصة كما يلي .
“ يروى أنه كان ذات يوم جالسا على شاطىء دجلة ، وكان يرقع خرقته الممزقة ، فوقعت ابرته في النهر . فسأله أحد الرجال : لقد تخليت عن مثل هذا الملك ، فماذا وجدت ( عوضا عنه ) . فأشار إلى البحر ليرجع اليه ابرته . فخرجت من النهر ألف سمكة ، وقد أمسكت كل منها بإبرة ذهبية في فمها . فقال إبراهيم : أريد ابرتى ! فخرجت سمكة صغيرة ضعيفة ، وقد أمسكت بفمها ابرته . فقال إبراهيم : هذا أهون شئ وجدته

 
“ 578 “
 
لقاء تركى ملك بلخ ، أما ما سوى ذلك فإنك لن تدركه “ . انظر ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 80 ) ، ( تعليقات نيكولسون ) .
وقد روى السلمى أن إبراهيم بن أدهم كان ابن أحد ملوك خراسان ، وأنه خرج ذات يوم إلى الصيد ، وبينما هو يطارد صيده هتف به هاتف دعاه إلى ترك ما كان فيه ، فاستجاب له ، وتخلى عن جواده ومتاعه لأحد رعاة أبيه ، وأخذ جبته الصوف فلبسها وتوجه إلى مكة . ( طبقات الصوفية ، 30 ) .
 
( 3221 ) “ العميان “ هنا رمز لمن حرموا نور البصيرة الروحية .
 
( 3222 ) “ المبصرون “ هنا رمز للعارفين الذين أشرقت قلوبهم بنور العرفان .
 
( 3230 ) ربما أتيح للمتعلق بعالم الظاهر أن يتلقى نفحة من الغيب .
لكنه لا يكون مثل أهل العرفان الذين يطلعون على عالم الروح الخفي .
 
( 3231 ) “ الحديقة “ رمز لعالم الروح .
 
( 3232 ) “ ان لم تكن من السالكين إلى حديقة الروح ، فالتمس شيئا من المقدرة على تنسم شذاها ، وادفع عنك تلك الروابط المادية ، التي تحول بينك وبينها “ .

( 3234 ) قميص يوسف الذي ألقى على وجه يعقوب فارتد بصيرا رمز لنفحات الروح التي تنير ظلام الحس ، وتكشف سبيل الابصار الحق .
 
( 3235 ) قول الرسول : “ جعلت قرة عيني في الصلاة “ يشير إلى ما كان يتلقاه في صلاته من نفحات روحية .
 
( 3236 ) يقول الغزالي ان المدركات الحسية تلتقى جميعا لتقدم الصورة الحس المشترك فهو القوة التي تكوّن الصورة العامة مما تتلقاه الحواس المختلفة . “ تلك القوة مجمع المتاثلات والمختلفات فسميناها الحس ، المشترك ، إذ لا تكون النفس مدركة الا بهذه القوة ، وسميناها اللوح إذ لا تجتمع المحسوسات الا في هذه القوة ، وليس لها الا الادراك
 
“ 579 “
 
فقط “ . ( الغزالي : معارج القدس ، 47 - 48 ) .
وجلال الدين يرى ارتباط الحواس بعضها بالبعض الآخر لأنها جميعا تنبع من أصل واحد . وسياق الأبيات يبين ان جلال الدين يرى أنه لو تخطت احدى الحواس نطاق حسيتها إلى مارواء الحس ، فان ذلك يقود الحواس الأخرى إلى تخطى نطاق الحس .
( 3240 ) “ ان انطلاق احدى الحواس من قيد المادة ، واستنارتها بالاحساس الروحي ، يعين بقية الحواس على تحقيق استنارة مماثلة “ .
( 3242 ) الشاعر يشبه الحواس بقطيع من الخراف ، فلو أن واحدا من القطيع قفز من فوق القناة إلى الجانب الآخر تبعته بقية الخراف .
والقناة هنا رمز للحد الفاصل بين عالم الادراك الحسى ، وعالم الادراك الروحي .
( 3243 ) ان حواسك - التي تشبه الخراف في حسيتها - غافلة عن ذلك المرعى ، وهو عالم الروح الكامن وراء عالم الحس . فسق هذه الخراف إلى ذلك المرعى حتى تنعم هناك بغذاء يختلف عما عهدته في عالم الحس .
( 3245 ) لو اطلع كل حس من حواسك على عالم الروح ، أصبح بمثابة النبي الذي يقود الحواس الآخرين إلى ذلك العالم ، كما يقود النبي أتباعه إلى الجنة .
( 3246 ) عندما تصبح الحواس كلها مطلعة على الأسرار ، تزداد الحاجة إلى التعبير عنها ، والإشارة إليها بالألفاظ والعبارات .
( 3247 ) الحقيقة - حينما لا تكون مشهودة - تتقبل الكثير من التأويلات ، وتنشأ حولها الخيالات والأوهام .
( 3248 ) حقيقة الشهود لا تتقبل أي تأويل ، ما دامت مبنية على العيان ، والمشاهدة .
( 3249 ) من تجلى له الغيب ، وأصبح مرشدا لسواه إلى ذلك
 
“ 580 “
 
الشهود ، فقد تحقق له سلطان على الأفلاك .
( 3250 ) الأفلاك وغيرها من مظاهر العالم المادي ليست سوى مظهر يخفى وراءه جوهر الحقيقة ، فمن ملك هذا الجوهر ، فهو - نتيجة لذلك - مالك لما يحيط به من قشور .
( 3253 ) الروح المشار اليه في هذا البيت هو الروح ( الحيواني ) .
وقد عرفه الغزالي بقوله : “ أما الروح فيطلق ويراد به البخار اللطيف الذي يصعد من منبع القلب ، ويتصاعد إلى الدماغ بواسطة العروق ، ومن الدماغ يسرى بواسطة العروق أيضا إلى جميع البدن ، فيعمل في كل موضع بحسب مزاجه واستعداده عملا ، وهو مركب الحياة ، فهذا البخار كالسراج ، والحياة التي قامت به كالضوء ، وكيفية تأثيره في البدن ككيفية تنوير السراج أجزاء البيت “ . ( معارج القدس ، 14 ) .
( 3254 ) قول الشاعر : “ فالحس أكثر سرعة في سلوكه سبيل الروح “ ، يعنى أن الحس أكثر استجابة لدواعي الحياة المتحركة ، وأوضح من العقل تعبيرا عنها .
( 3256 ) الحركة لا قيمة لها في ذاتها ، فهي تظهر من الحيوان ومن الانسان ، ولكن العقل حين يخلع على الحركة اتزانا يجعل لها قيمة ذاتية . فهذا التغيير في قيمة الحركة شبيه بفعل الإكسير الذي يجعل المعدن الخسيس ذهبا .
 
( 3258 ) “ الروح الملهم “ هو الروح الانساني الكامل ، وهذا عند الصوفية أسمى بكثير من العقل . وهو ينتمى إلى عالم أسمى من هذا العالم . وادراك أسرار العقل أيسر من ادراك أسرار هذا الروح الملهم يقول الغزالي : “ هو الروح الانساني المتحمل لأمانة الله ، المتحلى بالمعرفة ، المركوز فيه العلم بالفطرة بالتوحيد بقوله ( بلى ) ، فهو أصل الآدمي ، ونهاية الكائنات في عالم المعاد “ . ( معارج القدس ، 13 - 14 ) ( 3259 ) كان من الميسور لكل انسان أن يدرك مقدار عقل

 
“ 581 “
 
الرسول ، أما ادراك أسرار روحه الملهم فهذا قد امتنع على كثير من الناس .
( 3260 ) للروح الملهم أفعال متناسبة متزنة ولكن العقل يعجز عن ادراكها . ومن هنا كان عجز علماء الدنيا عن فهم الصوفية العارفين .
( 3261 ) لا سبيل للعقل إلى فهم الروح الملهم ، الا إذا أصبح العقل ذاته روحا . ويبدأ ذلك بايمان العقل بسموّ هذا الروح ، وصدق الهامه . وبدون هذا الايمان تبدو تجليات الروح جنونا ، في نظر العقل .


( 3262 - 3263 ) من أمثلة الصعوبة التي يلاقيها العقل في فهم الروح ما أبداه موسى من انكار لأعمال الخضر ، وذلك حين خرق السفينة وقتل الغلام . ( انظر : سورة الكهف ، 18 : 71 - 75 ) .
( 3265 ) العلم التقليدىّ يكون ذا رونق وراء حينما يجد المشترى ، أنه يقوم على التظاهر ، وطلب المنفعة .


( 3266 ) العلم الروحي لا يخبور رونقه ، ولا يتأثر بالمنافع الموقوتة ، كالعلم التقليدى ، بل هو دائم الرونق ، لأنه من الهام الله ، ولا يراد به سوى وجه الله .
( 3268 ) الملائكة كانوا هم المشترين لدرس العلم الإلهي الذي تلقاه آدم عن خالقه . أما إبليس فلم يتقبل هذا العلم ، لأنه لم يكن أهلا لتلقيه .


( 3269 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين .
قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم “ . ( 2 : 31 - 33 ) .
( 3271 ) سبق للشاعر أن صور قصير النظر بأن له عقلا كعقل الفأر ( البيت 3264 ) . وهو هنا يشير إلى هذا البيت بقوله : “ قد دعوته فأرا “ . أما قول الشاعر : “ لأن مقرة التراب “ فيعنى أن نفسه

 
“ 582 “
 
غارقة ماديتها ، لا تستطيع الخلاص منها .
( 3276 ) انظر الآيات ( 16 : 15 ) ، ( 78 : 7 ) .
( 3291 ) قدرة الله هي التي ألقت في العين الحسية نور البصر ، وجعلت عظام الأذن قادرة على السمع .
 
( 3294 ) قول الشاعر : “ فان كنت لا ترى الماء بين الطين . . . “ يعنى : “ فان كنت لا تدرك وجود الروح في جسدك ، فما هذه الآثار الدالة عليها ، كما تدل الأعشاب السابحة فوق الماء على وجود الماء “ .
 
( 3295 - 3296 ) ان الصور المنعكسة على صفحة الفكر تدل على وجود عالم معنوي ، خارج العالم الحسى ، ينعكس على الفكر بصورة جميلة أو قبيحة ، على مقتضى ما تكون عليه نفس الانسان من جمال أو قبح .
( 3297 ) الالهام الذي يقبل إلى النفوس من عالم الغيب يقوم دليلا على وجود هذا العالم . والأرواح تحمل آثارا منه ، كما يحمل ماء النهر قشورا من ثمار بستان بعيد .
 
( 3298 ) هذه اللمحات التي تقبل من عالم الغيب ليست الا ظلالا للحقيقة وعلى الانسان أن يبحث عن الحقيقة ذاتها . فقشور الثمار التي تسبح فوق صفحة النهر ليست هي الثمار ، وانما هي دليل على وجود تلك الثمار .
( 3299 ) تحرك الأفكار والخواطر دليل على حياة الروح ، فهذه تحملها إلى الفكر من عالم الغيب ، كما يحمل النهر قشور الثمار من بستان بعيد . وحركة القشور توضح حركة الماء .
 
[ شرح من بيت 3300 إلى بيت 3450 ]
( 3302 ) إذا ازدادات قوة الروح لم يبق للجسد وجود إلى جانبه .
( 3309 ) في رأى الشافعي أن الماء إذا بلغ قلتين لا تقدر القطرة من النجاسة على أن تخرجه عن طهارته . ( انظر : المنهج القوى ، 2 ، 621 ، وكذلك تعليقات نيكولسون ) . وفي هذا تعبير رمزى عما يبلغه العارف من طهارة روحية لا ينتقص منها ما قد يبدو عليه من ظاهر على خلاف ذلك .
 
“ 583 “
 
( 3310 ) انظر : المثنوى ، 1 ، البيت 547 وشرحه .
 
( 3311 ) الأدلة العقلية والبراهين الجدلية من مطالب النفس ، أما الروح فمستقرها عين الحقيقة .
( 3312 - 3313 ) السالك في البيداء هو الذي يكون بحاجة إلى الدليل ، لأنه يكون في كل لحظة عرضة للضلال ، أما الواصل فلا حاجة به إلى عناء البحث ، وحسبة نعمة الشهود .
( 3314 - 3315 ) لو أن أحد العارفين لجأ إلى بسط الأدلة الجدلية ، فهو يفعل ذلك ليفهم من لم تُتح له نعمة الشهود ، فكأنما هو أب يصطنع أصوات الطفولة لوليده الجديد .
 
( 3320 - 3321 ) الذنوب والنقائص الانسانية كلها فانية ، ، فهي تنتهى بانتهاء صاحبها ، أما نور العارف فهو نور خالد ، لأنه مستمد من نور الله .
( 3322 - 3323 ) ايمان العارف مستمد من عرفانه بجوهر الحقيقة ، وليس حاله كحال العوام في ايمانهم أو كفرهم ، فهم يتعلقون بأمور نسبية لا تقاس بجوهر الحقيقة ، بل انها هي التي تحجب الحقيقة .
 
( 3324 ) رأس الجسد - بما ينطوى عليه من غرور ، وانكار لعالم الروح - كافر منكر .
( 3325 ) الكافر المنكر هو الغافل عن حقيقة ايمان العارف .
فما دامت هذه الحقيقة منبثقة من محبة الخالق والفناء فيه ، فهي أسمى درجات التوحيد .
 
( 3326 ) بقاء الروح - بعد تحققها بالفناء - ليس سوى خبر يروى ، بالنسبة لغير العارف . فإذا ما عانى المرء هذه التجربة قويت روحه ، وتأصل عرفانه .
( 3330 - 3331 ) انظر : المثنوى ، 1 : 1234 ، 2659 - 2663 ، والشرح .

 
“ 584 “

 
( 3340 ) الشاعر في هذا البيت يسفه الذين يسيئون إلى الشيوخ العارفين ، ويضمرون لهم الحسد والبغضاء ، في حين أن هؤلاء المسيئين لا يحسنون غسل وجوههم .
( 3341 ) قول الشاعر : “ انك تشن غارة على الملائكة “ ، يعنى أن المسىء إلى العارف الكامل يسئ إلى الملائكة الذين عرفوا لهذا العارف قدره ، وسجدوا له ، حينما شهدوا صفاته في شخص آدم .
 
( 3344 ) إذا تأبى المتعلق بالحس على المرشد العارف ، فلم ينتفع بارشاره ، فذلك لا يسئ إلى عرفان العارف .
( 3345 - 3349 ) يوازن الشاعر في هذه الأبيات بين المرشد العارف وبين عدوّه الحسى العنيد ، ثم يقدم للحاسد صورا تبين استحالة النيل من العارف أو انتقاص فضله كماله .
 
( 3350 ) من عاب الصوفي العارف ، ولم يطق مواجهته ، شبيه بخفاش يعيب الشمس ويطلب احتجابها .


( 3351 ) قول الشاعر : “ والغيوب قد أضحت - بغيرتهم عليها - غيوبا “ يعنى أن هؤلاء الصوفية يحرصون على اخفاء الأسرار الغيبية عمن لا يكونون أهلا لتلقيها .


( 3355 ) الروح التي هبطت من عالمها إلى هذا العالم الحسى ، ينبغي لها ألا تصبح غريقة عالم الحس . فالحمار - وهو من الحيوانات التي اشتهرت بالغباء - لو انزلق في الوحل فإنه يتحرك على الدوام لكي ينهض من كبوته .
 
 
( 3358 ) “ ها أنت ذا تتأول رخصة لتعلقك بالمادة وحرصك عليها ، لأنك لا تريد أن تخلص قلبك من سلطانها “ .
 
( 3359 ) “ انك تبرر تعلقك بالمادة ، فتدعى أنك مُجبر على ذلك ، وأن الله لا يعاقب المجبر على عمل لا حيلة له فيه “ .


( 3360 ) من اقترف الاثم وحسب أن الله لن يأخذه باثمه فهو في
 
“ 585 “
 
الحقيقة مغرور أعماه الغرور . وهذا العجز عن ابصار الخطأ هو في ذاته عقوبة الهية . يقول ابن الجوزي في هذا المعنى : “ وإياكم والاغترار بحمله وكرمه فكم استدرج “ . ( صيد الخاطر ، ص 133 ) .
 
( 3361 - 3363 ) اشتهر الضبع عند العرب بالحمق ، حتى ضربوا به المثل ، فقالوا : “ أحمقُ من الضبع “ .
يقول الدميري : “ الضبع أحمق الحيوان . . . ومن حمقه أنه يغفلى عما يجب التيقظ له . ولذلك قال علي بن أبي طالب : لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد ، واللدم الضرب الخفيف . . . . والصياد إذ أراد أن يصيدها رمى في جحرها بحجر ، فتحسبه شيئا تصيده ، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك “ .
وذكر الدميري كلاما يقال على باب جحرها ، “ فلا يزال يقال لها حتى يدخل عليها الصائد فيربط يديها ورجليها ، ثم يجرها “ . ( حياة الحيوان ، ج 1 ، ص 365 ، ج 2 ، ص 82 ) . وذكر النويري كلاما شبيها بهذا عن الضبع . ( انظر : نهاية الأرب ، ج 9 ، 274 - 276 ، “ ذكر ما قيل في الضبع “ ) . والنويري يستبعد ما يقال عن استسلام الضبع لصائديه فيقول : “ وهذا القول - فيما أظن - من خرافات العرب “ .
 
( 3364 - 3369 ) أوردت المصادر العربية قصة شبيهة بما رواه الشاعر في هذه الأبيات .
انظر : ( حلية الأولياء ، 10 : 168 ) ، ( محاضرات الأدباء ، 2 :
277 ) . وقد نقلها عنهما فروزانفر . ( مآخذ قصص ، 80 ) . ونص هذه القصة كما يلي : “ قيل : وكان في بني إسرائيل حبر قال في دعائه : يا رب . كم أعصيك وأنت لا تعاقبنى ! فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان ، قل لعبدي : كم أعاقبك ولا تدرى ، أسلبك حلاوة مناجاتى “ .
 
( 3370 ) “ ان الآثام الكثيرة التي ارتكبتها قد جعلت باطنك أسود ،
 
“ 586 “
 
فلم تعد لديك قدرة على معرفة الخير من الشر “ .
( 3371 ) قلب الانسان كالمرآة والآثام التي يرتكبها شبيهة بالصدأ .
فكلما ازداد ارتكاب الآثام . زادت ظلمة القلب ، فيصبح كالمرآة التي تراكمت فوقها طبقات من الصدأ .
 
( 3372 ) من كان نقى القلب ، أحس بوقوعه في أدنى خطأ . فالقدر الجديدة يظهر أثر الدخان فوقها ، مهما قل هذا الدخان .
 
( 3373 ) الاثم يكون غريبا على القلب النقى ، فسرعان ما يتكشف لهذا القلب قبحه ، كما تتميز الأشياء ، بضدها ، أو كما يتضح السواد فوق البياض .
 
( 3374 ) إذا أصبح القلب أسود لفرط ما ران عليه من الاثم ، فكيف يتضح فيه ما يغشاه من اثم جديد ؟ أنه يكون كالقدر السوادء ، لا يظهر فوقها أثر الدخان .
 
( 3375 ) “ الحداد الزنجي “ رمز للقلب الأسود . فهذا الحداد الأسود الوجه لا يبين في وجهه أثر الدخان . وهكذا القلب المظلم بأخطائه وآثامه .
 
( 3376 ) “ الحداد الرومي “ رمز للقلب النقى . فمثل هذا يتبين له أثر الدخان في وجهه .
( 3394 ) انظر شرح الأبيات 3364 - 3367 .
 
( 3316 ) قال تعالى : “ انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم “ . ( 2 : 173 ) . وانظر أيضا : ( 6 : 145 ) ، ( 16 : 115 ) .
 
( 3430 ) العارف لو تذوق متاع الدنيا فإنه يتقوى به على التأمل الروحي ، على حين أن الرجل الحسى يتذوق الشهد فينقلب في كيانه سما ، لأنه يزيد من حرصه على الشهوات ، ومتع الحس .
 
( 3432 - 3433 ) في البيتين إشارة إلى قصة أصحاب الفيل الذين

 
“ 587 “
 
أرادوا هدم الكعبة فأهلكهم الله . قال تعالى : “ وأرسل عليهم طيرا أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول “ .
( 105 : 3 - 5 ) .
 
( 3436 ) يبدأ الشاعر هنا حكاية ترمز إلى أن المريد لا يليق به أن يجترىء على العارف . وهذه الحكاية مرتبطة بالبيت السابق ( رقم 3435 ) .
 
[ شرح من بيت 3450 إلى بيت 3600 ]
 
( 3453 ) “ ما دمت لست من العارفين فلا بد لك من السير في طريقهم ، وبذل الجهد ، لعلك تصبح واحدا منهم ، فتخلص من بئر الشهوات إلى حيث يتحقق لك الجاه والمجد “ .
 
( 3454 ) “ ما دمت لم تصل بعد إلى مقام العارفين فلا بد لك من مرشد “ .
 
( 3456 ) السالك بحاجة إلى الانصات لكي يتعلم . وقد أمر الله بالانصات في قوله تعالى : “ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون “ . ( 7 : 204 ) .
 
( 3464 ) من كانت روحه مفعمة بالكمال ، لم يكن للجاه الدنيوي قيمة عنده ، ولا أثر عليه . أما المتعلق بالحس فالرياسة تدفعه إلى الغرور والتعالى وتزيد نفسه قبحا .
وفي هذا البيت هدم لمبدأ اعتزال الحياة ، والانصراف عن الدنيا ، وهو ما قال به بعض الصوفية الذين يصرون على مواجهة هذا العالم بموقف سلبىّ .
 
( 3465 ) في اعتقادي أن “ الجبل الملىء بالثعابين “ يرمز هنا للحياة الدنيوية الحافلة بالمغريات . فالشاعر يدعو الانسان إلى مواجهة هذه الحياة بقوة ، وعليه ألا يخافها ما دام في الامكان أن تنطوى هذه الحياة على مضمون روحي ، يحول بين الانسان وبين المهلكات الحسية ، من لذات وشهوات .
 
( 3466 ) قول الشاعر : “ فإذا ما أصبحت الرئاسة نديما لدماغك . . . “
 
“ 588 “
 
يعنى : “ فإذا لا تولاك الغرور من جراء جاهك وسلطانك . . . “ .
 
( 3467 - 3469 ) يصور الشاعر هنا موقف العناد الذي يقفه بعض الأفراد من آراء المخالفين ، وكيف أنهم يتصورون أن كل مخالفة لآرائهم انما هي محاولة للقضاء على كيانهم الذاتي . وهذا - في نظر الشاعر - ينشأ من رسوخ الأخلاق السيئة في نفس صاحبها .
 
( 3471 ) ينشأ الانسان وعنده قدر محدود من الشهوة . لكن بعض الناس يترك لشهواته مجال النموّ حيت تتحكم فيه : “ ان الشهوة تكون - في بداية أمرها - نملة ، لكنها سرعان ما تعظم ، وتصير مثل الثعبان “ .
 
( 3473 - 3474 ) أسير الشهوات لا يفظن إلى ما يعانيه من اسار المشهوة ولا بد له من مرشد يعينه على ادارك حقيقة حاله . وحين يتحقق لمثل هذا خلاص من سيطرة اللذات الحسية ، فإنه يتسنى له إذا ذاك أن يدرك ما كانت عليه نفسه من سوء الحال .
 
( 3475 ) لكي تتحول النفس الخسيسة المعدن ، إلى نفس كريمة المعدن ، لا بد لها من الصبر على مشقة هذا التحول . فالنحاس لا بد له من الصبر على الإكسير . والقلب لا بد له من الصبر على ما يفرضه عليه من تَملكه .
 
( 3476 ) قول الشاعر : “ وان هؤلاء ليهربون من الدنيا كالنهار والليل “ يعنى : “ أن الصوفية العارفين يهربون من سلطان الدنيا كالنهار والليل ، اللذين يمران بها ، ويعملان عملهما ، ومع ذلك لا يستقران فيها ، ولا يخضعان لسلطانها “ .
 
( 3478 - 3495 ) يروى الشاعر في هذه الأبيات حكاية عن كرامات فقير اتهم بالسرقة . وكرامات الأولياء كانت موضوعا لحكايات كثيرة تملا كتب التصوف ، وبخاصة تلك التي تهتم بتراجم الصوفية .
والقصة المذكورة هنا وردت ، في مصادر متعددة ، وأشار إليها فروانفر ، كما نقل نصا فارسيا لها من “ كشف المحجوب “ للهجويرى .


“ 589 “
 
( انظر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 81 - 82 ) . وفيما يلي ترجمة لنص كشف المحجوب :
“ وبلغت منزلته ( مالك بن دينار ) أنه كان ذات يوم راكبا في سفينة ، وكان أن فقدت جوهرة في هذه السفينة ، فاتهموه بأنه أخذها لأنه بدا أقل القوم حظا من ظهور الحال ، فرفع رأسه إلى السماء ، وفي الحال صعد إلى سطح الماء كل ما كان في البحر من الأسماك ، وقد أمسكت كل سمكة بجوهرة في فمها . فأخذ جوهرة من جملة هذه الجواهر ، وأعطاها للرجل ، ثم وضع قدمه فوق الماء ، وسار فوقه برفق حتى خرج إلى الساحل “ .
 
( 3478 ) قول الشاعر : “ وقد اتخذ لنفسه من بضاعة الرجولة ظهيرا “ ، يعنى أن ذلك الصوفي لم يكن يمتلك بضاعة كغيره من الناس ، إذ لم تكن له بضاعة سوى الرجولة والشرف .
 
( 3500 ) قول الشاعر : “ ان النفس سوفسطائية . . . “ يعنى أنها تميل إلى المغالطة ، والمجادلة بالباطل .
 
( 3503 ) الشهود الروحي لا يتسنى الا لعين طهرت من أهواء الحس .
 
( 3504 ) الشهود الروحي يتسامى فوق ملكات الحس . فهو كالطاووس ، لا يستقر في حفرة ضيقة . واستخدام “ الطاووس “ هنا رمزا للشهود الروحي يشير إلى ما ينطوى عليه هذا الشهود من الجمال والبهجة .
 


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: