الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

26 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2602 - 3012 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

26 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2602 - 3012 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

26 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2602 - 3012 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2602 - 3012



شرح في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،

( 2602 ) يقول الترمذيّ في حديثه عن المريد الواصل : “ فإذا فرح بشيء من الدنيا فإنما يفرح ببرّ اللَّه تعالى له بذلك وتقديره وتدبيره ولطفه . . . فاستعمال جوارحه في ذلك الشيء بمنزلة رجل شرب ترياقاً فامتلأت عروقه منه ، فإن مدّ يده إلى حية أو عقرب لم يضره سمّها ، لأنه لم يجد السمُّ مسلكاً إلى عروقه ، فإذا لم يجد الترياق وجد السمّ مسلكاً إلى العروق ، فجمد الدم الذي في العروق ، من ذلك السمّ فمات “ . ( الرياضة وأدب 

“ 566 “

النفس ، ص 63 ) . 

( 2609 ) المرء يحتاج إلى قوة روحية عظيمة ، ليستطيع الصمود أمام مغريات المادة . وقد رمز الشاعر لمثل هذه القوة الروحية “ بهمّة سليمان “ . 

( 2619 ) صور الترمذيّ الصراح بين النفس ( التي تمثّل الشهوة والهوى ) والقلب ( الذي يمثل الحكمة والتعقل ) بقوله : “ وإنّ المؤمن قد ابتلي بالنفس وأمانيها ، وأُعطيت ( النفس ) ولاية التكلفّ بالدخول في الصدر . والنفس معدنها في الجوف وموضع القرب ، وهيجانها من الدم وقوة النجاسة ، فيمثلىء الجوف من ظلمة دخانها ، وحرارة نارها . ثم تدخل في الصدر بوسوستها ، وأباطيل أمانيها ابتلاء من اللَّه إياه ، حتى يستعين العبد بصدق افتقاره ودوام تضرعه لمولاه “ . 
(بيان الفرق بين الصدر والقلب ، والفؤاد واللبّ ، ص 40 ، القاهرة 1958 ) . 

( 2624 - 2626 ) الصورة والمعنى يكمل كلّ منهما الآخر . الصورة هي الشكل الظاهريّ ، والمعنى هو المضمون الباطنيّ . وللحقيقة صورة ومعنى ، كل منهما يكمل الآخر . ولو كانت الأهمية للمعنى وحده ، لكان خلق هذا العالم الدنيوي باطلًا ، ولما كانت هناك حاجة للصور المعبّرة عن المحبة والولاء سواء في العلاقة بين الإنسان وربه ، أو بين أفراد الجنس البشريّ . فالصلاة مثلا لها مدلولها الروحيّ ، ولكنها أيضاً تتم بصورة معينة . وعاطفه المحبة بين الناس يمكن التعبير عنها بصورة ماديَّة ، كتبادل الهدايا . 

( 2629 ) يفرق الشاعر هنا بين الصور التي تعبر عن معان حقيقية صادقة ، وبين الصور التي لا معنى لها . فالنوع الأول تعبير عن المحبة والاخلاص ، وأما النوع الثاني فمحض تظاهر ورياء . 

( 2634 ) في البيت إشارة إلى حديث ينسب إلى الرسول أنه قال : “ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه “ . 

( 2635 ) إذا لم يشهد الإنسان الصور الدالة على المعنى ، فإنه قد يستدلّ على هذا المعنى بأسباب تحققه . فإذا كانت هناك رابطة قربى بين إنسانين ، فهي - في العادة - مدعاة لافتراض المحبة ، وإن لم يتجلّ من المظاهر ما يؤكد ذلك .
  
“ 567 “

( 2636 ) كل هذه المعارف المبنية على المظاهر والأسباب لا تعدو أن تكون افتراضية . ولا سبيل إلى اليقين ، الذي يجعل الإنسان مستغنياً عن الأثر والسبب إلا بالكشف الإلهيّ . 

( 2640 ) من اعتبر الصورة والمعنى شيئاً واحداً كان خاطئاً . فالصورة قريبة من المعنى ، لأنها تعبر عنه ، لكنها بعيدة عن المعنى ، لأن له طبيعة أخرى ، ولأنه هو الجوهر المقصود . فمن اقتصر على صورة الصلاة وجهل معناها كانت صلاته باطلة لا جدوى منها . ومن كان حبه مجرد ابتسام وإظهار للمحبة ، من غير إحساس بها ، فهو من المرائين المخادعين ، وليس من المحبين . 

( 2648 ) ذكر الجرجاني في تعريفاته أنّ هناك أربعة ألواح : لوح القضاء ، ولوح القدر ، ولوح النفس الجزئية السماوية ، ولوح الهيولى . 

( 2650 ) راجع ما سبق أن نقلناه عن ابن العربي من نصوص تتعلق بآدم ، وتبيّن فضله على الملائكة . وقد ذكر جلال الدين في مواضع أخرى من شعره أن الإنسان في صورته الكاملة أعظم من الملائكة . ومن ذلك قوله في ديوان شمس تبريز .خود ز فلك برتريم واز ملك افزونتريم * زين دو چرا نگذريم ، منزل ما كبرياست( إننا أعلى من الفلك ، وأعظم من الملك ! * ولم لا نفوقهها ، ومنزلها الكبرياء ؟ )

( 2657 ) للعرش تفسير صوفي ذكره الجيلي . قال : “ هو المظهر الأعلى ، والمحل الأزهى ، والشامل لجميع أنواع الموجودات . فهو في الوجود المطلق ، كالجسم للوجود الإنسانيّ ، باعتبار أنّ العالم الجسماني شامل العالم الروحاني والخيالي والعقلي إلى غير ذلك . . “ ( الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 4 ) . ولسنا نريد أن نفترض هذا المفهوم في بيت الشاعر . ويمكن أن يفسر - بدون تأويل بعيد - على أساس أن آدم أهمّ مخلوقات اللَّه . فالعرش ذاته لا يبلغ

“ 568 “

مكانة روح آدم ، لأنه - برغم نوره واتساعه - لا يبلغ مبلغ الروح في اتساعها لخالقها . 

( 2659 - 2661 ) يشير الشاعر هنا إلى أن الملائكة تعلقوا بالأرض وأحبوها وأكبروها قبل خلق آدم وأنهم عجبوا لهذا التعلق ، فطبيعتهم السماوية مختلفة عن طبيعة التراب . ولكن السبب في هذا أن اللَّه كان قد أودع في التراب سراً هو آدم ، الذي خُلق من هذا التراب ، فكان أعظم مخلوقات اللَّه . أما التعلق بالأرض فقد يشير إليه ما جاء في القرآن حكاية عنهم حين أخبرهم اللَّه بخلق آدم :” وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ “.  (البقرة ، 2 : 30 ) . 

( 2663 ) تخاطب الملائكة آدم قائلة ، إنها قد تعلقت بالإرض لأن اللَّه كان قد جعل بها سراً عظيماً من أسراره ، ثم ما لبث أن أظهره لها بعد أن خلق من ترابها آدم . 

( 2667 ) صارت أفواهنا مرّة . . . “ معناها أن الملائكة حزنوا وتألوا . 

( 2675 ) أبدع الشاعر في التعبير عن الحلم الإلهي - وهو الرحمة التي يسبغها اللَّه على عباده - بقوله إن مائة أب ومائة أم تولد من هذا الحلم في كل لحظة . 

( 2676 ) وما حلم هؤلاء . . “ الإشارة هنا إلى حلم الآباء والأمهات . 

( 2677 ) إن حلم الإنسان - إذا قيس بحلم اللَّه - ليس إلا رشاشاً واهياً من هذا الفيض الإلهي العظيم .

[ شرح من بيت 2700 إلى 2850 ] 
( 2710 ) شبّه الجسم الإنساني بإبريق ، له خمس أنابيب تصب فيه ، هي الحواس الخمس . ويتضمن البيت دعاء اللَّه أن يطهر الحواس حتى يسلم الجسم من كل نجس .

“ 569 “

( 2726 ) المحو والسكر والانبساط : 
المحو - في تعريف السراج - هو “ ذهاب الشيء إذا لم يبق له أثر ، وإذا بقي له أثر فيكون طمساً . وقال النوري : الخاص والعام في قميص العبودية ، إلا من يكون منهم أرفع ، جذبهم الحق ، ومحاهم عن نفوسهم في حركاتهم ، وأثبتهم عند نفسه . 
قال اللَّه تعالى :” يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ “. 

معنى قوله جذبهم الحق : يعني جمعهم بين يديه ومحاهم عن نفوسهم يعني عن رؤية نفوسهم في حركاتهم ، وأثبتهم عند نفسه ، بنظرهم إلى قيام اللَّه لهم في أفعالهم وحركاتهم “ . ( اللمع ، ص 431 ) . 

وتكلم السرّاج عن السكر فقال إن معناه “ الغيبة “ غير أن السكر أقوى وأتم وأقهر من “ الغيبة “ أما شرحه للغيبة ، فهي أنها “ غيبة القلب عن مشاهدة الخلق بحضوره ، ومشاهدته للحق بلا تغيير ظاهر للعبد “ . ( اللمع ص 416 ) . 

وأما الانبساط فهو الذي يعرف بالبسط . ويُذكر البسط مع القبض . 
يقول عنهما السراج إنهما حالان شريفان لأهل المعرفة . وفسرهما على أن القبض هو أن يقبض اللَّه العارف عن المباحات في أكل وشرب وغير هما ، فلا يبقى له من فضل سوى المعرفة . وأما البسط فهو أن يبسط اللَّه العارف لهذه المتع الحسية ، ولكنه يصونه من الإغراق فيها “ حتى يتأدب الخلق به “ . ويُروى عن الجنيد أنه قال إن القبض والبسط يعنيان الخوف والرجاء . “ فالرجاء يبسط إلى الطاعة ، والخوف يقبض عن المعصية “ . ( اللمع ص 419 ، 420 ).
 
( 2739 ) هذا الرجل الكامل عم كرمه البشرية جمعاء . ولم يكن يفرق بين إنسان وآخر ، فكأنه الشمس أو المطر . بل هو - في تحقق النعيم على يديه - كان كأنه الفردوس . 
وهناك رواية أخرى تجعل “ ني “ بدلًا من “ بل “ في عبارة الشاعر
 

“ 570 “

“ بل چون بهشت “ . 
وشبيه بهذا ما قاله شوقي في العصر الحديث :ألم تر أن نور الشمس يغشى * حمى كسرى كما يغشى اليبابا 
وأن الماء تروى الأسد منه * ويشفي من تلعلعها الكلابا

 ( 2750 )الذين يسألون الحق هم الذين يظهرون للناس جوده . أما الذين خلصوا من وجودهم الذاتي ، فلم يستشعروا لذواتهم وجودا أمام الحق ، فهؤلاء هم الجود المطلق . 

( 2751 ) من لم يكن ممن يسألون اللَّه ، ويشعرون بالحاجة إليه ، فهو ميت ، لأنه فاقد للروح عديم الإحساس . وكذلك من لا يكون مع الحقّ ، بل يؤكد وجوده الذاتي ويبلغ به حبه للمادة وتعلقه بهذا العالم الماديّ أن يتوهم لنفسه وجوداً منفصلًا عن الخالق . فمثل هذا أيضاً يكون ميتاً لأنه تعلق بما يفنى ، وأعرض عن الحي ، الواهب للحياة . 
وأما قول الشاعر : “ إنه ليس من أهل هذا الباب “ ، فمعناه أن مثل هذا الشخص لا صلة له بعالم الروح : “ وما هو إلا صورة فوق ستار “ أي أنه لا يعدو أن يكون صورة لا حياة فيها . 

( 2757 ) ليس حب الذات الإلهية وهما ، وخيالا عن الأسماء والصفات ، بل إحساس جارف يتملك الروح ، ويسيطر عليها ، ويجعل صاحبه عاشقا للذات ، لا أسير وهم وخيال . 

( 2760 ) لو كان عاشق الأوهام ( الذي ينبثق علمه من أوهامه ، فيتعلق بهذا العلم ، ويحسبه من اليقين ) ، لو كان مثل هذا صادق النية في بحثه عن الحقيقة ، لهذه صدق نيته إلى الحقيقة . 

( 2762 ) لا يليق عرض الفكر الصوفي على من لا يكون أهلًا له ، لأن هذا يفهمه على غير وجهه ، ويخرج منه بمائة خيال باطل . 

( 2765 ) ليس الإنسان مجرد صورة . ولا شأن له بأسرار العرفان الروحي ، لو لم يكن قويّ الروح ، فصورة السمكة لا شأن لها بالبحر

“ 571 “

أو اليابسة . ولون الهندي ليس من فعل الأصباغ ، ولا هو مما يزال بالغسل . فطبيعته راسخة ، لا سبيل إلى تغييرها . وهكذا من رسخ في قلوبهم التلعق بالمادة ، وإغفال الروح ، ولا سبيل إلى تغييرهم . 

( 2770 ) كلمة “ نقشها “ ( النقوش ) في هذا البيت قد أو همت الشراح أن المقصود هنا تلك النقوش التي كانت تصوّر على جدران الحمامات . 
والظاهر أن هذه النقوش كانت شائعة ، وقد عدّها الغزالي من المنكرات وأوصى بإزالتها أو تشويه وجهها لإبطالها إن كانت لبشر . كما أنه نهى عن تصوير الحيوان وأجاز صور الأشجار وسائر النقوش . ( الإحياء ، ج 2 ، ص 339 ) . 
وقد زاد الأمر تأكيداً للشراح أن الشاعر في الأبيات السابقة على هذا البيت كان يتحدث عن التصوير والصور . ولكن فهم النقوش هنا على معناها التصويري ، يؤدي إلى استحالة فهم البيت ، وربطه بما يليه . 
والظاهر أن الشاعر انتقل هنا على عادته من الصور ، إلى الحديث عن الأجساد ، وهي لا تعدو - عند الصوفية - أن تكون شبيهة بالصور . 


وقد استعمل الشاعر كلمة “ نقش “ في مواضع عديدة بمعنى الجسم . يقول :گاه نقش خويش ويران ميكنند * از پي تنزيه جانان ميكند( المثنوي ، 2 / 60 ) . 
فالأجسام خارج غرفة خلع الثياب تتخذ صور الثياب ، لكنها في الداخل ، أي حين تتعرى تظهر على حقيقتها . وكما أن الثياب تخفي حقيقة الأجساد ، كذلك الأجساد تخفي حقيقة الروح ، فلكي يعرف الإنسان حقيقة الجسد ، عليه أن يخلع الثياب ، ولكي يعرف حقيقة الروح ، عليه أن يتخلص من الجسد . 

( 2771 - 2772 ) لا سبيل إلى إدراك حقيقة الروح ما دامت متلبسة بالجسم . فإذا ما انطلقت من الجسم ، ودخلت عالمها الروحي ، تجلت حقيقتها . فالجام هنا رمز للعالم الروحي ، والثياب رمز للجسم الذي

“ 572 “

يحجب الروح . ذلك لأن الثياب تخفي حقيقة الجسم ، وكذلك الجسم يخفي حقيقة الروح . فلا سبيل لإدراك حقيقة الجسم ما دام المرء خارج الحمام . وكل ما يرى حينذاك هو مظهر الثياب ، ولا صلة لهذه بحقيقة الجسم الذي تغطيه وكذلك الجسم في هذه الدنيا ، يحجب الروح ، فلا يمكن إدراك حقيقتها ما دامت منطوية فيه . 

( 2787 ) هذا الأعرابي سحب الماء من البرء وذهب به إلى الخليفة - وهو هنا رمز للإنسان الكامل - فكان جزاؤه أن لقي هذا الخليفة ، وسعد بلقائه . 
فهو كأفراد القافلة التي كانت منطلقة في الصحراء ، فأرسوا واردهم فأدلى دلوه ، فكان نصيبه أن شهد طلعة يوسف . 

( 2795 ) قد يثير هذا البيت مشكلة تاريخية لو فُهم على معناه الحرفي . 
فالمثنوي قد بدأ نظمه بعد وفاة المستعصم باللَّه آخر الخلفاء العباسيين . فقد ذكر الشاعر في مقدمة الجزء الثاني أنه تأخر في النظم بعض الوقت ، وذكر تاريخ شروعه في نظم هذا الجزء وهو عام 662 هـ . أما الجزء الأول فقد نظم قبل الثاني بعامين أي في عالم 660 هـ . وكان قتل المستعصم على يد المغول عام 656 هـ.


لكن الخلافة العباسية استمرت بصفة اسمية في القاهرة ، حيث وليها عم المستعصم الذي اتخذ لقب المستنصر بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام . فهل معنى ذلك أن الشاعر بدأ نظم المثنوي بعد قيام الخلافة العباسية من جديد بهذه الصورة الإسمية ، وانتهى من نظم الجزء الأول في عام واحد أي في عام 660 هـ ؟ 
ومن الممكن أن الشاعر لم يرد هنا أن يروي وقائع التاريخ ، وإنما روى حديث الأعرابي الذي قصد الخليفة . والمعروف أن الخليفة الذي تدور حوله القصة هو المأمون ، وكان عصر ازدهار ، يكاد يوحي لمن شهده أن دولة بني العباس باقية إلى آخر الدهر . وكان العباسيون أنفسهم يشيعون هذا عن دولتهم . 


ويروى عن داود بن علي - عم السفاح والمنصور - أنه ذكر في خطبته التي ألقاها يوم بيعة السفاح أن هذا الأمر باق في بني العباس حتى يسلموه إلى المسيح

“ 573 “

عيسى بن مريم عندما يعود قبيل قيام الساعة . ( ابن الأثير ، ج 4 ، ص 326 ) . 
ومن المستبعد بأن يؤمن جلال الدين - يو هو المدرك لأحوال الدنيا ، المؤمن بهوانها ، والمستخف بسلطانها ، بأن ملك الدنيا باق على الدوام في قبضة إحدى الأسر ، مهما كانت مكانة هذه الأسرة . 

( 2797 ) “ وقد قمت بقدر من صالح الأعمال ، راجياً من وراء ذلك حسن الجزاء ، فإذا بي أظفر - لقاء ذلك - بأرفع درجات المثوبة والقرب من اللَّه “ . 

( 2801 ) الخالق هو الكل . وهو غير قابل للتجرئة . أما المخلوقات التي توصف بالأجزاء فهي ظواهر فاضت منه ، ومآلها أن تعود إليه . 
ومن تعلق بمثل هذه الأشياء الزائلة ، فقد تعلق بفان لا سبيل له إلى الاحتفاظ به.
 
( 2802 - 2804 ) كان مخلوقات هذا الكون ترجع إلى خالقها ، فمن تعلق بأي منها فقد تعلق بما لا سبيل إلى استبقائه . فالمخلوق ضعيف . 

وهو يندفع عائداً إلى أصله بدون اعتبار لمن يتعلق به من المخلوقات . وكل مخلوق تعلقت روحه بمخلوق مثله شبيه بغريق تشبثت كفّارة بضعيف . 

( 2805 ) لا تتلعق إلا بمن كان مالكاً لأمره . أما المخلوقات الضعيفة فلا جدوى من التعلق بها . 

( 2806 ) خير ما في الخلوقات وهي الأرواح تعود إلى خالقها ، وتترك وراءها الأجسام الفانية ، وهذه كالأشواك التي لا جدوى منها . 

( 2809 - 2810 ) الصياد الذي يتصيد الظل رمز لمن يجري وراء الأوهام . وكذلك الرجل الذي أطبق كفه على ظلّ طائر ، فهو إنسان قد تعلق بخيال باطل . 

( 2811 ) إن قلتَ إن الخلوق مظهر من مظاهر الخالق ، فمحبته محبة للخالق ، كنت كمن يقول إن الشوك من الورد . فهل ترضى بأكل
 

“ 574 “

الشوك ؟ “ 
( 2821 ) إن المرشد الكامل كحوض مليء بالماء النقي . أما المريدن فهم كالأنابيب التي الماء من هذا الحوض إلى حفر السقاية . ويمكن أن تكون هذه رمزاً لماصدر المعرفة التي ينهل منها عامة الناس . فالماء النقي ، هو العرفان الصادق ، الذي يفيض من المرشد الكامل ، وينتقل إلى الناس عن طريق مريديه . 

( 2823 ) المعلم الذي يكون خبيث النفس ، لا يؤثر عنه إلا كل ما هو خبيث . 

( 2834 ) من الأحاديث التي ذكرها الغزالي في باب العلم أن الرسول قال : “ العلم علمان ، علم على اللسان فذلك حجة اللَّه تعالى على خلقه ، وعلم في القلب ، فذلك العلم النافع “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 59 ) . 

( 2835 - 2852 ) يتناول الشاعر في هذه الأبيات من أسماهم الغزالي “ علماء الآخرة وعلماء السوء “ ، ويوازن بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة . 
يقول الغزالي : “ فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة . ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعّم بالدنيا ، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها . قال صلى اللَّه عليه وسلم : 
“ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 58 ، 59 ) . 

( 2835 - 2836 )  يشير الشاعر هنا إلى نوع من العلماء ، يعتريهم الغرور بما حصّلوه من العلم . أما علم النحو هنا فرمز لأوضح أنواع العلم الظاهري ، فهو علم يهتم بالصورة واللفظ أكثر من اهتمامه بالمعاني والمفهومات . 

( 2839 ) السباحة هنا رمز للسلوك الروحي الذي ينقذ من أخطار العالم

“ 575 “

الدنيوي ومهالكه . 
( 2841 ) اعلم أن المعرفة الروحية هي المنقذ للإنسان ، وليس العلم الدنيوي . فمن استطاع أن يتخلص من غروره النفسي ، عبر الحياة بدون تعرض لأخطارها ، التي تتمثل في مغرياتها ، وما تؤدي إليه من انحرافات “ . 

( 2842 ) إن الحياة خضمّ لجب ، لا يستطيع أن ينجو فيه إلا من تغلبّ على رغباته الحسية ، وقتل غروره النفسي . 

( 2843 ) فإن تحقق له الفناء عن صفات البشر ، وما يسودها من جهل وغرور ، دخل بحر الأسرار ، وسبح فوق قمة أمواجه . 

( 2845 ) مهما عظمت علوم هذه الدنيا فهي فانية ، لأنها تتعلق بما هو فان وتدور حوله ، لهذا يجب ألا يصاب الإنسان بالغرور ، إذا بلغ درجة عالية في هذه العلوم . 

( 2848 ) إبريق الماء الذي حمله الأعرابي رمز لعلوم الدنيا ذات الطابع المحدود ، أما المعرفة الروحية التي تتاح للرجل الكامل ، فلا حدود لها .

[ شرح من بيت 2850 إلى 3000 ] 
( 2864 ) لو أن هذا الأعرابي أدرك طرفاً من علم اللَّه ، لهان أمامه ما يعرف ، ولعدّه من الوهم الذي يجب القضاء عليه . 

( 2866 ) لو أن كيان الإنسان المادي ( الجسم ) تحطم ، ما أصاب حقيقته وجوهره ضرّ من جراء ذلك . بل ربما ازدادت روحه كمالًا لخلاصها من الجسد . 

( 2867 ) إذا تحطم الجسم بقيت الروح سالمة وألم تخسر شيئاً من جوهرها ، فهي ليست كالماء الذي يراق إذا انكسر وعاؤه ، بل إن جوهرها يزداد نقاء بخلاصها من الجسد . 

( 2871 ) لقد أصبحتَ غير قادر على التحليق في أجواء الروح ، لأنك أغرقت نفسك في لذّات الحس ، فأصبح جناح فكرك مثقلًا بالمادة ، غير قادر على حملك إلى تلك الأجواء الروحية العليا .

“ 576 “

( 2873 ) من عود نفسه على الإسراف في الطعام والشراب ، أصبح نهما ، ونمت فيه غرائز الحيوانية ، فلا يكاد يطيق الجوع ، وحين يشعر به ، يصير مثل الكلب الضاري . 

( 2874 ) الصورة المقابلة للجائع النهم ، هي صورة ذلك الآكل النهم . 
الذي يسرف في تناول الطعام ، فيصل به الإسراف إلى مدى يجعله كالميت ، لا قدرة له على الحراك . 

( 2875 ) كيف ينفسح مجال التأمل الروحي أمام إنسان يقضي وقته بين التلهف على الطعام وبين معاناة التخمة ؟ 

( 2876 ) من المعروف أن كلب الصيد - إذا شبع - لا ينطلق وراء الفريسة ، ويصبح كسولا متراخيا . والجسد - بالنسبة للروح - بمنزلة الكلب للصائد ، فالروح تسعى للسيطرة على الجسد ، وتدفعه للسير في دربها . ولو أن الجسد اندفع في طريق الشهوات ، لا ستسلم للذات الحس ، ولم يعد للروح سلطان عليه . 
وقد شبّه الشاعر للجسم بالكلب في موضع مقبل من المثنوي . 
قال في البيت رقم 3021 : 
“ والروح قد صارت الآن رفيقة للجسم ، ( وبذلك ) صار الكلب حارساً للباب برهة من الزمان “ . 

( 2882 ) يشير الشاعر بهذا إلى شطحات الصوفية . وهذه الشطحات يعدها أعداء الصوفية كفراً . أما الصوفية أنفسهم فيقولون إنها تدل على عمق الإيمان ، ويؤوّلونها بصرفها عن معانيها المباشرة إلى معان أخرى . 
وقد نسب إلى مشاهير الصوفية - وبخاصة من يُعرفون منهم بأهل السكر - كثير من هذه الشطحات . وفي كتاب اللمع للسراج باب كامل عن هذا الموضوع ، تناول فيه “ تفسير الشطحيات والكلمات التي ظاهرها مستشنع وباطنها صحيح مستقيم “ ( ص 453 ) . وقد تناول الغزالي موضوع الشطح في كتاباته وحمل عليه في الإحياء ( ج 1 ، ص 36 - 38 ) . ولكنه عاد فأبدى

“ 577 “

شيئاً من تقبله على سبيل التأويل ، وبخاصة ما نُسب منه إلى بعض مشهوري الصوفية الذين لا يشك في صدق إيمانهم . 
وقد عرف السرّاج الشطح بقوله : “ معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته ، وهاج بشدة غليانه وغلبته “ . ( اللمع ، ص 453 ) . 

أما الغزالي - وهو من منكريه - فيصنفه إلى نوعين : “ أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع اللَّه ، والوصال المعني عن الأعمال الظاهرة ، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد ، وارتفاع الحجاب ، والمشاهدة بالرؤية ، والمشافهة بالخطاب . . . 
والصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر رائفة ، وفيها عبارات هائلة ، وليس وراءها طائل ، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله ، وإما أن تكون مفهومة له ، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم ، وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني . . . “ ( إحياء علوم الدين ج 1 ، ص 36 ) . 

لكن الغزالي عاد فغير موقفه بعض الشيء إزاء بعض هؤلاء الصوفية الذين نسبت إليهم الشطحات ، وعُدّت من الفكر . وقد سبق أن نقلنا نصاً يبين ذلك قال فيه : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق . لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثيرة بالكلية ، واستغرقوا بالفرد انية المحضة . . . ولم يبق فيهم متسع ، لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً ، فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فكسروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم : 
“ أنا الحق “ ، وقال الآخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني “ ! ( مشكاة الأنوار ص 57 ) . 

( 2887 ) الشطح الذي ينطق به الصوفي المؤمن ، قد يبدو خروجاً على الدين لمن لا يفهم مغزاها . لكنه - وقد صدر عن قلب مؤمن ، لا يمكن إلا أن يكون إيماناً . فالسكر لو جُعل على صورة الخبز لا يغير ذلك من مذاقه . 
وكذلك أقوال هؤلاء ، لو فُهمت على خلاف ما يُتوقع من الصالحين ، فما هذا
 
“ 578 “

إلا لخطأ في فهم مغزاها “ . 

( 2888 - 2890 ) يهاجم الشاعر بهذه الأبيات الشكل الظاهري الذي يستعبد أصحابه ، ويصرفهم عن الجوهر . فهؤلاء الصوفية الزهاد رُموا بالكفر ولم يُنظر في ذلك إلى حقيقة حالهم ، بل حُكم عليهم بناء على عبارات تفوهوا بها . فهذا الخضوع للشكل دون الجوهر عبادة للصورة . وينبغي على المرشد أن يخلص الناس من ذلك . فالأولى أن تحطم الصورة ، حتى لا تحجب الجوهر ، وتخفي حقيقته عن الناس . 

( 2892 ) أعتقد أن الشاعر لا يزال هنا يدافع عن الصوفية الذين رُموا بالكفر لعبارة تفوهوا بها . فقد نُسيت حقيقتهم وأُدينوا بكلمات . وشبيه بذلك إحراق بساط لأن برغوثاً علق به ، أو إضاعة يوم في مطاردة بعوضة ، ونراه في الأبيات التالية ينتقد أسارى الشكليات الذين يحكمون بظاهر الحال ، لا بحقيقته . 

( 2894 - 2896 ) هذه الأبيات يمكن أن تُمثل دعوة حارة لنبذ العنصرية التي تفرق بين الناس على أساس اللون . فاللون ليس سوى مظهر شكلي لا قيمة له ، ويجب أن يكون الاعتبار في الحكم على الأفراد لحقيقتهم وجوهرهم . 

( 2897 ) يقصد بالحكاية هنا حكاية الأعرابي وامرأته . 

( 2898 ) المعاني التي ترمز لها القصة قديمة قدم الأزل ، باقية بقاء الأبد . 
وهذه المعاني هي الصراع بين العقل والنفس ، وحنين الأرواح إلى خالقها . 
وقد ذكر الشاعر صراحة في البيت 2903 أن الزوج في القصة رمز للعقل وأما المرأة فرمز للحرص والطمع . 

( 2899 ) إنها كقطرة الماء ، لا تعرف لها بداية أو نهاية . أو كالدائرة ، لا يعرف من أين تبدأ أو أين تنتهي . 

( 2901 ) هذا البيت قريب المعنى من قول الشاعر في بيت سابق ( رقم 133 ) : 
“ الصوفي ابن الوقت أيها الرفيق “ . انظر التعليق على هذا البيت . 

( 2904 - 2906 ) لما كان الانسان قد صدر عن اللَّه ، واللَّه قد خلقه علم

“ 579 “


صورته ، فلماذا هذا التضاد في ذات الفرد الواحد ، ذلك التضاد الذي يتمثل في صراع النفس والعقل ، أو الجسم والروح ؟ ولماذا هذا التضاد بين أفراد النوع البشري ؟ 
إن الشاعر يجيب عن ذلك بقوله إن هذا التضاد نشأ لأن للكل أجزاء متنوعة . وليس قوله “ إن للكل أجزاء متنوعة “ يعني أن الخالق يقبل التجزئة وإنما الأجزاء هنا تعبير عن الصفات المختلفة ، والتجليات المتنوعة . فهذه التجليات المتنوعة ليست متصلة به اتصال الجزء بالكل . فهي ليست مثل عبير الوردة الذي هو جزء من الوردة ، ولا مثل شد والقمري الذي هو جزء من القمري . إن صفات الخالق قد يضاد بعضها بعضاً ، كالرحمة والرضى ، والسخط والغضب . 
فصفات اللَّه وأسماؤه يختلف بعضها عن البعض الآخر . وهكذا مظاهر تجلياته . 
ومع أن كل شيء قد صدر عنه ومآله في النهاية إليه ، إلا أن هذا لا ينفي أن يقع التنوع بين الأشياء ، المؤدي إلى تضادها . 
ومما يساعد على هذا الفهم نظرية ابن العربي في صفات اللَّه وأسمائه ، ويرى أن كل اسم من الأسماء ، وكل صفة من الصفات له مدلوله الخاص القائم بذاته . يقول : 
“ فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ، وكمال تعلق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة . وكذلك السمع والبصر الإلهي . وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض “ . ( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 153 ) . 

( 2908 ) فإن غمضت عليك الحقيقة ، وأحسست بالحرج ، فاصبر فلعل اللَّه يكشف لك السر الذي غمض عليك . 

( 2909 ) إن الأفكار تصطرع في القلوب ، ويفترس بعضها بعضا ، فهي تلعب دور الأسد وحمار الوحش . وأما القلوب فهي شبيهة بالآجام . 

( 2911 ) وما دامت هذه الأفكار والوساوس مصدر قلق لك ، فأقلع عنها واصرفها من قلبك . وليكن لك احتماء منها كاحتماء المريض من الطعام . 

( 2912 ) فليكن قلبك مستعماً إليَّ كأنه أذن ، حتى أُلقي إليك بحكمة روحية غالية كريمة الجوهر “ .

“ 580 “

( 2913 ) قول الشاعر : “ تصبح قرطاً في أُذن القمر الصائغ “ معناه “ تصبح رفيع المكانة عند العارف المستنير “ . 

( 2919 - 2920 ) من ساءت فعاله في الدنيا ، لا يريد يوماً تُكشف فيه السرائر ، بل يتمنى لو خلد في هذه الدنيا . فهو كالأسود القبيح الوجه ، الذي لا يطيق النهار لأنه يكشف قبحه ، أو كالشوك الذي يبقى مزدهراً وحده في الخريف ، فيتمنى لو دام الخريف ، لأن الربيع - الذي يحفل بالأزهار والورود - يظهر ما كان خافياً من قبحه إبان الخريف . 

( 2921 ) أما الورود والأزهار فالربيع حبيب إليها لأنه يحييها ، ويبرز جمالها . وكذلك العالم الآخر حبيب إلى الأرواح الطاهرة التي تجملت بحسن الفعال ، وأشرقت بالحبة والصفاء . 

( 2922 ) أبناء الدنيا المنعمون فيها ، المغرورون بها ، يودون البقاء في هذه الدنيا ، وهم فيها يتيهون على من زهدوا في متعها وانصرفوا عنها . 

( 2923 ) ومثل الحياة الدنيا كمثل الخريف ، يزدهر فيه الشوك ويحتجب الورد . فيظهر الشوك وكأنه الخضرة الوحيدة التي تزين الأرض ويكون غياب الورد سببا في خفاء قبح الشوك على من كان غير خبير بالورد والأشواك . 

( 2925 ) وليس ينفع الشوك أنه يخدع كثرة الناس في الخريف ، بازدهاره وحده ، فهناك شخص واحد يدرك قبحه حتى في الخريف ، لأنه يعرف جمال الورود ، ولو كانت مختفية عن الأبصار . ذلك هو الإنسان الذي بلغ درجة عالية من العرفان الروحي . 

وإدراك هذا الواحد خير من إدراك الدنيا كلها ، وتمييزه أهم من تمييز كافة أبنائها . والذين تعلقوا بالدنيا ، وتاهوا بأبهتها ورونقها ، يمكنهم أن يخدعوا آلاف الناس بهذا الرونق ، ويستولوا على إعجابهم ، ولكنهم لا يستطيعون خداع خبير برونق هذه الدنيا ، يدرك حقيقته ، ويعرف

“ 581 “

قميته ، لو قيس بما للعالم الروحي من رونق وبهاء . 

( 2926 ) هذا البيت غامض المعنى . ويمكن أن يخضع لتأويلات متعددة . وأعتقد أن أقرب تفسير له هو أن الشاعر يستدرك على ما قاله في البيت السابق : “ إن البستانيّ وحده هو القادر على إدراك القيمة الحقيقة للشوك حتى في الخريف “ ، فيقول في هذا البيت : “ ولو أن العالم اقتصر الإدراك السليم فيه على شخص واحد لكان عالما أبله “ . فالعارف يتلاقى مع أمثاله من العارفين ، وهؤلاء معا يتعاونون في كشف الحقائق ، وكلهم يستمدون نور العرفان من الحقيقة العليا . إنهم كالنجوم ، يُلقي كل منها بضوئه مع وجود القمر المنر الذي يكشف الظلمات . ولعلّ في هذا البيت استيحاء للحديث الذي يروي عن الرسول قوله : “ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ . فالرسول - في هدايته - كالقمر . والعارفون من أصحابه كالنجوم ، يحمل كل منهم قبسا من نوره . أما المشكلة الفكلية التي يثيرها قوله : “ إن كل نجم من النجوم جزء من القمر “ ، فهي مما لا يحاسب عليه الشاعر وفقا لمعارفنا الحديثة . 

( 2927 - 2933 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات - بصورة رمزية - عن عالم الروح ، وما ينتظر الإنسان فيه بعد الموت . 

( 2927 ) كلّ روح طاهرة نقية تستبشر بالانتقال إلى عالمها ، وترى أن حياتها هناك شبيهة بحياة الورود في ظل الربيع . 

( 2928 ) طالما بقيت البراعم مزدهرة فلا ثمار . وطالما بقيت الأجساد مزدهرة منطوية على الأرواح فهناك جمود لهذه الأرواح ، يمنعها من بلوغ غاية نضجها ، وهو ما يتحقق لها حين تنطلق من الجسم إلى عالم الروح . 

( 2929 ) في هذا البيت توضيح للرمز في البيت السابق . فالبراعم رمز للأجساد . والثمار رمز للأرواح . والأرواح تنطلق من الأجساد كما تنبثق الثمار من البراعم . فلا انبثاق للثمار ما لم تسقط البراعم . . . ولا انطلاق للأرواح ما لم تفن الأجساد .

“ 582 “

( 2930 ) البراعم هي الصورة ومعناها الحقيقي هو الإثمار . فهي - في ذاتها - لا قيمة لها ، ولكن قيمتها بمعناها . وحياة الجسد في هذه الدنيا ليست إلا بشرى بما يعقبها من نعمة كبرى هي حياة الروح في عالمها ، بعد انقصالها عن الجسد . 

( 2932 ) الخبز الذي لم يكسر “ رمز للجسد الذي بقي متماسكاً ( على افتراض إمكان ذلك لمن يحرصون عليه ) . فالخبز الذي يُكسر ، يؤكل ويتحول في جسم الكائن الحيّ إلى طاقة تهبه القوة . والجسم الذي يتحطم يجعل الإنسان روحاً قوياً منطلقاً . والعنب في عناقيده ، لا يصير نبيذاً ، ولكنه يصبح كذلك حين تعصر هذه العناقيد ، وهكذا الروح لا تتحق لها نشوتها إلا بعد خلاصها من الجسم . 

( 2935 ) رقة الجسم لا تقف حائلًا دون قوة الروح . 

( 2940 ) إنه شيخ بما حققه من عرفان لا بما مرّ عليه من سنين “ . 
فهو قد حصل من الحكمة والعرفان ما لا يتحقق إلا للشيوخ الحكماء . 

( 2941 ) “ لقد بلغ درجة من العرفان ألهمه اللَّه ، إيّاها ، فتحققت له هذه المكانة الروحية من غير أن يضيع السنين في تحصليها . وقد أفاض اللَّه عليه من فيض علمه ما لا أوّل له ولا آخر “ . 

( 2946 ) الغول من الكائنات الخرافية ، التي تذكر الأساطير العربية أنها كانت تعترض سبيل المسافرين في البيداء ، وتضلّهم عن الطريق . 
يقول المسعودي : “ ويزعمون أن رجليها رجلا عنز ، وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون :
يا رجل عنز انهقي نهيقا * لن نترك السبسب والطريقا 
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنها إنسان فيتبعونها ، فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها ، وتتيههم . 
وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه ، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القصد . وكانت العرب قبل الإسلام تزعم أن الغيلان توقد

“ 583 “

بالليل النيران للعبث والتحبّل ، واختلال السابلة . . “ ( مروج الذهب ، ج 2 ، ص 155 ، 157 ) . 
والغول في هذا البيت ، والبيت الذي يليه رمز لشهوات الحسّ التي تضلّ الروح ، وتنحرف بها عن قصد السبيل . 

( 2950 ) اعتبر بمن اتبعوا شهوات الحس فهلكوا ، ولا تسلم نفسك لشهواتك ورغابك الحسيّة ، حتى لا تقودك إلى ذات السبيل التي سلكها هؤلاء الهالكون “ . 

( 2951 ) قوله : “ بل أمسك برقبة حمارك “ ، معناه “ سيطر على جسدك ، ولا تسلم قيادك لشهواتك الحسيّة “ . 

( 2954 ) يستخدم الحمار هنا رمزاً للنفس الحسيّة ، التي تعشق اللذات ، وتندفع وراء الشهوات . 

( 2955 ) إذا لم تكن من العارفين المدركين لطريق الروح ، فافعل عكس ما تطلبه نفسك الحسية ، وإذ ذاك تكون ممن لزموا قصد السبيل “ . 

( 2956 ) يشير في هذا البيت إلى حديث الرسول المتعلق بمشاورة النساء ، وفيه يقول : “ شاوروهن وخالفوهن “ . وفي قصة الأعرابي وزوجه جعل الشاعر المرأة رمزاً للنفس الحسيّة . فكأن الشاعر يدعو إلى مشاورة النفس ، مع عدم الالتزام بما تشير به . وقوله هذا يحمل ذات المعنى الذي يرمز إليه قوله : “ فافعل عكس ما يريده الحمار “ . حيث اتخذ الحمار رمزاً للنفس الحسيّة . ( انظر التعليق على البيت 2955 ) . 

( 2957 ) قال تعالى :” يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ “. ( سورة ص ، 38 : 26 ) . 

( 2967 ) العدّو الذي يعاند في الخفاء “ هو النفس الحسيّة التي تصرف

“ 584 “

الإنسان عن سبيل الروح . 
( 2969 )  قصة موسى مع الخضر وردت في تفسير آيات من القرآن الكريم ( سورة الكهف ، 18 : 65 - 82 ) . 

والخضر لم يذكر بالاسم في هذه الآيات ، لكنه ذكر في التفسير ، حيث قيل إنه هو العبد المقصود من قوله تعالى :” فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً “. ( 18 : 65 ) وقد ذكر الثعلبي قصة موسى مع الخضر بكثير من التفصيل . ( قصص الأنبياء ، ص 238 - 253 ) . 

( 2971 ) من العجائب التي صنعها الخضر أمام موسى أنه خرق إحدى السفن وقتل غلاماً . وكان ذلك لحكم خفيت على موسى فأخذ يسائله ويحاوره ، ولم يصبر - كما أمره الخضر - عن السؤال والاستفسار ، مما جعل الخضر يبوح له بتأويل أفعاله ثم يفارقه . 
قال تعالى :” فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ، قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً “. 
( 18 : 71 - 75 ) . 

( 2973 ) الطفل هنا رمز للمريد المبتدىء ، الذي يكون خاضعاً لغرائزه كالأطفال . والمرشد يعمل على تخليصه من الأهواء ، فيقتل في المريد نزوات الجسد وأهواءه ، ويجيي بذلك روحه . وحياة الروح هي الحياة الخالدة . 

( 2974 ) من لم يتعلم من المرشد تعلماً مباشراً ، وإنما يجتهد وحده في سلوك سبيل الروح ، قد يصل إلى غايته بعون المرشدين ، الذين يمثلون القدوة . وهؤلاء يتوجون بقلوبهم إلى اللَّه ليسدّد خطى البشرية ، وبدعائهم يتحقق الهدى للساعين إليه .

“ 585 “

( 2976 ) “ إذا كان المرشدون يمتدّ أثرهم على هذا النحو إلى من لم يرتبطوا بهم ويأخذوا عنهم ، فما بذلك بمن لزموهم ، واختاروا الخضوع لإرشادهم وتعليمهم ؟ “ . 

( 2978 ) “ وأين من يكون بعيداً عنهم منهم ظفر بالقرب منهم ، ومثل بخدمتهم ؟ “ . 

( 2980 ) من أجل بلوغ حالة الصفاء الروحي يجب أن يكون المريد قوي التحمل ، لا ترهقه الآلام الحسية . فالمريد كالمرآة ، وهذه لا تبلغ حالة الصفاء إلا بعد أن يتلقى حديدها كثيراً من ضربات المطارق . وقد ذكر الشاعر بعد هذا البيت قصة تحت على الجلد ، وتدعوا إلى تحمل الآلام في سبيل الهدف المنشود .

[ شرح من بيت 3000 إلى 3150 ] 
( 3009 ) “ علم التوحيد “ يطلق على الدراسات التي تتعلق بذات اللَّه وصفاته ، وما يرتبط بها من الموضوعات . ويسمى هذا العلم أيضاً “ علم الكلام “ . والصوفية لا يميلون إلى هذا النوع من البحث الذي يثيره المتكلمون . والشاعر هنا يقول : إن علم التوحيد ينبغي أن يكون هو العلم الذي يبيّن للإنسان كيف يفني ذاته أمام خالقه . 

( 3012 ) قول الشاعر : “ وما كل هذا الخراب . . . “ معناه : “ وما كل هذا الضلال والخطأ إلا من تأكيد الإنسان لذاته وجوداً منفصلًا عن خالقه “ . والقصة التي تلي هذا البيت تبيّن - بأسلوب رمزي - وخامة الاعتداد بالذات والأنالية أمام الخالق . 

.

* * *
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: