الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

07 - كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

07 - كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

07 - كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي

[قصة ظلم الأسد على الوحوش وتدبيرها عليه ]

900 - كانت طائفة من الوحوش في واد طيّب ، وكانت دائمة الذعر من الأسد .
لقد أصبح هذا المرعى غير هنيء لجملة الوحوش ، لأنّ الأسد ، كثيراً ما خرج من مكمنه ، واختطفها .
فاحتالوا للأمر ، وجاءوا الأسد ( قائلين ) : « إننّا سوف نشبعك دوماً بوظيفة ( ثابتة ) .
فلا تبغ صيداً بعد تلك الوظيفة حتى لا يصبح ذلك المرعى لنا مرّ المذاق » .


كيف أجاب الأسد الوحوش وذكر لها فائدة السعي

فقال الأسد : «أقبلُ إنْ رأيت منكم وفاء لا مكراً، فكم بلوت المكر من زيد ومن بكر.

“ 174 “

905 - فإنّي ضحيّةُ فعل الناس ومكرهم ، إنّي لديغُ الحية والعقرب ! ولكنّ إنسان نفسي ، الكامن في كياني ، أسوأ من كل الناس في مكره وغدره .
ولقد سمعتْ أُذني قول الرسول : “ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) ، فاخترت هذا بقلبي وروحي “ .

كيف رجّح الوحوش التوكل على السعي والاكتساب

فقالت جملة الوحوش : “ أيّها الحكيم العالم ، دع الحذر فليس يُعني عن قدر .
إنّ في الحذر الحيرة البالغة والشرّ ، فاذهب وتوكّل على اللَّه ، فالتوكلّ خير .

910 - ولا تضرب بقبضتك القضاء - أيّها العنيف الحادّ - حتى لا يلتحم القضاء في صراع معك .
فالمرء يجب أن يكون ميّتا أمام حكم الحق ، وإلا جاءته الضربةُ من ربّ الفلق “ .


كيف رجّح الأسدُ السعي والاكتساب على التوكلّ والتسليم

فقال الأسد : “ إذا كان التوكلّ هو المرشد ( الصادق ) ، فإنّ ( الإفادة ) من الأسباب هي أيضاً سنة النبيّ .


“ 175 “

فقد نادى الرسول بأعلى صوته : « اعقل فخذ بعيرك وتوكلّ على اللَّه » . « 1 » 
واستمع إلى مغزى قول القائل : « الكاسب حبيب اللَّه » ، ولا تكن بتوكلّك متراخياً عن الأسباب والوسائل !

كيف رجّحت الوحوش التوكّل على الاجتهاد

915 - فقالت الوحوش للأسد : « أعلم أنّ الكسب من ضعف الخلق ، وأنه لقمة مزوّرة على قدر الحلق ! 
فليس هناك كسب أحسن من التوكل ، وأيُّ شيء أحبّ ( إلى اللَّه ) من التسليم ؟
فكم يفر المرء من بلاء ليقع في بلاء آخر! وكم يهرب المرء من الثعبان ليلقى التنّين! 
لقد احتال الانسان فكانتْ حيلته شركاً وقع فيه ، وكان موته فيما حسب أنه حياته ! 
فقد أوصد الباب والعدوّ في منزله! وإنّ حيلة فرعون لم تكن إلا قصة من ذلك النوع.

920 - فهذا الحقود قد قتل أُلوف الأطفال ، بينما كان الطفل الذي يبحث عنه في منزله !
.........................................................................
( 1 ) جاء في حديث مروي عن أنس بن مالك أنه قال : جاء رجل على ناقة له فقال :
يا رسول اللَّه أدعها وأتوكل ، فقال : أعقلها وتوكل . ( الرسالة القشيرية ، ص 76 ، مكتبة صبيح ، القاهرة 1948 ) .


“ 176 “

إنّ بصرنا يعاني الكثير من العلل ، فاذهب وأفْن بصرك في بصر الحبيب ! 
فإذا أصبح إبصارُنا إبصارَه فما أجمل العوض! إنك ببصره، تجد كلّ أمل تتطلع إليه.
فالطفل ما لم يشتدّ ساعده ويقول على الجري ، فليس له من مركب سوى عنق أبيه.
فإذا ما أظهر الفضول ، واستخدم يديه ورجليه ، وقع في العناء والشقاء .
 

925 - إن أرواح البشر - قبل خلق الأيدي والأرجل - كانت - لو فائها - تحلق في جو الصفاء .
وعندما قُيِّدت الأرواح بأمره تعالى :” اهْبطُوا “ *” 1 “ ، صارت أسيرة الغضب والحرص والرضى .
إننا عيالُ اللَّه ، نطلب منه اللبن. وقد قال ( الرسول ) : “ الخلق عيال “ 2 “اللَّه“.
فذلك الإله الذي يُنزل الغيث من السماء ، قادر أن يمنحنا الخبز رحمة منه وإشفاقاً “ .

كيف كرّر الأسد ترجيح السعي على التوكل

فقال الأسد : “ نعم ! ولكنّ ربّ العباد وضع سلّماً أمام أقدامنا .
930   فالواجب أنْ نصعد السُلمَّ درجة درجة نحو القمة . وأما القول
...............................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ “ . ( 2 : 36 ) .
أو إلى قوله : “ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون “ . ( 2 : 38 )
( 2 ) يقصد هنا الحديث الذي رواه ابن مسعود عن الرسول ( ص ) وفيه يقول :
“ الخلق كلهم عيال اللَّه فأحبهم إلى اللَّه أنفعهم لعياله “ .


“ 177 “

بالجبر هنا فإنّه طمع ساذج .
إنّ لك ساقين ، فكيف تجعل من نفسك إنساناً أعرج ؟ . وإن لك يدين ، فكيف تخفي أصابعك ؟
فالسيّد عندما يضع الفأس في يده عبده ، يتضح مرادهُ دون حاجة إلى القول .
فاليدُ مثل الفأس ، إشارة منه إلينا ( لنسعى ) ، والتفكر في العقبى عباراتُه ( الموجّهةُ إلينا ) .
فإنْ جعلت إشاراته في قلبك ، ضحيت بروحك من أجل تحقيق ما أشار به .

935 - فإشاراته تمنحك الأسرار ، وتضع عنك وزرك ، وترفع قدرك . “ 1 “ 
وإنّ حمل ( أمانته ) ليجعلنّك محمولًا إلى عليّين ، وإن تقبّل ( أوامره ) ليجعلنّك مقبولًا عنده .
وإذا قبلت أمره أصبحت ناطفاً ( بأمره ) ، وإن كنت تبغي الوصل أصبحت واصلًا من بعد ذلك ( القبول ) .
إن السعي لشكر نعمته لهو القدرة ( والاختيار ) ، وأما إنكار النعمة فهو الجبر .
فشكرك على القدرة ، يزيد من قدرتك ( وحرية إرادتك ) ، وأما الجبر فيُخرج تلك النعمة من يديك .

940 - واعتقادك الجبر مثل النوم في الطريق ، فلا تنم ! وكن يقظاً حتى ترى الباب والصرح ! 
حذار أيها الجبرّي الذي لا يعتبر ! لا تنم إلا تحت هذه الشجرة المثرة !
...................................................
( 1 ) الشطر الأول من هذا البيت كما ورد في طبعة نيكولسون هو :
“ بس اشارتهاى أسرارت دهد “ ! وترجمته : “ وإنه ليعطيك الكثير من علائم الأسرار “ .
ولكنا فضَّلنا على هذا نصَّ الشطر كما ورد في المنهج القوي .
“ پس إشارتهاش أسرارت دهد “ .


“ 178 “


فلسوف تهزّ الريح الغصون في كل لحظة فتُساقطُ على النائم نُقلًا وزادا .
إن ( اعتقاد ) الجبر كالنوم بين قُطاّع الطرق ، وهل يجد الأمان طائرُ لم يكتمل جناحاه ؟
فإذا شمخت بأنفك ( وتعاليت ) على أوامره فأنت - لو تحقّقت الأمر - امرأة وإن حسبت نفسك رجلا “ 1 “ .


945 - ويضيع منك ما لديك من عقل ، وما رأس بلا عقل سوى ذَنَب .
إن كفران النعمة شؤم وعار . إنه يلقي بصاحبه إلى قرار النار .
فإذا توكلت على اللَّه فتوكل عليه في عملك ، ألق البذور ثم توكل على الخالق الجبار .

كيف عاودت الوحوش ترجيح التوكل على الجهد

فعلا صوتُ الوحوش جميعاً قائلين للأسد : “ ما لهؤلاء الحريصين الذين زرعوا الأسباب .
وهم ألوف مؤلفة من الرجال والنساء - ظلّوا محرومين من مواتاة الزمن ؟

950 -  فقد مرّت آلاف القرون منذ بدء العالم ، وكان كل منها يفغر مائة فم كفم التنّين .
فهذا فريق من الأذكياء مكر مكراً كاد يقتلع الجبال من أساسها .
ووصف ذو الجلال مكرهم ( بقوله ) :” وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ منْهُ الْجبالُ ““ 2 “ .
فلم يحقق لهم ذلك الصيد والعمل إلا ما قُسم لهم منذ الأزل !
...................................................................
( 1 ) في البيت جناس بين كلمتي ، “ زني “ بمعنى تضرب “ وزني “ بمعنى امرأة .
( 2 ) سورة إبراهيم ، 14 : 46 .

“ 179 “


لقد فشلوا جميعاً في التدبير والعمل ، وبقي قضاء الخالق وأحكامه .
955  فيا نابه الذكر ! اعلم أنّ الكسب ليس سوى الذكر الحسن ! وأنت أيها الخبيث ! لا تحسبنّ الجهد إلا وهماً وهباء “ .

كيف نظر عزرائيل إلى رجل وكيف فرّ ذلك الرجل إلى قصر سليمان 
وتقدير رجحان التوكّل على الجهد ( وبيان ) قلة فائدة الجهد
 
في ضحى أحد الأيام ، جاء حرّ “ 1 “ إلى قصر سليمان ، واندفع إلى بهو عدالته .
لقد كان - من الهمّ - أصفر الوجه أزرق الشفاه .
فقال له سليمان : “ ما ذا بك أيها السيّد ؟ “ .
فقال ( الرجل ) : “ إنّ عزرائيل قد نظر إلىّ نظرة مشحونةً بالغضب والبغصاء ! “ .
فقال سليمان : “ وما الذي تريده الآن ؟ سلني ! “ فقال الرجل : “ يا ملجأ روحي ! مر الريح .

960 - أنْ تحملني من هنا إلى بلاد الهند ، فلعلّ عبدَك ينجو بروحه عندما يصل إلى تلك البلاد “ .
فهكذا يفرّ الخلقُ من الفقر ، وهم - من جرّاء ذلك - لقمةُ ( في فم ) الحرص والأمل ! 
فخوف الفقر يشبه الخوف في هذه القصّة ، وأما الحرصُ والسعي فيشبهان الهند .
فأمر سليمان الريح أن تسرع ، فتطير به فوق الماء إلى أقصى بلاد الهند .
...........................................................................
( 1 ) ترجمة : “ زاد مردي “ . وفي نص المنهج القوي “ ساده مردي “ أي رجل غزّ .

“ 180 “

وفي اليوم التالي - ساعة الديوان واللقاء - قال الملك سليمان لعزرائيل :


965 - أَنظرتَ بغضبٍ إلى ذلك المُسلم ، لكي يشرُدَ بعيداً عن درياره ؟ “ .
فقال عزرائيل : “ متى نظرتُ إليه بغضب ؟ إنني نظرتُ إليه متعجّباً عندما رأيته في الطريق ! 
فقد أمرني الحقّ أقبض اليوم روح ذلك الرجل في بلاد الهند .
فقلت متعجبّاً : لو أنّ لهذا الرجل مائةَ جناح ، فإنّ وصوله ( اليوم ) إلى الهند أمرُ بعيد “ .
فلتقس أمور الدنيا على ذلك ، ولتقتحْ عينيك وتتأمل .


970 - فمن نَفرُّ ؟ أمن أنفسنا ؟ إنّ هذا لهو المحال ! ومن نختبىء ؟ “ 1 “ أمن اللَّه ؟ ذلك عين الوبال !
 
الأسد يعود لترجيح الجهد على التوكّل ويبيّن فوائد الجهد

فقال الأسد : “ نعم ! ولكن أنظروا أيضاً إلى الجهود التي بذلها الأنبياء والمؤمنون !
لقد بارك اللَّه تعالى جهودهم ، وما لا قوه ( فيها ) من جفاء وحرّ وبرد .
فجاءت تدابير همُ في جملة الأحوال لطيفة ، وكلّ ما جاء من لطيف فهو لطيف .
لقد صادت شباكُهم طائرَ الفلك ، وتحققت لهم الزيادة في كل ما كان ينقصهم .


975 - فاجتهد أيها السيّد ما استطعت في اتباع طريق الأنبياء والأولياء .
.................................................................
( 1 ) آثرنا ترجمة برباييم ( من ربودن ) على هذا النحو ، فالاختفاء أحد معانيها .


“ 181 “

وليس الجهاد في مغالبة القضاء ، ذلك لأنّ القضاء هو الذي فرض علينا ذلك الغلاب “ 1 “ .
وأكون كافراً لو أنّ السائر في طريق الإيمان والطاعة أحدث في أية لحظة ضرّا .
إنّك لست مكسور الرأس ، فلا تعصب رأسك ! وابذل جهدك يوماً أو يومين “ 2 “ ثم اضحك إلى الأبد ! 
ومن طلب الدنيا فقد أراد سوء المقام ، وأما من طلب العقُبى فقد تطلّع إلى صلاح الحال .

980 - إنّ المكر لكَسْب الدنيا بارد (سقيم) ، أما المكر لتركها فوارد (مقبول).
فالمكر يكون بإحداث حفرة في السجن ( يهرب منها السجين ) ، فمن سدّ مثل هذه الحفرة فمكره سقيم .
إنّ هذه الدنيا سجن نحن به سجناء ، فاحفر في ذلك السجن حفرة ، وخلّص نفسك .
فما هذه الدنيا ؟ إنّها الغفلة عن اللَّه ، وليست قماشاً وفضة وميراثاً “ 3 “ ونساء .
وإنّ المال الذي تحمله من أجل الدين لهو نعم المال الصالح “ 4 “ كما قال الرسول . 

985 - فالماء في السفينة هلاكُ لها ، وأما تحت السفينة فهو سند لها .
....................................................................
( 1 ) يريد أن يقول إن مغالبة القدر ليست جهاداً ، لأن الانسان لا يقوم بها بادئاً ، وإهما هي مفروضة عليه من القدر الذي يهاجمه ، فيحاول إذ ذاك أن يدفع عن نفسه غائلته .
( 2 ) ابذل جهدك في تلك الحياة القصيرة ثم اضحك إلى الأبد في عالم الخلود .
( 3 ) في طبعة نيكولسون : “ ني قماش ونقره وميزان وزن “ . ولعل كلمة ميزان تحريف لميراث ، وفي طبعة المنهج القوي : “ ني قماش ونقره وفرزند وزن “ ، ( وليست قماشاً وقصة وبنين ونساء ) .
( 4 ) إشارة إلى قول الرسول ، عليه السلام : نعم المال الصالح للرجل الصالح .
 

“ 182 “

وما كان سليمان يلقّب نفسه إلا بالمسكين ، وذلك لأنّه صرف من من قلبه ( الاعتزاز ) بالمال والملك .
إنّ الكوز - إذا وُضعت في المياه الغامرة - تطفو فوق الماء لامتلاء جوفها بالهواء .
فإذا كان باطن المرء مليئاً بهواء المسكنة ، بقي ساكناً على صفحة ماء الدنيا .
ولو كانت الدنيا بأكملها ملكاً له ، فإن هذا الملك يبدو عديم القيمة أمام عين قلبه .


990 - فأغلق فم قلبك واختم عليه ، ثم املأ قلبك بهواء الكبر المنبعث من عالم الملكوت الأعلى “ 1 “ .
فالجهد حقّ كما أنّ الدواء حقّ ، والمرض حقّ ، وما منكر الجهد إلا جاهد في إنكار جهده “ .

تقرير رجُحان الجهد على التوكل

ولقد ذكر كثيراً من البراهين على هذا النحر ، حتى عجز هؤلاء الجبريون عن جوابه .
فالثعلبُ والغزال والأرنب وابن آوى تركوا القول بالجبر ، وانصرفوا عن الجدال .
وعقدوا العهود مع الأسد المفترس ( مؤكّدين ) له أنّه لن يضاّر من هذا الاتفاق .
.................................................................
( 1 ) صحيح نيكولسون نص هذا البيت في تعليقه عليه ، فهو يرى أن تقرأ عبارة “ يادگير من لدن “ بصورة أخرى هي “ بادكبر من لدن “ . وهناك روايات أخرى لهذه العبارة هي “ باد مهر من لدن “ ، “ باد علم من لدن “ .
 

“ 183 “

 995 وأنّ رزقه اليومي سيأتيه بدون عناء ، فلا تكون له حاجة بعد إلى مزيد من الطلب .
فكل من كانت تقع عليه القرعة يوماً ، كان يقفز مسرعاً كالقرد نحو ذلك الأسد .
وعندما جاء دورُ الأرنب ليتجرّع تلك الكأس ، صاح قائلًا : “ أما من نهاية ألهذا الجور ؟ “ .
 
كيف أنكر الوحوش على الأرنب تأخره في الذهاب إلى الأسد

فقالت له الوحوش : “ إننّا كثيراً ما ضحّينا بأنفسنا من أجل العهد والوفاء .
فلا تجلب لنا سوء السمعة أيّها العنيد! وأَسرعْ بالذهاب ، حتى لا يضيق صدر الأسد“.

جواب الأرنب للوحوش
1000 - فقال الأرنب : “ أيّها الرفاق ! أمهلوني رويداً حتى تخلصوا بمكري من هذا البلاء ! 
فتجد أرواحُكمُ الأمانَ بمكري ، ويبقى ذلك الأمان ميراثاً في عقبكم .
فكلّ نبيّ كان يدعو أمتّه - مثلما أدعوكم - حتى يخلِّصها .
فهو الذي رأى في السماء طريق النجاة ، على حين ظلّ هذا الطريق


“ 184 “

- في نظر الناس - منظوياً في الخفاء ، كأنه إنسان العين .
لقد رآه الناس صغيراً كإنسان العين ، ولكن لم يسلك أحدُ منهم سبيل التفكرّ في عظمة ذلك الإنسان الصغير “ .
 

كيف اعترض الوحوش على كلام الأرنب

1005 - فقالت الوحوش : “ أيّها الأرنب المغرور “ 1 “ . إنّك أرنب فلا تجاوز بنفسك حدّ طاقتها ! 
أيّ كلام دار بخلدك بدون أنْ يكون قد دار بخاطر من هم أفضل منك ؟
أمصابُ أنت بالعُجْب ؟ أم أنّ القضاء يلاحقنا ؟ وإلا فمتى كان مثل هذا القول لائقا بك ؟ “ .

الأرنب يجيب طائفه الوحوش

فقال الأرنب : “ أيّها الصحاب ! إنّ اللَّه ألهمني ، فوقع لضعيف مثلي رأى قويّ ! 
ولقد علّم اللَّه النحل ما لا يتحقّق علمه للأسد أو لحمار الوحش !

 

1010- فهي تصنع بيوتاً مليئة بالشهد ، وهذا باب من العلم فتحه اللَّه لها !
…………………………………………..
( 1 ) في نص المنهج القوي : “ قوم گفتندش كه اي خرگوش زار “ . ومن معاني زار “ مغرور “ ، “ حقير “ . أما طبعة نيكولسون فهي : “ قوم گفتندش كه اي خرگوش دار “ : والمعنى : “ قالت الوحوش للأرنب : أصغ الينا أيها الحمار “ .

 
“ 185 “

وتلك الحليةُ التي علّمها الحقّ دودة الحرير ، أيعلم فيلُ مثلها ؟
إن آدم - وهو المخلوق من الطين - تعلّم العلم من الحقّ فأشرقت أنوارُ علمه في أعلى سماء “ 1 “ .
فحطّم اسم الملائكة وعزّتها ، وأعمى بصيرة من خالجه الشكُّ في الحقّ .
ولكنّ هذا الزاهد خلال آلاف السنين ( إبليس ) وضع خطاماً على فم ذلك العجل “ 2 “ ( آدم ) .


1015 - حتى لا يستطيع ارتشاف لبن علم الدين ، ولا يدور حول ذلك القصر المشيد “ 3 “ .

ولقد صارت علوم أهل الحسّ خطاماً في فم البشر ، فلم تدعهم يشربون لبان ذلك العلم ( الروحانيّ ) الرفيع .
ولكنّ اللَّه ألقى في سويداء القلب جوهرة ، لم يودع مثلها في البحار ولا في الأفلاك .
فيا عابد الصورة ! إلام اعتدادك بالصورة ؟ إنّ روحك المجرّدة من الحقيقة لم تتحرّر منها ! 
فلو كانت الإنسانية بالصورة ( وحدها ) لتساوى أحمد وأبو جهل .


1020 - إن النقش على الحائط يكون على صورة الإنسان ، ولكنْ تأمل ! كم ينقص تلك الصورة من الصفات الآدمية !
...........................................................
( 1 ) الترجمة الحرفية : في السماء السابعة .
( 2 ) هذا بيت غامض في ظاهره . وقد اطلعت على شروح كثيرة له لم أقتنع بأيّ منها ، ذلك لأنها لا تتمشى مع المعاني الواردة في الأبيات التالية . ولا يتسع المقام هنا لمناقشة كل هذه الشروح وبيان خطئها .
( 3 ) واضح من هذا البيت أنّ الخطام الذي وضعه إبليس على فم آدم كناية عن إضلاله البشر بصرفه إياهم عن تذوق المعرفة الحقيقة وسلوك السبيل إليها ، والمعرفة الحقيقة هنا عبَّر عنها بقوله ( لبن علم الدين ) . وأما القصر المشيد فهو مرتبة الكمال التي يطمح إليها الإنسان، فالخطام يصرفه عن الدوران حولها لمحاولة الوصول إليها .


“ 186 “

فهذه الصورة اللامعة ينقصها الروح ، فاذهب وفتِّش عن ذلك الجوهر النادر الوجود .
إنّ أسود العالم كلها قد انخفضت رؤوسها ، عندما أمدّ اللَّه بعونه كلب أصحاب الكهف .
وأيّ ضرر قد حاق به من شكله القبيح ، ما دامت روحُه قد أصبحت غارقة في بحر النور ؟
وليست الأقلام لوصف الصورة ، فليس في الكتب إلا صفات مثل “عالم“ و “عادل".

1025 - ومثل تلك الصفات ليست إلا معاني مطلقة ، وإنّك لن تجدها في مكان ، لا أمامك ولا وراءك .
إنّها صفات تَنفذ إلى الجسم من اللامكان ، ذلك لأنّ شمس الروح لا يسعها الفلك ! .

ذكر علم الأرنب وبيان فضيلة العلم ومنافعه

إنّ هذا الكلام لا نهاية له ، فتنبه وأصغ إلى قصة الأرنب .
وبع أذنك الحماريّة (الحسيّه) واشتر أذناً أخرى، فإنّ أذن الحمار لا تفهم هذا القول! 
ثم اذهب ، وتأمل تلك الحيل الثعلبية التي لعبها الأرنب ، وانظر مكر الأرنب وخطته لاصطياد الأسد !


1030 - إنّ العلم خاتم ملك سليمان ، فالعالم كلّه صورة والعلم هو الروح .
وبفضل العلم ، لم تبق لمخلوقات البحار ، ولا الجبال ، ولا الصحارى حيلة أمام الإنسان .
فالنمر والأسد يرهبانه ، فهما أمامه مثل الفأر ! وتمساح النهر من
 

“ 187 “

خوفه ( أصابته ) الصفراء ، ( وتملكه ) الاضطراب ! ومن ( خوف ) الإنسان ،
 لجأت الجن والشياطين إلى السواحل ، واّتخذ كلّ منها مكاناً خفيّا .
وما أكثر ما اختفى من أعداء الإنسان ! فالعاقل من كان حذراً .

1035  ففي الخفاء خلائق محتجبة ، منها الشرير ومنها الخيرّ ، وهي في كلّ لحظة تدق القلب بضرباتها ! 
إنّك لو ذهبت للاغتسال في النهر ، أوقعت بك الضرّ شوكة في الماء .
فالشوكة تكون مختفية في قاع الماء ، ولكنّك تعلم بوجودها من وخزها .
وإنّ وخز أشواك الحيل والوساوس ليجىء من آلاف الأشخاص ، لا من شخص واحد “ 1 “ .
فاصبر حتى يتبدّل حسّك ( الماديّ ) ، “ 2 “ فترى هذه الكائنات الخفيّة ، وتُحلّ المشكلة .

1040 - فإنّك حينذاك تعلم ( حقيقة ) من خالفت رأيهم ، وتدرك ( كنه ) من أوليتهم قيادك .

كيف عاودت جماعة الوحوش مطالبة الأرنب بالافصاح عن سرَّ تفكيره
 
فقالت الوحوش - بعد ذلك - لأرنب : أيّها الأرنب الخفيف الحركة !
....................................................................
( 1 ) يمكن أن يُقرأ الشطر الثاني من البيت : “ ازهزاران حس بود نايك حسه “ .
فيكون معنى البيت : “ إنَّ وخز أشواك الحيل والوساوس ليجيء من آلاف الأحاسيس لا من حس واحد “ .
( 2 ) أي حتى يتبدل حسك المادي فتصبح ذا إحساس روحيّ نافذ .
 
“ 188 “

أفصح لنا عما هو كامن في إدراكك .
يا من اشتبكت مع الأسد في صراع ، أَبنْ لنا ذلك الرأي الذي فكرّت فيه ! 
إنّ الشورى تلهم الإدراك والفهم ، كما أنّ العقل يلقى العون من العقول الأخرى .
ولقد قال الرسول : يا مبرم الرأي! شاور في الأمر ، “ فالمستشار مؤتمن “ “1“.

كيف أخفى الأرنب سره عن الوحوش

1045   فقال الأرنب : “ ليس كّل سرّ مما تجوز إذاعته ، ( ففي اللعب ) قد قد ينقلب العدد الزوجي فردياً ، وقد يأتي الفرديّ زوجياّ “ 2 “ .
وإن أنت تنفست في وجه المرآة لتجو صفحتها فسرعان ما تصبح مظلمة أمام أعيننا “ 3 “ .
فعليك بالإقلال من الحديث عن أمور ثلاثة ( تلك هي ) ذهابك ، وذهبك ، ومذهبك .
فكم لك من خصم أو عدوّ في كلّ من تلك الأمور ، يقف لك بالمرصاد عندما يعلم بأيّ منها ! 
فلو أخبرت بسرّك رجلًا أو رجلين فوداعاً له ، فكلّ سرّ جاوز الاثنين شاع .
........................................................................
( 1 ) جاء في الحديث قول الرسول ( ص ) : المستشار مؤتمن .
( 2 ) الأعداد هنا تشير إلى إحدى لعب العجم والمقصود أنه قد يقع ما ليس في الحسبان .
( 3 ) الترجمة : وإن أنت من أجل صفاء المرآة تنفست في وجهها فسرعان ما تصبح تلك المرآة مظلمة أمامنا .

“ 189 “


1050 - ولو ربطت اثنين أو ثلاثة من الطير برباط واحد ، بقيتْ على الأرض حبيسة الألم .

ولكنّها تدير فيما بينها مشورة بالغة الخفاء ، يمتزج غموضها بما يخدع ( من يلحظها ) ! 
ولقد كان الرسول يُجرى مشورته بطريقة مستترة ، فكان يجيب صحابه دون أن يذيع سرّاً ! 
إنّه كان يُعلن رأيه بكلام اتخذ صورة المثل حتى يلتبس الأمر على الخصم ، فلا يعرف الرأس من القدم .
وكان يحصل على جوابه من خصمه ، بينما كان الخصم لا يدرك من سؤال الرسول سوى رائحته .

قصة مكر الأرنب

1055- لقد تأخّر الأرنب في الذهاب ساعة ، مثل أمام الأسد المتحفّز المخالب .
فكان من تأخّر الأرنب في الذهاب ، ما جعل الأسد يمزّق الأرض ويزأر .
وقال : “ لقد قلت إنّ عهد هؤلاء الأخساء عهدُ فجّ واه ، لا يتحقق .
إنّ هراءهم قد أوقعني من فوق حماري “ 1 “ ؛ فإلام إلام يخد عني هذا الدهر ؟ “ .
فما أعجز الأمير ذا اللحية الواهية “ 2 “ ! إنه الحماقته لا يرى ما وراءه ولا ما أمامه !
................................................................
( 1 ) قد خدعني .
( 2 ) اللحية التي توحي بالحكمة دون أن يكون هناك عقل وحكمة عند صاحبها .

“ 190 “


1060 - والطريق يبدو مستوياً ، على حين تكمن فيه الحفر ، والأسماء ( كثيرة ) ولكنّها تفتقر إلى المعنى .
إنّ الألفاظ والأسماء مثل الحبائل ، واللفظ الحلو هو الرمل الذي يتشرب ماء عمرنا .
وهناك رمل واحد يتفجر منه الماء ، رمل نادر الوجود ، فانطلق وفتّش عنه .
ومن طلب الحكمة أصبح منبع الحكمة ، وفرغ من التحصيل وأسبابه .
فاللوح الحافظ ، يصبح - ( لطالب الحكمة ) - لوحاً محفوظاً ، وعقله يغدو ذا حظّ من الروح .

1065 - إنّ العقل - ( في أول الأمر ) - يكون معلّماً للمرء ولكنّه - بعد ذلك - يصبح تلميذاً له .
العقل مثل جبريل ، يقول : “ يا أحمد ! لو أنّني خطوت خطوة أخرى ، فسوف أحترق .
فدعني هنا ، وتقدّم وحدك ! إنّ هذا حدّي يا سلطان الروح ! “ وكلّ من بقي - لتراخيه وكسله - بلا شكر ولا صبر ، فهو يعلم أنّه يسير في طريق الجبر .
وكل من اتخذ الجبر مذهباً ، أمرضه الجبر ، ولازمه حتى يودعه في قبره .

1070 - ولقد قال الرسول : “ إنّ من يتمارض يمرض حتى يموت كما ينطفئ السراج “ 1 “ .
فما الجبر ؟ إنّه ربط لعضو قدُ كسر ، أو وصل لعرق قد قطع “ 2 “ .
فإذا لم تكن قدمك قد كُسرتْ في تلك الطريق ، فمن تهزأ ؟
................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله عليه السلام : “ لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا “ .
( 2 ) هنا يسخر من الجبر وهو ضد حرية الإرادة فيستخدم الكلمة لهذه المعاني التي اشتمل عليها البيت .

“ 191 “

ولماذا ربطت تلك القدم ؟
ومن يكسر قدمه في طريق الاجتهاد ، يصل إليه براق يمتطيه .
لقد كان حامل الدين ، فأصبح محمولًا ، وكان قابلًا أمر اللَّه فأصبح مقبولًا ( عنده ) .


1075 - كان - حتى ذلك الحين - يتلقى الأمر من الملك ، ثم أصبح حامل أمر الملك إلى الجيش .
وحتى ذلك الحين كانت الكواكب تؤثر فيه “ 1 “ ، ثم أصبح - بعد ذلك - أميراً للكواكب .
وإذا أُشكل الأمر عليك وأنت تتأمل هذه الحقائق ، فأنت في شكّ من قوله تعالى :” انْشَقَّ الْقَمَرُ ““ 2 “ .

فجدّد إيمانك ( بحقّ ) لا بقول اللسان ، يا من أيقظت هواك في الخفاء ! 
فطالما كان الهوى متعشاً فلا انتعاش للإيمان ، فليس الهوى إلا قفل هذا الباب !


1080- لقد أوّلت الكملة الكبر “ 3 “ ، وكان الأولى بك أن تؤوّل نفسك ، وتدع تأويل الذكر .
إنّك تؤوّل القرآن على هواك، ولذلك أصبح المعنى السَنيّ - بتأويلك - وضيعاً معوجاً.
..........................................................................
( 1 ) كان كالبشر العاديين خاضعاً لتأثير الكواكب ، ولكنه بعد أن خلص من سجن المادة خلص من تأثيرها وارتفع إلى المكانة التي تجعله أميراً عليها .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة القمر “ اقتربت الساعة وانشق القمر “ .
( 54 : 1 ) . ومعنى ذلك ، إذا عددت هذه الأمور التي أحدثك عنها من قبيل المحال ، فأنت في شك من المعجزات .
( 3 ) الطاهرة ، النقية .


“ 192 “
زيف التأويل الركيك الذي قالت به الذبابة

كانت ذبابة على عود فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها كربّان السفينة ! 
وقالت : “ إنيّ أسمّيهما بحراً وسفينة ! وهذا ما استغرق فكري مدة من الزمان ! 
فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا ( فوقهما ) الربان البارع الحصيف الرأي ! “ .

1085 - فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يحدّ .
لقد كان هذا البول يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
إنّ عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها .
فصاحب التأويل الباطل مثل الذبابة ، وهَمْهُ بول حمار ، وتصوّره قشَة .
ولو أنّ هذه الذبابة تركت التأويل ، ولزمت رأيها ، لصيّرها الجدّ السعيد عنقاء .


1090 - فمن يدرك هذه العبرة لا يكون ذبابة، كما أنّ هذه الصورة لا تليق بروحه.

“ 193 “

كيف غضب الأسد وزبحر لتأخر الأرنب في الحضور

فمن هذا القبيل ذلك الأرنب الذي ضرب الأسد ! فمتى كانت روحه على قدر جسمه ؟
لقد كان الأسد يقول في حدة وغضب : “ إنّ عدوّي قد حجب عينيّ عن طريق السعي والاجتهاد .
لقد كبّلني مكر هؤلاء المجبرين ، كما أنّ سيفهم الخشيّ آلم جسمي .
فلن أصغى من بعدُ إلى هذا الهراء ، فما هو إلا صوت الشياطين والغيلان .

1095- فمزّ قهم أيّها القلب ، ولا تتوان ( في ذلك ) ! مزّق جلودهم ، فما هم إلا جلود ! 
وما الجلد ؟ إنّه الكلام المزوّق الذي لا دوام له ، كأنّه الفقاقيع فوق الماء ! 
فاعلم أنّ الكلام مثل الجلد ، والمعنى لبابهُ ، وأنّه مثل الصورة ، وأما المعنى فمثل الروح .
والجلد هو الذي يستُر عيب اللباب الفاسد ، كما أنّه يحرص على أن يغطيّ اللباب الطيّب .
وحينما يكون القلم هواء والدفتر ماء فسرعان ما يفنى كلّ ما تكتبه !

1100 -  فهذا نقش على الماء، فلو نشدت له الدوام ، عدت (خائباً) تعضّ يديك.

“ 194 “

والهواء في الإنسان ميوله ورغائبه ، فإذا تركت هواك ( صرت جديراً ) برسالة اللَّه .
وما أحلى رسائل الخالق ! إنّها خالدة من أوّلها إلى آخرها “ 1 “ .
إنّ خطَب الملوك تفنى ، كما يفنى سُلطانهم ، ويخلد مجدُ الأنبياء كما تخلد أقوالهم .
ذلك لأنّ مجد الملوك من الهواء ، وأما مجد الأنبياء فمن مقام الكبرياء !

1105 - وأسماء الملوك تُرفع من الدراهم بعد موت هؤلاء ، وأما اسم أحمد فيظلّ يُطبع فوقها إلى الأبد .
واسم أحمد هو اسم جميع الأنبياء ، فعندما يصل العدد إلى المائة تكون التسعون معنا “ 2 “ .

عود إلى بيان مكر الأرنب

لقد تلكأ الأرنب في الذهاب طويلًا ، وأخذ يدّرب نفسه على المكر الذي انتواه .
فمضى على الطريق - بعد طول الإبطاء - ليهمس في أذن الأسد بسرّ أو سرّين .
وكم من عوالم تصل إليها تجارة العقل ! وما أوسع المدى الذي تمتدّ إليه بحار الفكر !
..........................................................................
( 1 ) حرفياً : من رأسها إلى قدمها .
( 2 ) لما كان محمد خاتم الأنبياء ، كان ذكره متضمناً ذكر الأنبياء الذين سبقوه ، فهو مثل العدد اللاحق يتضمن ما سبقه من الأعداد .

“ 195 “

1110 - وصوُرنا تتحرك مسرعة فوق ذلك البحر العذب “ 1 “ ، كأنّها الكؤوس فوق سطح الماء .
وهي كالإناء “ 2 “ تظل طافية ما لم تمتلئ ، فإنّ الإناء إذا امتلأ غرق في الماء .
والعقل محتجب ( عن العيان ) ، وأما الظاهر فهو عالمُ صورنا فيه موج أو رذاذ ( من بحر العقل ) .
وكلما اتخذت الصورة وسيلة ( إلى ذلك البحر ) ، فإنّ البحر يلقي بالصورة بعيداً عن وسيلتها ، حتى لا يرى القلب من أعطاه السرّ ، كما لا يرى السهمُ من قذف به بعيداً .

1115 - ( ومَثل من لا يرى كمثل ) من يعتقد أنّ حصانه ضائع ، على حين هو يحثّه بعناد على الإسراع في الطريق ! إنّ هذا الرجل الكريم ، يظنّ حصانه ضائعاً ، مع أنّ حصانه يمضي منطلقاً به كالريح ! فهو مُشتّت الفكر ، يبحث عنه منتحباً في كلّ مكان ، ويمضي منقباً ، مستفسراً ( عنه ) من باب إلى باب .
( قائلًا ) : “ أين من سرق حصاني ؟ ومن يكون ؟ “ ( فيجيبه من يقول ) : “ فما هذا الذي أنت ممتطيه أيها السيد ؟ “ “ نعم هذا حصان ، ولكن أين الحصان ؟ “ .
“ ألا فلتَثُبْ إلى رشدك أيها الفارس الباحث عن حصانه ! “

1120 - فالروحُ هكذا ، ظاهرة قريبة منا ، ( لكنّها ) غائبة ( عن أعيننا ) .
فمثلها كمثل البطن ، يملؤه الماء ، على حين جفت الشفتان كحلق الإبريق !
............................................................
( 1 ) بحر الفكر .
( 2 ) حرفياً : الطست .

“ 196 “


وكيف تَرى الأحمر والأخضر والورديّ ، إذا لم تر النور قبل هذه الألوان الثلاثة ؟
فأما وقد ضاع عقلك في الألوان ، فقد أصبحتْ هذه الألوان حجاباً لك عن النور ! 
ولما كانت هذه الألوان تحتجب في الظلام ، فقد رأيتَ كيف أنّ إبصارك اللون ، كان مستمدّاً من النور .
فالألوان لا تُرى بدون النور الخارجيّ ، وهكذا لون الخيال في الباطن .

1125 - والنور الخارجيّ ( يجيء ) من الشمس ومن السُها ، وأما النور الباطنيّ فمن انعكاس الأنوار العُلى .
والنور الذي في العين ليس إلا نور القلب ، فأنوار العيون حاصلةُ من أنوار القلوب ! 
وأما النور الذي في القلب فهو نور اللَّه . إنَّه نورُ خالص من نور العقل والحسّ ، منفصل عنهما .
إنّك لا ترى اللون بالليل ، لأنّه لا نور فيه ، كما أنّ النور قد قد تميَّزَ أمامك بضدّه ( الظلام ) .
فرؤية النور تعقبها رؤية اللون ، وأنت سرعان ما تدرك ذلك بضدّ النور .

1130 - ولقد خلق اللَّه الألم والحزن ، حتى تتضح لك سعادة القلب بضدّها .
إنّ الخفايا تظهر للعين بأضدادها ، ولما كان الحقّ لا ضدّ له ، فهو محتجب ( عن الأبصار ) .
وكما أنّ النظر يقع على النور ، ثم على اللون ، فإنّ الضدّ يتميّز بضده ، كما يتميزّ الروم من الزنج .

“ 197 “

إنّك قد عرفت النور بضدّ النور ، فكل ضد يبيّن ضدّه في الصدور .
ولما كان نور الحق لا ضدّ له في الوجود ، حتى يمكن اتّضاحه لنا بهذا الضدّ ،

1135 - فلا جرم أنّه ،” لا تُدْركُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْركُ الْأَبْصارَ ““ 1 “ .
ألا فلتتأمل قصة موسى والجبل ! واعلم أنّ الصورة ( تقفز ) من المعنى كالأسد من الغابة ، أو كالصوت والكلام من الفكر .
فهذا الكلام وذلك الصوت انبعثا من الفكر ، وأنت لا تعلم أين بحر الفكر .
لكنّك حينما رأيت موج الكلام لطيفاً ، أدركت أنّ بحره هو أيضاً شريف .
ولما تدافعَ من المعرفة موجُ الفكر ، جعلتَ له صورة من الكلام والأصوات .

1140 - فالصورةُ قد ولدت من الكلام ثم ماتت ، فعاد الموجُ من جديد إلى البحر .
إنّ الصورة قد خرجت من اللاصورة ، ثم عادت إلى من نحن إليه راجعون .
ففي كل لحظة لك موت ورجعة ! ولقد قال المصطفى : ( الدنيا ساعة ) .
وفكرنا سهمُ من اللَّه انطلق في الهواء ، فكيف يبقى في الهواء ، إنه يعود إلى اللَّه .
إنّ الدنيا تتجدّد في كلّ لحظة ، ونحن لا ندري بتجدّدها ، وهي
..................................................................
( 1 ) سورة الأنعام ، 6 : 103 .

“ 198 “

باقية ( على هيئتها الظاهريّة ) !

 1145- والعمر - وإنْ بدا مستمرّاً في الجسد - فإنّه يتجدّد على الدوام كما يتجدّد ماء النهر .
فهو لسرعته يتخذ صورة الاستمرار ، كالشرر المتطاير ( من جمرة ) تديرها يدُ مسرعة .
فلو أنّك أدرت عوداً ملتهباً ، بدا للعين ناراً طويلة المدى .
وطول الزمان من سرعة صنعه ، فالسرعة هي التي تظهر روعة الصنع .
فإذا كان طالب هذا السرّ رجلًا واسع العلم ( فقل له ) : “ عليك بحسام الدين ، فإنه كتاب رفيع ! “

كيف ذهب الأرنبُ إلى الأسد وكيف غضب عليه الأسد

1150 - وبينما كان الأسد محتدماً غاضباً ثاثراً ، رأى ذلك الأرنب قادماً نحوه من بعيد ! 
لقد كان يتقدم مسرعاً جسوراً ، غير هيّاب ، وقد بدا عليه الغضبُ والعنف ، وحدّة الطبع ، وعبوس الوجه .
فالمجيء بانكسار مثارُ للتهم ، وأما الجسارة ففيها دفع لكلّ الريب .
فلما دنا واقترب من الأعتاب ، صاح به الأسد : “ ها أنت ذا أيّها الخسيس ! أنا من مزَّق الثيران ، إرباً ، وعرك أذن الفيل القويِّ !

 1155- أيزدري مشيئتي “ 1 “ على هذا الوجه نصف أرنب مثلك ؟ “
......................................................
( 1 ) حرفياً : أيلقي بأمرنا فوق التراب . .

“ 199 “

ألا فلتدع النوم ، وغفلة الأرانب ، ولتصغ - أيها الحمار - إلى زئير هذا الأسد “ 1 “ !
 
كيف اعتذر الأرنب

فقال الأرنب : “ أماناً فإنّ لي عذراً ، لو أنّ عفوك الملكي يبسط لي يداً !
 “ فقال الأسد : “ أيّ عذر لك ؟ يالقصود هؤلاء البلهاء ! 

( ومع هذا ) فهم في هذا الزمان يمثُلون أمام الملوك !
 إنّك طائر تأخّر عن وقته ، والواجب قطع رأسك ، فليس يجوز الإصغاء إلى عذر الأحمق .

1160 - فعُذرُ الأحمق أقبحُ من ذنبه ، وعذر الجهلاء هو السم الذي يقتل المعرفة !
 إنّ عذرك أيها الأرنب مجردُ من الحكمة ، فأي أرنب أنا حتى تُدخلَه أُذني ؟

فقال الأرنب : “ أيها الملك ! هَبْ اعتباراً لمن لا اعتبار له ، واستمع إلى عذر مظلوم ! 
ولا تَدفعْ ضالًا عن طريقك ، ففي ذلك - على الخصوص - زكاة عن جاهك !
 إنّ البحر الذي يُمدُّ كلّ الأنهار ، بمائه ، يحمل القمامة على رأسه وعلى وجهه .
................................................................................
( 1 ) يقول نيكولسون إنّ هذا البيت موجه إلى القارئ . ولكنّ السياق لا يمنع من أن يكون تتمة لحديث الأسد مع الأرنب .

“ 200 “

1165 - ولن ينتقص من البحر هذا الكرم ، فالبحر لا يزيد بالكرم ولا ينقص “ .
فقال الأسد : “ إني لذو كرم ، ولكني أضع الكرم في موضعه .
إني أقصّ لكلّ امرئ ثوبه على قدر قامته “ .
فقال الأرنب : ألا فلتستمع إليّ فإن لم تجدني أهلًا للطفك فإني أُسلم رأسي إلى تنّين عنفك ! 
لقد مضيتُ على الطريق وقت الإفطار ، وكنت متّجهاً مع رفيقي إلى الملك .
وكانت جماعة الوحوش قد أرسلتني إليك بصحبة أرنب آخر .

1170 - فتصدّى لعبدك أسد في الطريق ، وهاجم الرفيقين المتجهين إليك .
فقلت له : “ إننا من عبيد ملك الملوك ، إننا رفيقان صغيران في خدمة هذا البلاط “ .
فقال : “ ملك الملوك ؟ من هذا ؟ ألا فلتستح ، ولا تذكر أمامي كلّ خسيس ! 
فلسوف أمزّقك وأمزّق ملك ، لو أنك ورفيقك تحولتما عن بابي “ .
فقلت له : “ ألا فلتُخل سبيلي ، حتى أرى وجه مليكي مرة أُخرى ، وأحمل إليه خبراً منك “ .

1175 - فقال : “ لتترك رفيقك رهينة عندي ، وإلا فإنك - في شرعتي - تكون الضحيَّة “ .
وقد أطلنا الحديث معه فلم يُجد نفعا ، فأمسك برفيقي وتركني أمضي وحيداً .
وكان رفيقي يعدل ثلاثة مثلي ببدانته ، وكان ( تفوقه ) في اللطف والملاحة يعدل تفوقه في الجسم .
إن هذا الأسد قد سدّ أمامنا الطريق بعد اليوم ، فتقطَّعت بذلك حبال عهودنا !

“ 201 “

فاقطع الأمل من وظيفتك بعد اليوم ! إني أقول لك الحقّ ، والحق مر !

1180- فإذا كانت الوظيفة واجبةً لك فطهَّر الطريق . هيّا ، أقبل ، وادفع ( شرّ ) هذا الجسور ! “
كيف استجاب الأسد للأرنب وسار معه


فقال الأسد : “ باسم اللَّه ، هيّا بنا إلى حيث يكون تقدّم أمامي إن كنت تقول الصدق ، حتى أُعطيه ومائة من أمثاله جزاءهم ! 
فإنْ كان كلامك هذا كذباً أنلتك جزاءك “ .
فسار الأرنب أمامه كالدليل ، ليقوده نحو حبائله ، نحو بئر كان قد حدّد مكانه ، بئرٍ عميق جعل منه فخّاً لروح الأسد .
 
1185- وتقدّم الاثنان نحو البئر . فهاك أرنباً كالماء تحت التبن !
 إنّ الماء يحمل عود القشّ إلى السهل المنبسط ، ولكن عجباً كيف تحمل القشّةُ جبلًا ؟
لقد كانت شباك مكره هي الوهق الذي صاد الأسد ، فواعجباً لأرنب صاد أسداً ! 
إنّ موسى واحداً ، جرّ فرعون إلى نهر النيل مع جيشه وجمعه الكثيف .
ولقد شقِّت بعوضةُ أمّ رأس النمرود بنصف جناح ، غير مبالية بذاته .

1190- فتأمل حال من أصغى إلى قول العدوّ ، وجزاء من كان صديقاً للحسود !


“ 202 “

حال فرعون الذي استمع إلى هامان ، وحال النمرود الذي أصغى إلى الشيطان .
فإذا كان العدوّ يخاطبك بأسلوب المودّة ، فاعلم أنّ حديثه شركُ وإنْ جاء في صورة الَحبّ ! 
وإنْ أعطاك العسل فاعلم أنّه سم ، وإن مس جسمك بلطف فاعلم أنّ ذلك ( اللطف ) قسوة وبغضاء .
إنّك - حين يقع القضاء - لا تُبصر الجلدْ ( الظاهري ) ، ولا تعرف العدوّ من الصديق .

1195- فإذا وقع هذا فلتشرع في الابتهال ، ولتأخذ نفسك بالتضرع والتسبيح والصيام .
ابتهل إلى اللَّه ( قائلًا ) : “ يا علام الغيوب ! لا تسحقنا بَحجَر من مكر السوء .
وإنْ كنُا قد أتينا فعل الكلاب ، فلا تُطلق علينا الأسد من مكمْنه ، يا خالق الأسد ! 
ولا تجعل للماء العذب صورة النار ، ولا للنار صورة الماء ! 
إنَّك حين تسكرنا بشراب قهرك ، تجعل للعدم صورة الوجود .

1200- فما السكر ! إنّه حجاب للعين عن الإبصار ، فيظهر لها الحجرُ جوهراً ، والصوف عقيقاً ! 
وما فقدان الوعي ؟ إنّه إبدال للحسّ ، فيبدو للعين خشب الطرفة صندلًا “ .

“ 203 “
قصة الهدهد وسليمان في بيان أنه حين يقع القضاء تُغلقُ العيونُ المبصرة

حينما ضرب مخُيّم سليمان ، مثلت أمامه الطيور طائعة .
لقد وجدته متكلماً بلسانها ، عارفاً بأسرارها ، فهرع كلُ منها للمثول أمامه بروحه .
وكلّ هذه الطيور تركت صفيرها ، وأصبحت أفصح من أخيك “ 1 “ في حضرة سليمان .

1205- إنّ التشارك في اللسان قربى ورباط ، والمرء مع من لا يفهمونه مثل السجين ! 
وكم من هنديّ وتركيّ يتكلمان بلسان واحد ، وكم من تركيّين في لغتهما متباعدان ! 
فلسان الوفاق الروحيّ مختلفُ عن ( لسان القول ) ، وتشابهُ القلوب خيرُ من تشابه الألسن ! 
ففي القلب يقوم آلاف التراجمة ( بنقل أحاسيسه ) بدون نطق ولا إيماء ولا سجلّ .
فجملة الطير - بكل ما وعته من أسرار عن الفضائل والمعرفة والعمل .

1210- عرضت نفسها على سليمان ، وكلُ منها مدح نفسه في معرض القول .
..................................................................
( 1 ) أي أفصح من الشاعر .

“ 204 “

ولم يكن ذلك عن كبر ولا اعتداد بالنفس ، ولكنّ كلًا منها أراد أنْ يتقدم على غيره عنده “ 1 “ .
فمن واجب العبد أن يُظهر طوفاً من فضائله لسيّده .
فإنْ وجد العار في أن يشتريه السيدّ ، تظاهر بالمرض أو الشلل أو الصم أو العرج .
وجاء دور الهدهد ، وحرفته ، وبيان صنعته وتفكيره .

1215  فقال : أيّها الملك ، إنني سأذكر فضيلة واحدة ، فضيلة صغيرة ، ولكنّ الخير في الإيجاز “ .
فقال سليمان : “ تكلّم لنرى ما هذه الفضيلة “ . فقال الهدهد :
عندما أكون في أوج الارتفاع ، أنظر من ذلك الأوج بعين اليقين ، فأرى الماء في قاع الثرى ، أين مكانه وما عمقه وما لونه ، ومن أين يتفجر ، أمن التراب أم من الحجر .
فخذ معك في السفر ذلك العارف يا سليمان ، لاختيار موقع معسكرك “ .

1220  فقال سليمان : “ ما أحسنك من رفيق ، في القفار التي تخلو من الماء العميق ! “

كيف طعن الغراب في دعوى الهدهد


وعندما سمع الغراب ( كلام الهدهد ) ، جاء حاسداً ، وقال لسليمان : “ ما هذا الكلام المعوجّ القبيح ؟
إنه ليس من الأدب التفاخر أمام الملوك ، وخاصة إذا كان ذلك
...........................................................................
( 1 ) حرفياً : “ ولكن لكي يفسح لها الطريق قبل ( غيرها ) “ .

“ 205 “

من جزاف القول الكذب المحال .
فلو كان للهدهد هذا النظر على الدوام ، فكيف لا يبصر الفخ تحت قبضة من التراب ؟
وكيف كان يقع في الشرك ؟ وكيف كان يصير يائساً في القفص ؟

 1225 - فقال سليمان : “ أيها الهدهد ! أصحيح أنه قد أصابك ( كلّ ) هذا الدوار من أوّل قدح ؟
فيا من شربت اللبن المخض ، كيف تتظاهر بالسكر ، وتلقي أمامي بجزاف القول وتكذب ؟ “

كيف ردّ الهدهد على طعن الغراب

فقال الهدهد : “ لا تستمع - بحق اللَّه - إلى قول العدو ، عني ، أنا المسكين المعدم ! 
فإنْ لم يصّح هذا الذي أدّعيه ، فإني أضع رأسي أمامك ، فلتقطع عنقي هذا .
إنَّ الغراب المنكر لحكم القضاء كافر ، ولو كانت له آلاف العقول ! “


 1230 - فان كانت فيك كاف واحدة من ( كلمة ) “ الكافرين “ فإنك كالفرج محل للنتن والشهوة “ 1 “ .
“ إننّي أبصر الفخّ من الهواء ، إذا لم يحجب القضاء عين عقلي “ .
وحينما يأتي القضاءُ ينام العلم ، ويغدو القمر أسود ، ويحجب الشمس .
فمتى كانت مثل هذه التعبئة “ 2 “ نادرة من القضاء ؟ اعلم أنّ من القضاء أنْ ينكر المرء القضاء !
........................................................
( 1 ) في البيت جناس بين كلمتي “ كافران “ ( الكفار ) ، ( كاف ران ) .
( 2 ) قد تكون كلمة “ تعبئة “ هنا تحريفاً لكلمة تعمية .

“ 206 “

قصة آدم عليه السلام وكيف أنّ القضاء حجب بصره 
عن مراعاة صريح النهي وترك التأويل

إن أبا البشر آدم - أمير علم الأسماء “ 1 “ - كان كلّ عرق من عروقه ينبض بآلاف العلوم !

1235 إن روحه منُحت علم كل شيء ، كما وُجد ، وكما يكون حتى النهاية .
فلم يتبدل قط لقب أطلقه ، فكل ما نعته بالنشاط والسرعة لم يصبح كسولًا متراخياً “ 2 “ .
وقد عرف - في أول الأمر - من كان مآله إلى الإيمان ، كما تكشف له من كان مآله إلى الكفر .
فلتستمع إلى اسم كل شيء من عالمٍ ( بالأسماء ) ! 
استمع منه إلى سرّ الرمز في قوله تعالى : “ وعلمّ آدم الأسماء كلها “ .
إن عندنا لكل شيء اسمه الظاهري ، وأما سر هذا الاسم فلدى الخالق .

1240  فالخشبة التي كان يمسك بها موسى ، كان اسمها - عنده - “ عصا “ وأما عند الخالق فكان اسمها “ حيّة “ .
وقد كان لعمر هنا ( في الدنيا ) اسم “ عابد الأصنام “ ولكن
....................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها “ . سورة البقرة ( 2 : 31 )
( 2 ) حرفياً : فكل ما أسماء نشطاً لم يصبح كسولًا .

“ 207 “


اسم الايمان كان له من قبل أن يولد “ 1 “ .
فكل ما كان عندنا في عداد النطف ، كان مائلًا أمام الحق كأنه معه “ 2 “ .
لقد كانت هذه النطفةُ صورة في العدم ، ولكنها كانت موجودة أمام الحق بدون زيادة أو نقصان .
فالحاصل أن عاقبة أمرنا هي التي تمثل حقيقة اسمنا عند الخالق .

1245 - فهو يسميّ المرء بعاقبته ، لا بما يكون عارية مؤقتة .
إن عين آدم حين أبصرت بالنور الطاهر ، تجلت لها أرواح الأسماء وأسرارها .
وعندما أبصر الملائكة أنوارَ الحق في آدم خرّوا سُجدّا وسارعوا لتمجيده .
فهكذا آدم الذي أحمل اسمه ، ولو أنني مدحتُه حتى القيامة لما وفيته حقه .
لقد أدرك كل هذا ولكنه - حين وقع القضاء - أخطأ في إدراك نهي واحد .

 

1250 - فقد عجب ، أهذا النهي كان من أجل التحريم ، أم أنه كان قابلًا لتأويل ، ومجالًا للوهم .
وعندما رجح في قلبه التأويل ، سارع طبعه في حيرة نحو القمح .
فلما أصابت الشوكة قدم البستاني ( آدم ) ، وجد اللص ( إبليس )
.............................................................................
( 1 ) حرفياً : ولكن اسمه كان “ المؤمن “ في “ ألست “ . كلمة ( ألست ) تشير إلى قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى “ . الأعراف ( 7 : 171 ) .
( 2 ) حرفياً : فكل ما كان اسمه - عندنا - نطفة كان أمام الحق “ إنك في هذه الحظة معنا “ ، والمعنى أن كل ما كان بالنسبة لنا مجرد بذرة لا نعرف ما يتولد منها ، كان مائلًا بكيانه أمام الحق ، فهو الذي يعلم ما يؤول إليه كل شيء .

“ 208 “

فرصته ، وسارع إلى حمل الثمار “ 1 “ .
وحينما خلص ( آدم ) من حيرته ، عاد إلى الطريق السوي ، فوجد أن اللص قد سرق المتاع من دكانه .
فتأوه قائلًا :” رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ““ 2 “ ، يعني أن الظلمة قد حلت ، وضاع الطريق .

1255  “ فهذا القضاء سجابُ يحجب وجه الشمس ، وهو يجعل الأسد أو التنين مثل الفأر .
فإنْ كنتُ لا أرى الفخ عند نزول القضاء فلست وحدي الجاهل في تلك الطريق “ “ 3 “ .
فما أسعد من استمسك بالعمل الصالح ، وتخلى عن العنف ولزم الضراعة .
فالقضاء إذا كان يغشاك بظلمة كالليل ، فإنه يأخذ بيدك في عاقبة الامر .
والقضاء ، إذا قصد روحك مائة مرة ، فإنه أيضاً يهبك الروح ويداويك .

1260  إن هذا القضاء ، لو سد الطريق أمامك مائة مرة ، فإنه يضرب لك مخيّماً فوق أعالي السماء ! 
فلتعلم أنه ( اللَّه ) إنما يخيفك بكرمه ، وذلك لكي ينزلك في ملكوت الأمان .
...........................................................................
( 1 ) حرفياً : البضاعة .
( 2 ) قال تعالى في سورة الأعراف : “ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين ، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين “ . ( 7 : 21 ، 22 ) .
( 3 ) عاد الشاعر إلى حديث الهدهد ، ودفاعه عن نفسه أمام سليمان . وقد اختتمه بهذين البيتين .

“ 209 “

إن هذا الكلام لا نهاية له ، وها هو ذا قد طال ، فلتستمع الآن إلى قصة الأرنب والأسد .

كيف تخلف الأرنب وراء الأسد عندما اقترب من البئر

فعندما اقترب الأسد من البئر ، رأى أنّ هذا الأرنب قد تباطاً في الطريق وتخلفّ .
فقال له : “ لماذا توانيت في السير ؟ لا تتخلّفْ وأَقبلْ “ .


1265 - فقال الأرنب : “ وأين لي قدم ( تسير ) ، وقد ضاعت يداي وقدماي ، وارتعدت روحي ، وانخلع قلبي ! 
أفلا ترى لون وجهي ( مصفراً ) كالذهب ؟ إنّ لوني ينبئك بخبر عن باطني .
ولما كان الحق قد اعتبر السيما وسيلة للتعرف ، فقد بقيتُ عين العارف متعلّقة بالسيما “ 1 “ .
إنّ اللون والرائحة ينبئان كما ينبئ الجرس ، وكذلك ينبئ صهيلُ الفرس عن الفرس .
وصوت كل شيء يجيء بخبر عنه ، فيه تمُيزّ بين نهيق الحمار وصرير الباب .
........................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ سيماهم في وجوهم من أثر السجود “ . الفتح ( 48 : 29 ) .
وقال : “ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام “ . الرحمن ( 55 : 14 ) .
وقال : “ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم “ . ( محمد ( 47 : 30 ) . وقال : “ ونادى أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم “ . الأعراف ( 7 : 48 ) ، وقال : “ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلًا بسيماهم “ . الأعراف ( 7 : 46 ) ، وقال : “ تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً “ . البقرة ( 2 : 273 ) .

“ 210 “
 
1270 - ولقد قال الرسول في التمييز بين الناس : “ المرء مخفي تحت لسانه “ “ 1 “ .
إن لون الوجه ليخبر عن حال القلب ، فكن رحيماً بي ، وأَشرب قلبك محبّتي .
فالوجه المحرّ يضمر صوت الشكر ، وأما الوجه المصفرّ فيضمر صوت الصبر والنكران .
ولقد وقع بي ما سلبني اليد والقدم ، بل ما سلبني لون وجهي وقوتي وسيماي ، 
( وقع بي ) ما يحطّم كل شيء أصابه ، ويقتلع كل شجرة من جذورها وأصلها .


1275 - بل أصابني ما يميت الإنسان والحيوان والنبات والجماد .
وما هذه سوى أجزاء ، والكليّات من ( صنعه ) . إنّه هو الذي جعل اللون أصفر ، والرائحة فاسدة .
إنّ البستان ليرتدي حلّة ( الخضرة ) حيناً ، وحيناً يتعرّى ، وذلك ليكون العالم حيناً صابراً ، وحيناً شكوراً “ 2 “ .
والشمس التي تشرق - وهي في لون النار - تصبح - في ساعة أُخرى - منقلبة الرأس ( نحو المغيب ) .
والنجوم المشرقة في جوانب السماء الأربعة ، إنما هي - بين لحظة وأُخرى - مبتلاة بالاحتراق .
 
1280 - والقمر الذي يتفوق على النجوم في الجمال ، غدا من مرض النحول وكأنه الخيال “ 3 “ .
وهذه الأرض الساكنة الوقور ، تجعلها الزلزلةُ مرتعدة كاللهب .
...........................................................................
( 1 ) اقتباس من حديث شريف . نصّه : “ المرء مخفيّ تحت لسانه “ .
( 2 ) إن اخضرار البستان ثم ذبوله يقدمان للعالم مثلًا لتغير الأحوال حتى يكون في وقت الشدة صابراً ، وفي وقت الرخاء شكوراً .
( 3 ) يشير إلى تناقص القمر يوماً بعد يوم حتى المحاق .


“ 211 “

وكم في الدنيا من جبل جعله هذا البلاءُ المتوراث فتاتاً ورمالًا ! 
وهذا الهواء جاء مقترناً بالروح ( والحياة ) ، ولكنه - حين وقع القضاء - أصبح فاسداً عفناً .
والماء العذب الذي كان قريناً للروح ، أصبح في العذير ( الراكد ) أصفر اللون ، مرّ المذاق معتكراً .


1285- والنار المنتفخة برياح الغرور “ 1 “ تقضي بالموت عليها نفخة ريح واحدة .
واعلم أنّ حال البحر في اضطرابه وجيشانه ، إنما هو ناشىء من تغير عقله وتبدله .
والفلك الدوار الدائب على السعي والتنقيب ، ليس حاله إلا كحال أبنائه .
فهو حيناً في الحضيض ، وحيناً في الوسط ، وحيناً في الأوج ، وبه أفواجُ ، وأفواج من ( كواكب ) السعد والنحس .
فيا أيها الجزئيّ الذي هو من كليات مختلطة ! لتكن ذاتك سبيلك لتفّهم حال كل موجود !


1290 - وإذا كانت الكليات معتلة سقيمة ، فكيف لا تكون جزئياتها مصفرة الوجوه ؟
وخاصة ذلك الجزئيّ الذي تجمعت به الأضداد ، واتحد فيه الماء والتراب والنار والهواء .
فليس من عجب في أنْ تفرّ الشاة من الذئب ، وإنما العجب هو أنْ يتعلق قلب الشاة بالذئب .
إنّ الحياة تآلفُ بين الأضداد ، وما الموت إلا قيام للحرب بينها ! 
ولقد ألِّف لطفُ الحقّ بين الأسد وحمار الوحش ، هذين الضدين المتباعدين !

 1295 - وإذا كان هذا العالم مريضاً سجيناً فأيّ عجب يكون لو فني المريض ؟ “
.......................................................................
( 1 ) حرفياً : والنار التي تحمل في شواربها ريح ( الغرور ) .

“ 212 “

فعلى هذا الوجه تحدّث الأرنب بالنصح إلى الأسد ، وقال : “ إنّي قد تأخرت من جرّاء تلك القيود “ .

كيف سأل الأسد الأرنب عن سبب تأخره

فقال الأسد : “ اذكر لي سبباً خاصاً من أسباب العلّة ، فذلك ما أبتغيه “ .
فقال الأرنب : “ إنّ ذلك الأسد يسكن هذا البئر ، وهو - في هذه القلعة - أمن من الآفات .
فكلّ من كان عاقلًا اختار قاع البئر ، ذلك لأن صفاء القلب في الخلوة .

1300 - إنّ ظلمة البئر خير من ظلمات الخلق ، فما رفع رأسه قط من اقتفى أثر الخلق “ .
فقال الأسد : “ فلأقهرنّه بضرباتي ! ألا فلتُقدمْ ولتنظر ، أهذا الأسد حاضرُ في البئر ؟
 “ فقال الأرنب : “ إنّني قد احترقتُ بتلك النار ، فلعلّك تقودني إلى جانبك ،
 حتى أستطيع - بمؤازرتك - أنْ أفتح عينّي وأنظر في البئر “ .

كيف نظر الأسد في البئر ورأى صورته وصورة الأرنب في الماء

فعندما اقتاد الأسد الأرنب إلى جانبه ، جرى - في رعاية الأسد - نحو البئر .

“ 213 “

1305 - فلما نظر إلى الماء في البئر ، تجلى في الماء خيالُ للأسد والأرنب .
فسرعان ما رأى الأسد خياله في الماء . ( لقد كان ) الخيال في هيئة أسد وإلى جانبه أرنب سمين .
فلما رأى الأسد خصمه في الماء ، ترك الأرنب ، واندفع إلى داخل البئر .
لقد وقع في البئر الذي كان قد حفره ، ذلك لأن ظلمه كانُ مرتدّاً إلى رأسه .
إن الظلم قد أصبح اللظالمينُ جبّاً حالك الظلمة ، ولقد قال بهذا جملة العلماء .

1310 - وكلّ من كان أكثر ظلماً ، كانت بئره أكثر هؤلاء ! إنّ العدل ( الإلهيّ ) قد أمر بأسوأ ( العقاب ) لأسوأ ( الذنوب ) .
فيا أيّها الذي يحفر بئراً من الظلم ! إنّك لتنصب لنفسك شركاً ! 
فلا تجعل نسيجك حول نفسك ، كما تفعل دودة الحرير ! إنّك تحفر البئر لنفسك ، فاحفرها بقدر ! 
ولا تكن موقناً بأنّ الضعفاء لا معين لهم . وأتل من القرآن ( قوله تعالى ) :” إذا جاءَ نَصْرُ اللَّه وَالْفَتْحُ ““ 1 “ .
فلو أنّك كنت فيلًا يهرب منك خصمك فإنّ جزاءك ( مذكور في قوله تعالى ) :” وَأَرْسَلَ عَلَيْهمْ طَيْراً أَبابيلَ ““ 2 “ .

1315  فلو طلب الأمان ضعيف من أهل الأرض ، لثار ( لنجدته ) جيش السماء .
وإنْ أنت عقرته بأسنانك ، وجللته بدمائه ، أصابك وجع الأسنان ، فماذا أنت فاعل ؟
....................................................................
( 1 ) سورة النصر ، ( 110 : 1 ) .
( 2 ) سورة الفيل ، ( 105 : 2 ) .

“ 214 “


لقد أبصر الأسد ذاته في البئر ، ولكنّه - لغضبه حينذاك - لم يعرف ذاته من عدوّه .
لقد رأى في صورته عدوّاً له ، فلا جرم أن سلّ على نفسه سيفاً ! فيا من تستمع إليّ ! 
كم من ظلم تراه في الناس ، وما هو سوى طبعك ، وقد رُكَّب فيهم .

1320 - ففيهم قد انعكس وجودك ، بنفاقك وظلمك وقبيح غفلتك .
إنّك إنّك أنت ذلك ( الشرير ) ، وإنك لتوجّه ذلك الطعن إلى نفسك ، وإنّك لتلعن نفسك في هذا الساعة ! 
ولستَ تعاين هذا القبح في نفسك ، وإلا لناصبتها العداء بكل روحك ! 
إنّك لتحمل على نفسك - أيّها الرجل الغرّ - كما حمل هذا الأسد على نفسه .
فإذا ما وصلتَ إلى قرارة طبع ذاتك ، علمت أن هذه الدناءة كانت منك !
 
1325- لقد ظهر لهذا الأسد - في قاع البئر - أنّ صورة ذاته هي التي بدت له شخصاً آخر .
فكلّ من اقتلع لضعيف أسنانه ، سلك مسلك ذلك الأسد الذي أخطأ الإبصار .
فيا من أبصرت قبيح الخيال في وجه عمِّك ! ليس عمك بقبيح ، بل إنّك أنت ذلك ، فلا تهرب من نفسك !
 لقد رُوي عن الرسول أنّه قال : “ المؤمن مرآة المؤمن “ .
إنّك قد وضعت أمام عينيك زجاجة زرقاء ، ولهذا السبب بدا لك العالم أزرق اللون “ 1 “ .

1330 - فإن لم تكن أعمى فاعلم أنّ هذه الزرقة من نفسك .
...............................................................
( 1 ) يشبه ما يقال اليوم عن المتشائم الذي “ ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود “ .

“ 215 “

وتَحدّث بالسوء عن نفسك ، ولا تذكر - بعدُ - غيرك بالسوء .
فكيف كان الغيب يظهر عارياً أمام المؤمن ، لو لم يكن ينظر بنور اللَّه ؟
وما دمتَ أنت تنظر بنار اللَّه ، فإنك لم تميِّز الخير من الشر .
فانثر الماء على النار رويداً رويداً - يا أبا الَحزنَ - حتى تغدو نارُك نوراً ! 
يا ربنا أنزلْ على هذا العالم الماء الطهور ، حتى تصبح جملة ناره نورا !


1335 - إنّ ماء البحر كلِّه رهن أمرك . والماء والنار - يا إلهي - مما تملك .
فإنْ تُرد تصبح النار ماء زلالًا ، وإن لم تُرد ، فإنْ الماء أيضاً يصبح ناراً .
وهذا الطموحُ فينا إنما هو من إيجادك ، والخلاص من الظلم - يا ربّ - من عطائك .
لقد وهبتنا هذا الطموح بدون طلب منا ، وأنعمت علينا بهبات لا تُعدّ ولا تُحدّ .


كيف حمل الأرنب البُشْرى إلى الوحوش بأن الأسد قد سقط في البئر

ولما سعد الأرنب بالخلاص ، أخذ يعدو نحو الوحوش حتى أدرك الفلاة .

1340 - فهو حين رأى الأسد في البئر قتيلًا تعساً ، معضى يرقص طرباً حتى ( بلغ ) المرج .
لقد كان يصفّق بيديه لنجاته من يد الموت ، وكان جذلًا يتمايل في الهواء كالغصون والأوراق .
إنَّ الغصون والأوراق - حين تحررث من سجن التراب - رفعت رأسها ، وصارت نديمة للهواء .

“ 216 “

والأوراق حين تفتقت عنها الغصون سارعت إلى قمم الأشجار .
فكانت كلّ ثمرة وكلّ ورقة ترانيم شكر للَّه يتغنى بها لسانُ الدوح .

1345 ( قائلًا ) : “ إنّ ذا العطاء قد رعى أصلنا حتى استغلظت أشجارنا واستوت “ “ 1 “ .
والأرواح المقيّدة بأسر الماء والطين ، تسعد قلوبها حين تخلص من الماء والطين .
وتغدو راقصة في هواء عشق الحقّ ، وتصبح بريئة من النقص مثل قرص البدر .
بل إنّ أجسامها لتغدو راقصة ، فلا تسل عن الأرواح ! لا تسل عما يحيط بها من ذلك كله !
 إنّ أرنباً قد أقعد بالسجن أسداً ! ألا قبح اللَّه أسداً عجز أمام أرنب .

1350 -والعجيب أنّه - وهو في مثل هذا العار - يريد أنْ يُلقّب بفخرالدين .
فيا أيّها الأسد المنفرد في قرارة هذا البئر ! إنّ نفسك الشبيهة بالأرنب قد أراقت دمك وشربته .
إنّ نفسك الشبية بالأرنب ترتعي في الصحراء ، وأنت هنا في قرارة بئر الكيف والعلّة .
لقد اندفع صياد الأسد “ 2 “ هذا نحو الوحوش ( قائلًا ) : “ أبشروا يا قوم إذ جاء البشير ! 

بشراكم ، بشراكم يا أهل المرح والسرور ! إنّ كلب الجحيم قد عاد إلى الجحيم !


 1355 بشراكم ، بشراكم ! فإنّ قهر الخالق قد اقتلع الأنياب من عدوّ أرواحكم .

.......................................................................

( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه “ . سورة الفتح ، ( 48 : 28 ) .

( 2 ) الأرنب .


“ 217 “


إنّ الذي حطّم بمخالبه الكثير من الرؤوس ، قد اكتسحته مكنسة الموت ، كما تُكتسح القذارة .

كيف التفتْ جماعة الوحوش حول الأرنب وأثنت عليه السلام

لقد اجتمعت جملة الوحوش في ذلك الزمان ، سعيدة ضاحكة ، سكرى ، جياشة بالطرب .

والتفّتْ حول الأرنب ، فكان في وسطها كالشمعة ، وسجدت له كل هذه الوحوش الصحراوية .

( وقالت ) : “ أأنت ملك سماويّ أم جنيّ ؟ لا ! بل أنت عزرائيل الأسود الضارية .


1360  - وأيّاً ما تكون ، فإنّ أرواحنا فداء لك . لقد انتصرت ، سَلمتْ يدك وساعدك .

إنّ الحقّ قد أجرى هذا الماء في نهرك ، فبارك اللَّه يدك وساعدك .

ألا فلتحدثّنا ، كيف دبّرتَ حيلتك ؟ وكيف سحقت ذلك الشرير بمكرك ؟

حدّثنا ، فلعل قصّتك تصير علاجاً لنا ! وتكلمّ ، فلعلها تصبح بلسماً لأرواحنا .

تكلم ، فإنّ ظلم ذلك الظالم أصاب أرواحنا بآلاف الجراح “ .

 

1365 - فقال ( الأرنب ) : “ لقد كان هذا بتأييد اللَّه أيّها الكبراء ! وإلا فما شان أرنب في هذا الدنيا ؟

لقد وهبني القوة ، وأنار قلبي ، ونورُ القلب قد أمدّ بالقوة يديّ وقدميّ .

وما يجيء الفضل إلا من عند اللَّه ، كما أنّ تبديل ( الأحوال ) أيضاً

 

“ 218 “


يأتي من الحقّ .

والحقّ يظهر هذا التأييد - في أدوار مختلفة - لأهل الظنّ وأهل العيان .

فتنبّه ولا تفرح بملك وقتيّ ، ولا تدّع الحرية يا من أنت أسير الزمن المؤقت .


1370 - فكل من نُسجَ مُلكُه مما هو أعلى من الزمن المؤقت قُرعتْ له الطبول فوق الكواكب السبع .

إنّ الملوك الباقين لفوق الزمن المؤقت، فأرواحهم - على الدوام - تدور حول الساقي .

فلو قلتَ بترك هذا الشراب ( الدنيوّي ) يوماً أو يومين لغَمَرْتَ فمك بشراب الخلود .

تفسير “ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “أيها الكبراء ! لقد قتلنا عدوّنا الظاهري ، وبقي عدّو أمرُّ منه في باطننا !

وقتل هذا ( العدو الباطنيّ ) ليس من عمل العقل والحكمة ، فالأرنب لا يقدر على تسخير أسد الباطن .

1375- إن هذا النفس جهنم ، وجهنم تنيّن لا تنقص من قوته البحار .

إن جحيمها ليشرب في التوّ سبعة أبحرٍ ، بدون أن ينقص ذلك من ضراوته التي تحرق الخلق .

والأحجار والفكرة ذو والقلوب المتحجّرة ، يدخلونها أذّلاء خجلين .

وهي لا تشبع من هذا الغذاء ، حتى يأتيها من الحق هذا النداء :

قائلًا :” هَل امْتَلَأْت وَتَقُولُ هَلْ منْ مَزيدٍ ““ 1 “ . فهذه هي النار ، وهذا لهيبُها وحريقها .

............................................................

( 1 ) سورة ق ، ( 50 : 30 ) .

 

“ 219 “


1380- لقد جعلت من العالم لقمة وابتلعته ، وظلتْ معدتها تصيح : “هل من مزيد؟ “ .

فإذا ما وضع الحق عليها قدمه من اللامكان ، أصبحت ساكنة بمشيئة اللَّه “ 1 “ .

ولما كانت نفوسنا هذه أجزاء من جهنم ، فإن لهذه الأجزاء طبع الكلّ .

وهذه القدم التي تقتلها إنما هي للحقّ . ومَنْ سواه يشد القوس ( الذي يصميها ) ؟

وليس يُرَكّبُ في القوس إلا السهم المستقيم . وقوس ( النفس ) ليس به إلا سهام معكوسة معوجة !

1385 - فكن مستقيماً كالسهم ، وانطلق من القوس ، فلا شك أنّ كلّ ( سهم ) مستقيم ينطلق من القوس .

فأما وقد رجعتُ من الحرب الظاهرة ، فإني قد اتجهت الآن إلى حرب الباطن .

لقد عدنا من الجهاد الأصغر ، وها نحن مع الرسول في الجهاد الأكبر .

وإني لألتمس من اللَّه القوة والتوفيق، ( وما يحملني على ) الفخار ، حتى أقتلع بإبرةٍ جبل قاف.

واعلم أنّ من اليسير على الأسد أن يمزّق الصفوف .

ولكنّ الأسد ( القويّ ) هو ذلك الذي يتغلبّ على نفسه .

.......................................................

( 1 ) روى أنس عن الرسول أنه قال : “ لا تزال جهنم نقول هل من مزيد حتى يضع فيها ربّ الغرَّة قدمه فتقول قط قط وعزتك “ .

  

***

شرح كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي

[شرح من بيت 900 إلى 1050 ]

( 905 - 906 ) الشاعر في هذين البيتين يبيِّن كيف أن الإنسان يمكن أن يكون ضحية لغدر سواه من بني البشر . ولكن عليه أن يتنبه لغدر نفسه . فالنفس بطبيعتها ذات أهواء وميول قد تودي بصاحبها .


( 908 - 911 ) عبر الشاعر في هذه الأبيات - التي أجراها على لسان الوحوش - عن مبدأ التوكل الكامل على اللَّه . وأن على الإنسان ألا يبذل أي جهد في الحياة ، بل يعبرها كالميت تاركاً كل أموره لخالقه ، يفعل

“ 503 “

بها ما يشاء . وهذا القول بالامتناع الكامل عن بذل الجهد في الحياة يتمشى مع مفهوم التوكل عند بعض الصوفية السلبيين . ومن أمثلة من عبر عن هذا المفهوم سهل بن عبد اللَّه ، فقد روى عنه أنه قال : “ أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي اللَّه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء لا يكون له حركة ولا تدبير “ . ( انظر رسالة القشيري ص 76 ) . ولكننا نجد أقوالًا أخرى منسوبة إليه تفيد أن السعي سنة النبي . قال : “ التوكل حال النبي والكسب سنته ، فمن بقي على حاله فلا يتركن سنته “ . ( القشيري ، ص 77 ) . وللصوفية أقوال كثيرة حول هذا الموضوع ، تشغل أبواباً واسعة من كتبهم . ومما يتفق ومعنى الحديث “ اعقلها وتوكل “ ما يروى من قول عمر للرسول عليه السلام :

يا رسول اللَّه ، أرأيت ما نعمل فيه ، أعلى أمر قد فرغ منه ، أو أمر مبتدأ ؟ “ فقال : “ على أمر قد فرغ منه “ ، فقال عمر : “ أفلا نتكل وندع العمل ؟ “ فقال : “ اعملوا فكل ميسر لما خلق له “ .

(الكلاباذي : التعرف لمذهب أهل التصوف - القاهرة ، 1960 ).


( 912 - 914 ) يدافع الشاعر هنا بلسان الأسد عن مبدأ بذل الجهد والسعي في الحياة ، وأن مثل هذا لا يتنافى مع مبدأ التوكل على اللَّه .

وهذا الفهم للتوكل هو ما يتمشى مع عقيدة أهل السنة . ويعبر القشيري عن ذلك المعنى بقوله : “ واعلم أن التوكل محله القلب ، والحركة بالظاهر لا تنافى التوكل بالقلب ، بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل اللَّه تعالى ، وإن تعسر شيء فبتقديره ، وإن اتفق شيء فبتيسيره “ . ( رسالة القشيري ، ص 76 ) .

وهذا هو المفهوم الأصوب لفكرة التوكل عند أهل السنة . وممن قال بهذا المعنى الجنيد الذي عرّف التوكل بأنه “ اعتماد القلب على اللَّه “ . ( أبو نصر السراج : اللمع ، ص 79 . القاهرة ، 1960) .

( 919 - 920 ) إشارة إلى قصة فرعون مع موسى في طفولته . فقد

“ 504 “

كان يقتل الذكور من أطفال بني إسرائيل خشية أن يظهر من بينهم من يزلزل ملكه . ولكنه - مع ذلك - أبقى على موسى ، وهو الطفل الذي كان مقدراً له أن يقضي على ملك فرعون . قال تعالى :” وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ “. ( 28 : 7 - 9 ) .

فحذر فرعون - الذي دفعه إلى قتل كل من وُلد من الذكور لبني إسرائيل - لم يُنجه مما كان يخشاه ، بل كان هو الذي رعى في المهد موسى ، فكان زوال ملكه على يديه .

( 921 - 922 ) الإنسان لا يستطيع أن يدرك الأسرار ، ولا أن يرى الحقائق ببصيرته وحدها . ولا بد له - لكي يكتمل إدراكه - أن يفني بصره في بصره الحبيب . وعند ذلك يصبح بصر الحبيب بصراً له ، فيحسن إدراك المبصرات ، وتقدير الأمور ، ولا يقع له ما وقع لفرعون بنظره القاصر ، وإدراكه الباطل .

( 925 ) أرواح البشر قبل حلولها في الأجساد كانت منطلقة في جو الصفاء .


( 926 ) وعندما صارت الأرواح أسيرة الأجساد ، بعد أن قضى اللَّه على بني البشر أن يهبطوا إلى هذه الأرض ، صارت هذه الأرواح مسخرة لما يعتلج في نفوس البشر من غضب وحرص ورضى .

( 930 ) الطمع الساذج هو ذلك الطموح المبني على غير أساس .

 

( 931 ) على الإنسان أن يفيد من الوسائل والأسباب . فاللَّه قد وهبه هذه الجوارح المختلفة ليستخدمها .


( 938 ) ينتقل الشاعر هنا ببراعة من موضوع التوكل والسعي إلى الجبر

“ 505 “

والاختيار . فالسعي لشكر النعمة قدرة ، وأما إنكار النعمة فهو جبر . .

والنعمة المشار إليها هنا هي تلك الجوارح التي تُقدر الإنسان على السعي .

( 941 ) فسر بعض شراح المثنوي “ الشجرة المثمرة “ المذكورة في البيت بأنها رمز للمرشد ، فهو وحده الذي يجب على المرء أن يسلم إليه إرادته . ولعل الأصوب أن تُفهَم “ الشجرة المثمرة “ على أنها رمز لقدرات الإنسان التي تعود عليه بمختلف الثمار . فعلى الإنسان أن يؤمن بالتوكل - وهو ما يرمز له هنا بالنوم - ولكن يجب أن يكون هذا التوكل مقترناً بالسعي المثمر .

( 944 ) التعالي على أوامر الخالق ونواهيه ليس من علائم القوة والشجاعة التي يرمز إليها بالرجولة ، بل هو عنوان الضعف والحماقة . فقوله : “ فأنت لو تحققت الأمر امرأة . . “ معناه : “ لو تحققت الأمر فإنك ضعيف أحمق . . “ ذلك لأن القوة هي في المقدرة على الاستجابة لأوامر اللَّه .

أما التخلي عنها ، والتهرب منها فهو الضعف ، وإن خيل لمرتكبيه أن قوة .


( 956 - 968 ) هذه القصة التي تروى عن عزرائيل يمكن أن تعد الآن إحدى القصص الشعبية . فهي معروفة للعامة في وقتنا هذا ، ولكنها لا يعرف لها مصدر محدّد ، ولا مؤلف معين . وقد وردت في مصادر عدة ، إلى جانب المثنوي . ذكرها البيضاوي في تفسير قوله تعالى :” وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ “( 31 : 34 ) . كما ذكرها محمد عوفي في “ جوامع الحكايات “ .

ولا تزال هذه القصة تروى في معرض الحديث عن الأجل المحتوم ، وكيف أنه محدد الزمان والمكان بالنسبة لكل إنسان ، ولا مجال لأن يقع به أدنى تغيير أو اختلاف .


( 978 ) يسخر الشاعر من الجبر فيخرج به عن معناه الفكري المعروف ويصرفه إلى أحد معانيه الحسية ، وهو جبر الكسور . فيخاطب القارئ قائلًا : “ إنك لست مكسور الرأس فلا تعصب رأسك “ .


“ 506 “

 

( 985 ) المال إذا سيطر على الإنسان وتملك قلبه وحواسه كان سبباً لهلاكه . فإذا نجح الإنسان في أن يتعالى على سلطان المال ، واعتبره عرضاً ، يفيد منه فيما ينفع ، كان المال دعامة له وسنداً ، يغنيه عن الناس ، ويمكنه من أن ينفق فيما ينفع الناس .

 

( 986 ) النبي سليمان مثال للغنى والقدرة ، ومع ذلك ، لم تُبطره كثرة المال ولا عظم المقدرة ، بل ظلّ يعدّ نفسه مسكيناً ، لأنه لم يدع الغرور بالمال والجاه ينسبه ضعفه أمام خالقه . وفي سيرة سليمان - كما يصورها صاحب قصص الأنبياء - أنه كان يجالس المساكين . يقول :

وكان خاشعاً متواضعاً يخالط المساكين ويجالسهم ويقول : مسكين يجالس مسكيناً “ . ( ص 325 ) .

( 988 ) المسكنة هنا هي إحساس الإنسان بضعفه وضآلته أمام اللَّه .

( 990 ) أخرج من قلبك حب الدنيا والافتتان بها ثم املأه بهواء الكبرياء والتعالي المنبعث من عالم الملكوت .

( 1004 ) النبي قد يظهر ضعيف الجسم في أعين معانديه ، لكن عظمته تخفى عليهم ، لأنهم لا يؤمنون بتلك القوة الهائلة التي يؤيده بهاربه .

( 1008 ) الفضل ليس بالصورة الظاهرة ، ولا هو يتبع ضخامة الأبدان . فقد يتحقق منه للضعيف مالا يتحقق للقوي . وقد أورد الشاعر أمثلة متعددة لذلك في الأبيات التالية ، وخلص من كل ذلك إلى أن الإنسان يجب عليه أن يفتش عن جوهر الأشياء ، ويقيس الأمور على أساس تقديره لحقيقتها وجوها ، وليس على أساس نظراته السطحية إلي تلك الأمور .

( 1014 ) في رأيي أن في هذا البيت إشارة إلى أثر إبليس على آدم ، ذلك الأثر الذي أدى إلى سقوطه . فهذا الزاهد خلال آلاف السنين ( عزازيل ، الذي أصبح بعد سقوطه معروفاً بإبليس ) ، لم يكتف بعصيان ربه ، بل هو قد عمل على إضلال آدم وظل دائباً على السعي لإضلال ذريته من بعده . هذا الأثر الذي كان لإبليس على آدم هو أنه أقنعه بتأويل


“ 507 “

الأمر الإلهي الصريح ، الذي نهى به اللَّه آدم عن أكل ثمار الشجرة المحرمة .

فهذا النهي سر إلهي وقد كان صريحاً ، ولا سبيل لتأويله . فالتساؤل الذي وسوس به الشيطان لآدم ، كان سبب الخطيئة . فسقطة آدم كانت نتيجة للنظر العقلي إزاء نص صريح . وقد أصبحت هذه رمزاً لكل نظر عقلي ، بني على معارف الحس ، وأنكر الوحي والإلهام ، فناقش صريح الأمر ، والتمس في نقاشه العلل والأسباب ، وهذه تعجز عن إدراك الخفايا والأسرار الكامنة وراء صريح الأمر .

ولهذ عبر الشاعر عنها بأنها أصبحت خطاماً على فم البشر يعوقهم عن ارتشاف لبان علم الدين .

واستخدم العجل رمزاً لآدم ، وقصد بذلك أنه كان حديث الميلاد ، ساذج القلب بالقياس إلى إبليس الذي ظل آلاف السنين ملكاً من كبار الملائكة ، ثم ضل في النهاية ، نتيجة لتأويله صريح الأمر الإلهي بالسجود لآدم .

وها هوذا قد وسوس لآدم بما جعله يسلك ذات السبيل إزاء الشجرة المحرمة . ويجب ألا ننسى هنا أن الصوفية يعدون النظر العقلي عاجزاً عن إبصال البشرية إلى العلم اليقيني .

فسقطة آدم رمز لتمسك البشرية واعتدادها بالنظر العقلي وحده ، وإنكارها الروح وما يوحى إليها .

( 1016 ) هذه العلوم العقلية البحتة ، صرفت الناس عن الإيمان بالعلم الروحي ، ذلك العلم الذي يكشفه اللَّه لمحبيه . فأصبحت هذه العلوم الحسية خطاماً وقيداً ، يعوقهم عن الانطلاق في ميادين المعرفة الروحية .

( 1017 ) هذه الجوهرة هي مركز الإيمان في القلب الإنساني ، يشع منها ، فيغمر الكيان الإنساني ، ويجعل الإنسان وهو في هيكله المادي مرتبطاً بعالم الروح .

( 1018 ) الصورة رمز للمادة ولكل ما هو حسي . وعابد الصورة هو الذي يعتد بالمادة اعتداداً كلياً ، ويكاد لا يرى للروح شأناً بالقياس إليها . وقد يبلغ بالإنسان اعتداده بالمادة أن يدعها تطغى على روحه وتكبلها بالقيود .


“ 508 “

( 1020 ) لو كانت المادة وحدها هي كل ما يُعتد به في الوجود لكان أي تصوير للإنسان مساوياً للإنسان ذاته .

( 1022 ) عندما أراد اللَّه ، صار كلب أصحاب الكهف الذي ارتبط بهؤلاء الصلحاء أعظم من كل أسود الدنيا .

( 1024 ) حين يبعث الإنسان برسالة إلى إنسان آخر فإنه لا ينعته إلا بصفاته المعنوية كأن يصفه بأنه عالم أو عادل . فالمعتاد في المراسلات ألا يخاطب إنسان صديقه بقوله : “ صديقي الوسيم الوجه “ أو “ صديقي الطويل القامة “ بل هو يخاطبه بقوله : “ صديقي العالم أو الفاضل “ .

( 1025 ) ومثل هذه الصفات لا تتجسد لأنها معان مطلقة .

( 1028 ) “ الأذن الحمارية “ هي أذن الحس التي لا تقدر على إدراك الرموز والاستماع إلى الأسرار .

( 1033 ) مما هو شائع حتى الآن بين العامة أن الجن والشياطين .

تسكن شواطئ البحار النائية والبقاع الخزبة . وهذا من بقايا أوهام القرون الوسطى .

( 1035 ) هوا حبس الشيطان والنزوات والأوهام تطرق باب القلب ، وتحاول أن تتملكه . وهذه الهواجس لا ترى بالعين ، ولكنها مع ذلك محسوسة الأثر .


( 1039 ) تستطيع حين يتبدل حسك المادي ، ويتحقق لك الحس الروحي أن تدرك كنه هذه الهواجس والأوهام ، وتستطيع التغلب عليها ، وتتمكن من إقصائها عن قلبك وروحك . وإذ ذاك تحل مشكتلك ، ويتضح لك السبيل .

( 1040 ) وحين تبلغ هذا الحد من الإدراك الروحي ، تعلم حقيقة من خالفتهم من أنبياء ومرشدين روحيين ، ويتضح لك جوهر من كنت توليهم قيادك قبل أن تبلغ هذه المنزلة من الإدراك الروحي القويم .

“ 509 “

( 1049 ) يتضمن هذا البيت مصراعاً من بيت عربي شائع هو :كل علم ليس في القرطاس ضاع * كل سر جاوز الاثنين شاعوينسب هذا البيت أحياناً إلى علي بن أبي طالب .

[شرح من بيت 1050 إلى 1200 ]

( 1050 - 1051 ) الإشارات إلى منطق الطير وتسبيحها متعددة في القرآن الكريم ، وخاصة فيما يتصل بقصص داوود وسليمان . ومن الإشارة إلى ترابط الطير قوله تعالى :” وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ “. ( 6 : 38 ) .

( 1061 ) قد يضيع عمر الإنسان في الاستماع إلى ألفاظ حلوة الوقع ، لكنها لا طائل وراءها . والأولى به أن ينفق هذا العمر في تحري الحقائق ، وترقية النفس وتهذيبها .

( 1064 ) اللوح الحافظ - علي ما يبدو - يعني هنا العقل المفعم بالمعارف ، فإذا أصبح العلم بالنسبة لطالب الحكمة “ لوحاً محفوظاً “ فمعنى ذلك أنه قد بلغ أسمى مراتب المعرفة الروحية ، ففي اللوح المحفوظ علم كل شيء كان ويكون . وأما قوله : “ وعقله يغدو ذا حظّ من الروح “ فمعناه أنّ المعرفة لا تقف عند حدّ العقل ومدركاته ، بل تصبح الروح مصدراً للمعرفة ، ومبنعاً لها ، تمدّ العقل بما تتلقاه من كشف وإلهام

( 1065 ) حينما يبدأ المريد في ارتقاء سلّم المعارف يكون العقل بالنسبة له هو المعلّم والمرشد ، لكنّه حين يصبح من الواصلين ، فإنّ المعارف تأتيه عن طريق الكشف والإلهام ، فيتجلى للعقل حينذك ما لم يكن له سبيل إلى فهمه بالفكر المجرّد .

 

( 1066 ) في هذا البيت إشارة إلى عروج الرسول إلى السماء في صحبة جبريل . وقد وردت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى :” ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى “. ( 53 : 8 - 15 ) .


“ 510 “

وسدرة المنتهى - كما يقول الجيلي - “ هي نهاية المكانة التي يبلغها المخلوق في سيره إلى اللَّه تعالى ، وما بعدها إلا المكانة المختصة بالحقّ تعالى وحده ، ليس لمخلوق هناك قدم ، ولا يمكن البلوغ إلى ما بعد سدرة المنتهى لأنّ المخلوق هناك مسحوق ممحوق . . . وإلى ذلك الإشارة في قول جبريل عليه السلام للنبيّ : لو تقدمت شبراً لا حترقت ( الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 8 ) .

( 1068 - 1070 ) إنّ الإيمان بالجبر إحساس بالعجز ، واستسلام كامل يصرف صاحبه عن بذل أيّ جهد . فهو عند الشاعر حالة مرضية ، يتجلّى فيها ضعف النفس ، ذلك الضعف الذي يقضي عليها في نهاية الأمر . إنّ اعتقاد يؤدي بالضرورة إلى انعدام القدرة ، أي أنه يصبح مرضاً حقيقياً ، ينتهي بصاحبه إلى العجز الكامل ، الذي هو موت محقق .

( 1073 ) لا بد من بذل الجهد في الحياة . فإذا أدى الإنسان واجبه وأخلص في أدائه ، فإنه لا بد مدرك غايته رغم ما يلاقيه من صعاب .

( 1074 - 1075 ) المرء بتركيزه على بذل الجهد في تنقية النفس وتنزيهها عن الخطايا ، وفي سعيه إلى خالقه بقلب محب مخلص في محبته ، يصبح من الواصلين . وبعد أن يكون حاملًا أعباء السعي والجهاد لتنقية النفس ، يصل إلي مقام تكون فيه إرادته هي إرادة اللَّه . وبعد أن كان يتلقى الأوامر ، الإلهية ويعمل على مسايرتها ، أصبحت إرادته متمشية مع تلك الأوامر ، وأصبح هو الذي يحملها إلى الناس ويدعوهم إليها .

( 1076 ) من اتحدت إرادته مع إرادة اللَّه لا يبقى للكواكب

“ 511 “

سلطان عليه . وكان المعتقد في القرون الوسطى أن الكواكب تتحكم في مصائر الناس . ولا يزال أثر ذلك الاعتقاد باقياً إلى اليوم .

( 1098 ) العبرة ليست بالظاهر ، بل بالحقيقة والجوهر ، فالظاهر الحسن قد يكون وراءه بالطل ، وقد يكون وراءه حق .

( 1099 ) إذا كان عمل الإنسان مجرد ظاهر لا حقيقة له ذهب هباء .

( 1105 ) كانت النقود الإسلامية تحمل شهادة “ لا إله إلا اللَّه ، محمد رسول اللَّه “ . فكان اسم الرسول يطبع دائماً على النقود رغم تغير أسماء الملوك .

( 1110 - 1111 ) يصور الشاعر البشر في هذا العالم بكؤوس طافية فوق بحر الوجود المطلق ، تبقى طافية ما دامت خاوية الجوف ، فإذا ما امتلأت بمائه غرقت فيه . والظاهر أن الشاعر كان مولعاً بهذا التشبيه ، ففي أحد أحاديثه المجموعة في كتاب “ فيه ما فيه “ شبه البشر بالكؤوس فوق صفحة الماء .

قال : “ إننا مثل كأس فوق صفحة الماء . وليست حركة الكأس فوق الماء مما تتحكم به الكأس ، بل إن الماء هو الذي يحكم هذه الحركة “ . ( ص 153 ، طبعة فروزانفر ) .

وقد أراد بهذه الصورة أن يبين أن الخالق هو المحرك للبشر ، وإن كان الظاهر أنهم متحركون بإرادتهم .

( 1112 ) العقل هنا هو العقل الكلي ، وهذا من المصطلحات التي يرمز الشاعر بها أحياناً إلى الخالق . فهذا العقل الكلي لا يرى ، أما ما نراه فهو هذا العالم المادي ، الذي هو فيض من أشعة شمس العقل الكلي ، أو موج ورذاذ من بحره . وهذا تعبير عن مذهب وحدة الوجود .

( 1115 - 1119 ) قدم الشاعر هنا صورة لغفلة الإنسان عن الروح ، على الرغم من أن كل حياته مقتبسة منها ، فكأنه يمتطي حصانا ويحثه على الانطلاق به ، وهو مع ذلك غافل عن وجود هذا

“ 512 “

الحصان ، رغم أن الحصان يحمله ويمضي به مسرعاً فوق الطريق .

( 1121 ) الروح تملأ كيان الإنسان ، وبعض الناس لا يعلم شيئاً عنها ، فهذه الغفلة تجعل الإنسان شبيهاً بإبريق امتلأ جوفه بالماء ، على حين أن حلقه قد جف ، فلا خبر له عما به من الماء .

( 1122 ) لا سبيل إلى الوصول إلى الحقائق ، وإداراك تفصيلاتها ، ما لم يتوفر للإنسان أساس هذه المعرفة الحقيقة ، وهو عند الصوفية الكشف والهداية الإلهية . فحين يتوفر هذا للإنسان يصبح سبيله إلى المعارف المحققة . أما الانشغال بالجزئيات قبل التحقق بأساس المعرفة الأول فلا يؤدي إلى علم يقيني . فالهداية الإلهية كالنور ، وهي الوسيلة لتمييز الألوان . والألوان هنا ترمز إلى تفصيلات المعارف ، ولا سبيل إلي التيقن منها بدون النور ، أساس الهداية الأول .

( 1126 ) الإنسان الذي أضاء بالمعرفة قلبه ، يكون نور عينيه مستمداً من نور قلبه . وبهذا يفترق نور العين عند الإنسان العاقل عن نور العين عند الحيوان الأعجم . فالحيوان يبصر ولكنه لا يميز تمييز العقلاء ، ولكن الإنسان يبصر ، ويدرك معنى المبصرات بنور قلبه .

( 1127 ) الشاعر يفرق هنا بين نور القلب ، وبين نور الحس ونور العقل . فتور القلب هبة يلقيها اللَّه في قلوب الملهمين من عباده .

والغزالي لا يفرق بين نور القلب ونور العقل حيث يقول : “ واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها ، وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني ، ودع عنك العبارات ، فإنها إذا كثرت أو همت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني ، فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون .

ولنسمه عقلا متابعة للجهور “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 43 ) .

( 1129 ) عرّف الغزالي النور بقوله : “ النور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 42 ) .

“ 513 “

( 1131 ) إنّ اللَّه هو الكل لا ضد له ، ولا ندّ ، ولهذا لا يمكن إدراكه على ذات الوجه الذي تدرك به المحسوسات ، تلك التي تتميز للناس بضدها .

( 1133 ) يشير الشاعر في هذا البيت إلى أنّ التمييز الحقيقيّ لا بدّ أن يكون مبنياً على الإدراك الواعي ، لا على مجرد الإحساس بالأشياء .

فقوله : “ كل ضد يبيّن ضدّه في الصدور “ إيماء إلى أنّ المعرفة الحق هي ما يدركه العقل والقلب ، وبهذا يفترق إحساس الإنسان العاقل عن إحساس الحيوان .

( 1148 ) إنّ اللَّه يخلق الزمن بسرعة تفوق تصور الآدميين ، فيبدو الزمن أمامهم متطاولًا ، وهو لا يعدو أن يكون لحمة من قدرة اللَّه الخالقة .

ومقاييس الزمن - بالنسبة لسكان الأرض - اعتبارية محضة ، يحكمها دوران الأرض حول الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة . ولهذا تغيرت هذه المقاييس بالنسبة لمن رحلوا إلى القضاء الخارجي ، وخرجوا من مجال الجاذبية الأرضية . أما فكرة الزمن ذاته فقد شغلت الفلاسفة على مرّ العصور ، ولسنا نرى مجالًا هنا لمثل هذا البحث .

( 1189 ) إشارة إلى هلاك النمرود بن كنعان ، الذي يُذكر أنه كان من الملوك الجبابرة الطغاة ، أصرّ على الكفر ، وادعى لنفسه الألوهية .

وقد ذكر المفسرون أنه هو المقصود في قوله تعالى :” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ “.

( البقرة ، 2 : 258 ) . وقد ذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قصة هلاكه بقوله : “ فبعث اللَّه إليه بعوضة فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه ، فمكث أربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق ، فأرحم الناس به من جمع يديه ثم يضرب بهما رأسه . وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه اللَّه أربعمائة سنة كمدة ملكه ، ثم إن البعوضة أكلت دماغه ، وأهلكه


“ 514 “

اللَّه سبحانه وتعالى “ . ( قصص الأنبياء ، ص 97 ) .

( 1191 ) اقترن اسم هامان بفرعون في القرآن الكريم قال تعالى :” وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ “. ( القصص ، 28 : 6 ) .

وقال :” إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ “. ( القصص ، 28 : 8 ) وقد ذكر المفسرون أنّ هامان كان وزيراً لفرعون .

( 1199 ) إنّ الذين ركنوا إلى الدنيا وعدّوها وجوداً حقيقياً خالداً ، هم في واقع الأمر ضالون ، أسكرهم قهر الحق ، فظهر لهم العدم وجوداً فعاشوا في هذا الوهم منصرفين عن الحق .

.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: