الاثنين، 3 أغسطس 2020

03 - حكاية عشق ملك لإحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

03 - حكاية عشق ملك لإحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

03 - حكاية عشق ملك لإحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي

حكاية عشق ملك لاحدى الجواري وشراء الملك هذه الجارية

عجز الحكماء

كان هناك ملك في سالف الزمان ، دان له ملكُ الدنيا وملكُ الدين .
وذات يَوم ركب هذا الملك مع خواصّه من أجل الصيد .
فرأى جارية على الطريق السلطاني ، فصارت روحه أسيرةً لهذه الجارية .
وحين وقع طير روحه في القفص ، دفع المال واشترى تلك الجارية .

40 -   فلما اشتراها ، وقرّ بها عيناً ، أصابها القضاء بالمرض .
لقد كان لديه حمار لا سرج له ، فلما وجد السرج أكل الذئب الحمار ! 
وكان لديه إناءُ ولكن لا سبيل له إلى الماء ، فلما وجد الماء انكسر الإناء !
 

“ 93 “

فجمع الملك الأطباء من كل حدب وصوب ، وقال لهم : “ إنّ روح كلينا في أيديكم .
فأما روحي فيسيرةُ ، ولكنّ هذه الجارية روح روحي، وأنا مريضُ عليل وهي دوائي.

45 - فكل من أجرى علاجاً لروحي ، نال كنزي ودُرّي ومرجاني “ .

فقالوا جميعاً له : “ إنّنا سوف لا نبالي بأرواحنا ، وسوف نجمع أفهامنا ، ونتعاون معاً ( لإدراك تلك الغاية ) .
فكلّ واحد منا مسيحُ العالم ، ولكل ألم دواء عندنا “ .
وكان من غرورهم أنْ لم يقولوا : “ إن شاء اللَّه “ ، فأظهر لهم اللَّه عجز البشر .
إنّ ترك “ الاستثناء “ “ 1 “ عندي قسوة ، ولست أعني به مجردّ القول الذي هو حالةُ عارضة ، ( لا يؤمن بها القلب ) .

50 - فكم من متكلم لا يأتي في قوله بعبارة “ الاستثناء “ ومع هذا فروحه مقترنة بروح تلك العبارة .
فكل ما صنعوه عن علاج ودواء ، كان يزيد من الألم ولا يتحقق معه الشفاء .
فأصحبت هذه الجارية من المرض في نحول الشعرة ، وكانت عينا الملك ، تفيضان كالنهر بالدموع الدامية .
وشاء القدر أن يزيد مزيج الخل والعسل “ 2 “ من الصفراء ، ويزيد
...............................................................
( 1 ) الاستثناء هنا يُقصد به تعليق الإنسان إرادته على إرادة اللَّه .
( 2 ) مزيج الخل والعسل كان يستخدم لمعالجة الصفراء .


“ 94 “

زيت اللوز من يبوسة الجوف .
وسببت الهليلة “ 1 “ القبض للجارية - وهي التي تُحدث الإطلاق 
وأصبح الماء يزيد من حرارتها كأنّه نفط .

كيف ظهر الملك عجز الحكماء عن معالجة الجارية ، 
وكيف توجه الملك إلى حضرة اللَّه فرأى وليّاً في المنام
 
 55 ولما رأى الملك عجز هؤلاء الحكماء ، جرى عاريَ القدمين نحو المسجد .
ودخل المسجد واتجه نحو المحراب ، وابتلّ مكان السجود بماجرى من دمعه .
فلما أفاق من الغرق في لجة الفناء ، أَطلق لساناً جميلًا بالمدح والثناء .
(فقال ) : “ يا من أَقلّ عطائه ملكُ الدنيا ! ماذا أقول وأنت تعلم السر وأخفى ؟
يا من هو على الدوام ملجؤنا عند الحاجة ، إنّا ضلنا السبيل مرة أخرى “ 2 “ .

60 -  ولكنّك أنت قد قلت : “ إنّني أعرف سرَّك ، فسارع إلى إعلانه “ .
فلما ارتفع الصياحُ من أعماق روحه ، جاش بحرُ العطاء .
...............................................................
( 1 ) دواء مسهل .
( 2 ) يقصد بضلال السبيل هنا للجوء إلى غير اللَّه .


“ 95 “
 
وبينما هو يبكي غلبه النوم ، فرأى في النوم شيخاً يظهر أمامه .
وقال له الشيخ : “ أيّها الملك ! أبشر فإن حاجتك سوف تُقضى ، إذا جاءك في الغد رجلُ غريب من عندنا .
فحينما يجيئك فهو حكيم حاذق ، فاعلم أنّه صادق ، لأنّه أمين صادق .

65 - فانظر السحرّ المطلق ، في علاجه ! وتأمّل قدرةَ الحق في مزاجه ! “ 1 “ .
فلما طلع النهار وحان الموعد ، وبزغت الشمس من المشرق فاحترقت النجوم .
كان الملك يجلس في البهو منتظراً ، ليري ( مصداق ) ما أُظهر له من السرّ .
فرأى شخصاً فاضلًا كان أصيلًا ، كأنّه شمس بين الظلال .
كان يقترب من بعيد كأنّه الهلال ، وكان لرّقته كأنّه غير موجود ، فقد كان وجوده مثل الخيال .


70  - إنّ الخيال في الروح مثل العدم ، ( ومع هذا ) فلتنظر إلى هذا العالم ، كيف أنّه يدور على الخيال !
فعلى الخيال يقوم ما بين الناس من صلح أو صراع ، ومن الخيال ما يَعدُّه الناس فخراً وما يعدونه عاراً .
ولكنّ هذه الخيالات التي هي حبائل للأولياء ، ليست إلا صورةً للحسان في بستان اللَّه .
وذلك الخيالُ - الذي رآه الملك في النوم - كان على الدوام يتجلّى
..............................................................
( 1 ) المزاج هنا يمزجه الطبيب من مواد لصنع دوائه .


“ 96 “

في طلعة ضيفه .
فتقدم الملك إلى مكان الحُجَّاب ، ومثل أمام ذلك الضيف الذي جاء من الغيب .

75 - كان كلُ منهما سبّاحاً عالماً : فاتصلت روحاهما دون رابطة مادّية “ 1 “ .
وقال له : “ إنّك كنت معشوقى لا تلك الجارية ! لكنَّ الأمور يُظهر بعضُهاً في هذه الدنيا .
يا من أنت لي كالمصطفى وأنا كعمر ، هأنذا أربط حزامي وأقف أمامك للخدمة “ .


الدعاء إلى اللَّه ولي التوفيق أن يوفقنا لرعاية الأدب في جميع الأحوال 
وبيان وخامة الأضرار التي تنجم عن فقدان الأدب

إنّا نرجو من اللَّه أنْ يوفقنا للأدب ، فإن من لا أدب له يبقى محروماً من لطف الربّ .

إنّ من لا أدب له لا يقتصر أذاه على نفسه ، وإنما هو يشعل النار في جميع الآفاق .


80 - لقد كانت مائدة تنزل من السماء بدون عناء ، وبدون بيع أو شراء .
...............................................................
( 1 ) المعنى الحرفي فاتصلت روحاهما دون خيط . وقد جاء في الحديث قول الرسول عليه السلام :
 “ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “ .


“ 97 “

ولكنّ جماعةً من بين قوم موسى قالوا بوقاحة : “ أين الثوم والعدس ؟ “ .
فانقطع عنهم خبزُ السماء ومائدتها ، وبقي لهم عناء الزراعة والكدح بالفأس والمنجل .
ولكنْ عندما شفع عيسى لدى الحق ، أرسل لهم الخوان والغنيمة على الطبق .
فعاد أهل الوقاحة إلى ترك الأدب ، وتخاطفوا الطعام كالشحّاذين .

85 - فناداهم عيسى قائلًا : “ إنّ هذه المائدة دائمة ، ولن ينقطع ورودها إلى الأرض “ .
إنّ سوء الظن والحرص - أمام مائدة العظيم - كفر .
لقد أغلق بابُ الرحمة على الناس من جرّاء هؤلاء الذين بدوا كالشّحاذين وقد أعماهم الحرص .
إنّ السحب لا تجيء إذا مُنعت الزكاة ، ومن الزنا يقع الوباء في جميع الجهات .
فكل ما أصابك من ظلمات وغم ليس إلا نتيجة للتبجح والتوقح .

90 - وكل من أبدى توقحاً في طريق الحبيب ، فهو قاطع طريق الناس ، ولا رجولة عنده .
فمن الأدب امتلأ بالنور الفلك ، ومن الأدب صارت العصمةُ والطهر صفات الملك .
ومن الوقاحة كان كسوف الشمس ، ومن الجرأة رُدّ عزازيلُ “ 1 “ عن الباب .
..............................................................
( 1 ) عزازيل اسم إبليس قبل سقوطه والشاعر يريد هنا أنه رُدّ عن باب اللَّه لتوقحه.


“ 98 “

لقاء الملك للطبيب الالهيّ الذي بُشِّر بلقانه في المنام

فتح الملك ذارعيه وعانق الضيف ، ووقع في قلبه وروحه إحساس كأنه العشق .

فأخذ يُقبّل يده وجبينه ، ويسأله عن المقام والطريق .


95  وقاده - وهو يسائله - إلى صدر المجلس ، وقال : « لقد وجدت آخر الأمر كنزاً لقاءَ صبري » .
ثم قال : « يا هدّية الحقّ ويا دافع الحرج ! ويا من هو معنى ( الصبر مفتاح الفرج ) ! 
يا من لقاؤء جوابُ لكلّ سؤال ! إنك قد حللت مشكلتي بدون قيل وقال ! 
إنك الترجمان لكلّ ما في قلوبنا ، وإنك الآخذ بيد من زلَّت في الطين قدمه !
مرحباً يا مجتبى يا مرتضى * إنْ تغب جاء القضاء ضاق الفضا " 1 "

100 - أنت مولى القوم من لا يشتهي * قد رَدَى كّلًا لئن لم ينته
كيف أدخل الملك الطبيبَ إلى المريضة ليرى حالها
وحين انقضى هذا المجلس وانفضّ خوان الكرم ، أمسك بيده وقاده إلى مقر الحريم .
...............................................................
( 1 ) هذا البيت والذي يليه عربيان في الأصل . ويلاحظ فيهما وفي غيرهما من الأبيات العربية في المثنوي أن مستوى ما ينظمه الشاعر بالعربية أقلّ بكثير من مستوى شعره الفارسي .


“ 99 “

وقصّ عليه قصّة المريضة ومرضها ، ثم أجلسه بعد ذلك أمام المريضة .
ففحص لون وجهها ، ونبضها وقارورتها ، واستمع إلى وصف عوارض مرضها وأسبابه .
وقال : “ إنّ كلّ ما قدّموه من علاج لم يكن سبيلًا للشفاء ، بل هم قد زادوها مرضاً .

105 - إنّهم لم يكونوا على علم بحال باطنها ، أعاذنا اللَّه مما يفترون “ .
لقد رأى العلّة وانكشف له ما كان خافياً ، ولكنه أخفى الأمر على السلطان ، ولم يقل شيئاً .
فلم تكن علتها من السوداء ولا الصفراء ، فإنّ رائحة كل حطب تظهر في دخانه .
لقد رأى من أَنينها أنّها مريضةُ القلب ، وأنّ الجسم بخير ولكنها أسيرة القلب .
فإن العشق يظهر في أنين القلب ، وليس هناك مرض مثل مرض القلب .


110  - وإنّ علة العاشق لمتّميزة عن سائر العلل ، فالعشق هو أصطرلاب “ 1 “ أسرار اللَّه .
وإذا كان العشق من هذا الجانب أو ذاك ، فإنه في عاقبة الأمر يهدينا إلى تلك الناحية .
وكل ما أقوله في شرح العشق وبيانه ، أخجل منه عندما أواجه العشق ذاته .
...............................................................
( 1 ) آلة صغيرة كانت تستخدم لمراقبة مواقع الأجرام السماوية .

“ 100 “

 
فإن كان تفسير اللسان ينير السبيل ( لمعرفة الحقيقة ) ، فإن العشق - بدون اللسان - أفصح من أيّ بيان .
فبينما القلم مندفعُ في الكتابة ، إذا به ينشقّ على نفسه حين جاء إلى العشق !
 

115 - والعقلُ في شرح العشق مثل حمار نام في الوحل ، فالعشق نفسه هو الذي يشرح لنا العشق وفعله .
إن الشمس هي دليل الشمس، فإذا كنت بحاجة إلى الاهتداء بها فلا تحوّل وجهك عنها.
وإنْ كان الظل يقدّم لك علامة لهذه الشمس ، فإنّ الشمس الخالدة “ 1 “ تُلقى عليك نوراً روحيّاً .
والظلّ مثل السمر يأتيك بالنوم ، وحين تطلع الشمس ينشقّ القمر .
وليس في هذه الدنيا غريبُ مثل الشمس . وشمسُ الروح باقية لا أمس لها .

120 - والشمس الظاهرة - وإن كانت فريدة - فإننا نستطيع أن نتصور مثيلًا لها .
أما الشمس الروح التي خرجت من الأثير ، فليس لها في الذهن ولا في العالم الظاهريّ نظير .
وأين التصور الذي يتسع لذاتها حتى يكون من المستطاع تصورّ مثلها .
وحين جاء حديث وجه شمس الدين “ 2 “ حجبت شمسُ السماء الرابعة وجهها .
...............................................................
( 1 ) شمس الروح الخالدة التي لا يمكن أن يعتريها ظل .
( 2 ) يقصد أستاذه وصديقة شمس الدين التبريزي .


“ 101 “

وما دام اسمه قد ذُكر ، فقد وجب علينا أن تقوم بشرح رمزٍ من إنعامه .


125 -  فهذا الشذى قد جذب انتباه روحي ، إذ وجدت فيه رائحة قميص يوسف .
فبحقّ الصحبة ( التي جمعتكما ) سنين ، اذكر لنا حالًا من أحواله الطيبّة .
حتى تضحكَ الأرضُ والسماء ( في نشوة ) ، وتزداد قدرة العقل والروح والعين مائة مرة .
لا تكلفّني فإنّي في الفنا * كلّت افهامي فلا أُحصي ثنا “ 1 “
كلّ شيء قاله غير المفيق * إن تكلّف أو تصلّف لا يليق “ 2 “


130- وماذا أقول ، وليس فىّ عرق واع ، ليشرح حال ذلك الرفيق الذي لا ندّ له .
فدع شرح هذا الهجران ، وحديث القلب الدامي إلى وقت آخر .
قال أطعمني فإنّي جائع * واعتَجلْ فالوقت سيف قاطع “ 3 “
فالصوفىّ ابن الوقت أيها الرفيق ، وليس قولك “ غداً “ من شرط الطريق .
أم لعلك لست برجل صوفي ، فالنسيء يجعل الموجود كالعدم .


135 - فقلت له إنّ الأفضل سترُ سر الحبيب ، فلتُصغ إلى المغزى
...............................................................
( 1 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 2 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 3 ) هذا البيت عربي الأصل .


“ 102 “

الذي تنطوي عليه القصة .
وخير لنا أن يجيء سرّ الأحبة في حديث الآخرين .
فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً لا غلائل “ 1 “ فوقه ، يا أبا الفضائل ! 
وارفع النقاب وبح بالقول ، فإنّي لا أخلو بالحبيبة وهي مرتدية قميصها .
قلتُ إنه لو ظهر عريان للعيان ، فلن تبقى أنت ولا جانباك ولا وسطك .


140 - فلتكن ذا أمل ولكنْ قف عند حد في أمَلك ، فإنّ القشّة لا تستطيع أن تحتمل الجبل .
فهذه الشمس التي تضيء العالم لو اقتربت منه قليلًا لأحرقت كل ما فيه .
فلا تبَحثْ عن الفتنة والثورة وإراقة الدماء ، ولا تقل أكثر من هذا عن شمس تبريز .
فهذا الحديث لا آخر له ، فلتبدأ القول من جديد وتتمّ هذه القصة .
كيف طلب الوليّ من الملك أن يُتيح له الخلوة مع الجارية حتى يدرك مرضها

قال الحكيم : “ أيها الملك أخل المنزل ، وأبعد الأقارب والأجانب .

 
145  ويجب ألا تكون في الدهليز أذنُ تسمع حتى أسأل هذه الجارية
...............................................................
( 1 ) لم أجد في القاموس جمع غلالة بغلول وهي الكلمة التي استخدمها الشاعر في قوله ، “ گفت مكشوف وبرهنه بي غلول “ ولكن يحتمل أن الشاعر قد جمع غلالة على هذا النحو . والمعنى الذي ذكره القاموس لغلول هو “ خيانة “ . ولو فسر هذا اللفظ على هذا النحو لكانت الترجمة على النحو الآتي ، “ فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً دون خيانة “ .

“ 103 “

عن أشياء “ .
فبقيت الدار خالية ، ليس بها ديّار ، سوى الطبيب والمريضة .
وقال الطبيب بلطف ورقة للمريضة : “ إلى أيّ بلدة تنتمين ؟ إنّ العلاج يختلف باختلاف البلاد .
ومن لك من الأقرباء في تلك المدينة ؟ وبمن لك قرب واتصال ؟ “ .
ووضع يده على نبضها ، وأخذ يوجّه إليها السؤال بعد السؤال عن جور الدهر .


150 - إنّ الإنسان إذا ما أصابت قدمه شوكة ، فإنّه يضع قدمه فوق ركبته .
ويظلّ يفتش بحدّ الإبرة عن رأس الشوكة ، فإذا لم يجدها يبلّلها بريقه .
فإذا كانت شوكة في القدم تسبِّب هذه الشدة ، فما بالك بشوكة في القلب ؟ ألا فلتُجبْ ! 
ولو كان خسيس يرى الأشواك التي تصيب القلوب ، لما استطاعت الهموم أن تصيب إنساناً .
فإنه لو وضع شخص شوكة تحت ذيل حمار، فإنّ الحمار لا يستطيع دفع ذلك ، فيقفز.

 
155  ويظل يقفز فترداد الشوكة إيغالا ، فلا بد من عاقل لينتزعها .
ويظل الحمار - لشدة ألمه وتحرقه - يضرب الأرض بسيقانه للخلاص من تلك الشوكة ، فيجرح نفسه في مائة موضع .
وقد كان هذا الحكيمُ مقتلعُ الأشواك أستاذاً ، فمدّ يده وأخذ يفتش عن مكان الداء .
لقد ظل يستفسر بطريق الحكاية من هذه الجارية عن أحبتها .


“ 104 “

فباحث للحكيم بقصص عن مقامها وسادتها ومدينتها وضواحيها .


160 - فكان يُصغي إلى القصة التي ترويها بأذنيه ، بينما هو قد ألقى بانتباهه إلى نبضها ، وفحص ضرباته .
حتى إذا اضطرب نبضها عند ذكر اسمٍ ( علم أنّ ) صاحبة غاية روحها في هذا العالم .
فعدّدت أصدقاء في بلدتها ، ثم ذكرت بعد هذا مدينة أخرى .
فسألها الحكيم : “ كيف خرجت من مدينتك ؟ وفي أية بلدة طالت إقامتك ؟
فذكرتْ اسم مدينة ، ولكنهّا مرّت بذكرها دون أن يتغير لونُ وجهها أو نبضُها .



165 - وعادت تتحدّث عن السادة وعن البلاد واحدة إثر أخرى ( ذاكرةً ) الأماكن والخبز والملح .
وأخذت تحدّثه عن المدن واحدةً واحدةً ، وتَروي له خبر المنازل منزلًا منزلًا ، فلم يضطرب لها عرق ، ولا اصفرّ وجه .
كان نبضها لا ينبئ بشيء عن سوء حالها ، حتى سألها عن سمرقند الحلوة كالسكر .
فاضطرب نبضها ، وأخذ وجهها يحمرّ ويصفرّ ، إذ أنها كانت قد فارقت صائغاً من سمرقند .
وعندما أدرك الحكيم هذا السرّ من المريضة ، عرف أصل الألم والبلاء .

170  وقال : “ أين محلة هذا الصائغ ؟ فقالت : “ إنّه ( يسكن ) عند رأس الجسر بمحلة غاتفر “ .


“ 105 “

فقال الحكيم : “ لقد عرفتُ السرّ في مرضك ، ولن ألبث حتى أُظهر في علاجك منه ألوان السحر .
فاهنئي واطمئني ، وقرّي عيناً ، فإنيّ صانع بك ما تصنعه الأمطار بالمروج .
ولسوف أحمل همّك فلا تغتمي ، فإنّي أكثر إشفاقاً عليك من مائة أب .
ولكنْ حذار أن تذيعي هذا السرّ لإنسان ، حتى ولو أكثر الملك سؤالك ، والاستفسار منك .

175 - فإنّه إذا أصبح قلبُك مقبرةً لسرّك ، عجلّ ذلك بتحقيق مرادك .
فقد قال الرسول : إنّ كلّ من أخفى سرّه سرعان ما يتحقق له مراده “ “ 1 “ .
والبذور عندما تختفي تحت الأر ، تصبح هي السرّ في اخضرار صفحة البستان .
وكيف كان الذهب والفضة ينضجان في المنجم لو لم يختفيا في جوف الثرى ؟
ولقد جعلتُ وعودُ الحكيم وألطافه هذه الجارية آمنة من الخوف .


180- فالوعود الصادقة تلقى قبولًا من القلب ، وأما الوعود الكاذبة “ 2 “
...............................................................
( 1 ) نص الحديث النبوي الذي يقصده هو ، “ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكمتان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود “ .
( 2 ) المعنى الحرفي . فالوعود الحقيقة . . . وأما الوعود المجازية .


“ 106 “
 
فتبعث الهم في النفس .
ووعدُ أهل الكرم نقدُ متداول ، وأما وعد اللئام فعناءُ للروح .كيف أدرك الولي مرض الجارية وعرض ألامر على الملك
بعد ذلك نهض الحكيم ، وتوجه إلى الملك ، وأخبره ببعض ما جرى .
وقال : “ التدبير الآن هو أن نحضر هذا الرجل من أجل علاج هذا المرض .
فلتدعُ الصائغ من هذا البلد البعيد، ولتدخل الغرور إلى نفسه بما تهبه من ذهب وخلع.

كيف أوقد الملك الرسل إلى سمرقند لاحضار الصائغ

185 - فأرسل الملك إلى تلك الجهة رسولًا أو رسولين ، حاذقين من أهل الكفاية والعدل .
وجاء هذان الرسولان إلى سمرقند من أجل الصائغ الظريف الفاضل .
وقالا للصائغ : “ أيها الأستاذ اللطيف الكامل المعرفة ! لقد ذاعت في المدائن صفاتك !
 إنّ فلاناً الملك اختارك لتكون صائغاً عنده ، لأنّك رجل عظيم ! 
فإليك هذه الخلعة وهذا الذهب والفضّة ، وحينما تجىء إلى حضرته فسوف تصبح رفيقاً له ونديماً .

190 - ورأى الصائغ المال والخلع الكثيرة ، فاغترّ بها وفارق أهله وأبناءه .


“ 107 “

ومضى الرجل إلى الطريق سعيداً ، وما عرف أنّ الملك قد قصد قتله .
فركب جواداً عربياً وأسرع به فرحاً ، فعلم ( فيما بعد ) أنّ خلعة كانت ثمناً لحياته “ 1 “ .
فيا من مضيت في سفرك وأنت تشعر بمائة رضى ، لقد سعيت بقدمك نحو سوء القضاء !
 كان في خياله الملك والعز والعظمة ، فقال عزرائيل : “ اذهب فسوف تنال ذلك حقاً ! “ .

195 -  وعندما وصل من السفر هذا الرجل الغريب ، أحضره الطبيب أمام الملك .
لقد جئ به معزّزاً إلى الملك ، حتى يحترق أمام شمعة طراز “ 2 “ .
فلما رآه الملك ، بالغ في تعظيمه ، وأسلم إليه خزائن الذهب .
وقال الحكيم للملك : “ أيها السلطان العظيم ! أنعم بتلك الجارية على هذا السيّد .
حتى يحسُن حال الجارية في وصاله ، ويدفع ماءُ وصله تلك النار عنها ! “

200 - فوهب الملك الصائغ تلك الجارية الحسناء ، وجمع بين هذين اللذين كانا ينشدان الصحبة .
فلبثا يشبعان رغبتهما ستة أشهر ، حتى غدت تلك الفتاة في كامل صحتها .
..............................................................
( 1 ) فتكشف له فيما بعد أنّ تلك الخلعة كانت ثمناً لحياته .

( 2 ) أي حتى يحترق أمام الجارية . ويقصد بالشمعة المرأة الطويلة الجميلة الباسمعة وأما طراز فبلدة في تركستان شرقي نهر سيحون ، كانت مشتهرة بجمال سكانها .

“ 108 “

وبعد هذا ، أعدّ الطبيب للصائغ شربة شربها ، فأخذ يضمحل أمام الجارية .
وعندما ذهب المرض بجماله ، لم تعد روح الجارية عليلة بهواه .
فلما أصبح دميماً قبيحاً أصَفرَ الوجه ، أخذت نار قلبها تنطفىء رويداً رويداً “ 1 “ .
 

205 -  إن العشق الذي لا يكون إلا من نضارة اللون ليس بعشق ، وعاقبته سوء السمعة والعار ! 
فليته كان كله قبحاً ، حتى لا يجري عليه هذا الحكم السيّء .
الدم ينهمر من عيني الصائغ اللتين كانتا تقيضان كالنهر .
إنّ وجهه غدا عدوّاً لروحه ! وهكذا كان جناح الطاووس عدوّاً له . وكم من ملك قتلته أبهته ! 
فقال الصائغ : “ إنّي أنا ذلك الغزال الذي أراق الصياد دمه من أجل سُرتّه !
 

210 - بل إنيّ أنا ثعلب الصحراء الذي كمنوا له ، وقطعوا رأسه من أجل فرائه ! بل إنيّ ذلك الفيل الذي أراقت دمه ضربة الصياد من أجل سنّه العاجي ! إنّ من قتلني من أجل ما هو دوني ، ليس يدري أنّ دمي لا يُهدر ! فاليوم عليّ وغد عليه ، وإلا فمتى كان دم مثلي يذهب هدراً ؟
...............................................................
( 1 ) حرفياً : أخذ قلبها يبرد رويداً رويداً .
 

“ 109 “


فالجدار إذا كان يلقي على الأرض ظلًا طويلًا فإنّ هذا الظل يرتد نحوه .



215 -  وهذا العالم جبل ، وأما أعمالنا فنداء، ولا بد أن يعود إلينا صدى ندائنا “.
قال هذا ، ولفظ النفس الأخير ، ومضى تحت التراب ، فخلصت تلك الجارية من الألم والعشق .
ذلك لأنّ عشق الموتى لا دوام له ، فالميت ليس بعائد إلينا أما عشق الحيّ فيبدو للروح والعين في كلّ لحظة أنضر من الزهر ! 
فاختر لنفسك عشق ذلك الحيّ ، فإنّه باق ، وهو الذي يسقيك شراباً يزيد من قوة روحك .



220 - أختر عشق من وجد الأنبياء بعشقه القوة والمجد .
ولا تقل : “ ليس لنا سبيل إلى ذلك الملك “ فإنّ التعامل مع الكرماء لا عسر فيه .



بيان أن قتل الصائغ وإعطاءه السم كان بإشارة إلهية وليس نتيجة لهوى النفس والتأمل الفاسد

إنّ قتل هذا الرجل بيد الحكيم لم يكن بدافع من طمع ولا وجل .
وهو لم يقتله مرضاة للملك ، وإنما قتله عندما جاءه أمر اللَّه وإلهامه .
فإنّ قَطْعَ الخضر حلق الغلام لأمرُ لا يدرك سرّه عامةُ الخلق .


225 - فكلّ من يتلقى من اللَّه الوحي والجواب ، يكون كل ما يأمر به عين الصواب 
 

“ 110 “

 
فالذي يهب الروح يجوز له أنْ يقتل ، وهذا الحكيم نائب عن الواهب ويده يد اللَّه “ 1 “ .
فضع رأسك أمامه مثل إسماعيل ، وأسْلمْ الروح على خنجره فرحاً ضاحكاً حتى تبقى روحك ضاحكة إلى الأبد مثل روح أحمد الطاهر ( في حضرة ) الأحد .
إنّ العشاق يشربون كؤوس الفرح حينما يقتلون بأيدي الملاح .
 

230 -  والملك لم يُرق هذا الدم من أجل شهوته ، فدع عنك سوء الظنّ والجدل .
إنك تظن أنه صنع فعلًا آثماً ، ولكن متى كانت التصفية تدع غشّاً فيما تنشد له حالة الصفاء “ 2 “ ؟ “ .
ولمثل تلك الحال كانت الرياضة ، وكانت المعاملة الخشنة ، فهي كالكور تنقّي الفضّة مما علق بها من شوائب .
ومن أجلها كان الامتحان الذي يميِّز بين الطيِّب والخبيث ، فهو كالنار التي تُخلصِّ الذهب من الزيد ! 
ولو لم يكن فعله هذا من إلهام الإله ، لكان كلباً ضارياً لا ملكاً .


235   ( فهذا الملك ) كان مُنَزَّها عن الشهوة والحرص والهوى ،
...............................................................
( 1 ) لعل في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى . “ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللَّه “ وكذلك إلى قوله تعالى “ وما رميت إذ رميت ولكن اللَّه رمى “ .
( 2 ) أي متى كان مثل هذا الملك الذي بلغ حالة الصفاء يصنع فعلًا آثماً .


“ 111 “

وقد صنع خيراً كان ظاهره الشرّ .
فإذا كان الخضر قد خرق السفينة في البحر ، فقد كان في عمله هذا مائة صواب “ 1 “ .
وقد خفي هذا على وهم موسى ، مع كلّ ما كان له من نور وفضل ، فلا تَطرْ أنت بلا جناح .
( إنّ فعلة الملك تلك ) وردة حمراء ، فلا تُسَمِّها دماً ! وهذا الملك سكران بالحكمة فلا تقل إنه مجنون ! 
فإذا كان هذا الملك قد قصد بفعله هذا إراقة دم مسلم ، فأنا كافر لو ذكرت اسمه !

 
240 - فإنّ العرش يهتز إذا مُدح الشقيّ ، ويسوء بهذا المدح ظنّ التقى .
لقد كان ملكاً ، وكان واسع الإدراك . وقد كان من الخاصّة ، خاصّة اللَّه .
وإنّ الشخص الذي يقتله ملك مثل هذا ، يكون مآله إلى الحظّ السعيد ، والجاه الرفيع .
فلو لم يكن الملك قد رأى أنّ نفع هذا الرجل في قهره ، فيكف يكون هذا اللطف المطلق باحثاً عن القهر ؟
إنّ الطفل يرتعد أمام إبرة الحجام ، ولكن الأم المشفقة يسعدها مثل هذا الألم .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف حكاية عن الخضر : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( 18 : 79 ) .

 
“ 112 “
 
245 - فهو يأخذ نصف حياة ، ويعطي بدلًا منه مائة حياة ، بل هو يعطي ما ليس يخطر لك في بال .
إنّك تتخذ من نفسك مقياساً للأمور ، ولهذا وقعت بعيداً ، بعيداً ، فتعمَّق في تأملّك .

***

شرح حكاية عشق ملك لاحدى الجواري وشراء الملك هذه الجارية

( 50 ) المؤمن بالإرادة ، تكون روحه مقترنة بمفهوم عبارة” إِنْ شاءَ اللَّهُ “ *، وهو سواء نطق بهذه العبارة ألم لم ينطق بها ، فإن أعماله تكون مبنية على هذا الاعتقاد . 

( 57 ) لجّة الفناء هي لجة إفناء الذات ، وذلك بالتخلص من كل إحساس ذاتي . ويتحقق هذا للصوفية بأن تنصرف كل جارحة من جوارحهم إلى الخالق ، وتنفصل عما يربطها بدنيا المحسوسات والعالم الظاهري . 

( 70 ) يرى الصوفية أن هذا العالم خيال . ويربط الجيلي في كتابه الإنسان الكامل بين هذه الفكرة وبين حديث مرويّ عن الرسول نصه :


“ 469 “

“ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا “ “ 1 “ . 
( 80 ) في هذا البيت إشارة إلى المنّ والسلوى اللذين أنزلهما اللَّه على قوم موسى “ 2 “ . 

( 81 ) إشارة إلى قوله تعالى رواية عن بني إسرائيل :” وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها “. ( 2 : 61 ) . 

( 83 ) قصّ القرآن الكريم أن الحواريين طلبوا إلى عيسى أن يدعو اللَّه لينزل لهم مائدة من السماء ففعل .” قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا ، وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ ، وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ . . “( انظر سورة المائدة ، 5 : 111 - 115 ) . 

( 111 ) إذا كان العشق للجمال الدنيوي ( هذا هذا الجانب ) ، أو لجمال العالم الروحي ، فإنه يقودنا آخر الأمر إلى عالم الروح . فكل جمال في هذا الكون مستمدّ من جمال خلاق الوجود ، فهو المرج والمقصد الأسمى لكل محبّ للجمال . 


( 117 ) هذا العالم المادي ليس إلا ظلا ، ومن ورائه تكمن الحقيقة الكبرى . وقد رمز الشاعر لها بالشمس . ولكن هذه الشمس الخالدة ليست كالشمس التي نراها في هذه الدنيا ، فنورها أزلي خالد لا يغيب . 

( 118 ) وهذا الظلّ ، أي العالم المادي يجيء بالنوم . والمراد بقوله : 
“ يجيء بالنوم “ أنه يجعل الإنسان غافلًا عن الحقيقة العظمى المستترة وراء هذا الكون كله ، فهو يلهي الإنسان ، كما تلهيه الأسمار والمجالس . 
ولكن حين تشرق على القلب شمس الحقيقة ، يبدد نورها كل نور وهمي
...............................................................
( 1 ) الجيلي : الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 27 . القاهرة ، 1293 . 
( 2 ) قرآن ، 2 : 57 ، وكذلك 7 : 160 .

“ 470 “

مستعار ، فالشمس حين تشرق ، ينشق القمر . وانشقاق القمر مقترن بالبعث ، وكذلك إشراق الحقيقة على البشرية بصورة واضحة شاملة ، فيه بعث للروح من غفلتها . 

( 123 ) شمس الدين المقصود هنا هو شمس الدين التبريزي . وقد كان هذا صوفياً متجولًا نزل بقونيه . ولقيه جلال الدين هناك ، فوجد فيه الإنسان الكامل ، والمثل الأعلى لما يمكن أن يطمح إليه البشر . وقد أهمل الشاعر تلاميذه - بعد لقاء هذا الرجل - وتفرغ لصحبة هذا الصوفي ، مما أثار غضب هؤلاء التلاميذ فأخرجوا هذا الدخيل على أستاذهم من قونيه ، وطاردوه . وقد حزن جلال الدين كثيراً لفراق هذا الصديق ، ونظم كثيراً من غزلياته الصوفية التي تخلص فيها باسمه ، ونسب إليه في النهاية ديوانه المشتمل على أشعاره الغزلية ، فأسماه ديوان شمس تبريز . وقد قتل التبريزي في النهاية ، فحزن عليه جلال الدين أعمق الحزن . 
ومما قاله في رثائه : 
“ من ذا الذي قال إن شمس الروح الخالدة قد ماتت ؟ 
ومن الذي تجرأ على القول بأن شمس الأمل قد تولت ؟ 
إن هذا ليس إلا عدواً للشمس وقف تحت سقف ، وربط كلتا عينيه ثم صاح . ها هي ذي الشمس تموت ! “ 

( 125 ) ذكر شمس الدين قد نبّه روح الشاعر ، وأيقظ فيه أحاسيسه ومشاعره الروحية ، فكأنه قميص يوسف الذي أيقظت رائحته في يعقوب مشاعر الحب والحنان . وقد عبر عن وسيلة التنبه الروحي بصورة حسية ، إذ قال إن نفس شمس الدين جذب ذيل رداء روحه . 


( 128 ) الفناء الصو في هو التخلص من الذات الإنسانية ، والاتحاد بالذات الإلهية . وهو يختلف عند الصوفية عن عقيدة ن في الذات عند الهنود ، وتعرف هذه بالنرقانا . فالفناء عند الصوفية المسلمين حالة إيجابية قرينة في مدلولها للبقاء ، فالإنسان يفنى ليبقى ويخلد . والشاعر

“ 471 “

يقول إنه في حالة الوحدة كلت أفهامه أمام ما يشهد ، وما يستشعره ، فأصبح غير قادر على أن يحيط بأوصاف الثناء . وفي قصة المعراج أن اللَّه خاطب الرسول صلى اللَّه عليه وسلم بقوله “ أثن عليّ “ ، فأجاب الرسول قائلًا : “ لا أحصي ثناء عليك “ . فالشاعر كتب هذا البيت وفي ذهنه هذا الحديث . 

( 135 ) الصوفية يؤمنون بكتم أسرارهم . وهم لا يبوحون بمكنون قلوبهم إلا لمن بلغوا شأوا عالياً في التصوف . يقول القشيري : “ ويطلق لفظ السر على ما يكون مصوناً مكتوماً ما بين العبد والحق سبحانه في الأحوال ، وعليه يحمل قول من قال : “ أسرارنا بكر لم يفتضّها وهم واهم . ويقولون صدور الأحرار قبور الأسرار “ . ( الرسالة ، ص 45 ) . 

( 139 ) لو تجلّت حقيقة الذات الإلهية لإنسان لما استطاع الصمود أمامها . ومن أمثلة ذلك بالنسبة للجماد قصة جبل الطور الذي اندك حين تجلى عليه الخالق . 


( 149 ) يروي جلال الدين هنا قصة معروفة ، رواها ابن سينا في كتاب القانون ( ص 316 - عن الحبّ ) . ورواها كذلك - بصورة مختلفة بعض الاختلاف - نظامي عروضي سمرقندي في كتابه “ المقالات الأربع “ ( ص 78 من النص الفارسي ، طبعة لندن ) . وقد روى الشهرستاني هذه القصة في حديثه عن طبيب اليونان “ بقراط “ . ولم يكن الطبيب الذي قام بالعلاج في القصة سوى بقراط نفسه . 
أما بطل القصة فأمير “ عشق جارية من خطايا أبيه ، فنهك بدنه واشتدت علته ، فأحضر بقراط فجس نبضه ، ونظر إلى تفسرته ، فلم ير أثر علة . 
فذاكره حديث العشق فرآه يهشّ لذلك ويطرب ، فاستخبر الحال من حاضنته فلم يكن عندها خبر . وقالت : ما خرج قط من الدار . 
فقال بقراط للملك : مر رئيس الخصيان بطاعتي ، فأمره بذلك . فقال :

“ 472 “

أخرج عليّ النساء ، فخرجن ، وبقراط واضع إصبعه على نبض الفتى . 
فلما خرجت الحظية اضطرب عرقه وطار قلبه ، وحار طبعه ، فعلم بقراط أنّها المعنية لهواه “ . ( الشهرستاني ، ج 2 ، ص 118 - القاهرة ، 1956 )
 . ورواية الشاعر تختلف في بعض تفاصيلها عن الرويات السابقةعليه ، كما أنّ الشاعر - على عادته - يستخدم تفصيلات القصة أساساً لحكم كثيرة استنبطها من ثناياها .

[ شرح من بيت 150 إلى 300 ] 
( 150 ) لا يترفع الشاعر على العادات والتقاليد الشائعة بين الناس ، فهو يذكرها في شعره ، لو كانت لها قيمة إيضاحية . وهو يصور في هذا البيت الطريقة التي يخرج بها العاميّ - الذي يسير حافى القدمين - شوكة أصابت قدمه . ولكنّه ينتقل من هذا ليتحدث في البيت التالي عن الأشواك التي تصيب القلوب ، وهي الهموم والوساوس والأوهام . 

( 165 ) الخبز والملح ، كناية عن الشعرة ، كما هو معروف . فمعنى البيت أنّ الجارية حدّثت الطبيب عن الأماكن التي عاشت بها ، والناس الذين عاشرتهم في تلك الأماكن . 

( 206 - 227 ) الحسن الظاهريّ قد يكون سبباً لهلاك الروح . 
ويضرب الشاعر لذلك أمثلة معبِّرة في بعض هذه الأبيات . 


( 222 - 224 ) يتحدّث الشاعر في هذه الأبيات عن القصة ومغزاها . 
وعنده أنّها ليست قصة جريمة . فهذا القتل الذي وقع على الرجل . 
حدث لأنّ هذا الرجل قد قتل بجسده روحَه ، فاستحق الجسدُ الموت من جراء ذلك . وهناك أنواع من القتل لا تدخل في عداد الجرائم ، ومن أمثلة ذلك قتل الخضر للغلام ، وقد ذُكرت في القرآن الكريم قصة ملاقاة الرجل الصالح ( الذي يقال إنه الخضر ) لموسى ، وقتله الغلام على مرأى منه . قال تعالى في سورة الكهف :” فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً “. ( 18 : 73 ) .

“ 473 “

( 240 ) يُروى عن الرسول حديث بهذا المعنى نصه : “ إذا مُدح الفاسق غضب الربّ واهتز لذلك العرش “ . 

( 245 ) الخالق واسع الكرم إزاء عباده ، فهو - إذا جرّدهم من حياة تافهة ، وهبهم عوضاً عنها حياة عامرة عظيمة ، تعدل مائة حياة مما اعتادوا عليه . ومما روي في الحديث القدسيّ عن الرسول : “ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر 

.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: