الأربعاء، 5 أغسطس 2020

17 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 841 - 1283 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

17 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 841 - 1283 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

17 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 841 - 1283 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح كيف امتحن الملك هذين الغلامين
( 841 ) “ قد يسئ العوام فهم ما نقول ، فتصبح محاسننا مثالب في نظر هؤلاء ، برغم أن كل قولنا صادر عن تجرد من الهوى “ .
( 842 ) من كان معرضا عن الذوق الصوفي فخير له ألا يدعى إلى ذلك ، فتلك دعوة لا تلائمه ، ومن الأفضل أن يبقى خارج نطاقها . فهو

 
 “ 456 “
 
في معرفة الروح فقير متسول ، ولامكان له في محفل أصحاب القلوب .
( 848 ) قد يُعثر في الخرائب على كنز ويكون إلى جانبه ثعبان . وقد استعار الشاعر هذه الصورة للانسان الذي يكون قوى الروح نقى الفؤاد ، ومع ذلك لا يخلو من بعض نزعات الحس . فالكنز هو العرفان الروحي ، والثعبان هو نزعات الحس .
( 853 ) عندما يصبح نور القرآن هو نور البصيرة الانسانية ، يكون لدى الانسان الجواب عن كل ما يثور في نفسه من شبهات .

( 854 ) إذا لم يتحقق للعين سداد النظر نور القرآن الكريم ، فهي عين حولاء ، ثنائية الشهود ، أسيرة الشبهات .
( 856 ) “ الفكر شعاع ذلك الجوهر “ يعنى أن الفكر شعاع من نور القرآن الكريم .
( 857 ) بعد دعوة الفكر إلى التأمل والمشاهدة ، يسفه الشاعر هنا المعارف النقلية التي يُعتمد في تلقيها على السماع .
( 858 ) “ ليست المعرفة الروحية المبنية على العيان والمشاهدة كالمعرفة النقلية ، فهذه تبدو سوقية ، إذا قوربت بعرفان أهل الوصال “ .
( 859 ) المعرفة النقلية محدودة الأثر . انها قد تؤدى إلى تبديل في صفات متلقيها ، أما تبديل الذات من حال إلى حال ، فلا سبيل اليه الا بالشهود والعيان .

( 862 ) الأذن حين تحسن الاستماع يمكن أن تصبح سبيلا إلى العلم اليقيني . فالمريد يتلقى من المرشد - عن طريق السمع - ما يمهد له السبيل إلى التأمل الروحي .
( 883 ) السمنى هو عابد الصنم . ويشبه الشاعر من يركز نظره على سواه ، ويغفل عن ذاته بعابد الصنم الذي يلهيه الصنم عن ادراك حقيقة روحه وجوهر كيانه .

 
“ 457 “
 
( 884 ) من عرف نفسه فقد عرف خالقه . فادراك الانسان لحقيقة ذاته يجعله أكثر استنارة من سواه من مخلوقات الله ، وهو ان فنى عن ذاته بالشهود ، بقي له هذا الشهود ، إذ أنه يغدو مبصرا بعين الله .
( 886 ) معرفة الذات ليست مما يمكن ادراكه بالحس . فالانسان لا يرى بالحس سوى الصورة الظاهرية .
( 892 ) من لم يكن مدركا قدرة الله الخالقة لم يَجْد بالروح .

( 893 ) الانسان الذي يكون بصيرا بقدرة الله الخالقةُ لا يضن بحياته على الله ، لأنه يعلم أن الجود بها سوف يجعله مستحقا - من جزاء الله - ما يعوضه عنها بحياة خالدة لا زوال لها .
( 897 ) ان الجود بالروح مبعثه رؤية الجزاء . فمن أدرك حقيقة ذلك الجزاء الإلهي ، هان عليه البذل والعطاء .
( 898 ) البخل - في نظر الشاعر - عجز عن ابصار الجزاء . فمن هذا الوجه يكون البخل جحودا وانكارا لما وعد به الله من حسن المثوبة .

( 899 ) لا وجود اذن للبخل في العالم ، وانما مرد ذلك إلى الجحود .
فمن لا يعتقد بالجزاء ، لا يتقبل بالرضى مبدأ الجود .
 
[ شرح من بيت 900 إلى بيت 1050 ]
( 900 ) رؤية الجزاء الأوفى هي التي تدفع إلى السخاء . ولهذا فان البصيرة هي الدافع إلى السخاء . والمشاهدة الروحية هي وحدها سبيل النجاة .
( 909 ) ترجمة البيت على هذا النحو هي السبيل الوحيد لتفسيره .
فكلمة “ بركرفت “ يجب أن تفهم على أساس “ الامساك “ فالله خلق النور الصافي ، وأمسك عنه حرارة النار . أما أن يفهم من البيت أن الله خلق النور الصافي من النار ، فهذا ما لا يمكن تأويله ، فسواء أكان المقصود بالنور الصافي نور محمد ، أو كان هذا النور هو النور الابداعي الأول ، الذي يتحدث عنه الاشراقيون ، فهو لم يخلق من النار .

“ 458 “
 
يقول السهروردي عن النور الأول : “ فأول ما يجب بالأول واحد لا كثرة فيه ، وليس بجسم فتختلف فيه هيئات مختلفة كالشكل ، ولا هيئة فيحتاج إلى محل ، ولا نفس فيحتاج إلى بدن ، بل هو قائم مدرك لنفسه ولبارئه . وهو النور الابداعي الأول ، لا يمكن أشرف منه ، وهو منتهى الممكنات ، وهذا الجوهر ممكن في نفسه ، واجب بالأول “ . ( هياكل النور ، ص 62 ، 63 ) .
وهذا النور الابداعي الأول ، هو الذي يقول عنه الصوفية انه النور المحمدي . ( انظر : الجيلى : الانسان الكامل ، الباب الثامن والخمسون : “ في الصورة المحمدية ، وأنها النور الذي خلق الله منه الجنة والجحيم ، والمحتد الذي وجد منه العذاب والنعيم “ ، ج 2 ، ص 31 ) .
 
( 910 ) “ لقد اقتبس آدم العرفان من النور المحمدي “ .
يقول ابن الفارض في التائية الكبرى :وانى وان كنت ابن آدم صورة * فلى فيه معنى ناطق بأبوتى( 912 ) “ الجوهرة “ التي كان نوح جديرا بها هي الخلافة في الأرض .
أما قول الشاعر : “ فكم كان يمطر الدر في جواء بحر الروح “ ، فيشبر لاي خرافة قديمة ، تحكى أن اللالىء تتكون من قطرات المطر المتساقط في أجواء البحار “ .

( 913 ) إشارة إلى قصة القاء إبراهيم في النار بأمر النمرود ، وخروجه منها سالما ( انظر : مثنوى ، 1 ، 547 في الترجمة والتعليقات ) ، وانظر القصة في القرآن الكريم ( 21 : 68 - 69 ) .
( 914 ) إشارة إلى قصة إسماعيل واستسلامه لنصل أبيه إبراهيم ، تصديقا للرؤيا التي كان إبراهيم قد رآها . وقد ذكرت هذه القصة في القرآن الكريم ( 37 : 101 - 107 ) . واسم إسماعيل لم يرد بصريح
 
“ 459 “
 
القول في هذه الآيات ، لكن بعصض المفسرين ، وكذلك الثعلبي صاحب قصص الأنبياء يذكر أن الغلام المقصود بقوله تعالى : “ فبشرناه بغلام حليم “ ، هو إسماعيل ، وأنه هو الذي استسلم للقتل تصديقا لرؤيا أبيه ، ففداه الله بذبح عظيم .
( 915 ) عرف داوود بيراعته في صنع الدروع . وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله : “ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون “ . ( 21 : 80 ) .

( 916 ) ذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع أن الجن سُخِّرت لسليمان . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : “ فسخَّرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص ، وآخرين مقرنين في الأصفاد “ . ( 38 : 36 - 38 ) .
( 917 ) كان يعقوب قد فقد بصره من كثرة بكائه على ابنه يوسف .
لكن بصره عاد اليه حينما ألقى على وجهه قميص يوسف . ( سورة يوسف ، 12 : 84 ، 96 ) .

( 918 ) انظر ما رواه القرآن الكريم عن تأويل يوسف للأحلام .
( 12 : 43 - 49 ) .
( 919 ) ان موسى أظهر بعصاه معجزة قضت على ملك فرعون .
قال تعالى عن موسى وسحرة فرعون : “ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون “ . ( 26 : 45 ) . ولم يقتصر أثر هذه المعجزة على السحرة وحدهم ، بل كان من آثارها القضاء على ملك فرعون .

( 920 ) يقول الثعلبي في قصة عيسى بن مريم : “ رفعه الله وكساه الريش وألبسه النور وقطع منه شهوة المطعم والمشرب ، فهو يطير مع الملأئكة حول العرش ، فكان انسيا ملكيا ، أرضيا سماويا “ . ( قصص الأنبياء ، ص 454 ) .
( 921 ) إشارة إلى معجزة شق القمر التي ظهرت على يد الرسول ،

 
 “ 460 “
 
وترى في تفسير قوله تعالى : “ اقتربت الساعة وانشق القمر “ . ( 54 :
1 ) . فالذين فسروا الآية على هذا الوجه ذكروا أن المشركين سألوا رسول الله آية ، فأشار إلى القمر فانشق .
( 926 - 930 ) ذكر الشاعر في هذه الأبيات بعض المشهورين من الصوفية . وهؤلاء هم الجنيد ، وأبو يزيد البسطامي ، ومعروف الكرخي ، وإبراهيم بن أدهم ، وشقيق البلخي - ولهؤلاء تراجم كثيرة في كتب التصوف . انظر : أبو نعيم الاصفهالنى : حلية الأولياء ، السلمى : طبقات الصوفية ، الشعراني : لواقح الأنوار ، اليافعي : مرآة الجنان ، العطار :
تذكرة الأولياء ، القشيري : الرسالة . وانظر كذلك كتب التراجم العامة كوفيات الأعيان لابن خلكان ، وشذرات الذهب لا بن العماد الحنبلي .

( 926 ) الجنيد البغدادي ، من مشهوري الصوفية . توفي عام 297 هـ .
( 927 ) المقصود هنا الصوفي المهشور أبو يزيد البسطامي ، المتوفى عام 260 هـ ، ويقال عام 261 هـ .

( 928 ) الكرخي هو أبو محفوظ معروف بن فيروز أو ابن الفيروزان .
وهو من صوفية بعذاد المعروفين . توفي عام 200 ه ، وقبره ببغداد . وقد ولد لأبوين نصرانيين ، واعتنق الاسلام - كما يروى - على يد علىّ بن موسى الرضى ، امام الشيعة .

( 929 ) إبراهيم بن أدهم ، ويذكر السلمى في ترجمته أنه “ من أهل بلخ ، كان من أبناء الملوك والمياسير . خرج متصيدا ، فهتف به هاتف أيقظه من غفلته . فترك طريقته في التزين بالدنيا ، ورجع إلى طريقة أهل الزهد والورع . وخرج إلى مكة ، وصحب بها سفيان الثوري ، والفضيل بن عياض ، ودخل الشام ، فكان يعمل فيه ، ويأكل من عمل يده “ .
 
( طبقات الصوفية ، ص 27 ) . توفي بالشام عام 160 هـ .
( 930 ) شقيق البلخي هو المقصود بهذا البيت . يقول السلمى :
“ شقيق بن إبراهيم ، أبو علىّ الأزدي . من أهل بلخ . حسن الجرى

 
“ 461 “
 
على سبيل التوكل ، وحسن الكلام فيه . وهو من مشاهير مشايخ خراسان . وأظنه أول من تلكم في علوم الأحوال بكور خراسان . كان أستاذ حاتم الأصم ؛ صحب إبراهيم بن أدهم ، وأخذ عنه الطريقة “ .
( طبقات الصوفية ، ص 61 ) . توفى عام 194 هـ .

( 931 ) يروى عن الرسول حديث قدسي نصه : “ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيرى “ .
ويستشهد السلمى “ 1 “ على وجود أولياء مجهولين بقوله تعالى في سورة الفتح : “ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء “ . ( 48 : 25 ) .

وهذه الآية تذكر أن من أسباب كف أيدي المؤمنين عن الكفار يوم فتح مكة أنه كان بين الكفار مؤمنون ومؤمنات لا يعرفهم المؤمنون الفاتحون . وعند الصوفية أن الله “ لم يخل وقتا من الأوقات من داع اليه بحق ، أو دال عليه ببيان وبرهان “ .
( المصدر السابق ) .
( 939 ) “ ماذا حصلت أنت من العرفان ، وأية درة ظفرت بها من بحر الروح ؟ “ ( 943 ) “ ما دامت هذه الحياة المادية لا تبقى فمن الواجب على المرء أن ينشد حياة الروح الخالدة “ .

( 944 - 957 ) في هذه الأبيات يعالج الشاعر موضوع الأعمال وهل قيمة الفعل الحسن في الفعل ذاته ، أم في نتيجة ذلك الفعل . والشاعر قد جعل الملك يشرح لغلامه أن العبرة ليست بالفعل بل بنتيجته . فقوله تعالى : “ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها “ ، لا يقصد به أن الثواب نتيجة للفعل ذاته - وهو عرض - بل هو نتيجة لتقديم الفعل إلى الله وهذا هو جوهر الفعل . وكأنما يريد الشاعر باجراء هذا الرأي على لسان الملك ، أن يقول : ان الله لا يكافىء على الفعل ذاته بل على النية الدافعة
.................................................................
( 1 ) طبقات الصوفية ، ص 1 .
 
“ 462 “
 
اليه والنتيجة المترتبة عليه بالنسبة لفاعله فتسبيح المرائي لا قيمة له ، وصلاة المنافق لا جدوى منها . والهدف من الأعمال الحسنة ليس الفعل ذاته ، بل نتيجة الفعل وهي تنقية النفس وتطهيرها ، والتقدم بها إلى الله نقية بريئة من السيئات . وهذا البحث في قيمة الفعل مرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا ، وهو يختلف عن أبحاث الفعل التي قام بها المتكلمون ، والمعتزلة منهم بوجه خاص ، وكانت أبحاثهم مرتبطة بأسباب الحسن والقبح وهل هي عقلية أو شرعية ، ومتعلقة بالاستطاعة ، وهل هي من الله أو من الانسان .
لكنهم لم يتناولوا هذا الجانب الأخلاقي الدقيق ، الذي يتناول علاقة الفعل بالفاعل من حيث النية والأثر .

( 947 - 948 ) الأفعال الحسنة في ذاتها أعراض تفنى بانتهاء وقتها .
لكن هذه الأعراض تفنى جوهر الروح من الأمراض . فمثل هذه الأعمال لا تنفع الخالق ، بل تنفع صاحبها إذ تنقى روحه ، وتسمو بنفسه .
( 949 ) “ العرض يغدو بالجهد جوهرا “ ، فالأفعال الحسنة التي هي أعراض تغدو جوهرا حين تنقى الروح الانساني وتبلغ به درجة الكمال .
ذلك لأن الفعل في ذاته لا بقاء له ، لكن نتيجته تبقى ببقاء الجوهر الذي أثرت فيه ، وهو الروح الانساني .
 
( 958 - 963 ) يعرض الشاعر وجهة نظر أخرى عن الأعمال على لسان الغلام . فالخادم - الذي هو أدنى مقاما من الملك - هو في أسلوب الرمز أدنى عرفانا من الملك . فهو هنا يمثل الاتجاه العامي في تقويم الأفعال ، وأنها - ليست كما يقول الملك - أعراضا لا توجد في زمانين ، بل تفنى بفناء وقتها ، وانما هي - في رأى الخادم - تعود ، وتحشر مع الانسان ، وتكون لها صورتها الخاصة بها يوم الحشر . ولو كان مآل الأفعال الحسنة إلى النفاء ، لكان ذلك مدعاة لقنوط فاعليها .
 
( 964 - 982 ) يقدم الخادم أمثلة كثيرة للأعراض التي أصبحت جواهر ، فيذكر أمثلة لكثير من الأمور العرضية التي تنبثق عنها جواهر
 
“ 463 “

 
مكتملة . فالديار والقصور الجميلة ، أولم تكن أفكارا عارضة في ضمير المهندس ؟ وكل عمل فنى متكامل ، أولم يكن في أول الأمر خيالا عارضا ؟
فما كان في أول الأمر فكرا مجردا ، أصبح عملا . والزارع حين يزرع يكون دافعه إلى ذلك ما يجنيه من ثمار ، وهذه لا تظهر الا في النهاية . والعالم كله كان عرضا في عالم الامكان ، وفأصبح جوهرا في عالم الوجود .
وكل هذه الأمثلة التي ذكرها الغلام تشير إلى امكان حشر الاعمال ، برغم أنها من الأعراض .
ولقد أبدع الشاعر في عرض وجهتي النظر ، ودافع عن كل منهما بأسلوب بارع . ومع أنه قد رجح في النهاية رأى الملك ، فهو قد أتاح لكل رأى عرضا جميلا ، ودفاعا حارا .
 
( 974 ) كان ظهور محمد - وهو الانسان الكامل - غاية لخلق هذا الكون كله . ويروى الصوفية حديثا قدسيا نصه : “ لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك “ ، وعندهم أن هذا الحديث يعنى أن محمدا هو الغاية من خلق العالم .
( 975 ) هذا البحث والحديث المتبادل بين الملك والغلام كان عرضا يهدف إلى ادراك الحقيقة . وهكذا أيضا قصة الأسد وابن آوى ( من قصص كليلة ودمنة ) ، ان هي الا صورة ، تستخلص منها الحقيقة .
 
( 976 ) هذا البيت يقبل تفسيرين : أولهما أن البشر قبل أن يخلقوا ، كانوا أعراضا لا وجود لها الا في عالم الامكان . لقد كانوا عدما ، ولم يكن يربطهم بهذا الوجود سوى امكان خلقهم .
أما التفسير الثاني فهو أن جميع الناس يخلقون من نطفة لا صورة لها ، ثم يتخذون بعد أن يخلقوا تلك الصورة التي يكونون عليها . وقد يؤيد هذا الشرح أن الشاعر يستشهد هنا بسورة الانسان ، والآية الثانية منها تتحدث عن خلق الانسان من نطفة . قال تعالى : “ هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا

 
 “ 464 “
 
بصيرا “ . ( 76 : 1 - 2 ) .
وبرغم ذلك أعتقد أن التفسير الأول الذي ذكرناه أقرب إلى السياق .
ذلك لأن الشاعر يتحدث في الأبيات التالية عن العقل الكلي ، ومعنى الأبيات يشير إلى أن الشاعر كان يتحدث عن نظرية الخلق ، بلغة القائلين بوحدة الوجود .
( 983 ) الملك يخاطب خادمه قائلا : “ لو سلمنا جدلا برأيك ، وهو أن الأعراض تنجب الجواهر ، فلماذا لم يتحقق ذلك بالنسبة لك ، وبقيت على ظاهرك ، ولم تغير من هذا الظاهر حقيقة باطنك ؟ “ .
( 984 ) أجاب الخادم الملك بقوله : “ ان العقل الكلى حجب صورة الباطن عن الناس في هذه الدنيا . فالدنيا عالم امتزج فيه الخير بالشر ، والإرادة الإلهية قد قضت بألا تتبين فيها حقيقة الضائر والأرواح “ .

( 985 ) “ لو كانت خلجات النفوس وخبايا الضمائر تُرى في هذه الدنيا ، لا ختفى منها الخبث ، وتساوى الناس في نقاء القلب “ . وشرح نيكولسون لهذا البيت بعيد كل البعد عن معناه .
 
( 986 - 987 ) “ لو كان الكفر بقبحه يرتسم على الجبين ، والايمان يتجلى على الوجوده بجماله ورونقه ، فهل كان يبقى كافر واحد في هذه الدنيا ؟ وهل كان انسان يجترىء على الجحود ؟ “ ( 988 ) لو أن الخير والشر ظهرا على حقيقتهما للناس لكانت هذه الدنيا كالعالم الآخر ، ولما كان هناك مقترف للآثام .
 
( 992 ) الملك يقول لخادمه : “ اذكر لي علامة واحدة تشير إلى عرفانك الصوفي ، ولسوف أعلم منها كل شئ وأدارك أسرار عرفانك مهما أحاطت به الحجب “ .
 
( 993 - 994 ) يقول الخادم للملك : “ ما دمت قادرا على كشف المحجوب فما حاجتك إلى قولي ؟ “ فيجيبه الملك بقوله : “ ان الخق ذاته أراد العيان لعمله ، فخلق الدنيا “ .

 
“ 465 “
 
( 995 ) طبيعة العيان تختلف عن طبيعة العلم . فالخالق لم يلق على الخلق أعباء الأمانة والمسؤولية الا بعد أن جاء بهم إلى عالم الوجود . وهذا الوجود الدنيوي قد فرض على الخلق ألم المخاض في سعيهم للتحرر مما يفرضه عليهم من أثقال ، سعيا إلى حياة أسمى ، ووجود أبقى .
( 996 ) من طبيعة الوجود الدنيوي أن الانسان يكون فيه عرضة للدوافع المختلفة . فهذه الدوافع تحركه نحو الخير أو الشر .
( 997 ) من شأن الدوافع التي تحرك الانسان أن تؤدى إلى كشف سره وبيان طبيعته .

( 998 ) طالما أن الضمير يتحرك ، ويثير الدوافع ، فلا سكون للجسد .
( 999 ) دفع الضمير للانسان يجعله يعاني من القلق المستمر . وهذا الاحساس ذاته هو الذي يجعل خلو الانسان من العمل أمرا شديد الايلام ، كأنه نزع الروح .

( 1000 ) في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، تولد الأسباب على الدوام ، وهذه الأسباب تترتب عليها الآثار . فحركة العالمين مبنية على الأسباب ، وما تولده من آثار . ووراء ذلك كله مسبب الأسباب .
( 1001 ) كل أثر ترتب على سبب يصبح بدوره سببا تترتب عليه آثار ، فالبذرة سبب في نمو الشجرة . فالشجرة اذن أثر للبذرة . لكنها من جهة أخرى سبب للثمار . والثمار أثر للشجرة ، ولكنها من جهة أخرى سبب للغذاء ، وهكذا .
( 1003 ) استطاع الملك - بحديثه مع الغلام - أن يرى علامة خفية دلته على ما أن عليه هذا الغلام من العرفان .

( 1023 - 1024 ) كل الأجساد تنطوى على أرواح ، ولكن هذه الأرواح ليست جميعا صافية طاهرة نبيلة .
( 1026 - 1045 ) عالج جلال الدين في هذه الأبيات الصورة والمعنى ،



“ 466 “
 

أي الجسد والفكر . وبين أن العبرة ليست بالضخامة ، فالجبال الضخمة أقل قيمة من اليواقيت الصغيرة . والجسد العظيم يسيره فكر خفى .
وقدم صورا فنية كثيرة لا يضاح هذه المعاني . فالملك وهو فرد واحد ، يتبعه الآلاف من الناس . وهذا الملك ذاته يخضع لسلطان الفكر . والعين وهي صغيرة الحجم أكثر ادراكا من الأيدي والأرجل والشعر ، مع أن هذه تفوق حجم العين مئات المرات . والخلق كلهم يتحركون مندفعين بسيل الفكر . وهذا العالم الواسع الأرجاء ، بأرضه وشمسه ونجومه وأفلاكه ، يتحكم فيه سلطان الفكر . ويوم تقوم الساعة فان سلطان الفكر هذا يجعل كل هذه الظواهر - التي تروعنا برونقها وجلالها - حطاما وعهنا مفنوشا وهباء . فعلى الانسان أن يدرك أين تكمن القوة في الانسان ، فلا يعد الجسد سلطانا في قوة سليمان ، في حين أنه يحسب الفكر نملة .
فالفكر أساس كل الحرف . والفكر هو الذي عمر الأرض بالديار والقصور والمدائن .
( 1049 ) أياز كان غلاما تركيا جميلا ، من عبيد السلطان محمود الغزنوي ( 389 - 389421 - 389421 - 421 ه ) . 
وكان محمود شديد التعلق بأياز ، وقد اشتهر ذلك الحب في تاريخ محمود . ( انظر : نظامى عروضى : جهار مقالة ، ص 39 ، طبعة لندن ) .
 
[ شرح من بيت 1050 إلى بيت 1200 ]
( 1050 ) الأولياء كانوا ذوى أرواح حية مدركة قبل أن يخلق هذا العالم . لقد سبق لجلال الدين ذكر ذلك ( انظر الأبيات 168 - 175 ) .
فالشاعر يعزو هذه الألفة بين الملك وغلامه ، إلى سابق محبة كانت بين روحيهما قبل خلق هذا العالم .
( 1051 ) حياة الجسد لا اعتبار لها إذا قورنت بحياة الروح قبل الجسد ، ويصدق ذلك - بوجه خاص - على الأولياء ، الذين نعموا
 
“ 467 “
 
بحياتهم الروحية قبل خلق الأجساد .
( 1052 ) العارف ذو النظر السديد لا يخطئ الرؤية ، ويبصر الأشياء على حقيقتها ، فيدرك بذلك جوهرها الأصيل ، غير حافل بما آل اليه ظاهر حالها .
( 1053 ) العارف يبصر الحقيقة في جوهرها ، سواء نظر إليها في النهار المضئ أو الليل المظلم .
( 1054 ) ما سبق تقديره فلا سبيل إلى الفرار منه . ومهما احتال المرء للخلاص من قدر الهى سابق ، فان حيلته لا بد أن تذهب هباء .
( انظر : المثنوي ، ج 1 ، الأبيات 950 - 970 ) .
 
( 1055 ) في هذا البيت اقتباس معنوي من قوله تعالى : “ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين “ . ( 3 : 54 ) .
 
( 1058 ) مهما احتال الانسان ليغير الأقدار ، فلا سبيل له إلى ذلك .
فالقضاء راسخ لأنه ارداة الله ، وإرادة الانسان - أمام الإرادة الإلهية - واهية عاجزة .
( 1062 ) ليكن سعيك وجهدك كله من أجل الله ، ان كنت بحق تستشعر المحبة الإلهية .
 
( 1064 - 1065 ) يصور الشاعر النفس الأمارة بالسوء بلص يختلس المتع ، تحجب حقيقته هذه الحياةُ الدنيا ، فإذا تجلى صبح البعث وتكشفت السرائر ، كان في ذلك افتضاح النفس السارقة . وكل ما سرقته يبقى عالقابها ، لأنها تبعث على ما كانت عليه في حياتها الدنيا ، ويتكشف ما كان خافيا من نقائصها ، فكأنها لص ضبط متلبسا بالسرقة .
 
( 1068 - 1070 ) بعد أن بين الشاعر أن الانسان في هذا الوجود أسير القضاء ، تصور أن سائلا يسأله : “ ما فائدة الوجود اذن ، وما جدوى خلق الانسان ؟ “ ويجيب الشاعر على ذلك بأن مجرد السؤال عن



 “ 468 “
 
فائدة الوجود ، هو في ذاته فائدة محققة . فمثل هذا السؤال رمز للتفكر والتأمل .
( 1071 ) لئن كانت الحياة الدنيا - من جهة لذاتها ومتعها ، وصرفها الناس عن خالقهم - تبدو عديمة الفائدة ، فهي من جهة أخرى حافلة بالفوائد : انها مجال لتجلى القدرة الإلهية ، وهي ميدان لتأمل هذه القدرة ، ثم هي السبيل الذي يسلكه الخلق إلى الآخرة .
( 1072 ) إذا كانت الحياة الدنيا تبدو غير مفيدة للعارفين ، فليس معنى ذلك أنها غير مفيدة لسواهم . فمن الممكن أن تصير هذه الحياة - بالنسبة للمحرومين - سبيلا إلى العرفان ، ووسيلة للتحقق به .
( 1075 ) انظر البيت رقم 694 .
( 1076 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون “ . ( 3 : 169 ) .
( 1079 ) النفس المتعلقة بلذات الدنيا تكون متعلقة بقوت عارض .
فهذه الحياة المادية صورة مؤقتة للانسانية ، ترجع منها إلى أصلها الروحي .
ولهذا فان النصح والتهذيب يردان النفس عن هذه الطبيعة المنحرفة .
 
( 1084 ) القلب العليل أصابه ما أصاب النفس الحسية ، فتعلق أيضا بلذات الحس ( الماء والطين ) .
 
( 1085 ) لقد خارت قوى القلب من جراء التلعق بالماء والطين ، “ فأصبح شاحب الوجه ، واهى الساقين ، خفيف اللب . وما ذاك لا لا نصرافه عن غذاء السماء .
 
( 1068 ) الغذاء الروحي لا يقتضى تناوله حلقا ولا أداة طعام .
 
( 1102 ) دأب جلال الدين على ذكر الأفلاك التسعة في المثنوى ، بالرغم من أن المعروف أن السماوات سبع . وقد ذكر بعض شراح المثنوى أن الفلك التاسع هو “ العرش الأعظم “ ( المنهج القوى ، 2 : 267 ) .

 
“ 469 “
 
انظر أيضا : ( تعليقات نيكولسون على هذا البيت ) . ورأيي أن جلال الدين يقصد بالفلك التاسع السماء السابعة . والسماء السابعة هي الفلك التاسع ، إذا أخذنا في اعتبارنا أن بعض الصوفية يضيفون إلى أفلاك السماوات السبع فلكين آخرين يحيطان بالأرض هما فلك الهواء أو “ كرة الهواء وفلك النار أي “ كرة النار “ . ( انظر : الجيلى : الانسان الكامل ، 2 ، 66 ) . فمعنى البيت أن هذه المعاني التي لا تبدو في الدنيا ذات مجد ووراء ، تنتمى إلى أعالي السماء ، ولها مجد ورواء مستمد من تلك الأعالي .
 
( 1106 ) أعتقد أن المتحدث هنا هو الولىّ إلى ينكر على الناس اندفاعهم وراء مجد زائف ، على حين أنه ينعم في عزة ، تغمرها شمس الحقيقة .
 
( 1107 ) قول الشاعر : “ ومشرق الشمس برج أسود اللون “ يحتمل أحد تفسيرين . أولهما أن الناس يترقبون اشراق الشمس من سماء مظلمة . وثانيهما أن الشمس التي تغرب في عين حمئة مظلمة ، ( انظر سورة الكهف ، 18 : 86 ) ، تعود إلى الشروق من حيث غربت . أما “ الشمس التي هي فوق المشارق “ ، فالمقصود بها شمس الحقيقة ، واشراق التجلي الذي لا يحده مكان ولا زمان .
 
( 1108 ) ليس معنى شروق شمس التجلي أنها قابلة للمغيب ، فهي في تجل دائم . فالحديث عن شروقها لا يكون الا باعتبار الذرات العالقة بها ، فهي التي ينقلها تعلقها بالشمس إلى حال الشروق .
 
( 1109 ) “ مع أنني لست من الأولياء المقربين وهؤلاء هم الذرات العالقة بشمس التجلي فان النور الذي يغشانى بتجليه يجعلني شمسا لا تغشاها الظلال “ .
 
( 1110 ) المحبة تنبعث من المحبوب ، ولا فضل للمحب في ايجادها .
( 1111 ) في العلاقة بين المحب والمحبوب يكون الجمال والجلال
 
“ 470 “
 
من بين الأسباب التي تجذب المحب إلى المحبوب ، هذا من وجهة نظر المحب . أما المحبوب فليس الجمال والجلال عنده أسبابا ، وانما هما من صفات الذات . فالعبد قد ينظر إلى بعض الأمور على أساس أنها أسباب ، والخالق يكون مدركا لهذه الأسباب ، لكنه لا يتأثر بها .
( 1114 ) الخالق صانع كل شئ . وهذه حقيقة لا تقبل استثناء فاليأس الذي قد يصيب النفس هو أيضا من خلق الله .
 
( 1115 ) النفس التي صنعها الخالق تبقى مرتبطة بخالقها حتى في حالة اليأس ، لأن الصنع لا ينفصل في وجوده عن ذات الصانع .
 
( 1116 ) البراق والخيل العراب والحمير كلها رموز للناس ، على تفاوتهم في قواهم الروحية ، أو تعلقهم بغرائزهم الحسية . وجميع الموجودات مهما كانت طبيعتها تقتبس وجودها من الوجود المطلق .
 
( 1117 ) من غفل عن حقيقة الصانع ، توجه إلى سواه ، ظانا أنه صاحب القدرة . ويظل يتخبط في هذا الجهل فيقع في كل يوم فريسة لوهم جديد .
 
( 1118 ) قول الشاعر : “ فهو قد شرب من البحر العذب ماء ملحا “ ، يعنى أن هذا الغافل الذي يسعى إلى خالقه لم يسلك في سعيه السبيل القويم ، ولهذا فان هذا السعي قاده إلى الضلال والتيه ، بدلا من أن يقوده إلى أمن اليقين .
 
( 1119 ) “ الشرب باليد اليمنى من البحر “ رمز للسلوك القويم الذي يحقق الغاية المنشودة .
 
( 1122 ) الشاعر يقول إن عشق شمس الدين قد شغله عن كل ما سواه ، فلم يكن لديه مجال للعناية بمن عميت بصيرتهم الروحية . وشمس الدين المقصود هنا هو شمس الدين التبريزي . ولعل الشاعر أشار بذلك إلى ما كان يعانيه حينذاك من أحزان لفقد أستاذه الروحي .
 
“ 471 “
 
( 1123 ) يدعو الشاعر تلميذه حسام الدين إلى أن يقوم عنه بمداواة من كلت بصائر أرواحهم .
 
( 1125 ) قدرة الله وحدها هي التي تستطيع أن تكشف عن النفس والروح ما تراكم فيهما من ظلمات الجهل .
( 1126 ) الحسد يحجب صاحبه عن تلقى نور الهداية ، ويمثل عقبة يصعب على الروح تخطيها . أما الجهلاء الذين خلت نفوسهم من السحد فهم قابلون لتلقى نور العرفان .
 
( 1128 - 1130 ) السحد احدى الرذائل التي أكثر الشاعر من بيان أخطارها . فالحسد هو الذي دفع بعض مريدى جلال الدين إلى القضاء على شمس الدين . وكان الحسد دائما مصدر حقد على الأولياء. وهو علة لا دواء لها ، لأنه كما يقول الشاعر يجعل المرء يسعى إلى اطفاء نور لا يخبو ، وشمس لا تغيب .
 
( 1131 ) روح العارف تهتدى إلى خالقها ، كما يهتدى الباز إلى الملك فيعود اليه . أما الروح التي تضل سبيلها فشبيهة بالباز الأعمى .
 
( 1132 ) “ الهبوط في احدى الخرائب “ كناية عن الركون إلى عالم الدنيا ، هذا الذي حق عليه الخراب ، والفرار من عالم الروح . أما “ اليوم “ فرمز لعشاق الدنيا الدين يتعلقون بها ، كما تتعلق البوم بالأرض الخراب .
 
( 1146 - 1147 ) البوم تكذب الباز حين يذكر لها صلته بالملك .
وكذلك الكفار والمنافقون يكذبون النبي حين يذكر لهم صلته بالخالق .
 
( 1154 - 1155 ) بالرغم من أن الشاعر قد استخدم الباز رمزا للولي أو النبي ، وذلك على اعتبار أن رجل الله يرتبط بالله ارتباط الباز بمليكه ، فقد استخدمه في هذين البيتين رمزا لمعنى حسى هو القوة والسطوة . فالبوم لا تقدر على ايذاء باز المليك ، بل إن البيران الجارحة - وهي هنا رمز لأهل السطوة من الكافرين - تعجز عن أن تمس بالسوء
 
“ 472 “
 
باز المليك . ولا مناسبة بين باز الملك وبين البيزان الجارحة ، فالأول وفىّ لمليكه ، مطيع لندائه ، وأما البيزان الأخرى فمتوحشة تحكمها قوة حسية عارمة .
 
( 1157 ) الباز يباهى بأن خياله مقيم في قلب السلطان ، وأن قلب السلطان يغدو سقيما لو غاب عنه هذا الخيال . وفي هذا تعبير رمزى عن محبة الخالق للانسان الكامل ، تلك المحبة التي جعلته - في رأى كثير من الصوفية - يخلق الأكوان من أجله .
 
( 1162 ) يمكن تفسير هذا البيت على أساس أن الانسان الكامل يشفع للخلق عند الخالق . كما يمكن النظر اليه من زاوية العقيدة الصوفية ، فيكون معناه أن الله قد حرر - على يد الانسان الكامل - كثيرا من الخلق ، كانوا يرسفون في أغلال سجن المادة .
 
( 1163 ) لقد حل الانسان الكامل بين الكفار - أشباه البوم - برهة من الزمان ، فصاروا بفضله ذوى قوة روحية ، وحلقوا في السماء كالبيزان .
 
( 1167 ) المحب الصادق مهما قاسى من الآلام فإنه يكون سعيدا في آلامه ، بما أوتيه من سعادة الروح .
 
( 1169 ) ان المحب الصادق يلبى نداء خالقه : “ يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية “ . ( 89 : 27 - 28 ) . فهذا النداء بالنسبة للمؤمن كالطبل بالنسبة للباز .
 
( 1170 ) يبين الشاعر هنا أن الانسان الكامل مختلف عن خالقه ، وهو ليس سوى عبد لملك الملوك .
 
( 1171 - 1173 ) ليس معنى فناء العبد في الخالق أن هناك تشابها بين ذات العبد وذات الخالق . فالتجانس لا يحتم التشابه بين المتجانسين .
فالماء يتجانس مع التراب في النبات . والخمر تنجانس مع الطبع الانساني .
والفناء في الخالق لا يقتضى تشابها في الذات بين العبد وخالقه .
 
“ 473 “
 
( 1174 ) صورة فنية للأرواح التي تفنى في حب خالقها ، فلا يبقى لها وجود منفصل ، بل تصبح في حضرته هباء ، ويبقى الخالق وحده ، لا شريك له .
 
( 1175 ) في هذا البيت صورة فنية أخرى لفناء الروح في الخالق .
“ فالروح تغدو ترابا “ وهذا رمز إلى فنائها “ وتبقى أقدامه منطبعة فوق ترابها “ وهذا رمز إلى بقائها ، فهي بالفناء تحقق لها البقاء .
 
( 1176 ) الفناء في ذات الخالق يحقق لصاحبه أنبل مجد ، وأخلد بقاء .
 
( 1177 ) هذا البيت يجرى على لسان الولىّ الذي يخاطب سواه بقوله : “ لا تنخدع بظاهرى ، وتحسبنى مجرد انسان مادي ، بل تذوق ما أقدمه لك من غذاء روحي ، قبل انتقالى من هذه الحياة “ .
 
( 1178 ) كم من أناس خدعوا بظاهر الصورة ، فحسبوا رجل الله أو النبي انسانا عاديا ، وغرهم ما شاهدوه من ظواهر انسانيته ، فتهجموا عليه ، فكان تهجمهم على الله .
 
( 1179 ) الصلة بين الله وبين نبيه أو وليه قائمة ، ولا ينفيها ما يكون من بعد الشبه بين ذات الله وذات عبده . ويستدل الشاعر - في هذا البيت وفي الأبيات التالية - على امكان قيام هذه الصلة ، وذلك بما يكون من صلة بين الروح والجسد ، أو بين العين المكونة من شحم وماء وبين البصر ، وهكذا فمثل هذه الصلات بين المعنى والمادة صور تبين امكان قيام الصلة الوثيقة بين الانسان والخالق .
 
( 1183 - 1188 ) أوَّل الشراح هذه الأبيات تأويلات مختلفة لا تستند إلى النص . ورأيي أن هذه الأبيات تتضمن أفكارا عن خلق العالم مستوحاة من مذاهب الاشراقيين . ولسنا نستطيع أن نجزم بأن الروح الكلى هنا يشير إلى الخالق ، أو إلى الحقيقة المحمدية . ثم هناك في البيت رقم 1186 عبارة “ روح الروح “ ، ويتضمن معنى لا يمكن تحديده
 

“ 474 “
 
على وجه اليقين . والشاعر يستخدم هذه المصطلحات كلها في سياق شعري ، يعبر به عن صدور العالم عن الخالق ، وفق نظرية الاشراقيين .
ولكننا لا نستطيع أن نجزم بتفسير يحدد معنى كل مصطلح من المصطلحات ، كما أننا لا نستطيع أن نقطع بمرحلة الخلق التي بدأت بالحديث عنها هذه الأبيات ، وهل هي الفيض الأول الذي صدر عن واجب الوجود ، أم أنها مرحلة تالية لذلك . وخلاصة مضمون هذه الأبيات هي أن هذا العالم المتعدد المظاهر والأشكال قد صدر عن الواحد ، “ روح الروح “ ، الذي أبدع الروح الكلىّ ، ففاض منه هذا العالم ، وأن هناك في كل وقت فيضا جديدا ، وأن هذا العالم سوف يلد العالم الآخر ، وإذ ذاك تتضح للخلق حقيقة الحشر .
 
( 1184 ) لقد كان ميلاد هذا العالم المادي من أصل روحي ، كما كان ميلاد المسيح بصورة حسية صادرا عن أصل روحي .
 
( 1185 ) ومع أن هذا المسيح قد ظهر للناس وخالطهم ، وأظهر من المعجزات ما بهرهم ( ومنها المشي على الماء ) ، فحقيقته أسمى مما شهده الناس منه وعرفوه ، لأنه روح تسامى فوق حدود المكان .
 
( 1186 ) العالم فيض من الروح الكلى ، والروح الكلى فيض من الخالق .
 
( 1187 ) عالم الدنيا يلد بدوره عالم الآخرة ، وإذ ذاك تتجلى للخلق حقيقة الحشر .
 
( 1189 ) يقول الشاعر ان كل هذه الأقوال التي قدمها ليست في جوهرها سوى دعاء الله ، انطلقت كلماته من شفاه طيبة ، ملتمسة من الخالق جواب الدعاء .
 
( 1192 ) يبدأ الشاعر هنا قصة رمزية جديدة ، تصور البدن بصورة جدار عال يقف في سبيل الروح ويعوقها عن الانطلاق إلى عالمها ، وأن الروح تتمنى لو حطمت هذا السجن ، وتحررت منه .
 
“ 475 “
 
( 1194 ) كان صوت الماء في أذنه كخطاب فرج همه ، وبشِّره بالخلاص .
 
[ شرح من بيت 1200 إلى بيت 1350 ]
( 1203 ) إشارة إلى حديث يروى عن الرسول قوله : “ انى لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن “ .
 
( 1207 ) كل غريزة من غرائز الجسد - أمكن التغلب عليها واقتلاعها من النفس - كان في التغلب عليها اقلان من سلطان الجسم على الروح ( 1208 ) الاقلال من سلطان الجسد هو السبيل إلى خلاص الروح ، فهو الذي يقف حائلا بينها وبين اللحاق بعالمها .
 
( 1209 ) أعمال العبادة تؤدى إلى التخفيف عن سلطان الجسد ، وتتيح للروح بعض الانطلاق . وقد رمز لهذه الأعمال في القصة بمتابعة هدم الجدار الذي يقف حائلا بين الرجل وبين الماء .
 
( 1210 ) لا يتسنى يخفض الرأس إذا كان العنق شامخا ، وكذلك لا يمكن الاخلاص في العبادة ، إذا كان الجسد مسيطرا على الروح .
 
( 1212 ) كل من كانت روحه أكثر اخلاصا وشوقا ، كان أكثر اجتهادا في التخلص من سلطان الحواس ونزعاتها .
 
( 1213 ) بقدر ما يكون الاخلاص الروحي تكون القدرة على اخضاع الجسد .
 
( 1214 ) كل اتصال بعالم الروح ( كما يكون في التعبد مثلا ) يغمر الصوفي بالنشوة ، على حين أن الحسى لا يتجاوز ذلك عنده حد أداء العبادات في صورها الحسية .
( 1216 - 1225 ) صور الشاعر الشباب والشيخوخة ، فرسم لنا بأسلوبه البارع صورا فنية رائعة .
( 1227 - 1240 ) ذكر الشاعر في هذه الأبيات قصة رجل زرع الشوك ، فلما نُهى عن ذلك وعد باقتلاعه ، ودأب على اخلاف وعده حتى قويت شجرة الشوك ورسخت ، وأما هو فضعفت قوته ازاءها . بهذه
 
“ 476 “
 
الصورة أراد الشاعر أن يقدم مثالا لمن يترك الأخلاق السيئة تستقر في نفسه، ولا يسعى إلى اقتلاعها حتى تتأصل وترسخ ، ولا تبقى لديه قوة على مقاومتها .
 
( 1241 ) ان صاحب الخلق السىّء - الذي تأصل عنده هذا الخلق - يسئ إلى نفسه من غير أن يشعر بذلك .
 
( 1244 ) الرجل المكتمل الرجولة يكون قادرا على أن يقتلع ما رسخ في نفسه من خلق سىء ، كما اقتلع علىّ باب خيبر ، فكان ذلك تحطيما لما كان يمثله هذا الباب ، وهو تحصن الكفر وراء الأسوار المنيعة .
وقد فتح المسلمون خيبر عام 7 ه / 628 م .
 
( 1245 ) “ ان لم تستطع الخلاص من الخلق السىء فاتخذ لك رفيقا من رجال الله ، حتى يكون شوكك هذا مقترنا بشجرة ورد ، ونارك مقترنة بالنور الصافي “ .
 
( 1246 ) لعل النور الصافي ( ويمثله رجل الله ) يخلصك مما يضطرم بنفسك من النار ، وتغدو أشواكك بفضل صحبته ورودا .

( 1247 ) ذو الخلق السىء شبيه بنيران الجحيم ، أما المرشد فهو مؤمن والمؤمن لا يخشى النار .

( 1248 - 1249 ) انظر : مثنوي ، ج 1 ، 3700 .
 
( 1253 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه “ . فلعل هذا الاحسان هو المقصود من قول الشاعر :
“ روح المحسن الطاهر “ .
 
( 1258 - 1259 ) كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم ، كذلك يكون جحيم النفس بردا وسلاما على المؤمن ، فلا يحرق بستان صفائه واطمئنانه ، ولا يضرم النار في عدله واحسانه .
( 1260 ) “ النمام “ نبت شبيه بالريحان عطرىّ قوى الرائحة ، وسمى بذلك لسطوع رائحته .
 
“ 477 “
 
( 1261 ) “ لقد انصرفنا عن موضوعنا الأصلي إلى سواه ، وأطلنا البحث في ذلك ، فلنعد إلى موضوعنا الأصلي “ .
 
( 1262 ) يعود الشاعر هنا إلى الحديث عن الخلق السىء ، وكيف يصعب اقتلاعه إذا رسخ في النفوس . وهو يربط قوله هنا بما كان قد انتهى اليه في البيت 1225 .
 
( 1264 ) “ ان الفساد قد تأصل في النفس ، فلم يبق لها سبيل إلى الشفاء الا بالفناء “ .
 
( 1266 ) “ ابذل قصارى جهدك وأنت بعد في عنفوان قدرتك ، فهذه القدرة لا تدوم طويلا “ .
( 1267 ) الانسان الذي يحسن استثمار أيام الحياة - على قلتها - يستطيع أن يحقق لفنسيه عمرا روحيا مديدا .
 
( 1268 ) “ السراج اللألاء “ في الانسان هو قلبه أو روحه ، لأن القلب ينير للانسان سبيل الحياة . فعليه أن يعنى بهذا القلب ، ويحافظ عليه وينقيه ، حتى لا تخبو أنواره ، وتتلاشى في ظلمات الحياة الجسدية .
 
( 1271 ) يدعو الشاعر هنا إلى الاقلال من الكلام ، مع الاكثار من صالح الأعمال . ويحث على التخلي عما اقترن بالجسد من البخل ، ويدعو إلى الاقبال على ما ارتبط بالروح من السخاء والجود .
 
( 1274 ) ورد ذكر “ العروة الوثقى “ في موضعين من القرآن الكريم . قال تعالى : “ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى “ . ( 2 : 256 ) . وقال : “ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى “ . ( 31 : 22 ) .
 
( 1276 ) “ يوسف الحسن “ رمز للروح للطاهر . والبئر رمز للدنيا ؛ فكما ألقى يوسف الصديق في البئر ، كذلك دُفع الروح الطاهر إلى هذه الدنيا ، وهي بئر الشهوات .
( 1284 - 1293 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات عن نور الحس ،



“ 478 “
 
ونور القلب أو الروح ، وهو النور الذي يفيضه الله على قلوب أهل الصفاء ، فيجعل لنور الحس ادراكا أوسع ، وشهودا لا يقتصرا على الواقع المحسوس ، وانما يتعداه إلى الغيب المحجب . وقد بحث الغزالي هذا الموضوع في مشكاته . قال : “ اعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ، ولا يبصر ما بعد عنه ، ولا يبصر ما هو وراء حجاب . ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها . ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها . ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له . ويغلط كثيرا في ابصاره : فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا . فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة . فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أم لا ؟
واعلم أن في قلب الانسان عينا هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الانساني . . . “ ويمضى الغزالي بعد ذلك بعد في بيان تنزه نور ، القلب عن هذه النقائص التي يعاني منها ابصار العين . ( مشكاة الأنوار ، 43 - 49 ) .
وأسلوب جلال الدين في الموازنة بين النورين قائم على التصوير الفنى ويكثر فيه استخدام الرمز .
والصبر على أمر الله هو سبيل الخلاص . لقد صبر يوسف ، فأرسل الله اليه من خلصه من البئر . والروح الصابر أيضا يمد الله له أسباب النجاة .
 
( 1279 ) “ عالم الروح الجديد “ يعنى “ العالم الحافل بالرؤى ، المتجدد على الدوام “ .
 
( 1280 - 1283 ) يشبه الشاعر في هذه الأبيات عالم الحس وعالم الغيب بالتراب والهواء .
فالتراب ينتشر في الفضاء ، ويبدو كأنه موجود متحرك ، أما الهواء

 
“ 479 “
 
فيكون خفيا ، مع أنه هو الذي ينشر الغبار ويحركه . فهذا التراب ليس الا ألعوبة في أيدي الهواء .
 
( 1284 ) “ من كانت العين الحسية سبيله الوحيد إلى الابصار فسوف يعجز عن مشاهدة الهواء ، ورؤيته تكون مقصورة على مشاهدة التراب “ .
 
( 1285 ) العين الترابية ( الحسية ) يقتصر ادراكها على ما يكون في مستواها وهو التراب . وشبيه بذلك معرفة الحيوان لأبناء جنسه ، فالحصان يعرف الحصان ، وهكذا . أما الابصار الروحي فمن طراز آخر . انه شبيه بمعرفة الفارس لنظيره .
 
( 1286 ) عين الحس - بدون نور الله - تبقى بعيدة عن الابصار الصحيح ، كالحصان يبقى - بدون الفارس - قاصرا عن ادراك السبيل .
فنور الله يوجه عن الحس ويرشدها ، كالفارس يوجه حصانه ويحسن قيادته .
 
( 1287 ) إذا لم يهذب الحصان ، فإنه لا يكون لائقا بالميلك ، وكذلك العين الحسية لا تكون جديرة بنور الله ما لم تسلك السبيل إلى ذلك بالتزام الغفة والتهذب ، والاعراض عن الطمع ، والطموح إلى لذات الحس .
 
( 1288 ) بدون نور الله يسوء حال العين الحسية ، وتضطرب رؤاها فهي كالحصان يتخبط في سيره ، إذا لم يكن له فارس يهديه .
 
( 1289 ) إذا لم يهتد الابصار الحسىّ بنور الله ، فأي مطمع يكون له سوى لذات الحس ؟ كالحصان إذا ترك وشأنه فلا مطمع له إذ ذاك سوى المرعى . أما النفع الذي يحققه الحصان فلا يكون الا بهداية الفارس .
 
( 1290 ) حين يسيطر نور الله على نور الحس ، يكون هذا السبيل اهتداء الروح ، وباعث شوقها إلى عالمها .
 
( 1291 ) الطريق الملكي هو الطريق إلى الله . والفارس الملك هو

 
“ 480 “
 
الرجل الكامل .
( 1293 ) يشير الشاعر هنا إلى قوله تعالى : “ نور على نور يهدى الله النورة من يشاء “ . ( 24 : 35 ) . وهذه الآية - في نظر الشاعر - دليل واضح على افتقار الحس إلى الهداية ، بدون نور الله .
والهداية هنا روحية ، والله يهب لمن يشاء مثل هذه الهداية . وللنور أهمية كبرى في فلسفة الصوفية . وعليه تقوم عقائدهم الاشراقية . انظر :
( الغزالي : مشكاة الأنوار ) ، ( السهروردي : حكمة الاشراق ، وهياكل النور ) .
 
( 1296 ) الحس الباطني الذي يوجه الحس الظاهري لا يظهر الا في جميل الأثر ، وطيب الكلم .
 
( 1297 ) نور الحس الذي هو - بالقياس إلى نور الروح - غليظ كثيف يكون محتجبا في سواد العين . وكان الأقدمون يعتقدون أن الابصار أشعة تنطلق من العين إلى المرئيات ، وهذه الأشعة لا ترى لأن النور محتجب في سواد العين .
 
( 1298 - 1299 ) من بين ما ذكره الغزالي عن نقائص نور العين أنه “ يبصر غيره ولا يبصر نفسه “ . ( المشكاة ، 43 ) . وما دامت العين تعجز عن مشاهدة نوها المحسوس فيكف تستطيع أن تشاهد النور الروحي ، وهو أكثر من النور الحسى لطفا وخفاء ؟ وهذا البيت أيضا مرتبط بفهم الأقدمين لطبيعة الابصار ، وهو أنه أشعة تنطلق من العين إلى المرئيات .
 
( 1304 ) قول الشاعر : “ وتأمل كيف أن الأرواح ظاهرة “ يعنى أنها ظاهرة الفعل والأثر .
 
( 1305 ) قول الشاعر : “ ولا تحطم السهم “ يعنى : “ ولا تغالب القضاء الإلهي “ ، أما قوله : “ فإنه سهم المليك “ فيعنى أنه نافذ لا محالة .
 
( 1306 ) انظر المثنوي ، ج 1 ، 614 ، 615 .

“ 481 “
 
( 1307 ) الغضب مما تأتى به الأقدار يعمى الانسان عن إرادة الله في ذلك . فالانسان يحارب القضاء ، مع أنه وقع بمشيئة الله ، وينظر إلى الأقدار ، بسخط مع أنها فعل الله .
 
( 1313 ) المخلص لا يكون في مأمن من شباك الأقدار الا إذا خلص من ذاتيته . فالفناء عن الذاتية يجعل الانسان في رحاب الله ، وبذلك يستعصى على ضربات القدر .
 
( 1315 - 1316 ) في هذين البيتين يوازن الشاعر بين الاخلاص والخلاص . فالاخلاص مرحلة أولى في سبيل الخلاص . فلو وقف المرء عند هذه المرحلة الأولى ، فهو رجل مخلص فحسب ، لكنه لم يظفر بعد بمراده ، وهو تحقيق النجاة الكاملة ، فهذه النجاة لا تتحقق الا بتنقية القلب حتى يصبح مرآة صافية . وبدون ذلك فليست هناك نجاة ، بل سعى إلى النجاة . والساعي إلى النجاة كالصياد الذي يبحث عن صيد ، أما مدركها فهو كصياد ظفر بصيده . والفائز بالنجاة يبلغ مقام الأمن الذي لا يشوبه خوف .
 
( 1317 - 1318 ) الواصل الذي بلغ مقام الأمن لا يبقى بعد ذلك عرضة للتغير . فالمرآة التي بلغت درجة الصقل لا تعود حديدا خشنا ، والخبز لا يرتد قمحا ، والعنب الناضج لا يرجع إلى الفجاجة ، وهكذا .
 
( 1319 ) يذكر الشاعر أستاذه برهان الدين محقق بوصفه مثالا لبلوغ النضج ، الذي يجعل الانسان في مأمن من التغير . وقد ذكر الجامي برهان الدين محقق بقوله : “ السيد برهان الدين محقق رحمه الله هو شريف حسنى ترمذى ، وكان من مريدى مولانا بهاء الدين ولد ، وممن ربوا على يديه . واشتهر في خراسان وترمذ بالسيد المطلع على الأسرار ، وذلك بسبب اشرافه على الخواطر . وفي اليوم الذي مات فيه مولانا بهاء الذين وَلَد كان جالسا مع الجماعة في ترمذ ، فقال : واأسفاه ! لقد
 
“ 482 “
 
مات أستاذي وشيخى . وبعد أيام سافر إلى قونية لتربية مولانا جلال الدين “ . ويذكر الجامي بعد ذلك أن جلال الدين تتملذ تسع سنوات على برهان الدين محقق ، وأن برهان الدين قد ذاع صيته في أرض الروم ، وأن السهروردي “ 1 “ قد ذهب لزيارته ووصفه بأنه بحر مواج من درر المعاني . ( نفحات الأنس ، ص 298 ، طبع الهند ، 1893 ) .
 
( 1321 - 1323 ) يذكر نيكولسون أن هذه الأبيات لم ترد في أقدم مخطوطات المثنوى ، وأنها ظهرت لأول مرة في مخطوط يرجع إلى منصف القرن الرابع عشر . كما يذكر أن هذه الأبيات وردت في حاشية احدى النسخ تحت عنوان “ ولدى “ . وقد استنتج نيكولسون من ذلك أن هذه الأبيات ربما كانت من نظم سلطان وَلَد ، الذي كان متزوجا من ابنة صلاح الدين زركوب ، وأراد أن يذكر صهره في المثنوى إلى جانب شمس الدين التبريزي ، وبرهان الدين محقق ، وحسن حسام الدين .
( انظر تعليقات نيكولسون ) . ومهما يكن من أمر فان صلاح الدين زركوب كان من تلاميذ جلال الدين المقربين . وقد ذكره جلال الدين في كثير من غزليات الديوان . وكان صلاح الدين فريدون زركوب ( الصائغ ) من مريدى برهان الدين محقق . ويُروى أن برهان الدين قال :
“ وهبت حالي الصلاح الدين ، ومقالى لجلال الدين “ . ) ( نفحات الأنس ، 299 ) . ويذكر الجامي أن صلاح الدين تخلى عن دكان الصياغة الذي كان يملكه ولزم جلال الدين . وانتهى الأمر إلى ارتباطهما بالمصاهرة ، حيث تزوج سلطان ولد بابنة صلاح الدين زركوب ، وكان جلبي عارف من أبنائهما . ويذكر الجامي أن جلال الدين قال في صلاح الدين :
.................................................................
( 1 ) المقصود هو أبو حفص عمر بن محمد المتوفى 633 ، وصاحب كتاب عوارف المعارف . أما السهروردي الاشراقي فقد مات قبل ذلك بكثير ( عام 588 ) .

 
“ 483 “
 
يكى كنجى بديد آمد درين دكان زركوبى * زهى صورت زهى معنى زهى خوبى زهى خوبى” لقد ظهر كنز في دكان الصياغة هذا ، فما أجمل الصورة ، وما أجمل المعنى ، وما أروع هذا الحسن والبهاء “ . ( انظر : نفحات الأنس ، 304 ، 305 ) .
 
( 1323 ) للشيخ سلطان على القلوب مقتبس من قدرة الله . وهذا السلطان يجعله ذا أثر على القلوب بدون آلة يستعين بها في تحقيق ذلك .
 
( 1325 ) أثر الشيخ المرشد على القلوب شبيه بأثر الخاتم على الشمع ، ولكن من إذا الذي صنع في الأصل نقش الخاتم ؟
 
( 1326 ) صانع هذا النقش هو الصائغ ، وهو هنا رمز للخالق .
فهناك سلسلة مترابطة الحلقات ، تربط المسببات بأسبابها حتى تصلها بالخالق .
 
( 1327 ) من القلوب ما يتردد في جوانبه صوت رسالات السماء ، ومنها ما يكون خاليا من هذا الصوت .
 
( 1329 ) تختلف الجبال في مقدار الصدى الذي تردد به ما تتلقاه من أصوات ، فمنها ما يكون رجع الصدى فيه محدودا ، ومنها ما يكون رجع الصدى فيه عظيما مدويا . وهكذا شأن القلوب بالنسبة لصوت السماء ، فمنها ما يستجيب له بقدر محدود ، ومنها ما يكون عظيم الاستجابة .
 
( 1330 ) ان مئات الألوف من ينابيع الحكمة والمعرفة تتفجر من استجابة العارفين والمؤمنين لدعوة السماء .
 
( 1331 ) إذا ما فارق القلوب صوت السماء صارت المعارف التي تصدر عنها غير سائغة المذاق . ومع أن الأصل في طبيعة القلوب أن تكون لطيفة ، لا يصدر عنها الا ما هو لطيف ، فإنها بالخبث والجحود تفارق
 
“ 484 “
 
طبيعتها فلا يصدر عنها غير ما يؤذى ويضر .
( 1332 ) “ المليك الأكبر “ هنا هو موسى ، عليه السلام ، فقد صعد فوق جبل الطور ، وناجى ربه ، فتجلى له الله . ولقد بورك الجبل بهذا التجلي الإلهي . ولعل الشاعر يستخدم الرمز هنا أيضا ، فيكون مرور موسى فوق جبل الطور رمزا لاشراق نور الرسالات السماوية على قلوب العارفين ، وليس سوى هذا ما يسمو بها ، ويعلى قيمة جوهرها .
 
( 1333 ) “ ان الجبل قد أصبح ذا روح وادراك حين تجلى له الخالق ، فكان أن دُكّ ساعة التجلي . فما هو هذا الجمود الذي أصاب بنى الانسان إزاء رسالات السماء ؟ فهل يكون الناس أقل ادراكا من الحجر ؟ “ . ( انظر : مثنوى ، ج 1 ، 25 - 26 ) .
 
( 1334 - 1335 ) ينتقد الشاعر في هذين البيتين ما يعانيه الناس من جمود روحىّ وجسدي .
 
( 1336 ) “ أين الحمية التي تجعلهم يعملون على افناء هذا الكيان الذاتي الراسخ الذي يقف كالجبل حائلا بينهم وبين تلقى نور الرسالات “ .
 
( 1337 ) لعل فناء النفس الحسية - التي تقف حائلا دون التأمل الروحي - يتيح للقلب أن يتلقى لمحة من أشعة التجلي ، فيستضىء بنورها الكيان الانساني .
 
( 1338 - 1339 ) يوازن الشاعر هنا بين القيامة الكبرى التي تعنى نهاية العالم ، وفيها يصيب العالم الدمار “ وتصير الجبال كالعهن المنفوش “ ، وهذه القيامة لا يهون أمرها على الانسان ، فهي موقف فيه هول ورعب ، على حين أن تلك “ القيامة الروحية “ تحقق الراحة والأمن والسلام . فالقيامة الروحية هي بعث الروح الذي أزهقته الشهوات ، وخنقته الأطماع . ان خلاص الروح من الشهوات والأطماع يمثل لونا من البعث ، يتيح للانسان حياة جديدة . ) ( انظر ما كتبه الجيلى عن “ الساعة الكبرى “ ، و “ الساعة الصغرى “ . الانسان الكامل ، 2 : 52 - 57 ) .
 
“ 485 “
 
( 1340 ) كل من استطاع أن يبلغ هذه اليقظة الروحية ، فقد تحقق له الأمن في موقف البعث الرهيب . وهذه اليقظة ذاتها هي السبيل لمحو ما سبقها من سيئات .
 
( 1345 - 1347 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات عن الصوفية الذين يسعون إلى افناء ذواتهم في ذات الله ، ويستشعرون التحقق بالفناء ، فيدفعهم هذا إلى التعبير عن هذا الاحساس بعبارات تعرف عادة بالشطح .
وهناك عبارات كثيرة تروى عن أهل السكر من الصوفية . ومن أمثله ذلك قول أبى يزيد البسطامي : “ سبحانى ، ما أعظم شأني “ ، وقول الحسين بن منصور الحلاج : “ ما في الجبة غير الله “ .
 
( 1348 ) من الصور التي يتخذها جلال الدين رمزا للفناء الصوفي تلاشى لون الحديد في لون النار . وقد سبق أن قدم صورا مماثلة لهذه الصورة . ( انظر : مثنوى ، ج 1 ، 1531 - 1535 ) .
 
[ شرح من بيت 1350 إلى بيت 1500 ]
 
( 1353 ) الانسان الذي أصبح - بفنائه في الذات الإلهية - مغمورا بنور الله ، يكون جديرا بأن تسجد له الملائكة ، كما سجدت لآدم .
 
( 1354 ) كل انسان خلصت روحه من الشك والطغيان ، يصير كالملائكة ، وإذ ذاك ، يخلص في متابعة هذا الانسان الكامل ، لأن الله هو الذي اجتباه .
 
( 1355 ) خشي الشاعر من تلعق المستمع بالتمثيلات ، وانصرافه عن جوهر المعنى فقال : “ وأي قيمة للنار والحديد في هذا البحث . انهما ليسا سوى مثالين ، فلا تقع أسير التشبيه ، في حين أنك تسخر من التشبيه “ .
 
( 1356 ) “ ما دمت قد تعلقت باللفظ وانصرفت عن الجوهر ، ( وقد تجلى هذا في تعلقك بظاهر المثال ، وانصرافاك عن جوهره ) ، ما دمت كذلك فلا تتقدم نحو بحر الوحدة ، وأقلل من حديثك عنه . والزم الصمت والحيرة إزاء هذه الأسرار ، ولا تخض في الحديث عنها “ .



“ 486 “
 

( 1357 ) البحر رمز للخالق الذي يستوعب في وجوده كل الموجودات .
والشاعر يقول إنه برغم ضعفه البالغ أمام مثل هذا البحر فهو حريص على خوضه ، لا يطيق ابتعادا عن الفناء في لجِّه . والمقصود بخوض اللج السعي إلى افناء الذات الانسانية .
 
( 1358 ) قول الشاعر : “ هذا البحر هو الذي أدى دية العقل والروح “ ، يعنى أن الخالق يمنح البقاء جزاء لمن أفنى ذاته في السعي اليه .
 
( 1359 ) “ سوف أسعى إلى البحر ما دامت إلى إرادة . فإذا ما بلغته - بافناء ارداتى - بقيت ملازما له ، لا أحيد عنه “ .
 
( 1360 ) من تحقق له هذا الوصول - مهما كان مشوبا بشئ من النقص - خير ممن تخلى عن السعي اليه . فالحلقة فوق الباب تكون نافعة حتى ولو كانت معوجة . “ والحلقة “ هي الأدادة التي يقرع بها الباب ، وربما قصد الشاعر أن يجعل منها رمزا للسعى .
 
( 1361 ) “ الحوض “ هنا رمز للقلب . فالشاعر يدعو المتعلقين بالحس - ممن تلوثت أجسادهم - إلى أن يكون تعلقهم بالقلب ، لا بالجسد ؛ فالقلب هو الحوض الذي ينضح بماء الطهر ، ولا سبيل إلى الطهر بدونه .
 
( 1362 ) من كان طاهر الجسد لا يكون طاهر الذات ، إذا تخلى عن حياة القلب .
 
( 1363 ) طهارة القلب لا حدود لها ، أما طهارة الجسد فهيِّنة الأمر ، طفيفة القيمة .
 
( 1364 ) القلب هو الحوض الذي يفيض منه الطهر ، ذلك لأن له اتصالا خفيا ببحر الطهر ذاته .
 
( 1365 ) هذا الطهارة التي تتحقق بالتقوى تحتاج إلى مدد دائم من القلب ، والا تناقصت على مرّ الزمن ، إذ أن العبادات تصبح مجرد عادات ما لم تستند إلى الايمان القلبي المتجدد . فبدون هذا الايمان تخلو العبادات - بمرور الزمن - من روحها .

 
“ 487 “
 
ونور القلب أو الروح ، وهو النور الذي يفيضه الله على قلوب أهل الصفاء ، فيجعل لنور الحس ادراكا أوسع ، وشهودا لا يقتصرا على الواقع المحسوس ، وانما يتعداه إلى الغيب المحجب . وقد بحث الغزالي هذا الموضوع في مشكاته . قال : “ اعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ، ولا يبصر ما بعد عنه ، ولا يبصر ما هو وراء حجاب . ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها . ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها . ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له . ويغلط كثيرا في ابصاره : فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا . فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة . فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أم لا ؟
واعلم أن في قلب الانسان عينا هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الانساني . . . “ ويمضى الغزالي بعد ذلك بعد في بيان تنزه نور ، القلب عن هذه النقائص التي يعاني منها ابصار العين . ( مشكاة الأنوار ، 43 - 49 ) .
وأسلوب جلال الدين في الموازنة بين النورين قائم على التصوير الفنى ويكثر فيه استخدام الرمز .
والصبر على أمر الله هو سبيل الخلاص . لقد صبر يوسف ، فأرسل الله اليه من خلصه من البئر . والروح الصابر أيضا يمد الله له أسباب النجاة .
 
( 1279 ) “ عالم الروح الجديد “ يعنى “ العالم الحافل بالرؤى ، المتجدد على الدوام “ .
 
( 1280 - 1283 ) يشبه الشاعر في هذه الأبيات عالم الحس وعالم الغيب بالتراب والهواء .
فالتراب ينتشر في الفضاء ، ويبدو كأنه موجود متحرك ، أما الهواء
.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: