الأربعاء، 5 أغسطس 2020

16 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 514 - 841 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

16 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 514 - 841 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

16 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 514 - 841 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

 شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 514 - 841 .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي

شرح كيف باع الصوفية بهيمة المسافر ليقيموا بثمنها مجلسا للسماع




( 514 ) يبدأ الشاعر هنا حكاية أخرى عن آفات التقليد . وأسلوب الشاعر في هذه الحكاية بعيد كل البعد عن الوعظ والتعليم ، فهي تنطوى على صور رائعة لحياة الخانقاه ، وسلوك أدعياء التصوف . والشاعر هنا ، وفي كل موقف مشابه ، يكشف عن قدرته التصويرية الرائعة ، التي تشغل الحواس والخيال بالألوان والظلال والأصوات والروائح في وقت واحد ، وتشتق من الحياة صورا معبرة مؤثرة ترقى إلى أرفع المستويات الفينة . ويقترن هذا كله بأسلوب ساخر ممتع .
( 517 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ كاد الفقر أن يكون كفرا “ .
( 533 - 534 ) يحرص الشاعر على أن يميز بين الصوفية العارفين ، وبين المرتزقة من أدعياء التصوف .
( 544 ) “ قول الخادم : “ انظر إلى لحيتك “ ، تعبير ساخر ، معناه :
“ لا تكن أحمق ، وتصرف بحكمة تناسب لحيتك “ .
( 548 ) يرى صاحب المنهج القوى أن هذا البيت يشير إلى الحديث الذي يروى عن الرسول قوله : “ الآخذ ضامن والزعيم غارم “ .
( 555 ) “ لو أنك أخبرتني بما جرى لا بتعت الحمار ممن قد اشتراه ،


 
“ 442 “
 
أو حصلت على ثمنه قبل أن يقتسمه الصوفية “ .
( 564 ) إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : “ لا أحب الآفلين “ ( 6 : 76 ) . و “ الآفلون “ في البيت هم المسخرون للنفس الأمارة بالسوء ، وهي آفلة لأنها ليست بذات بقاء .
( 567 ) تقليد المريد للمرشد العارف هو أول مراحل التحقيق .
( 572 ) لو أن المرآة أصيبت بالطمع لما أظهرت حقيقة الحال ، ولصارت منافقة كالناس . وهكذا القلب الانساني ، إذا دخله الطمع ، لم تبق له قدرة على الادراك الصحيح . وينطبق هذا أيضا على العقل الذي يصرفه الحرص عن سلامة التفكير .
( 574 ) حكى القرآن الكريم عن الأنبياء ما يفيد هذا المعنى . انظر ( 6 : 90 ) ، ( 11 : 51 ) ، ( 26 : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180 ) ، ( 42 : 23 ) .
( 576 ) يروى أن أبا بكر أنفق أربعين ألف درهم على الدعوة المحدية. وقيل إنه أنفق أربعين ألف دينار. (انظر تعليق نيكولسون على هذا البيت). 
وقد أورد فروزانفر مصادر متعددة لهذا الخبر منها طبقات ابن سعد ، وقد جاء فيه قوله : “ كان أبو بكر معروفا بالتجارة .
لقد بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم ، فكان ينفق منها ويقوى المسلمين ، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف درهم ، ثم كان يفعل فيها ما كان يفعل بمكة “ . ( انظر : مآخذ قصص ، 52 ) .
( 577 ) الأخر المادي لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الجزاء الروحي ، ولا مجال لأن يقاس هذا بذاك .
( 578 ) الحكاية التي يشير إليها الشاعر هي حكاية “ القاضي والمفلس “ التي تبدأ روايتها بعد أبيات قليلة . وقد أوردها الشاعر ليبين أن الطمع يحجب الأذن عن استماع الحقائق .
( 583 ) الصوفي الذي فقد حماره كان بعيدا عن نشوة الشهود ،
 
“ 443 “
 
لتعلقه بلذات الحس ، واندفاعه وراءها . ولولا الحرص الذي أعماه لكان بوسع الخادم أن ينبهه إلى فقد حماره .
( 585 ) ذكر فروزانفر أصلا بسيطا للقصة التي تبدأ روايتها في هذا البيت وقد ورد هذا الأصل في محاضرات الراغب ( ج 1 ، ص 297 ) .
يقول : “ وفلس القاضي رجلا فاركبه حمارا فطوف به ، ونودي عليه أن لا يبايع فإنه مفلس ، فلما أنزل قال له صاحب الحمار . هات الكراء فقال له : فيم كنا من أول النهار يا أبله “ . كما أورد فروزانفر صورة أخرى لهذه القصة مأخوذة من كتاب “ أخبار الظرفاء والمتماجنين “ لا بن الجوزي ( انظر : مآخذ قصص ، ص 52 ) .
وهذه الحكاية البسيطة لا تكاد ترتبط بعمل جلال الدين الا ارتباط البذرة الصغيرة بالدوحة الباسقة .


( 586 ) “ جبل قاف “ - في الأساطير الفارسية - هو أعظم جبال الأرض . انظر تعليقنا على البيت 54 .
( 588 ) كل من جرم من الرضى والقناعة وغنى الروح ، بقي حريصا على متاع الدنيا حرص المتسول ، حتى ولو تحقق له ثراء السلاطين .
( 590 - 591 ) حياة الدنيا لا يمكن أن تخلو من الآفات ، والانسان في كل جانب من جوانبها عرضة للعدوان والأذى .
( 592 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر “ . فهذا السجن الذي فرض على المؤمن يتقاضاه أجرا ويفرض عليه تكاليف .


( 594 ) بعد أن تحدث الشاعر عن متاعب الدنيا ، انتقل إلى الحديث عن موقف الانسان ازاءها . فهو يقول في هذا البيت ان الانسان يستطيع بجميل الخيال أن يجمل الحياة .
( 595 ) الخيال السىء والأوهام القبيحة تقضى على الانسان .

 
“ 444 “
 
[ شرح من بيت 600 إلى بيت 750 ]
( 600 - 601 ) في البيتين إشارة إلى حديث يروى عن الرسول قوله : “الصبر رأس الايمان“ ، وكذلك قوله : “من لا صبر له فلا ايمان له“.
( 603 - 605 ) يبين الشاعر هنا أن الهوى يلون الحكم على الأشخاص ، فعين الرضى يخفى عليها عيب الانسان وعين السخط تبدى مساوئه . ويعجب الشاعر من هذا ، فيقول ان مثل هذا الشخص الذي تتناقض حوله الآراء يكون حينا سمكة وحينا شصا ، أو يكون نصفه مؤمنا ونصفه كافرا ، لو كان لنا أن نصدق هذه الآراء المتناقضة .
( 606 ) يبين الشاعر خطأ الناس في أحكامهم المتناقضة على الفرد الواحد ، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى : “ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، والله بما تعملون بصير “ ( 64 : 2 ) . فالمرء لا يكون كافرا ومؤمنا في الوقت ذاته .
( 609 ) من الأمثلة الدالة على خطأ النفس الساخطة في الحكم على الأفراد ما لقيه يوسف من كره اخوته وسوء فعلهم . فسخط نفوسهم عليه جعله يبدو قبيحا في أعينهم .
( 610 - 611 ) ينتهى الشاعر هنا إلى النتيجة التي مهد للوصول إليها ، وهي أن الخيال القبيح يضل عن العقل ، وهذه بدورها تضل عين الحس .
( 612 - 613 ) الانسان - في ظاهره - يبدو حسيا مقيدا بالمكان ، ولكنه بأصله الروحي ينتمى إلى اللامكان . فلو أنه تخلص من سلطان الحس ، فُحتت أمامه عوالم الروح الفساح . ان عليه أن يتخلص من هذا العالم الحسي لأنه يفرض عليه موقعا سيئا ، يجعل الهزيمة حتما عليه .
وقوله : “ العالم ذو الجهات الست “ يقصد به العالم الحسى المقيد بجهات ست هي : اليمين والشمال والأمام والوراء ، والفوقية والتحتية .

“ 445 “
 
ويشبه الشاعر جهات العالم الست بالأقسام الستة فوق لوحة النرد .
( 620 ) في القرآن الكريم آيات كثيرة ورد بها فعل الأمر “ كلوا “ .
انظر مثلا : ( 2 : 57 ، 58 ) ، ( 5 : 88 ) . والشاعر يسخر من هذا النهم الأكول الذي أراد أن يصور الشره على أنه طاعة لأمر الهى .


( 634 ) الشيطان يهدد ويغرى ، يهد الناس بالفاقة ، فليتزمون البخل ، ويغريهم بلذات الحياة فيوقعهم في المعاصي .
( 635 ) الايمان في “ سجن “ الدنيا قليل . ومع قلته فهو مهدد بعدوان الشيطان .
( 638 - 639 ) يروى عن الرسول حديث نصه : “ الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم “ .
( 640 ) إذا لم يظهر الشيطان في صورة مجسدة ، هي أحد مواقف الاغراء ظهر في الخيال .
( 641 ) لا يقتصر اغراء الشيطان على اللهو ، بل هو يغرى بالربح في التجارة ، واتخاذ العلم سبيلا إلى التظاهر وتحقيق المغانم المادية ، وكذلك بامتلاك الدور والقصور .


( 679 ) ان في الغيب صورا كثيرة لكن عين الحسن لا تبصرها ، وفي الغيب أيضا أصداء كثيرة ، لكن أذن الحس لا تسمعها .
( 680 ) الله وحده هو القادر على أن يفتح العين على ما يشاء من مشاهد الجمال والكمال .
( 684 ) الحديث الذي أشار اليه الشاعر يروى عن الرسول قوله : “ ان الله خلق لكل داء دواء “ .


( 686 ) لعل في البيت إشارة إلى الحديث الذي يروى عن الرسول قوله : “ ان الروح إذا قبض تبعه البصر “ .
( 688 ) يراد بالعدم هنا الوجود غير المادي .
( 689 ) ان العالم الروحي ، ( العالم الذي تنعدم فيه المحسوسات ) ،
 
“ 446 “
 
هو المكان الذي يتحقق للانسان فيه الربح الكامل . ذلك لأن حياته فيه أبدية ، وسعادته خالدة ، أما هذا الوجود المادي فهو مكان الانفاق ، ينفق الانسان فيه أيام حياته فيما لا يجدى ، ويضيع فيه ألوانا من السعادة الروحية ، تحول المادة بينه وبين تحقيقها .
( 690 ) “ العدم مقر مصنع الحق “ يعنى أن الله يخلق كل شئ من العدم .
( 692 ) “ فالدعاء منك والاستجابة أيضا منك “ ، يعنى “ أن الله يلهم الروح الدعاء المستجاب حينما تصبح إرادة الانسان منبثقة من إرادة الخالق “ .
( 698 - 701 ) الشاعر يتحدث في هذه الأبيات عن الصوفية العارفين ، الذين تحرروا من سلطان العالم المادي ، ونجوا من مغرياته ، وأصبح الحس بألوانه لا يغريهم ، بل قنعوا بما وراء الحس ، وعاشوا في هذه الدنيا وأعينهم وقلوبهم متعلقة بعالم الروح .
( 702 - 703 ) كل تعشق للصور الحسية يحجب بصيرة الروح ، ويصرف الانسان عن حب ما يبقى إلى حب مظاهر براقة لا بقاء لها .
( 704 ) العشق الجسدي لا بقاء له . ولو كان له بقاء حقيقي فلماذا يتخلى العاشق عن معشوقه إذا فارقته الروح ؟
( 705 ) الجسد يبقى على صورته المحسوسة بعد أن تفارقه الروح .
فلماذا ينصرف محبه عن التعلق به ؟ ان هذا مدعاة لأن يفكر الانسان في المعشوق الحق ، الذي لا يعتريه من التغير ما يصرف عنه القلوب .
( 706 ) لو كان المعشوق هو الجسد المحسوس ، لبقى حس العاشق متعلقا به ، وان فارقت الروح هذا الجسد .
( 707 ) من طبيعة العشق أنه يزيد الوفاء . فأين الوفاء لجسد المحبوب إذا فارقته الروح ؟ ان الوفاء حينذاك يتخذ صورة أخرى .


 
“ 447 “
 
( 708 ) ان العاشق الصوري ينخدع بالجسد حين يكون حيا بالروح ، ويغفل عن حقيقة حياة الجسد ، وما الجسد الا كجدار أشرق عليه نور الشمس ، فالنور من الشمس لا من الجدار ، والحياة من الروح لا من الجسد .
( 709 ) الافتتان بالجسد الحي كالافتتان بالنور المشرق فوق جدار .
فالجسد سرعان ما تفارقه الروح ، والجدار سرعان ما يزول عنه النور .
فالأولى بالانسان أن يتعلق بمصدر الحياة ، الذي يبث الحياة في جميع الاحياء ، كما تنشر الشمس نورها فوق كل مكان .
( 710 ) المفتون بالعقل الانساني وقدراته ، مضلل كالمفتون بالحس سواء بسواء ذلك لأن قدرة العقل الانساني محدودة .
( 711 ) النور المشرق على الحس قبس مستعار من نور العقل الكلى .
فهذا النور قد استضاءت له الحواس بصورة وقتية ، فأصابت به بعض الادراك ، وما اشراق هذا النور فوق الحواس الا كالتماع قشرة التذهيب فوق النحاس .
( 712 ) وهكذا يكون جمال الجسد بريقا مؤقتا كبريق قشرة التذهيب ، وسرعان ما يزول هذا البريق . وان لم يكن الحال كذلك ، فلماذا تغدو المرأة الفانية قبيحة كالحمار الهرم عندما تبلغ الشيخوخة ؟
( 715 ) الجسم ينحل بطول البقاء ، على حين أن الروح خالدة ، لا تتأثر بالزمان . فعلى الانسان أن يتعلق بالقلب ، ويتخلى عن التعلق بكيان قوامه العظام البالية .
( 717 ) عندما يتحرر الانسان من ذاته يصبح هو الساقي والشارب والنشوة ، ذلك لأن ذاته - بعد فنائها في الذات الإلهية - لا يبقى لها وجود منفصل ، كانفصال الشارب عن الساقي ، أو انفصال طبيعة الاحساس بالنشوة عن تقديم الشراب أو ارتشافه .
( 718 ) ادراك مثل هذه الوحدة لا يمكن تحقيقه بالجدل والقياس ؛

 
 “ 448 “
 
فلا سبيل اليه الا بالطاعة الكاملة والخضوع المطلق .
( 719 ) ان المتعلقين بالمجادلات والقياسات العقلية يحسبونها جوهر الحقيقة ، وما هذه الا صور ظاهرية براقة . انها كالقافية في الشعر ، تروق يرنينها ، لكنها لا تعبر عن جوهر المعنى .
( 720 - 721 ) المعنى الحقيقي لو تجلى لروح الانسان ، لم تبق له حاجة إلى الصور . والمراد بالصور هنا ألوان المناقشات والمجادلات التي يتعلق بظاهرها الحسيون والعقليون . فهذه المعارف هي التي تجعل الانسان حائرا حيرة الأعمى والأصم ، وتصرفه إلى ظاهر العبارات ، وليست هي جوهر الحقيقة ، فهذه لو تجلت للروح ، زالت حاجة الانسان إلى كل هذه المعارف الحسية والعقلية .
( 722 ) ان الحسى كالأعمى ، يتخبط على غير هدى ، في البحث عن الحقيقة ، وحظه من ادراكها كحظ الأعمى من ادراك المبصرات : كل ما يناله منها هو ما يحمله اليه خياله الضيق . أما صاحب البصيرة الروحية فهو كالعين المبصرة ، تكشفت له حقائق العرفان بعد أن تحرر من سلطان ذاته الحسية .
( 723 ) يدافع الشاعر هنا عن طريقة الصوفية في تفسير القرآن . فهم ينشدون المعنى الباطني للآيات . ويقول الشاعر ان الجاهل هو الذي يقف به الفهم عند حروف القرآن ، ويحسب أنها جوهر الكتاب الكريم . ومثل هذا شبيه بمن أخطأ رؤية حماره ، وأخذ يسوق سرجه .
( 724 - 725 ) من أحاط بالجوهر ظفر بالعرض أيضا . أما من ركز اهتمامه في للأعراض . فلا سبيل له إلى الجوهر .
( 726 ) الحمار في البيت رمز للجوهر ، والسرج رمز للأعراض . فظهر الحمار هو الذي يجلب الربح ، وليس السرج الذي يوضع فوق ظهر الحمار . والروح هي التي تمثل القيمة الحقيقة للانسان ، وليس الجسد الذي يكبلها بالقيود ، كما يثقل السرج ظهر الحمار .



 
“ 449 “
 
( 727 - 728 ) لا يزال الشاعر يستخدم “ الحمار “ هنا بصورة رمزية ، وهي أنه جوهر بالقياس إلى السرج . وقوله ان الرسول امتطى حمارا عارى الظهر ، كناية عن سلوكه سبيل الروح وابتعاده عما يكلبها من علائق المادة . وقوله “ انه أيضا قد سافر ماشيا “ كناية عن تجرد روحه من سلطان الجسد بصورة كاملة ، فكأنما كان روحا يسعى بين الناس .
( 729 ) ترك الشاعر هنا استخدام “ الحمار “ في المعنى الرمزى الذي أشرنا اليه من قبل ( 727 - 728 ) ، ونظر اليه من زاوية أخرى ، وهي أنه ذلك الحيوان الذي يسعى وراء حاجات الجسد ، فشبه به النفس الأمارة بالسوء في تمسكها بالحس ولذاته .
( 730 ) على النفس أن تحمل أعباه الصبر والشكر ، مهما طال بها الزمن ، لعلها تتخلص من قيود الحس ونزعاته .
( 731 ) كل نفس مسؤولة عن حمل أعبائها ، فلن تحملها عنها سواها .
وكل نفس سوف تلقى من الجزاء ما يكافىء جهدها ، فلا سبيل إلى الحصاد الا الزراعة .
( 732 - 734 ) في هذه الأبيات دعوة صريحة إلى العمل والجد وبذل الجهد ، ولا تقصر هذه الدعوة على الجهاد الروحي ، بل تمتد إلى الجهاد العملي في هذه الحياة الدنيا . فالأبيات تنتقد التواكل ، والركون إلى الحظ ، وتنادى بوجوب الكسب ما دام الجسم قادرا ، وتدعو إلى العمل وتصفه بأنه هو السبيل إلى الكنز الذي يحلم المتواكلون بالعثور عليه .
وهذا المعنى العملي ينطبق أيضا على جهاد الروح . فلا سبيل إلى المعرفة بدون الصبر والشكر ومجاهدة النفس ، فهي الكنز الذي يظفر به الصوفي لقاء سعيه المتواصل .


 
“ 450 “
 
( 737 ) يذكر شراح المثنوى في تفسير هذا البيت حديثا يروى عن الرسول قوله : “ إياكم وكلمة ( لو ) فإنها من كلام المنافقين “ .
( 738 ) في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكون من الصالحين “ . ( سورة المنافقون ، 63 : 10 ) .
( 739 - 743 ) إن كلمة “ لو “ شبيهة بالمنزل الخراب . فهذه الكملة لا تصلح لأن تكون محورا للفكر المستقيم ، كما أن المنزل الخراب لا يصلح للسكنى . 
والحياة الدنيا شبيهة بالمنزل الخراب ، والناس يبحثون فيها عن السعادة فلا يجدونها ، فتواجههم دائما كلمة “ لو “ .

ولو عرفوا السعادة الحقيقة ، لأدركوا أن ما يشقون من أجله في الدنيا ليس هو السعادة الحق ، ولكان بوسعهم أن يميزوا بين الأصيل والزائف ، وإذا ذاك لا يشقون بامتناع السعادة ، لا متناع أسبابها .
( 744 ) الناس جميعا يبحثون عن السعادة بدون أن يدركوا حقيقة جوهرها .
( 745 ) لقد اختلطت القيم أمام الناس وظهرت كلها براقة أمام أعينهم . ومن هذه ما هو صحيح ومنها ما هو زائف . والانسان في حاجة إلى محك صادق للتميز بينها ، كما يُميز الذهب الخالص من الزائف .
( 746 ) إذا كان الانسان قد تحققت له القدرة الذاتية على التمييز ، فليمض في اختياره ، والا فان عليه أن يلتمس مرشدا يهديه .
( 747 ) المحك الصادق هو الذي ينبثق من الادراك الروحي . فمن لم يكن لديه مثل هذا المحك فلا بد له من مرشد صادق ، يقيه أخطار الطريق .
( 748 ) “ الغيلان “ هنا رمز للمغريات والشهوات . وصوتها يكون “ مألوفا “ لأنه ينبثق من الكيان الحسى للانسان . وهذه الألفة ذاتها هي التي تقود الانسان إلى الدمار .


 
“ 451 “
 
( 749 ) ان الشهوات الدنيوية تنادى الانسان بصوتها المغرى ليتبع سبيلها المهلك ، كما تفعل الغول حين تدعو المسافرين في الصحراء إلى اتباع سبيل الضلال والهلاك .


[ شرح من بيت 750 إلى بيت 900 ]
( 750 ) قول الشاعر : “ ان الغول ينادى كل شخص باسمه “ ، يعنى :
أن كل انسان يتلقى النداء الذي يؤثر فيه ، فمحب المال يُغرى بالمال ومحب الجاه يغرى به وهكذا .
( 751 ) في البيت صورة فنية رائعة ، تمثل نتيجة الاستجابة الداعي الهوى والشهوة . ان ذئاب الشهوات وأسودها تحيط به ، ويكون قد ابتعد عن طريق النجاة ، ولم يبق من العمر ما يتسع لا يجاد مخرج أو خلاص .
( 752 ) كشف الشاعر في هذا البيت عما كان يرمز اليه بصوت الغول ، فذكر أنه نداء الحرص على المال والجاه والرونق .
( 755 ) “ لتكن قادرا على تمييز الحقيقة من الأوهام ، فسعادة الدنيا شبيهة بالفجر الكاذب ، أما سعادة الروح فهي الفجر الصادق “ .
( 756 ) الصبر والمثابرة على التأمل الروحي ، والاخلاص القلبي في التعبد وجهاد النفس قد تتيح للعينين بصرا روحيا ، يختلف عن ابصارهما الحسى . ووصفه العينين بأنهما “ تبصران الألوان السبعة “ كناية عن تعلقهما بشتى ألوان العالم المادي التي يشبهها الشاعر بألوان الطيف .
( 757 ) الابصار الروحي يختلف عن الابصار الحسى ، فابصار الروح يقع على الحقائق الجوهرية ، على حين أن ابصار الحس يقف عند المظاهر الصورية .
( 759 ) ان العدم ( عالم الفناء المطلق ) هو مصنع الحق ، ولا سبيل للانسان إلى رؤية الحق الا إذا دخل في هذا العالم . ويتحقق له هذا بنفي الذات الانسانية .
( 760 ) هذه المخلوقات المتعددة ، والمظاهر المتنوعة ، تحجب العيون


 
 “ 452 “
 
عن مشاهدة الصانع ، أي أنها تشغل العيون بتعددها وتنوعها ، فتقف حجابا بينها وبين شهود خالقها . ولهذا فالعدم ( عالم النفي ) هو وحده مكان شهود الخالق .
( 762 - 763 ) عالم الامكان هو الذي يظهر قدرة الخالق وروعة صنعة بأجلى صورة ، فهو دائم الخلق ، يصنع من العدم وجودا ، فمن دخل في “ العدم “ شهد روعة الصنع .
( 764 ) “ فرعون “ رمز للانسان الحسى ، الذي لا يؤمن بقدرة وراء عالم الحس . لقد كن مغرورا بملكه وقوته ، وغفل عن قدرة الله الخالقة ، فأمر بقتل الذكور من بني إسرائيل ، حتى لا يظهر من بينهم من يقوى على أن يزيل ملكه .
( 770 ) لو كان فرعون مدركا لقدرة الله التي لا نهاية لا مكاناتها ، لجمدت يداه وساقاه عن ارتكاب مظالم ما كانت لتجديه نفعا .
( 774 ) الانسان الحسىّ يتصور أن له عدوا خارج كيانه ، فيجهد نفسه في البحث عنه ، مع أن ألد أعدائه نفسه التي بين جنبيه . وهكذا كان فرعون يبحث عن عدوه في كل مكان ، على حين أن العدو الحقيقي “ موسى “ كان ينعم بالسلامة في منزل فرعون .
( 776 - 785 ) يروى الشاعر حكاية رجل قتل أمه لأنها قد ارتكبت الزنى فلما عوتب لا رتكابه تلك الفعلة ، وذكر بأنه كان أولى به أن يقتل شريكها في الزنى قال : “ كان على اذن أن أقتل كل يوم رجلا ! “ وهذه القصة قد رويت لتصوير النفس الحسية ، وما ينبثق عنها من شرور . فهي تدفع الانسان إلى العدوان ، الجرم ، ولا سبيل إلى التخلص من شرها الا بقتلها ، وإذ ذاك يتحقق للانسان الأمن والسلام والسكينة ، ويسود بين الناس الوئام .
( 786 - 801 ) يجيب الشاعر في هذه الأبيات عن شبهة قد تثور في نفس القارئ حول الأنبياء والأولياء ، وطبيعة صلتهم بالناس .



 
“ 453 “
 
فألانبياء والأولياء قد قتلوا نفوسهم الحسية ، فلماذا لم يتحقق السلام بينهم وبين الناس .
ويجيب الشاعر على هذه الشبهة بأن هؤلاء الناس الذين عادوا الأنبياء ، كانوا في حقيقة الأمر أعداء لا نفسهم .
فالخفاش الذي يكره الشمس ليس عدوا لها ، لكنه غير قادر على ابصار نورها ، على حين أن الشمس ذاتها لا تتحمل منه عناء . وجميع الكافرين حجبوا أنفسهم عن الشعاع الذي فاض من جوهر الأنبياء .
فالكفار الذين عادوا الأنبياء مثلهم كمثل المرضى يعادون الطبيب ، أو الصبيان يعادون المعلم .
( 790 ) لم يكن كفر الكافرين مضرا بالأنبياء ، لكنّ ضرر ذلك وقع على الكفار أنفسهم .
( 802 ) “ ان كنت قد خلقت قبيحا فلا تزدد قبحا بحسدك سواك “ .
وقد بدأ الشاعر هنا ينتقل إلى الحديث عن الحسد ، وهو خليقة مرتبطة بحقد الكفار على الأنبياء .
( 803 ) هذا البيت قد فسر تفسيرات غربية لا أرى داعيا لها .
( أنظر أمثلة منها في تعليقات نيكولسون ) . وأعتقد أن الشاعر يريد بهذا البيت أن الانسان إذا كان محروما من احدى النعم ، فعليه ألا يضيف إلى الحرمان ما هو أقسى منه ، ألا وهو الاحساس بالحسد . وإذا كان الانسان موزع الخاطر بين أمرين ، فعليه ألا يزيد الأمر سوءا ، ويصبح مشنتتا بين أربعة أمور متعاكسة .
( 804 - 805 ) انتقل الشاعر من الرمز للحسد إلى الحديث عنه بصريح العبارة ، وذكر أنه أسوأ من جميع النقائص . فالحاسد الذي يستشعر التخلف عن سواه ، يوقعه الحسد في شر النقائص .
( 811 - 813 ) ان بعث الرسل يكشف عما كمن في نفوس الناس من الحسد . فالناس لا يستنكرون الخضوع للخالق ، وليس منهم من هو


 
“ 454 “
 
حاسد لله ، لكنهم يحسدون الرسول إذ يحسبونه بشرا شبيها بهم .
( 815 ) ليس يخلو أي زمن من ولى قائم ، ويكون ظهورة امتحانا للخلق ، يكشف عن كامل الحسد في نفوسهم .
( 817 ) الإمام الحق وهو الولي . ولا عبرة بالنسب في استحقاق مثل هذه الإمامة ، ذلك لأنها مبنية على صفاء الروح والتقوى .
( 818 ) مثل هذا الامام هو المهدى والهادي ، وقد يكون بين الناس ، أو بالقرب منهم ، ومع ذلك تخفى عليهم حقيقته . وهذا وصف القطب الأكبر ، الذي اعتقد الصوفية أنه امام الزمان .
( 819 ) هذا القطب الأكبر يستمد من الله نور العرفان .
أما الولي الذي هو أدنى درجة فيستمد النور من عقل القطب ، فالقطب يحمل العرفان إلى تابعه المباشر ، كما حمل جبريل رسالة السماء إلى الرسل . والأولياء الذين يجيئون في المرتبة بعد القطب الأكبر هم الأبدال . ويقال إن عدد هؤلاء سبعة .
( 820 ) هناك بعد الأبدال أولياء آخرون هم أقل مرتبة من الأبدال ، ودرجتهم في النور أقل من درجة هؤلاء ، فنورهم كالمشكاة ، ونور الأبدال كالقنديل .
( 821 - 826 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ ان الله سبعمائة حجاب من نور وظلمة “ . فكأنما كل ولىّ - على مقتضى درجته - ينتمى إلى طبقة من طباق هذا النور .
وقد أورد الغزالي هذا الحديث في “ مشكاة الأنوار “ على النحو التالي : “ ان الله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره “ . يقول : وفي بعض الروايات سبعمائة ، وفي بعضها سبعين ألفا . ( ص 84 ) . 
وقد شرح الغزالي معنى هذا الحديث في الفصل الثالث من “ المشكاة “ ، وعنده أن الأعداد “ سبعمائة “ أو “ سبعين ألفا “ وردت على سبيل التكثير لا على سبيل الحصر . وقد



 
“ 455 “
 
حاول أن يذكر أصناف المحجوبين على سبيل المثال لا الحصر وانتهى إلى قوله : “ فإنهم انما يحجبون بصفاتهم البشرية ، أو بالحس ، أو بالخيال ، أو بمقايسة العقل ، أو بالنور المحض “ . ( ص 93 ) .
وذكر عبد الرحمن الأنصاري هذا الحديث ، ثم علق عليه بقوله :
“ أما الحجب فقد ثبت بالبراهين أن الحق تعالى لا يسره حجاب ، وانما الذي حجبه عن خلقه شدة ظهوره ، وعجز الخلق عن رؤيته لقوة نوره “ .
( مشارق أنوار القلوب ص 125 ) .
( 852 ) النور الذي يطيقه القطب وينعم به ، لا يكون في وسع صاحب الحس الأحول أن يقترب منه .
( 826 ) “ إذا تجاوز المرء الأستار السبعمائة فنى في بحر الوحدة “ .
( 827 - 839 ) كل انسان يأخذ من النور على قدر طاقته الروحية .
وفي هذه الأبيات أمثلة متعددة يصور الشاعر بها هذا المعنى . فالحديد يحتاج في صياغته إلى لهب قوىّ ، على حين أن التفاح أو السفرجل يطبخ بلهب لطيف ، وهكذا .
( 829 ) “ التنين “ رمز للنار القوية المستعرة .
( 836 ) القطب الأكبر بمثابة القلب ، والعالم بمثابة الجسد ، وتدبير العالم بحكمة منوط بالقطب ، كما أن تدبير الجسد منوط بالقلب .
( 839 ) قلب العارف هو المعدن الصافي ، وأما قلوب العامة فكدرة شبيهة بالأجساد .
( 841 ) “ قد يسئ العوام فهم ما نقول ، فتصبح محاسننا مثالب في نظر هؤلاء ، برغم أن كل قولنا صادر عن تجرد من الهوى “ .
.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: