الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

04 - كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

04 - كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

04 - كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)



“ 69 “
 
ولو لم يكن جهد أحمد لبقيت أنت أيضا . تعبد الصنم مثل أجدادك .
ان رأسك هذا قد نجا من السجود للصنم فبذلك تعرف حقه على الأمم .
فلو أنك تتكلم فتكلم بشكر تلك النجاة حتى يخلصك أيضا من صنم الباطن .
 
370  وما دام قد خلص رأسك من عبادة الأصنام ، فلتُخلِّص أنت القلب بتلك القوة ذاتها .
انك قد انحرفت برأسك عن شكر الدين ، لأنك قد تلقينة بدون مقابل ، ميراثا عن أبيك .
وماذا يعرف صاحب الإرث عن قيمة المال ؟ ان رستم لقيت روحه العناء ( في تحصيله ) وتلفاه بالمجان زال .
وانى - إذا أبكيت - جاشت رحمتي ! ذلك لأن الباكي ينهل من شراب نعمتي ! ولو انني لم أرد اكرامه لما أظهرت له النعم . فحينما أشعرة بانقباض القلب أعود فأشرح صدره .
 
375  وان رحمتي لموقوفة على تلك الدموع الصادقة ، فإذا ما بكى العبد جاش البحر بأمواج الرحمة “ .
 
كيف اشترى الشيخ احمد خضرويه قدس الله سره العزيز
حلوى لغرمائه بالهام الحق
 
كان شيخ دائم الوقوع في الدين ، وذلك لما كان عليه هذا الشهير

“ 70 “
 
من الكرم ! لقد كان يستدين الآلاف من أولى الثراء ، وينفقها على فقراء الدنيا ! كما أنشأ بالدين زواية للصوفية ، ووهب للخير الروح والمال والزاوية .
وكان الحقّ يؤدّى عنه الدين في كل جانب . فالله قد صنع للخليل دقيقا من الرمال !
 
380  ولقد قال الرسول ان ملكين في هذه الدنيا يدعوان في الأسواق ، قائلين : “ اللهم أعط كل منفق خلفا . اللهم أعط كل ممسك تلفا “ .
وبخاصة ذلك المنفق الذي جاد بروحه ، وجعل عنقه قربانا لخلاق الوجود ! لقد مدّ عنقه ( ليذبح ) كما فعل إسماعيل ولكن السكين ما كانت لتفعل فعلها بحلقه ! فالشهداء من هذا الوجه أحياء ناعمون ، فلا تقصير نظرك على الجسد مثل الكافرين .
 
385  وما دام الله قد وهبهم لقاء ذلك روح البقاء ، فقد بقيت أرواحهم آمنة من الحزن والألم .
ولقد ظل الشيخ المدين يفعل ذلك سنين ، فكان يأخذ ثم يعطى كأنه وسيط .
كان يبذر البذور حتى يوم الأجل ، ليكون في يوم الأجل أميرا أجلّ !
 
“ 71 “
 
وحينما اقترب عمر الشيخ من نهايته ، أبصر في كيانه علامات المنية .
وجلس الدائنون مجتمعين حوله ، أما الشيخ فكاد كيانه ينصهر ، كأنه شمعة .
 
390  وكان أصحاب الدين يائسين وقد اكفهرت وجوههم . كانت قلوبهم متألمة وصدورهم ضائقة .
فقال الشيخ : “ انظر إلى هؤلاء الذين ساءت ظنونهم ! أليس لدى الحق أربعمائة دينار من الذهب ؟ “ وارتفع خارج الدار صوت طفل ينادى على حلواه . وكان يقرّظ الحلوى على أمل في الدوانق .
فأومأ الشيخ برأسه إلى الخادم ، وأمره بأن يذهب ويشترى كل تلك الحلوى .
“ فلعلّ الدائنين - حين يأكلون من هذه الحلوى - يصرفون عنى نظراتهم المريرة لحظة واحدة “ .
 
395  فانطلق الخادم مسرعا نحو الباب ، حتى يشترى بالذهب تلك الحلوى .
وقال للطفل : “ بكم جملة هذه الحلوى ؟ “ . فأجاب الطفل :
“ انها بنصف دينار وقليل من الدوانق “ .
فقال الخادم : “ ضعها ، ولا تغال في الثمن مع الصوفية . سأعطيك نصف دينار ، فلا تقل أكثر من ذلك “ .
فوضع الطبق أمام الشيخ . فتأمل الآن ما احتجب من أسرار فكر الشيخ .

“ 72 “
 
لقد أشار إلى دائنيه قائلا : “ ان هذا نوال . فكلوه متبرّكين هنيئا فإنه ( رزق ) حلال !
 
400  وحينما صار الطبق خاليا تناوله الطفل وقال : أعطني دينارى ، أيها الحكيم ! “ فقال الشيخ : “ ومن أين آتيك بدرهم ؟ انني مدين وذاهب نحو العدم “ .
فاغتم الغلام ، وضرب بطبقه الأرض وارتفع صوته بالنواح والبكاء والأنين .
كان يبكى من الغبن وقد علا نشيجه ، قائلا : “ ليت ساقىّ كانتا قد كسرتا ! ليتني كنت قد درت حول مستودع للقمامة ، ولم أمرّ أمام باب هذا الخانقاه .
 
405  هؤلاء الصوفية الطفيليون المتسوّلون ، لهم قلوب كلاب ، وهم يلعقون وجوهم كالقطط .
فلصراخ الطفل اجتمع كل من كان هناك من أهل الخير والشر ، وتجمهروا حول الطفل .
وتقدم الطفل نحو الشيخ قائلا : “ أيها الشيخ القاسى ! انك تعلم يقينا أن معلمي سيقتلنى .
انى لو ذهبت اليه خاوى اليد فلسوف يقتلني فهل تجيز ذلك ؟ “ وأما هؤلاء الدائنون فقد التفتوا إلى الشيخ بانكار وجحود ، قائلين : “ وماذا كانت هذه اللعبة ؟
 
410  لقد أكلت أموالنا ، وها أنت ذا تقترف المظالم ! فلاي سبب كان
 
“ 73 “
 
اقتراف هذا الظلم الجديد ، فوق هاتيك ؟ “ وأخذ الطفل يبكى حتى صلاة العصر . أما الشيخ فقد أغلق عينيه ، ولم يكن ينظر اليه .
ان قلب الشيخ كان خاليا من الجفاء ومن الخلاف . ولقد غطى باللحاف وجههه الشبيه بالقمر .
وكان على وفاق مع الأزل ، وعلى وفاق مع الأجل . كان سعيدا خالى البال من أراجيف الخاصة والعامة ومن أقوالهم ! فمن أشرقت في وجهه الروح ببسمة حلوة كالقند ، ماذا يضيره من عبوس وجه الخلق ؟
 
415  وذلك الذي تُقبِّله الروح فوق عينيه ، أنى لغم الفلك أو غضبه أن ينال منه ؟
وأي خوف للقمر - وهو في المنزل المساك - من الكلاب ونباحها ، في الليلة القمراء ؟
فالكلب في مكانه يقوم بعلمه ، والقمر يؤدى مهمته بوجهه المشرق .
وكل شخص ينهض بأداء علمه الصغير . والماء لا يتخلى عن صفائه لو ألقيت به بعض الأقذار .
فهذه الأقذار تسبح زرية على سطح الماء ، ويسلك الماء الصافي سبيله بدون اضطراب .
 
420  والمصطفى يشق البدر في منتصف الليل ، وأبو لهب في حقده يتشدق بالهراء .
وهذا المسيح يحيى الموتى ، وأما ذلك اليهودىّ فهو يقتلع -
 
“ 74 “
 
من الحنق - شاربيه .
فهل لنباح الكلب سبيل إلى أذن البدر ، لا سيما حين يكون هذا البدر من خواص الله ؟
ان الملك يحتسى شرابه على شاطىء النهر حتى السحر . وهو في مجلس سماعه لا يشعر بنقيق الضفادع .
فلو أن حق الطفل قسم على الحاضرين لكان على كل منهم ( أن يدفع ) بضعة دوانق ، لكن همة الشيخ حالت دون هذا السخاء .
 
425  فلم يعط الطفل أحد من هؤلاء شيئا قط . وان قوة الشيوخ لتفوق ذلك أيضا .
وحينما حلت صلاة العصر جاء خادم يحمل في يده طبقا جاد به كريم حاتمى الجود .
ان صاحب مال وحال قد أرسل هدية إلى الشيخ ، لأنه كان عليما بخبره .
وكان فوق الطبق أربعمائة دينار ، وفي زاوية منه نصف دينار ملفوف بالورق .
لقد أقبل الخادم نحو الشيخ فحياه ثم وضع الطبق أمام ذلك الشيخ الفريد .
 
430  وحينما كشف عن الطبق الغطاء ، أبصر الناس تلك الكرامة من الشيخ .
وسرعان ما ارتفعت منهم صيحات الأسى والندم ، وقالوا : “ ما هذا يا سيد الشيوخ ! يا ملك الملوك ! ما هذا السر ؟ وأي سلطان ذلك أيضا ، يا ملك ملوك الأسرار !
 
“ 75 “
 
اننا لم نكن نعلم ، فاصفح عنا . فلقد انطلقت منا كلمات بالغة التشويش .
فلقد كنا نضرب بعصينا كالعميان فلا جرم أننا قد حطمنا القناديل !
 
 435  اننا مثل الصم ، لم نسمع كلمة واحدة توجه الينا ، ومع ذلك كنا نهذى بجواب مبنى على القياس .
اننا لم نأخذ النصيحة من موسى ، الذي غدا بانكاره الخضر شاحب الوجه ، برغم ما كان له من بصر يرنو إلى الأعالي ، وعين كان نورها يشق السماء ! يا موسى ( زماننا ) ! ان التعصب قد جعل عينك - في حماقتها - شبيهة بعين فأر الطاحون .
فقال الشيخ : لقد صفحت عن كل هذا القيل والقال ، وبهذا قد أصبح حلالا لكم .
 
440  والسر في ذلك كله أنني كنت أسأل الحق . فلا جرم أنه قد بين لي سبيل الصواب .
ثم قال : “ ان هذا الدينار - مع أنه قليل - كان رهنا ببكاء الطفل .
فلو أن هذا الطفل بائع الحلوى لم يبك ، ما جاش بحر رحمتي ( بالعطاء ) .
أيها الأخ . ان الطفل ليس سوى طفل عينك . ورغابه رهن يالبكاء ، فاعلم ذلك يقينا .

 
“ 76 “
 
فإذا أردت أن تحظى بهذه الخلعة “ 1 “ ، فلتجعل انسان عينك باكيا على الجسد .
 
كيف حذر شخص أحد الزهاد قائلا 
 “ أقل البكاء حتى لا تصاب بالعمى “
 
445  خاطب رفيق في العمل أحد الزهاد قائلا : “ أقل البكاء ، حتى لا تصاب عينك بالأذى .
فقال الزاهد : “ ان الحال لا يخرج عن أحد أمرين . اما أن تبصر العين ذلك الجمال ، أو لا تبصره .
فان أبصرت العين نور الحق فأي غم هناك ؟ وما أهون العينين عند من نعم بوصال الحق ! وان لم ترد العين رؤية الحق فمرها بالذهاب . وقل لمثل تلك العين الشقية : “ كونى عمياء “ .
ولا تأس على عينك حينما يكون لك هذا المسيح . ولا تتجه نحو الشمال فإنه يهبك عينين صحيحتين ( لقاء استقامتك ) .
 
450  ان عيسى روحك حاضر معك . فالتمس النصرة منه ، فإنه نعم النصير .
ولكن لا تضع على قلب عيسى في كل لحظة أثقال السخرة لجسم حافل بالعظام .
..................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فإذا أردت أن تصل إليك هذه الخلعة . . . “ .


“ 77 “
 
كما فعل ذلك الأبله الذي ذكرناه في القصة ، تبصرة لأهل الصلاح . “ 1 “ .
فلا تلتمس من مسيحك حياة الجسد . ولا تطلب رغاب فرعون ممن هو لك بمثابة موسى .
ولا تثقل فؤادك بهم التفكر في المعاش . فلن يخونك الرزق .
فلتكن ماثلا في رحاب الله .
 
455 ان البدن بمثابة خيمة للروح ، أو هو مثل السفينة لنوح .
وطالما كان التركماني هناك ، فسيجد احدى الخيام ، لا سيما حين يكون من أعزاء تلك الرحاب .
 
تمام قصة بعث العظام بدعاء عيسى عليه السلام
 
ان عيسى نادى باسم الحق على العظام ، إجابة لملتمس ذلك الشاب .
فكان حكم الحق - من أجل ذلك الفتى الغرّ - أن بث الحياة في صورة تلك العظام .
وكان أن قفز منها أسد أسود اللون ، وضربه بمخالبه فدمر كيانه الصورىّ !
 
 460  وحطم رأسه ، فسرعان ما انسكب منه لبُّه . لقد كان لبّ جوزة ، فالفتى لم يكن من أولى الألباب .
ولو كان من أولى الألباب لما كان تحطيمه يتجاوز ايذاء الجسد .
........................................................
( 1 ) حرفيا : من اجل أهل الصلاح .


“ 78 “
 
لقد قال عيسى للأسد : “ كيف ضربته بهذه السرعة ؟ “ فقال الأسد : “ لأنه كان مصدرا لازعاج خاطرك “ فقال عيسى : “ ولماذا لم تشرب دم الرجل ؟ “ فقال الأسد :
“ انه لم يقسم لي تناول هذا الرزق “ .
وكم من رجل شبيه بهذا الأسد الضاري ، ترك الدنيا من غير أن يأكل صيده !
 
 465  نصيبه المقسوم لا يعدل القشة ، وحرصه مثل الجبل . ولا وجه ( للرزق ) مع أنه قد طرق جميع الوجوه ! فيا من يسرَّت لنا في هذه الدنيا أن نسخر أنفسنا لما لا يجدى ! يسرِّ لنا الخلاص ! لقد ظهرت ( مغريات العيش ) طعُمة في حين أنها شص ! فلتظهرها لنا على ما هي عليه .
قال الأسد : “ أيها المسيح ! ان هذا الصيد لم يكن له من هدف سوى الاعتبار ! ولو . أنه كان قد بقي لي رزق في هذه الدينا ، في عمل كان لي مع الموتى ؟ “
 
 470 ان هذا جزاء من يجد الماء صافيا فيبول في النهر بدون تمييز مثل الحمار .
ولو أنه الحمار أدرك قيمة ذلك النهر ، لوضع رأسه فيه بدلا من أن يغشاه بقدمه .
لقد لقى ( الأحمق ) مثل ذلك النبي “ 1 “ ، من كان أميرا على الماء ،
...................................................................
( 1 ) إشارة إلى قصة الأحمق الذي رافق عيسى ( انظر الأبيات 141 - 152 ) .


“ 79 “
 
باعثا للحياة .
فكيف لا يموت أمامه قائلا : “ يا أيمر الماء . ردّ الينا الحياة بأمر كن “ .
فحذار ، ولا تطلب الحياة لكلب نفسك الأمارة ، فإنها منذ القدم عدو لروحك .
 
475  وليحث التراب على رأس تلك العظام ، التي تحول بين هذا الكلب وبين صيد الروح .
فإن لم تكن كلبا فما هذا التعشق للعظام ؟ وان لم تكن مثل الضبع فلماذا أنت مولع بالدماء ؟
وأية عين تلك التي تكون بدون ابصار ؟ انه لا يتحقق من امتحانها شئ سوى الفضيحة والعار ؟
ولقد يكون للظنون سهو بين حين وآخر ، ولكن أي ظن هذا الذي يكون أعمى عن الطريق ؟
أيتها العين التي تبكى منتحبة على سواها ! لتجلسى الآن قليلا ولتبكى على نفسك !
 
480  فالسحاب الباكي يجعل الأغصان مخضرة يانعة . وكذلك الشمعة تزداد ببكائها نورا ! فحيثما ينوح النائحون اتخذي لك مجلسا ، فإنك أنت أولى من هؤلاء بالحنين .
فهؤلاء يبكون على فراق ما يفنى ، وهم غافلون من عقيق منجم البقاء .
ذلك لأن نقش التقليد قيد للقلب . فامض وحطم هذا القيد بماء .


“ 80 “
 
المدامع .
ولما كان التقليد آفة لكل خير ، فإنه ليس سوى قشة حتى ولو كان جبلا منيعا .
 
485  ولئن يكن الضرير عظيم الجسم سريع الغضب ، فاعلم أنه ليس سوى كتلة من اللحم ما دام بدون بصر .
ولئن كان يتحدث بكلام أدق من الشعرة فإنه لا يكون بقلبه مدركا هذا الكلام .
وانه ليستشعر النشوة بما يقوله ، لكن بينه وبين الخمر طريقا بعيدا ! فهو مثل النهر ، فليس هو الذي يشرب الماء بل الماء ينساب خلاله إلى شاربيه .
فالماء لا يستقر في مجرى النهر ، لأن النهر لا يكون ظمآن ولا يشرب الماء .
 
490  بل هو مثل الناى يشدو بأنات الأسى ، وهو ليس الا متخذا صورة تعجب المشترين .
ان المقلد يتخذ في الحديث صورة محترف النواح ، وليس لذلك الخبيث من باعث سوى الطمع ! فهذا النائح المحترف ينطق بكلمات تحرق الفؤاد ولكن أين هو من احتراق القلب وشق الثياب ؟
فهناك فروق شاسعة بين المحقق وبين المقلد ، فان هذا مثل داود وأما ذاك فمثل الصدى .
ومنبع قول هذا هو احتراق القلب ، أما ذلك المقلد فمنبع قوله ما تلقاه من تلعيم بال مهلهل !


“ 81 “
 
495  فتنبه ، ولا تغتر بدلك القول الحزين ، فالثور هو الذي يحمل العبء ، على حين يكون من العربة الأنين .
والمقلد أيضا ليس محروما من الثواب ، فان محترف النواح ينال أجره عند الحساب .
والكافر والمؤمن كلاهما ينطقان باسم الله ، لكن شقة شاسعة البعد تفريق بينهما .
وذلك المتسول يهتف باسم الله من أجل الخبز ، أما المتقى فيذكر الله من صميم روحه .
ولو أن ذلك المتسول أدرك مضمون قوله ، لما كان يبقى ماثلا أمام عينيه قليل ولا كثير .
 
500 ان ذلك المتلعق بالخبز ينطق باسم الله طوال السنين ، فهو مثل الحمار يحمل المصحف من أجل وجبة من التبن ! فلو أشرق في قلبه لفظ شفيته ، لتحول كيانه الجسدي إلى ذرات .
وفي السحر يتملك اسم الشيطان ناصية الطريق . وها أنت ذا تتجر باسم الحق لقاء دانق !
 
كيف اخذ فلاح يدلك بيده في الظلام جسم أسد ظانا انه ثوره
 
لقد ربط أحد الفلاحين ثوره في الحظيرة ، فأكل الأسد هذا الثور وجلس في مكانه .
ودخل الفلاح الحظيرة في الظلام متجها نحو ثوره وأخذه


“ 82 “
 
يتحس الأركان باحثا عن ثوره .
 
505  ثم أخذ يدلك بيده أعضاء الأسد ، ظهره وجانبيه عاليه وسافله .
فحدث الأسد نفسه قائلا : “ لو انبثق الضياء لا نفجرت مرارته ( رعبا ) ولغدا قلبه دما ! انه يدلكنى بجسارة على هذه الصورة ، لأنه - في هذه الظلمة - يحسبني ثوره .
والحق يقول : “ أيها المغرور الأعمى ! أو لم يتصدع جبل الطور تحت وطأة اسمى ؟
فلو أننا أنزلنا كتابا على الجبل ، لا نصدى الجبل ، وتساقط وزال من مكانه “ 1 “ .
 
510  ولو أن جبل أحد أصبح مدركا حقيقتنا ، لتفجرت منه عيون الدماء ! وأنتم قد تسامعتم بنا من أبائكم وأمهاتكم ، فلا جرم أن غمض عليكم الأمر في غفلتكم .
ولو أنكم أدركتم الحق بدون تقليد ، لخفي من اللطف كيانكم المادي ، وغدوتم مثل نداء السماء ! فاستمع إلى هذه القصة لتكون لك ، رادعا ، فإنك تعلم منها آفة التقليد :
................................................................
( 1 ) هذا البيت عربى في الأصل ، وقد نثرناه لمجاراة السياق .

“ 69 “
 
ولو لم يكن جهد أحمد لبقيت أنت أيضا . تعبد الصنم مثل أجدادك .
ان رأسك هذا قد نجا من السجود للصنم فبذلك تعرف حقه على الأمم .
فلو أنك تتكلم فتكلم بشكر تلك النجاة حتى يخلصك أيضا من صنم الباطن .
 
370  وما دام قد خلص رأسك من عبادة الأصنام ، فلتُخلِّص أنت القلب بتلك القوة ذاتها .
انك قد انحرفت برأسك عن شكر الدين ، لأنك قد تلقينة بدون مقابل ، ميراثا عن أبيك .
وماذا يعرف صاحب الإرث عن قيمة المال ؟ ان رستم لقيت روحه العناء ( في تحصيله ) وتلفاه بالمجان زال .
وانى - إذا أبكيت - جاشت رحمتي ! ذلك لأن الباكي ينهل من شراب نعمتي ! ولو انني لم أرد اكرامه لما أظهرت له النعم . فحينما أشعرة بانقباض القلب أعود فأشرح صدره .
 
375  وان رحمتي لموقوفة على تلك الدموع الصادقة ، فإذا ما بكى العبد جاش البحر بأمواج الرحمة “ .
 
كيف اشترى الشيخ احمد خضرويه قدس الله سره العزيز
حلوى لغرمائه بالهام الحق
 
كان شيخ دائم الوقوع في الدين ، وذلك لما كان عليه هذا الشهير

“ 70 “
 
من الكرم ! لقد كان يستدين الآلاف من أولى الثراء ، وينفقها على فقراء الدنيا ! كما أنشأ بالدين زواية للصوفية ، ووهب للخير الروح والمال والزاوية .
وكان الحقّ يؤدّى عنه الدين في كل جانب . فالله قد صنع للخليل دقيقا من الرمال !
 
380  ولقد قال الرسول ان ملكين في هذه الدنيا يدعوان في الأسواق ، قائلين : “ اللهم أعط كل منفق خلفا . اللهم أعط كل ممسك تلفا “ .
وبخاصة ذلك المنفق الذي جاد بروحه ، وجعل عنقه قربانا لخلاق الوجود ! لقد مدّ عنقه ( ليذبح ) كما فعل إسماعيل ولكن السكين ما كانت لتفعل فعلها بحلقه ! فالشهداء من هذا الوجه أحياء ناعمون ، فلا تقصير نظرك على الجسد مثل الكافرين .
 
385  وما دام الله قد وهبهم لقاء ذلك روح البقاء ، فقد بقيت أرواحهم آمنة من الحزن والألم .
ولقد ظل الشيخ المدين يفعل ذلك سنين ، فكان يأخذ ثم يعطى كأنه وسيط .
كان يبذر البذور حتى يوم الأجل ، ليكون في يوم الأجل أميرا أجلّ !
 
“ 71 “
 
وحينما اقترب عمر الشيخ من نهايته ، أبصر في كيانه علامات المنية .
وجلس الدائنون مجتمعين حوله ، أما الشيخ فكاد كيانه ينصهر ، كأنه شمعة .
 
390  وكان أصحاب الدين يائسين وقد اكفهرت وجوههم . كانت قلوبهم متألمة وصدورهم ضائقة .
فقال الشيخ : “ انظر إلى هؤلاء الذين ساءت ظنونهم ! أليس لدى الحق أربعمائة دينار من الذهب ؟ “ وارتفع خارج الدار صوت طفل ينادى على حلواه . وكان يقرّظ الحلوى على أمل في الدوانق .
فأومأ الشيخ برأسه إلى الخادم ، وأمره بأن يذهب ويشترى كل تلك الحلوى .
“ فلعلّ الدائنين - حين يأكلون من هذه الحلوى - يصرفون عنى نظراتهم المريرة لحظة واحدة “ .
 
395  فانطلق الخادم مسرعا نحو الباب ، حتى يشترى بالذهب تلك الحلوى .
وقال للطفل : “ بكم جملة هذه الحلوى ؟ “ . فأجاب الطفل :
“ انها بنصف دينار وقليل من الدوانق “ .
فقال الخادم : “ ضعها ، ولا تغال في الثمن مع الصوفية . سأعطيك نصف دينار ، فلا تقل أكثر من ذلك “ .
فوضع الطبق أمام الشيخ . فتأمل الآن ما احتجب من أسرار فكر الشيخ .

“ 72 “
 
لقد أشار إلى دائنيه قائلا : “ ان هذا نوال . فكلوه متبرّكين هنيئا فإنه ( رزق ) حلال !
 
400  وحينما صار الطبق خاليا تناوله الطفل وقال : أعطني دينارى ، أيها الحكيم ! “ فقال الشيخ : “ ومن أين آتيك بدرهم ؟ انني مدين وذاهب نحو العدم “ .
فاغتم الغلام ، وضرب بطبقه الأرض وارتفع صوته بالنواح والبكاء والأنين .
كان يبكى من الغبن وقد علا نشيجه ، قائلا : “ ليت ساقىّ كانتا قد كسرتا ! ليتني كنت قد درت حول مستودع للقمامة ، ولم أمرّ أمام باب هذا الخانقاه .
 
405  هؤلاء الصوفية الطفيليون المتسوّلون ، لهم قلوب كلاب ، وهم يلعقون وجوهم كالقطط .
فلصراخ الطفل اجتمع كل من كان هناك من أهل الخير والشر ، وتجمهروا حول الطفل .
وتقدم الطفل نحو الشيخ قائلا : “ أيها الشيخ القاسى ! انك تعلم يقينا أن معلمي سيقتلنى .
انى لو ذهبت اليه خاوى اليد فلسوف يقتلني فهل تجيز ذلك ؟ “ وأما هؤلاء الدائنون فقد التفتوا إلى الشيخ بانكار وجحود ، قائلين : “ وماذا كانت هذه اللعبة ؟
 
410  لقد أكلت أموالنا ، وها أنت ذا تقترف المظالم ! فلاي سبب كان
 
“ 73 “
 
اقتراف هذا الظلم الجديد ، فوق هاتيك ؟ “ وأخذ الطفل يبكى حتى صلاة العصر . أما الشيخ فقد أغلق عينيه ، ولم يكن ينظر اليه .
ان قلب الشيخ كان خاليا من الجفاء ومن الخلاف . ولقد غطى باللحاف وجههه الشبيه بالقمر .
وكان على وفاق مع الأزل ، وعلى وفاق مع الأجل . كان سعيدا خالى البال من أراجيف الخاصة والعامة ومن أقوالهم ! فمن أشرقت في وجهه الروح ببسمة حلوة كالقند ، ماذا يضيره من عبوس وجه الخلق ؟
 
415  وذلك الذي تُقبِّله الروح فوق عينيه ، أنى لغم الفلك أو غضبه أن ينال منه ؟
وأي خوف للقمر - وهو في المنزل المساك - من الكلاب ونباحها ، في الليلة القمراء ؟
فالكلب في مكانه يقوم بعلمه ، والقمر يؤدى مهمته بوجهه المشرق .
وكل شخص ينهض بأداء علمه الصغير . والماء لا يتخلى عن صفائه لو ألقيت به بعض الأقذار .
فهذه الأقذار تسبح زرية على سطح الماء ، ويسلك الماء الصافي سبيله بدون اضطراب .
 
420  والمصطفى يشق البدر في منتصف الليل ، وأبو لهب في حقده يتشدق بالهراء .
وهذا المسيح يحيى الموتى ، وأما ذلك اليهودىّ فهو يقتلع -
 
“ 74 “
 
من الحنق - شاربيه .
فهل لنباح الكلب سبيل إلى أذن البدر ، لا سيما حين يكون هذا البدر من خواص الله ؟
ان الملك يحتسى شرابه على شاطىء النهر حتى السحر . وهو في مجلس سماعه لا يشعر بنقيق الضفادع .
فلو أن حق الطفل قسم على الحاضرين لكان على كل منهم ( أن يدفع ) بضعة دوانق ، لكن همة الشيخ حالت دون هذا السخاء .
 
425  فلم يعط الطفل أحد من هؤلاء شيئا قط . وان قوة الشيوخ لتفوق ذلك أيضا .
وحينما حلت صلاة العصر جاء خادم يحمل في يده طبقا جاد به كريم حاتمى الجود .
ان صاحب مال وحال قد أرسل هدية إلى الشيخ ، لأنه كان عليما بخبره .
وكان فوق الطبق أربعمائة دينار ، وفي زاوية منه نصف دينار ملفوف بالورق .
لقد أقبل الخادم نحو الشيخ فحياه ثم وضع الطبق أمام ذلك الشيخ الفريد .
 
430  وحينما كشف عن الطبق الغطاء ، أبصر الناس تلك الكرامة من الشيخ .
وسرعان ما ارتفعت منهم صيحات الأسى والندم ، وقالوا : “ ما هذا يا سيد الشيوخ ! يا ملك الملوك ! ما هذا السر ؟ وأي سلطان ذلك أيضا ، يا ملك ملوك الأسرار !
 
“ 75 “
 
اننا لم نكن نعلم ، فاصفح عنا . فلقد انطلقت منا كلمات بالغة التشويش .
فلقد كنا نضرب بعصينا كالعميان فلا جرم أننا قد حطمنا القناديل !
 
 435  اننا مثل الصم ، لم نسمع كلمة واحدة توجه الينا ، ومع ذلك كنا نهذى بجواب مبنى على القياس .
اننا لم نأخذ النصيحة من موسى ، الذي غدا بانكاره الخضر شاحب الوجه ، برغم ما كان له من بصر يرنو إلى الأعالي ، وعين كان نورها يشق السماء ! يا موسى ( زماننا ) ! ان التعصب قد جعل عينك - في حماقتها - شبيهة بعين فأر الطاحون .
فقال الشيخ : لقد صفحت عن كل هذا القيل والقال ، وبهذا قد أصبح حلالا لكم .
 
440  والسر في ذلك كله أنني كنت أسأل الحق . فلا جرم أنه قد بين لي سبيل الصواب .
ثم قال : “ ان هذا الدينار - مع أنه قليل - كان رهنا ببكاء الطفل .
فلو أن هذا الطفل بائع الحلوى لم يبك ، ما جاش بحر رحمتي ( بالعطاء ) .
أيها الأخ . ان الطفل ليس سوى طفل عينك . ورغابه رهن يالبكاء ، فاعلم ذلك يقينا .

 
“ 76 “
 
فإذا أردت أن تحظى بهذه الخلعة “ 1 “ ، فلتجعل انسان عينك باكيا على الجسد .
 
كيف حذر شخص أحد الزهاد قائلا 
 “ أقل البكاء حتى لا تصاب بالعمى “
 
445  خاطب رفيق في العمل أحد الزهاد قائلا : “ أقل البكاء ، حتى لا تصاب عينك بالأذى .
فقال الزاهد : “ ان الحال لا يخرج عن أحد أمرين . اما أن تبصر العين ذلك الجمال ، أو لا تبصره .
فان أبصرت العين نور الحق فأي غم هناك ؟ وما أهون العينين عند من نعم بوصال الحق ! وان لم ترد العين رؤية الحق فمرها بالذهاب . وقل لمثل تلك العين الشقية : “ كونى عمياء “ .
ولا تأس على عينك حينما يكون لك هذا المسيح . ولا تتجه نحو الشمال فإنه يهبك عينين صحيحتين ( لقاء استقامتك ) .
 
450  ان عيسى روحك حاضر معك . فالتمس النصرة منه ، فإنه نعم النصير .
ولكن لا تضع على قلب عيسى في كل لحظة أثقال السخرة لجسم حافل بالعظام .
..................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فإذا أردت أن تصل إليك هذه الخلعة . . . “ .


“ 77 “
 
كما فعل ذلك الأبله الذي ذكرناه في القصة ، تبصرة لأهل الصلاح . “ 1 “ .
فلا تلتمس من مسيحك حياة الجسد . ولا تطلب رغاب فرعون ممن هو لك بمثابة موسى .
ولا تثقل فؤادك بهم التفكر في المعاش . فلن يخونك الرزق .
فلتكن ماثلا في رحاب الله .
 
455 ان البدن بمثابة خيمة للروح ، أو هو مثل السفينة لنوح .
وطالما كان التركماني هناك ، فسيجد احدى الخيام ، لا سيما حين يكون من أعزاء تلك الرحاب .
 
تمام قصة بعث العظام بدعاء عيسى عليه السلام
 
ان عيسى نادى باسم الحق على العظام ، إجابة لملتمس ذلك الشاب .
فكان حكم الحق - من أجل ذلك الفتى الغرّ - أن بث الحياة في صورة تلك العظام .
وكان أن قفز منها أسد أسود اللون ، وضربه بمخالبه فدمر كيانه الصورىّ !
 
 460  وحطم رأسه ، فسرعان ما انسكب منه لبُّه . لقد كان لبّ جوزة ، فالفتى لم يكن من أولى الألباب .
ولو كان من أولى الألباب لما كان تحطيمه يتجاوز ايذاء الجسد .
........................................................
( 1 ) حرفيا : من اجل أهل الصلاح .


“ 78 “
 
لقد قال عيسى للأسد : “ كيف ضربته بهذه السرعة ؟ “ فقال الأسد : “ لأنه كان مصدرا لازعاج خاطرك “ فقال عيسى : “ ولماذا لم تشرب دم الرجل ؟ “ فقال الأسد :
“ انه لم يقسم لي تناول هذا الرزق “ .
وكم من رجل شبيه بهذا الأسد الضاري ، ترك الدنيا من غير أن يأكل صيده !
 
 465  نصيبه المقسوم لا يعدل القشة ، وحرصه مثل الجبل . ولا وجه ( للرزق ) مع أنه قد طرق جميع الوجوه ! فيا من يسرَّت لنا في هذه الدنيا أن نسخر أنفسنا لما لا يجدى ! يسرِّ لنا الخلاص ! لقد ظهرت ( مغريات العيش ) طعُمة في حين أنها شص ! فلتظهرها لنا على ما هي عليه .
قال الأسد : “ أيها المسيح ! ان هذا الصيد لم يكن له من هدف سوى الاعتبار ! ولو . أنه كان قد بقي لي رزق في هذه الدينا ، في عمل كان لي مع الموتى ؟ “
 
 470 ان هذا جزاء من يجد الماء صافيا فيبول في النهر بدون تمييز مثل الحمار .
ولو أنه الحمار أدرك قيمة ذلك النهر ، لوضع رأسه فيه بدلا من أن يغشاه بقدمه .
لقد لقى ( الأحمق ) مثل ذلك النبي “ 1 “ ، من كان أميرا على الماء ،
...................................................................
( 1 ) إشارة إلى قصة الأحمق الذي رافق عيسى ( انظر الأبيات 141 - 152 ) .


“ 79 “
 
باعثا للحياة .
فكيف لا يموت أمامه قائلا : “ يا أيمر الماء . ردّ الينا الحياة بأمر كن “ .
فحذار ، ولا تطلب الحياة لكلب نفسك الأمارة ، فإنها منذ القدم عدو لروحك .
 
475  وليحث التراب على رأس تلك العظام ، التي تحول بين هذا الكلب وبين صيد الروح .
فإن لم تكن كلبا فما هذا التعشق للعظام ؟ وان لم تكن مثل الضبع فلماذا أنت مولع بالدماء ؟
وأية عين تلك التي تكون بدون ابصار ؟ انه لا يتحقق من امتحانها شئ سوى الفضيحة والعار ؟
ولقد يكون للظنون سهو بين حين وآخر ، ولكن أي ظن هذا الذي يكون أعمى عن الطريق ؟
أيتها العين التي تبكى منتحبة على سواها ! لتجلسى الآن قليلا ولتبكى على نفسك !
 
480  فالسحاب الباكي يجعل الأغصان مخضرة يانعة . وكذلك الشمعة تزداد ببكائها نورا ! فحيثما ينوح النائحون اتخذي لك مجلسا ، فإنك أنت أولى من هؤلاء بالحنين .
فهؤلاء يبكون على فراق ما يفنى ، وهم غافلون من عقيق منجم البقاء .
ذلك لأن نقش التقليد قيد للقلب . فامض وحطم هذا القيد بماء .


“ 80 “
 
المدامع .
ولما كان التقليد آفة لكل خير ، فإنه ليس سوى قشة حتى ولو كان جبلا منيعا .
 
485  ولئن يكن الضرير عظيم الجسم سريع الغضب ، فاعلم أنه ليس سوى كتلة من اللحم ما دام بدون بصر .
ولئن كان يتحدث بكلام أدق من الشعرة فإنه لا يكون بقلبه مدركا هذا الكلام .
وانه ليستشعر النشوة بما يقوله ، لكن بينه وبين الخمر طريقا بعيدا ! فهو مثل النهر ، فليس هو الذي يشرب الماء بل الماء ينساب خلاله إلى شاربيه .
فالماء لا يستقر في مجرى النهر ، لأن النهر لا يكون ظمآن ولا يشرب الماء .
 
490  بل هو مثل الناى يشدو بأنات الأسى ، وهو ليس الا متخذا صورة تعجب المشترين .
ان المقلد يتخذ في الحديث صورة محترف النواح ، وليس لذلك الخبيث من باعث سوى الطمع ! فهذا النائح المحترف ينطق بكلمات تحرق الفؤاد ولكن أين هو من احتراق القلب وشق الثياب ؟
فهناك فروق شاسعة بين المحقق وبين المقلد ، فان هذا مثل داود وأما ذاك فمثل الصدى .
ومنبع قول هذا هو احتراق القلب ، أما ذلك المقلد فمنبع قوله ما تلقاه من تلعيم بال مهلهل !


“ 81 “
 
495  فتنبه ، ولا تغتر بدلك القول الحزين ، فالثور هو الذي يحمل العبء ، على حين يكون من العربة الأنين .
والمقلد أيضا ليس محروما من الثواب ، فان محترف النواح ينال أجره عند الحساب .
والكافر والمؤمن كلاهما ينطقان باسم الله ، لكن شقة شاسعة البعد تفريق بينهما .
وذلك المتسول يهتف باسم الله من أجل الخبز ، أما المتقى فيذكر الله من صميم روحه .
ولو أن ذلك المتسول أدرك مضمون قوله ، لما كان يبقى ماثلا أمام عينيه قليل ولا كثير .
 
500 ان ذلك المتلعق بالخبز ينطق باسم الله طوال السنين ، فهو مثل الحمار يحمل المصحف من أجل وجبة من التبن ! فلو أشرق في قلبه لفظ شفيته ، لتحول كيانه الجسدي إلى ذرات .
وفي السحر يتملك اسم الشيطان ناصية الطريق . وها أنت ذا تتجر باسم الحق لقاء دانق !
 
كيف اخذ فلاح يدلك بيده في الظلام جسم أسد ظانا انه ثوره
 
لقد ربط أحد الفلاحين ثوره في الحظيرة ، فأكل الأسد هذا الثور وجلس في مكانه .
ودخل الفلاح الحظيرة في الظلام متجها نحو ثوره وأخذه


“ 82 “
 
يتحس الأركان باحثا عن ثوره .
 
505  ثم أخذ يدلك بيده أعضاء الأسد ، ظهره وجانبيه عاليه وسافله .
فحدث الأسد نفسه قائلا : “ لو انبثق الضياء لا نفجرت مرارته ( رعبا ) ولغدا قلبه دما ! انه يدلكنى بجسارة على هذه الصورة ، لأنه - في هذه الظلمة - يحسبني ثوره .
والحق يقول : “ أيها المغرور الأعمى ! أو لم يتصدع جبل الطور تحت وطأة اسمى ؟
فلو أننا أنزلنا كتابا على الجبل ، لا نصدى الجبل ، وتساقط وزال من مكانه “ 1 “ .
 
510  ولو أن جبل أحد أصبح مدركا حقيقتنا ، لتفجرت منه عيون الدماء ! وأنتم قد تسامعتم بنا من أبائكم وأمهاتكم ، فلا جرم أن غمض عليكم الأمر في غفلتكم .
ولو أنكم أدركتم الحق بدون تقليد ، لخفي من اللطف كيانكم المادي ، وغدوتم مثل نداء السماء ! فاستمع إلى هذه القصة لتكون لك ، رادعا ، فإنك تعلم منها آفة التقليد :
................................................................
( 1 ) هذا البيت عربى في الأصل ، وقد نثرناه لمجاراة السياق .
* * *

شرح كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه




( 115 ) القول الذي يُنسب إلى عمر في هذا البيت ، وهو : “ أنا أقدر منك على رؤية الأفلاك “ يشير إلى معنى صوفي ، وهو أن الرجل القوى الروح أقدر من سواه على ادراك الحقائق “ .
( 122 ) ان توازن كفتى الميزان قد يكون على أساس صحيح ، وقد يكون على أساس خاطىء . فالذهب لو ووزن بالذهب فالقدران متساويان ، أما موازنة الذهب بالشعير فموازنة اعتبارية ، ولا حقيقية .
( 124 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم “ . ( 48 : 29 ) .
( 127 ) انك تشعل النار بالبخور لتخلص من الحسد ، وأولى بك أن نشعلها بمصدر ذلك الحسد . ان هؤلاء الحاسدين لشبيهون بالذئاب البشرية التي آذت يوسف ، فهم أعداء الجمال والكمال ، وهم بهذا جديرون بنار غضبك .
( 128 - 131 ) يصور الشاعر هنا الصراع بين الانسان والشيطان بأسلوب لطيف ، وصور بارعة : الشيطان يخاطب الانسان بلطف ، وكأنه أب ناصح : فيقول له : “ يا روح أبيك ! “ ، لكن هذا الأسلوب الرقيق ، كان السبيل إلى خداع آدم . ثم تأتى بعد ذلك صورة الانسان والشيطان وهما متواجهان يلعبان الشطرنج ، ويحذر الشاعر الانسان من الشيطان بقوله : ان الشيطان أمام الشطرنج ملاعب بارع ، سريع كالغراب ، فلا تتعرض لمباراته وأنت مثقل بالكرى . انه يعرف الكثير من الألعاب البارعة ، التي تقف في حلقك ، فلا تستطيع منها خلاصاً “ . ويفسر الشاعر بعد ذلك هذه الحيل التي يستخدمها الشيطان في الخداع ، فإذا هي حب المال والجاه .
وقد وفق الشاعر في الرمز إلى الشيطان بالغراب ، فهذا الطائر بلونه الأسود ، وبما ارتبط به في الأذهان من النحس ، وما عرف عنه من اختطاف

 
“ 416 “
 
أشياء قد لا تنفعه ، وقبح سيره وسرعة طيرانه ، يوحى للخيال بصفات تعين على تصور الشيطان .
( 133 ) يصف الشاعر محب المال بأنه “ عديم الثبات “ ، ويقصد بذلك أن محب المال لا تقدر نفسه على الصمود أمام اغرائه .
( 139 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى : “ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون “ . ( 2 : 216 ) .
( 141 - 153 ) : القصة التي رواها الشاعر في هذه الأبيات وردت بصورة أخرى في كتاب “ الهى نامه “ للعطار . وقد نقل فروزانفر نص أبيات هذه القصة ، كما رواها العطار . ( مآخذ قصص وتمثيلات مثنوى ، ص 43 ، 44 ) .
وتختلف القصة - كما رواها جلال الدين - في حوادثها ومغزاها عن قصة العطار .
فالعطار يروى أن الأبله الذي رافق عيسى طلب منه أن يعلمه اسم الله الأعظم . فرفض عيسى في أول الأمر قائلا ان هذا لن ينفع والأبله ، لكن الرجل ألحف في الرجاء والقسم فعلمه عيسى هذا الاسم .
وبينما كان هذا الرجل الأبله سائراً في الصحراء رأى عظاما نخرة ، فأحب أن يجرب أثر الاسم عليها ، وبالفعل استطاع أن يبث فيها الحياة ، لكن هذا كان وبالا عليه ، إذ انطلق من تلك العظام أسد مفترس ، سرعان ما ضرب الرجل بمخالبه ، وقصى عليه . وحين علم عيسى بذلك وقال لأصحابه : “ ان هذا الرجل طلب من الحق ما لم تكن نفسه جديرة به ، فلم يسمح الحق بذلك . فالانسان لا يجوز له أن يطلب من الحق كل ما يطيب له ، وليس يجذر به أن يطلب سوى ما يكون على قدر استحقاقه “ .
أما قصة جلال الدين فتروى أن عيسى أبى أن يعلم الأبله اسم الله الأعظم ، قائلا : ان هذا لن يجديه نفعا . فمثل هذا الاسم لا ينطق به الا من كانت
 
“ 417 “
 
أنفاسه أنقى من المطر ، وسلوكه أقوم من سلوك الملائكة . فما كل من أمسك بعصا موسى يستطيع أن يحقق بها ما حققه موسى . وتذكر القصة بعد ذلك تعجب عيسى من هذا الرجل الذي يطلب أن يتعلم احياء الموتى ، لكي يبث الحياة في العظام النخرة ، على حين أنه تخلى عن روحه الميتة ، ولم يفطن إليها . ويكمل جلال الدين القصة بعد أن ينتهى من تفسيراتها وما يدور حولها ، ويستغرق ذلك نحو ثلاثمائة بيت ، فيذكر أن عيسى نادى باسم الحق على العظام ، فانطلق منها أسد أسود ، ضرب هذا الفتى الأبلة بمخالبه “ فدمر كيانه الصوري “ ثم يمضى بعد ذلك في تفسير معاني القصة . ( البيت 457 وما يليه ) .
( 142 ) “ الاسم السنى “ هو “ اسم الله الأعظم “ ، ويتضح ذلك بصريح العبارة في قصة العطار . ويرد ذكر “ اسم الله الأعظم “ في تفسير بعض قصص القرآن ، وفي كتابات الصوفية ، وكذلك في كتابات مؤرخي الفرق الاسلامية .
وينسب إلى العارفين بهذا الاسم القدرة على احداث المعجزات .
ولهذا فقد قيل إن الأنبياء كانوا يعرفون هذا الاسم . وكذلك ينسب العلم به إلى بعض الأولياء . فمن نسب إليهم ذلك إبراهيم بن أدهم . ( السلمى ، طبقات الصوفية ، ص 30 ، 31 ، 34 ) .
ونسب بعض غلاة الشيعة إلى قادتهم معرفة “ اسم الله الأعظم “ .
يقول الأشعري عن فرقة المغيرية ، أصحاب المغيرة سعيد : “ يزعمون أنه كان يقول : انه نبي ، وانه كان يعلم اسم الله الأكبر . . . “ ( مقالات الاسلاميين ، ج 1 ، ص 68 ) .
ويروى ابن الأثير أن المغيرة قال : “ ان الله وتعالى لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأعظم . . . “ ( الكامل ، حوادث عام 119 ، ج 4 ، ص 230 ) .
 
[ شرح من بيت 150 إلى بيت 300 ]
( 150 ) الأبله في هذه القصة يمثل رجلا ميت الروح طغت عليه



“ 418 “
 
حواسه .
( 151 ) ان هذا الأبله كان يسعى إلى احياء العظام النخرة التي رآها في الجب ، في حين أن روحه كانت ميتة ، فلم يلتفت إليها ، وما كان أحراه بأن يلتمس العون لنفسه من عيسى ، وبذلك يبدأ باصلاح نفسه قبل أن يسعى لاصلاح غيره .
( 158 ) “ فأصبح مع رفقائه مراقباً “ أي دخل معهم حال المراقبة .
والمراقبة ، كما يقول القشيري ، هي “ علم العبد باطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه ، واستدامته لهذا العلم مراقبة لربه ، وهذا أصل كل خير ، ولا يكاد يصل إلى هذا الرتبة الا بعد فراغه من المحاسبة ، فإذا حاسب نفسه على ما سلف ، وأصلح حاله في الوقت ، ولازم طريق الحق ، وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب ، وحفظ مع الله تعالى الأنفاس ، راقب الله تعالى في عموم أحواله ، فيعلم أنه سبحانه عليه رقيب ، ومن قلبه قريب ، يعلم أحواله ، ويرى أفعاله ، ويسمع أقواله ، ومن تغافل عن هذه الجملة ، فهو بمعزل عن بداية الوصلة ، فكيف عن حقائق القربة “ .
( الرسالة القشيرية ، ص 87 ) . وانظر أيضا : ( السراج : اللمع ، ص 82 ، 83 ) ، ( الأنصاري : مشارق أنوار القلوب ، ص 78 - 79 ) .
وقوله : “ وان حضور الرفيق لدفتر ، بل أكثر من ذلك “ ، يشير إلى طريقة الصوفية في التعلم من المرشد ، فالتصوف معرفة ، وسلوك يتلقاهما المريد عن المرشد في أول الأمر ، ثم يسلك بعد ذلك سبل التأمل والمجاهدة . فالرابطة بين الصوفية رابطة محكمة ، وهي عندهم أهم في تحصيل العرفان من الكتاب والدفتر .
( 159 ) قلب الصوفي - حين يصبح نقيا من علائق المادة - يغدو كالمرآة ، تتجلى فيه شتى المعارف ، وتشرق عليه الحقائق . ولا حاجة به حينذاك إلى دفتر ولا كتاب . والدفتر والكتاب يرمزان إلى العلم التقليدى .
( 160 ) العالم الدنيوي يعتمد في تحصيل علومه على آثار القلم ، أما
 
“ 419 “
 
الصوفي فاعتماده يكون على “ آثار القدم “ ، أي اقتفاء سبيل المرشد حتى يتحقق له ما تحقق للمرشد . فالسلوك عند الصوفية يجئ قبل القراءة والدرس .
( 161 ) بداية الطريق بالنسبة للمريد أن يدخل في طريق التصوف .
فهو يكون بذلك شبيها بصياد ، سار في طريق ليحقق غاية . فعليه في بداية الأمر أن يتبع آثار القدم ، وهذا المعنى يرمز إلى اقتفاء شيوخ التصوف .
( 162 ) يكون المريد في بداية أمره قليل الخبرة وقد يقتصر سلوكه في تلك المرحلة على تقليد شيخه ، حتى إذا ما أصبح متحققا بالعرفان ، صار جوهرُ السلوك وغايته هدفاً له .
( 163 ) المريد الذي تصدق همته في اقتفاء المرشد ، يقوده اخلاصه هذا إلى غايته ، فيصبح هو أيضا من أهل الحقيقة .
( 164 ) عندما يصبح السالك من أهل التحقيق ، فكل خطوة يخطوها بعد ذلك تكون أعظم من مائة خطوة من خطاه أيام كان من أهل التقليد .
( 165 ) القلب - بالنسبة للعارف الواصل - يصبح مَشرقاً لأنوار المعارف ، وسبيلا للنفوذ إلى عالم الروح ، في حين أنه يكون سدا أمام غير العارف .
( 166 ) يصور الشاعر القلب بالنسبة للعارف ، فيقول انه باب ، ذلك لأنه مفتوح أمام أسرار الغيب ، تتكشف له المعارف اليقينية .
أما من لم يكن من أهل العرفان فقلبه مغلق يفصل بينه وبين عالم الروح ، كأنه حائط . أما قوله : “ وهو عندك كالحجر . . . “ فهذا يشير إلى معان عدة . فالقلب بالنسبة للصوفى جوهر نفيس ، ولا يتركه نهبا للعبث أو الأحقاد والضغائن ، بل هو للتأمل والتفكر ، والسعي إلى الكمال . أما الانسان الغارق في ماديته فلا قيمة للقلب عنده ، فالقلب - بالنسبة له - كقطعة من الحجر . ولفظة “ الحجر “ هنا تفيد انحطاط
 
“ 420 “
 
القيمة كما تشير إلى ما توصف به القلوب القاسية من غلظ يجعلها شبيهة بالأحجار . قال تعالى : “ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة “ . ( 2 : 74 ) .
( 167 ) يعبر هذا البيت بطريقة رمزية عن معنى شبيه بقول القشيري عن الصوفية : “ مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب . . . فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور ، والذي للخلق من المعارف مقصود ، فلهم من الحق سبحانه موجود ، فهم من أهل الوصال ، والناس من أهل الاستدلال ، وهم كما قال القائل :ليلى بوجهك مشرق * وظلامه في الناس سارى
فالناس في سدف الظلا * م ونحن في ضوء النهار( الرسالة ، ص 180 ) .
( 168 ) ان أرواح العارفين كانت موجودة قبل أن يخلق هذا العالم المادي ، وكانت تنعم في بحر الجود . فهؤلاء قد سلفت لهم الحسنى ، وسبق التقدير بسعادتهم .
( 169 ) قبل أن تحل أرواح هؤلاء العارفين في الأجساد كانت قد أمضت أعمارا طويلة في عالم الروح . وقد ظفرت بنعيم الله وكرمه من قبل أن تعمل عملا تستحق عليه الجزاء . فهذا الكرم والنعيم الذي لقيته قبل حلولها في الأجساد لم يكن جزاء على عمل قامت به .
( 170 ) لقد تكشفت لهذه الأرواح حجب المستقبل ، فعرفت ما يكون قبل أن يصبح كائنا .
( 171 - 172 ) حين أخبر الله الملائكة باعتزامه خلق آدم ، كانت هذه الأرواح مدركة لإرادة الله . وبينما كانت الملائكة تتساءل عن حكمة الله في خلق آدم ، كانت أرواح العارفين تسخر من الملائكة .
ولقد روى القرآن الكريم اعتراض الملائكة على خلق آدم في قوله تعالى : “ وإذ قال ربك للملائكة انى جاعل في الأرض خليفة ، قالوا
 
“ 421 “
 
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . قال إني أعلم ما لا تعلمون “ . ( 2 : 30 ) .
( 173 ) لقد كان في وسع هذه الأرواح أن تطلع على صورة ما يكون من الكائنات . فهي قبل أن تعلق بالأبدان كانت نقية من علائق المادة ، بعيدة عما يعكر صفاء رؤيتها . يروى ابن عربى عن أبي يزيد البسطامي قوله : “ لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها “ .
ويزيد ابن عربى على ذلك قوله : “ وهذا وسع أبى يزيد في عالم الأجسام . بل أقول : لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه “ .
( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 88 ) .
ويقول الأنصاري : “ والنفوس إذا صفت ورقت ، تشبهت بالملا الأعلى ، واتتقشت فيها أمثلة الكائنات ، واطلعت على المغيبات ، وأثرت في السفليات “ . ( مشارق ، 100 ) .
فإذا كان هذا رأيهم في قلب العارف ومدى احاطته ، فلا عجب اذن أن يكون رأيهم في روح العارف - قبل خلق الجسد - أعظم من ذلك .
( 175 - 176 ) لقد كانت الأفكار تنتقل إلى هذه الأرواح بالهام الهى ، ولم تكن بحاجة إلى وسائل لتلقيها ، كالدماغ والقلب . كما أن هذه الأرواح قد تحقق لها أعظم قدر من الظفر بدون كدح يشبه كفاح الدنيا .
وأرواح العارفين تبصر ما وراء الحس . فكل ما تشهده فهو بالنسبة لها فكرة ، لأنها تنفذ إلى حقيقة جوهره . أما الحسيون فان كل ما يشهدونه لا يتعدى الرؤية الحسية بالنسبة لهم .
( 177 ) ان التفكر في صورته المعروفة للناس يرتبط بالماضي وبالمستقبل . أما هذه الأرواح التي تحررت من سيطرة الزمن فلم يعد
 
“ 422 “
 
التفكر عندها مقيدا بهذا القيد ، ولهذا فقد حلت - بالنسبة لها - مشكلة المعرفة .
( 178 - 179 ) ان أرواح العارفين - بتحررها من الزمن - قد استطاعت أن ترى كل ممكن الوجود من قبل أن يوجد . فمعرفتها جوهرية كلية ، وليست مرتبطة بالجزئيات التي تتكشف خلال الزمن .
( 180 ) هذا البيت شبيه بقول ابن الفارض :شربنا على ذكر الحبيب مدامة * سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم( 181 - 182 ) هذان البيتان مرتبطان بفكرة الكشف والالهام عند الصوفية ، تلك التي تتيح للعارفين منهم الماما بكليات الحقائق ، فلا يصرفهم جانب منها عن الجانب الآخر ، ولا يحول مظهر للحقيقة أمام أعينهم دون مشاهدة المظاهر الأخرى الكامنة في طي الامكان . وتنطبق هذه القدرة المبصرة على عالمي الغيب والشهادة . يقول ابن عربى :
“ ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن ، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا “ . ( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 54 ) .
( 183 ) يرتبط معنى البيت بفكرة الانسان الكامل ، وأنه محور الوجود . يقول ابن عربى : “ فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الانسان الكامل ، ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اخترنه الحق فيها ، وخرج ما كان فيها ، والتحق بعضه ببعض ، وانتقل الأمر إلى الآخرة ، فكان ختما على خزانة الآخرة ، ختما أبديا . فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الانسانية ، فحازت رتبة الجمع والإحاطة بهذا الوجود “ . ( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 50 ) .
وقد عبر جلال الدين عن هذا المعنى بأسلوب شعري . فبدلا من أن يتبع الطريقة الاصطلاحية في التعبير فيذكر أن كل مظاهر الوجود خلقت من أجل الانسان الكامل ، قال إن السماوات نشوى بشراب العارفين ،


“ 423 “
 
على اعتبار أن الله أنعم عليها بالوجود ، من أجل الانسان الكامل ، وكذلك الشمس يرتبط وجودها بوجوده ، “ فهي من جوده ترفل في وشى الذهب “ .
وهناك حديث قدسي يذكر في كتب الصوفية ، ويروى عن الله تعالى أنه خاطب الرسول بقوله :
“ لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك “ .
( 184 ) “ إذا رأيت رفيقن من العارفين فأعلم أنهما من حيث وحدة الروح رجل واحد ، أما من حيث القوة والمقدرة فهما يعدلان ألوفا كثيرة “ .
( 185 ) ان ظهور العارفين كأشخاص متعدين لا يعنى أنهم متعددو الروح ، فما تعددهم الظاهري الا كتعدت أمواج البحر ، تلك التي تبدو كأنها وحدات متفرقة ، ولا حقيقة لهذه الفرقة ، فكلها من البحر واليه ، وماؤها جميعا ماء واحد ، لكن الريح هي التي تظهرها على هذه الصورة .
والريح هنا رمز للإرادة الإلهية التي تظهر العارفين على هذه الصورة .
( 186 - 187 ) الروح الانساني واحد . وقد أشرق على الأبدان ، فاقتبست منه الحياة . فهو كالشمس تشرق من قرص واحد ، وكل مكان يقتبس النور منها . وهذا تصوير شعري لوحدة روح الانسانية ، وهو مبنى على الذوق الصوفي ، وليس على أساس فلسفي .
ومن الصوفية من أنكر ذلك بشدة . فالسهروردى الاشراقي يقول :
“ وجماعة من الناس لما تفطنوا أن هذه ( النفس ) غير جسمية توهموا أنها الباري تعالى ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا ، فان الله واحد ، ولو كانت نفس زيد وعمر واحدة ، لأدرك أحدهما جميع ما أدرك الآخر ، ولو طلع كل الناس على ما اطلع عليه الكل وليس كذلك . ثم كيف تستأمر قوى البدن اله الآلهة ، وتسخره رهين شهوات ، وعرضة بليات ، في خبط عشوات “ . ( هياكل النور ، 54 ، 55 ) .
 
 “ 424 “
 
وهذا موقف فلسفي يختلف عن الموقف الذوقى الذي عبر عنه جلال الدين . ومع ذلك نجد السهروردي يعبر عن وحدة النفوس في أصلها وذلك بصدورها جميعا عن العقل الفعال . يقول : “ ومن جملة الأنوار القاهرة أبونا ورب طلسم نوعنا ، ومفيض نفوسنا ، ومكملها بالكمالات العلمية والنفسية ، روح القدس ، المسمى عند الحكماء بالعقل الفعال “ . ( المصدر السابق ، ص 65 ) .
ويعبر الأنصاري عن اتحاد الأرواح بقوله : “ واعلم أنه ليس في العالم شئ الا وله مغناطيس يجذبه ، لطيفا كان أو . كثيفا . ومغناطيس النفوس شعاع نور الجمال ، فلهذا كان تعاشق الأرواح انجذاب بعضها إلى بعض حتى تتحد “ . ( مشارق ، 97 ) .
ويقول أيضا : “ واتصال النفسين هو اتحاد هما حتى لا يكون بينهما فرق الا بالجسم ، والجسم زائد على ماهية النفس ، والانسانية تُعقل في الذهب دون جسم ، إذ هي معنى كلى يتصور في النفس دون أمر زائد من شكل أو حامل وسائر الأعراض “ . ( المصدر السابق ، 99 - 100 ) .
( 188 ) يميز الشاعر بين الروح الانساني والروح الحيواني . فالروح الانساني هو مصدر الحياة الواعية المدركة التي يعيشها الانسان . أما الروح الحيواني فهو مصدر الحياة في الجسد ، وبه تحبى أجساد البشر والحيوانات على السواء .
ولعل الروح الانساني هو الذي يعبر عنه بالنفس الناطقة في كتابات بعض الصوفية . يعرف السهروردي النفس الناطقة بقوله : “ وهذه النفس الناطقة لها قوى من مدركات ظاهرة ، وهي الحواس الخمس ، وهي اللمس والذوق والشم والسمع والبصر وقوى من مدركات باطنة ، كالحس المشترك وهو الذي يشاهد صور المنام معاينة لا على سبيل التخيل . ومن الحواس الباطنة الخيال . . . والقوة الفكرية . . . والوهم . . . والحافظة “ ( هياكل النور ، ص 51 - 53 ) .


“ 425 “
 
أما الروح الحيواين فيتحدث عنه بقوله : “ وللحيوانات قوة شوقية ذات شعبتين : منها شهوانية جعلت لجلب الملائم ، وغضبية خلقت لدفع ما لا يلائم . وقوة محركة تباشر التحريك . وحامل جميع القوى المحركة والمدركة هو الروح الحيواني ، وهو جرم لطيف بخارى مولد من لطائف الأخلاط ، وينبعث من التجويف الأيسر من القلب ، وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة . ولولا لطفه ما سرى فيما يسرى ، إذا وقعت سدة تمنعه من النفوذ إلى عضو يموت ذلك العضو . وهو مطية تصرفات النفس الناطقة . وتتصرف النفس في البدن ما دام ، وإذا انقطع انقطع تصرفات النفس الناطقة . وتتصرف النفس في النفس الناطقة . وتتصرف النفس فىالنفس الناطقة . وتتصرف النفس فىالبدن . هذا الروح الحيواني غير الروح الإلهي الذي يأتي في كلام النبوات ، فإنه معنى به النفس الناطقة التي هي نور من أنوار الله تعالى ، القائمة لا في أين ، من الله مشرقها ، وإلى الله مغربها “ . ( المصدر السابق ، 53 ، 54 ) .
ولو أردنا أن نلخص آراء السهروردي في كلمتين جامعتين لقلنا انه يعنى بالنفس الناطقة القوى المدركة ، وبالروح الحيواني القوى المحركة من غضب وشهوة وطاقة .
( 189 ) ما دام الروح الانساني جوهرا واحدا فاض عن الخالق ، فليس من الممكن أن يقع انقسام في هذا الجوهر .
( 190 ) الشاعر يدرك أنه أفاض في الحديث عن معان رمزية عميقة الدلالة ، وانصرف عن رواية قصة الصوفي التي بدأها قبل معالجة تلك المعاني . ولهذا فإنه يحث المستمع على الاصغاء اليه ليحدثه بلمحة عما تشهده روحه من جمال التجلي .
( 191 ) ليس البيان بقادر على أن ينقل إلى المستمع لمحة من جمال الشهود . وكيف يتسنى له ذلك ، والعالمان بأسرهما ليسا سوى لمحة من أنوار هذا الجمال .
( 192 ) “ لو أنني تحدثت عن لمحة من لمحات هذا الجمال ، لكاد
 
“ 426 “
 
كيانى الجسدي يتبدد ، فمثل هذا الحديث الروحي لا تقدر عليه عبارات الحس وأو صافه “ .
( 193 ) مثل هذا الكشف الروحي أمانة ينوء بحملها كيان العارف ، ومع ذلك يكون سعيدا بها ، كما تكون النلمة سعيدة في بيدر القمح ، برغم ما يحيط بها من أثقال ينوء بها كيانها .
( 194 - 200 ) يبين الشاعر في هذه الأبيات ، كيف مال مستمعوه إلى سماع صورة الحكاية التي كان يرويها ( حكاية الصوفي ) ، وكيف صرفه هذا الميل من جانب مستمعيه عن تقرير معنى الحكاية .
( 195 ) هناك فيض غزيز من القول ، يندفع كمد البحر ، ثم يعود إلى الانكماش كالجزر .
( 196 ) ان انصراف خاطر المستمع عن الاصغاء للمعاني الروحية جعل الشاعر يعرض عن الافضاء بها .
( 199 ) الصوفي ليس بصورته الظاهرة وانما هو بجوهره وحقيقته .
والقصة ليست قيمتها بوقائعها السطحية ، بل هي بمغزاها ومعانيها الدقيقة .
والولع بظاهر الحكاية مبعثه لذة سطحية ، كتلك التي تجعل الأطفال مولعين بالجوز والزبيب .
( 200 ) ولع الرجال بلذات الحس شبيه بولع الأطفال بالجوز والزبيب . فاللذات الحسية مذاقها وقتي ، ومن كان رجلا فلذته أسمى من ذلك ، لأنها ذات طبيعة روحية .
( 201 ) ان لم تكن قادرا على أن تتخلى عن لذات الحس ، فالله قادر على أن يجعلك تتنزه عنها ، وترتفع فوق طباق السماء .
( 203 - 250 ) في هذه الأبيات يقص الشاعر قصة الصوفي والخادم والحمار ، وهي القصة التي بدأ في روايتها في البيت رقم 156 ، ثم ما لبث أن انصرف عنها ، مستطردا إلى الحديث عن الصوفية وأحوالهم .
ونلحظ في هذه القصة كغيرها براعة الشاعر القصصية . وقد
 
“ 427 “
 
تجلت في هذه القصة الخصائص الآتية :
أولا : روح الفكاهة الغالبة على القصة .
ثانيا : براعة الحوار .
ثالثا : مقدرة الشاعر على تصوير هوا جس النفس .
رابعا : براعته في تصوير شخصياته القصصية . ولم تقف هذه البراعة عند حد تصوير الانسان بل تعدته إلى الحيوان . فحمار الصوفي هنا يثير العطف بما يلاقيه من آلام ، وله أيضا هو اجسه وأحلامه ! ( 251 ) على الانسان ألا ينخدع بلطيف المقال حتى لا يخدعه هذا عن حقيقة الحال .
( 261 ) في هذا البيت دعوة قوية صريحة إلى الحزم ، والاعتماد على النفس .
( 264 ) عاد الشاعر هنا إلى حديث الروح والجسد . فالجسم الترابى غريب عن جوهر الانسان .
( 265 ) تغذية الجسم ورعايته لن تفيد جوهر الانسان . فالجسم يتضخم من هذا الغذاء ، في حين أن الجوهر يتضاءل .
( 266 ) مهما أحيط الجسم بالرعاية والعناية ، فإنه لا محالة هالك ، والموت يكشف طبيعة الخسيسة ، فمهما أحيط بالمسك ، فلا بد من ظهور رائحته الخبيثة بعد الموت .
( 267 ) المسك الذي يلطخ المرء به جسده لا جدوى منه ، لأن أثره سطحى ، وأولى بالانسان أن يعطر بالايمان قلبه .
( 275 ) ما دمت تنطوى على نفس أمارة بالسوء ، تغلى بهليب الشهوات ، فكن يقظا ، والا قادتك إلى الجحيم .
( 277 ) هذا المعنى شبيه بقول زهير بن أبي سلمى في معلقته :لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق الا صورة اللحم والدم( 280 - 282 ) في هذه الأبيات صورة مشتقة مما يقع تحت أبصار

 
 “ 428 “
 
الناس في حياتهم اليومية . فهناك دكان العطار وقد صُفَّت أمامه أوعية تشبه الطبول ، ووضع في كل وعاء صنف من الأصناف . والعطار قد جعل كل صنف منها على حدة . وإذا وقع اختلاط بين الأصناف فإنه يحرص كل الحرص على الفصل بينها . وقد اتخذ الشاعر من هذا منطلقا للحديث عن الأنبياء ، وكيف أرسلوا ليفصلوا بين أهل الصلاح وأهل الفساد .
( 283 - 284 ) قبل بعث الرسل ، لم يكن هناك فيصل بين الطيبين .
والخبيثين . فكانت الأرواح الطيبة والخبيثة يختلط بعضها ببعض .
فأرسل الله الرسل ليكونوا فيصل بين الفريقين . قال تعالى : “ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه “ . ( 2 : 213 ) .
( 293 - 294 ) قلب العارف يشرق فيه من نور العرفان ما يزرى في اشراقه بنور النهار . أما الأستار التي يسدلها على أسراره فشبيهة بظلمات الليل . وقد يكون المراد بالستر هنا الجسد الذي يحجب حقيقة الولىّ العارف . ( انظر البيت رقم 299 ) .
( 295 - 301 ) تذكر هذه الأبيات تفسيرا صوفيا لقوله تعالى :
“ والضحى والليل إذا سجى ، وما ودعك ربك وما قلى “ . ( 93 : 1 - 3 ) .
فالشاعر يذكر أن الله أقسم بالضحى لأنه نور ضمير المصطفى ، أو لأنه فيض من نور الخالق . ولولا ذلك لما جاز القسم بالضحى لأنه فان ، وهو بهذا غير جدير بقسم الخالق . ان الخليل قال : “ لا أحب الآفلين “ ، فيكف يقسم رب العالمين بما هو عرضة للفناء ؟
وبعد هذا ينتقل الشاعر إلى تفسير “ والليل “ ، فيقول انه رمز لستره أي جسده الذي يخفى حقيقة جوهره . وحينما أشرقت شمس الوحي على الرسول ، قالت لجسده : “ ما ودعك ربك “ ، أي أن الله لم يتركك برغم أنه قطع الوحي عنك أياما . أما قوله : “ ولقد تجلى الوصل
 
“ 429 “
 
من عين البلاء “ ، فمعناه أن جمال الوصل قد تجلى واضحا بعد الانقطاع ، فالشىء يتضح بضده ، ولهذا فان الله تعالى قال : “ وما قلى “ . فهذا الانقطاع لم يكن منبعثا عن اعراض أو كره من الله .
وهذا تأويل صوفي يحمل الألفاظ أكثر مما تحتمل ، في بعض المواقف . والمعروف عند المفسرين أن هذه الآيات نزلت على الرسول بعد أن تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما ، وقال الكفار : ان محمدا ودعه ربه وقلاه .
 
[ شرح من بيت 301 إلى بيت 450 ]
( 302 ) ان كل عبارة رمز لحال . فالحال هو الموجه لمعنى العبارة ، وليست العبارة سوى الأداة التي يعبر بها الحال عن حقيقته . ان الحال كاليد والعبارة كالآلة .
( 303 ) لا جدوى من اطلاق العبارات على ما ليست ترمز اليه من الأحوال ، والا كان ذلك كوضع الآلة في يد لا تحسن استخدامها . فلا بد أن تحمل العبارة تعبيرا صادقا عن الحال .
( 305 ) يتضمن هذا البيت مثالا لا ستخدام العبارة في موضعها ، ومثالا لاستخدامها في غير موضعها .
( 306 ) عصا موسى ، في يد موسى ، كانت آلة وضعت في موضعها الصحيح . أما العصا في أيدي السحرة ، فقد ذهبت هباء لان تلك الأيدي لم تكن - في مقام اظهار المعجزة - جديرة بتلقيها .
( 310 ) انتقل الشاعر من الحديث عن اقتران الأحوال ، والعبارات ، واقتران الأيدي ، والآلات ، إلى ذكر الواحد الذي لا قرين له ، ولا آلة .
وبين كيف أن كل عدد يكون عرضة للخطأ ما عدا الواحد فإنه لا شك فيه .
( 311 - 312 ) يقول ابن الفارض في هذا المعنى :وان عبد النار المجوس وما انطفت * كما جاء بالأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غيرى وان كان قصدهم * سواي وان لم يظهروا عقدنيةوجلال الدين يقول : ان كل من عبدوا اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك



“ 430 “
 
هم - في الوقت ذاته - قائلون بالواحد ، مؤمنون به . ويروى القرآن الكريم عن مشركي العرب قولهم عن الأصنام : “ ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى “ . ( 39 : 3 ) .
فهؤلاء المشركون كانوا مؤمنين بالاله الواحد . ويعزو جلال الدين هذه الألوان المختلفة من الشراك إلى الحَوَل ، وهو مرض يجعل العين تبصر الشئ الواحد متعددا . فإذا شفى هؤلاء المشركون من حولهم العقلي ، فهم لا شك عائدون إلى الايمان بالاله الواحد .
( 313 ) من قال بالوحدانية فقد سلك السبيل الحقّ إلى ربه .
فعليه أن يستسلم لخالقه على أكمل وجه ممكن ، فلا تكون له حركة الا بدافع من الله ، كما تندفع الكرة في الميدان بدفع الصولجان .
( 314 ) كلما ازداد كما الكرة كانت أكثر استجابة لدفع الصولجان ، وكلما ازداد كمال الانسان كان أسرع استجابة لا رادة الله .
( 315 ) على الأحوال الذي أخطأ الرؤية أن يحسن الاستماع بعقلة ، فلعله يستطيع أن يتلقى بسمعه ما يعينه على التخلص من علة ابصاره .
( 316 ) حسن الاستماع ، مع عمق التأمل ، قد يعين القلب على الابصار . أما الاستماع ، بدون تأمل فلا جدوى منه للقلب الأعمى ، لأن نور العرفان لا يستقر فيه ، بل يرجع إلى أصله .
( 317 ) سحر الشيطان يجد له مستقرا ملائما في القلب المنحرف ، كما تستقر القدم العوجاء في الحذاء الأعوج .
( 318 - 320 ) الحكمة لا تتحقق لانسان . ما لم يكن من محبيها المخلصين لها ، الذين يتقبلونها بقلوبهم وأرواحهم . وبدون هذا فلا سبيل لانسان إليها ، فكثرة القراءة والحفظ ، والتشدق بالحكمة ، كلها لا تجدى نفعا ، ما لم تستقر الحكمة في قلب الانسان ويتحقق اخلاصه لها .
( 321 ) الاخلاص قد يعين صاحبه على أن يحصل من الحكمة ما لم يحصله المجتهد الذي تجرد من الاخلاص . وهذا المعنى مرتبط بفكرة



“ 431 “
 
الالهام عند الصوفية ، تلك التي تقول بان القلب النقىّ الذي صفا من الأكدار يتلقى من العرفان ما لا يتحقق لمن أضاع عمره بين الأسفار .
( 323 - 335 ) تروى هذه الأبيات قصة ترمز إلى الروح الذي يفر من كنف خالقه ، ويستسلم للدنيا ولذاتها . فالباز في القصة رمز للروح ، وقد هرب من مليكه إلى عجوز شمطاء ( وترمز للدنيا ) فساء جزاؤه من جراء ذلك .
وتُروى هذا القصة في مصادر عدة من أهمها أسرار نامه للعطار ، وجوامع الحكايات لعوفى “ 1 “ . والقصة كما رواها العطار لا تنطوى على تلك النظرة العاطفية التي صور بها الملك حبه للباز .
وقد ذكر فروزانفر مواضع أخرى وردت فيها إشارات لهذه القصة ، وهي كشف المحجوب للهجويرى ، وديوان شمس تبريز ل
 ، وكتاب المقالات المنسوب لشمس الدين التبريزي “ مخطوط مكتبة الفاتح باستنبول ، رقم 2788 “ . ( انظر مآخذ قصص ، ص 44 ، 45 ) .
( 335 ) هذا البيت شبيه بقول أبى نواس :ان كان لا يرجوك الا مؤمن * فبمن يلوذ ويستجير المجرم( 336 ) ان الروح قد تنحرف عن قصد السبيل معتمدة على لطف الله وكرمه .
( 337 ) الانسان يقترف السيئات ، مع أن حسناته لا تكاد ترقى إلى المستوى الذي يجعلها جديرة بقبول الخالق .
( 338 - 340 ) من أسباب خطيئة الانسان أن يعتقد أن عبادته لله أمر مستلزم للقبول الإلهي ، فيركن إلى هذا الاعتقاد ، ويصيب الغرور
( 1 ) انظر تعليقات نيكولسون .



 “ 432 “
 
قلبه ، ويظن أنه قد أصبح من خاصة الله . ومثل هذا الغرور يؤدى إلى الضلال .
وقد عقد عبد الرحمن بن الجوزي فصلا حول هذا المعنى بعنوان :
“ غرور المتعبدين “ .
يقول : “ وفي المتزهدين أهل تغفيل ، يكاد أحدهم يوطن نفسه على أنه ولى محبوب ومقبول . . . وربما احتقر غيره ، وظن أن محلته محفوظة به ، تغره ركيعات ينتصب فيها ، أو عبادة ينصب بها “ . ( صيد الخاطر ، 135 - 136 ) .
( 341 ) لا يجوز أن يكون احساس المرء بالاقتراب من ربه دافعا إلى إساءة الأدب . ويروى عن أبي يزيد البسطامي - في هذا المعنى - قوله :
“ قعدت ليلة في محرابى ، فمددت رجلي ، فهتف بي هاتف : من يجالس الملوك ينبغي أن يجالسهم بحسن الأدب “ . ( السلمى : طبقات الصوفية ، ص 69 ) .
( 343 ) الباز قد اغتر بنفسه ، فظن أنه قادر على صيد الأسود ، ولم يدر أن الصياد الحقيقي هو المليك ، وليس الباز - في حقيقة الأمر - الا ملتقط الصيد . فهو هنا يعتذر لمليكه عن الخطأ الذي وقع فيه نتيجة لغروره وسوء فهمه . وهذا تعبير رمزى عن الانسان الذي يكرمه ربه فيقدره على فعل الأمور العظام ، فيظن أن ذلك قد تحقق له بقدرته الذاتية ، وينسى فضل الخالق ، فيعتريه الغرور من جراء ذلك .
( 344 ) تكشف للباز - بعد أن ابتعد عن كنف مليكه - أن قدرته كانت مقتبسة من قدرة هذا المليك . وهكذا الانسان ، لا قدرة له لو تخلى عنه الخالق . فالباز يقول : “ مع أن أظافري قد قلمت ، فأنا قادر على اقتلاع الشمس من مدارها ، لو أنك كنت لي “ . والانسان - المؤيد بالقدرة الإلهية - لا تكون هناك حدود لطاقاته .
( 345 ) “ لعب الفلك “ يقصد به هنا ما كان يُعتقد للفلك من تأثير


“ 433 “
 
على الأحداث . ومعنى البيت : “ مع أنني قد غدوت مقصوص الجناح فإنك لو تقبلتنى برضاك تضاءلت قوة الفلك أمام قوتى “ .
( 346 ) “ المئزر “ في البيت رمز للتأهب للعمل . والمعنى : “ لو دفعتني إلى العمل لهدمت الجبال ، ولو وهبتنى قلما لحطمت به السيوف والرماح .
ويقول جلال الدين أيضا في هذا المعنى : “ ان ملك الملوك حين ينزل إلى الميدان ، يصبح كل عجز آلة ووسيلة “ . ( مثنوى ، 1 : 2696 ) .
( 347 ) إشارة إلى قصة البعوضة التي أهلكت النمرود بن كنعان .
( انظر : الثعلبي قصص الأنبياء ، ص 97 .
وانظر أيضا : مثنوى جلال الدين ، ج 1 ، ص 497 ) .
( 348 - 349 ) إشارة إلى قصة الطير التي أهلكت أصحاب الفيل ، وهم في طريقهم إلى مهاجمة الكعبة . ويروى أن هذا الحادث وقع في زمن عبد المطلب جد الرسول .
يقول المسعودي : “ فأرسل الله عليهم الطير الأبابيل ، أشباه اليعاسيب ، ترميمهم بحجارة من سجيل ، وهو طين قد خلط بحجارة من البحر ، مع كل طير ثلاثة أحجار ، فأهلكهم الله عز وجل “ . ( مروج الذهب ، ج 2 ، ص 128 ) .
( 353 ) إشارة إلى معجزة شق القمر تروى عن الرسول عليه السلام .
( 354 ) “ حتى يعلم الجاهل بالسعد والنحس أن الرسول كان أعمق أثرا في توجيه المقادير من القمر ، وسائر الكواكب “ . والجاهل بالسعد والنحس هو المنجم ، الذي يربط مصائر الخلق بالنجوم .
( 364 ) هذا البيت عربى في الأصل ، ويشير إلى حديث قدسي يروى



“ 434 “
 
عن الله قوله : “ كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لأعرف “ .
( 369 ) التخلص من عبادة الأصنام هو بداية الطريق للتخلص من صنم الباطن . وقد وصف جلال الدين النفس بأنها صانعة الأصنام .
وأصنام النفس هي شهواتها المختلفة . فالتخلص من أصنام الباطن يقتضى جهادا روحيا عظيما .
( 372 ) في البيت إشارة إلى بعض الأساطير الفارسية القديمة . زال هو ابن سام بن نريمان الذي كان من أمراء سجستان . أما رستم فهو ابن زال ، وقد اشتهر - في تلك الأساطير - ببطولة خارقة .
( 375 ) مهد الشاعر بهذا البيت لقصة يرويها عن الشيخ أحمد بن خضرويه ، وهو من قدامي الصوفية ، ( توفى عام 240 ه ) . ذكره السلمى بقوله : “ أحمد بن خضرويه البلخي ، وهو من كبار مشايخ خراسان ، صحب أبا تراب النخشبىّ وحاتما الأصم ، ورحل إلى أبى يزيد البسطامي ، وهو من مذكورى مشايخ خراسان بالفتوة . . . “ . ونقل السلمى بعض أقواله ( طبقات الصوفية ، 103 - 106 ) .
وقد ذكر السلمى أن أحمد بن خضرويه كان يقترض الأموال لاطعام الفقراء ، وأن دينه قد بلغ مائة ألف درهم . أما القشيري فقد ذكر قصة شبيهة بقصة المثنوى . يقول : “ وكان عليه سبعمائة دينار دينا ، وغرماؤه عنده ، فنظر إليهم وقال : اللهم انك قد جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال ، وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم فدعني . قال : فدق داق الباب وقال : أين غرماء أحمد ؟ فقضى عنه ثم خرجت روحه ، ومات رحمه الله سنه 240 “ . ( الرسالة ، ص 16 ، 17 ) . وروى العطار هذه القصة ذاتها في “ تذكرات الأولياء “ ، ونقلها عنه فروزانفر . ( مآخذ قصص ، ص 46 ) .



“ 435 “
 
أما قصة الصبى بائع الحلوى فقد عثر عليها نيكولسون مرتبطة بأبى سعيد بن أبي الخير ( انظر شروح نيكولسون ، ص 252 ) . وذكر فروزانفر نص هذه القصة ( مآخذ قصص وتمثيلات ، 46 ، 47 ) .
وقد ذكر أحمد بن خضرويه في حلية الأولياء للأصفهاني ، وكشف المحجوب للهجويرى ، ونفحات الأنس للجامى ، إلى جانب المراج السالفة الذكر .
( 379 ) في البيت إشارة إلى معجزة تنسب إلى إبراهيم ، عليه السلام ، وتروى بصور مختلفة ، خلاصتها أن إبراهيم أبى أن يدين بألوهية النمرود ، كما كان يفعل أهل زمانه ، فرده النمرود بدون طعام ، فمر على كثيب رمال وملأمنه كيسا يدخل به على أهله ، لكن الله أحال الرمال في الكيس إلى دقيق . ( الثعلبي ، قصص الأنبياء ، ص 95 - 96 ) .
( 380 - 381 ) انظر : مثنوى ، ج 1 ، (2223 -2225 وتعليقنا على الأبيات ) ، ص 283 .
( 382 ) “ الجود بالروح ، وتقديمها قربانا لخلاق الوجود “ ، تعبير عن دعوة الصوفية إلى افناء الذات في الخالق . فكأن الشاعر يقول : ان الصوفية الصادقين أكثر الناس سخاء لأنهم ضحوا بأرواحهم ، وجعلوها قربانا لخالقهم . والبيت شبيه بقول الشاعر .يجود بالنفس إذ ضمنّ الجواد بها * والجود بالنفس أقصى غاية الجود( 383 ) جاء في قصة إبراهيم أنه حين هم بذبح ابنه إسماعيل لم تفعل السكين فعلها في عنقه . يقول الثعلبي : “ ثم أنه وضع السكين على حلقه فلم يجزع ولم تعمل السكين شيئا . . . وضرب الله صحيفة من نحاس على حلقه . . ثم إنه وضع السكين على قفاه فانقلبت . . . “ .
( قصص الأنبياء ، ص 94 ) . ويشير الشاعر بذلك إلى أن من ضحى بالذات في سبيل الخالق ، تحقق له البقاء .
( 384 ) الشهداء يموتون في حومة الوغى ، ومع ذلك يوهبون حياة



 “ 436 “
 
الخلود ، على مقتضى قوله تعالى : “ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون “ . ( 3 : 169 ) . وكذلك الصوفية - الذين حققوا فناء الذات - ظفروا بالبقاء . وليست العبرة ببقاء الجسد ، كما يتوهم الكفار .
( 385 ) لا يقتصر جزاء الشهداء على خلود الروح ، بل تقترون بذلك البهجة والفرح . ولقد أتبع الله قوله : “ ولا تحسبن الذين قتلوا . . . “ يقوله : “ فرحين بما آثاهم الله . . “ الآية . ( 3 : 170 ) .
وكذلك الصوفية ، ولا يكون البقاء وحده في هو ما يتحقق لهم ، نتيجة لا فنائهم الذات ، بل إن لهم بالفناء بقاء مقترنا بالبهجة والسرور .
( 435 ) انظر قصة الأصم الذي ذهب ليعود جاره المريض ( مثنوى ، ج 1 ، الأبيات 3360 - 3395 ، ص 386 - 389 ) .
( 436 - 437 ) قصة موسى والعبد الصالح - الذي ذكر المفسرون أنه الخضر - قد رويت في القرآن الكريم ( سورة الكهف ، 18 : 65 - 82 ) .
( 438 ) “ يا موسى زماننا “ معناها “ يا من تنظر إلى الصالحين نظرة موسى إلى الخضر “ .
( 441 - 443 ) انظر : مثنوى ، ج 1 ، الأبيات 818 - 822 ، ص 150 ) .
( 444 ) “ إذا أردت أن تظفر بهذا العطاء الإلهي ، فليكن انسان عينك باكيا آسفا على ما يكون من تهاون الجسد “ .
( 445 ) انظر الأحاديث النبوية في “ فضل الكباء من خشية الله تعالى وشوقا اليه “ . ( النووي : رياض الصالحين ، ص 208 - 210 ) .
( 449 ) “ المسيح “ هنا رمز للروح . فالزاهد يقول : “ على الانسان ألا يأسى على عين الحس ، ان كان قوى الروح ، ذلك لأن الروح كالمسيح ، تهب الابصار للأعمى “ .


“ 437 “


[ شرح من بيت 451 إلى بيت 600 ]


( 451 ) لا تجعل الروح - في كل لحظة - مسخرا لجسم غليظ .
( 452 ) انظر : قصة الأبله الذي رافق عيسى ( الأبيات 141 - 155 ) .
( 453 ) الأبله الذي رافق عيسى طلب منه أن يبث الحياة في عظام نخرة ، ولم يلتمس منه حياة لروحه . ان على الانسان ألا يسخر الروح لرغاب الجسد ، والا كان كمن يلتمس من موسى أن يعمل عمل فرعون .
( 454 ) “ لا تثقل فؤادك بهم التفكير في المعاش “ : في هذه العبارة دعوة للانسان إلى أن يتجنب اغراق فؤاده في هموم العيش ، حتى لا يكون هذا سببا في انصرافه عن كل تأمل روحىّ ( 456 ) طالما كانت الروح في الدنيا فلن تعدم الاستقرار في أحد الأجساد ، ولها حينذاك رعاية من الخالق . انها كالتر كمانى لا بد له من أن يستقر في احدى الخيام طالما كان مقيما في الحىّ .
( 461 ) ان هذا الفتى الأبله كان خاليا من اللب ، ولهذا كان القضاء على جسده قضاء عليه ، لأنه لم يكن ينعم بذلك الروح الذي يعيش بعد فناء الجسد .
( 463 ) الأسد كان قد فارق الدنيا ، وانقطع بذلك رزقه الدنيوي ، فبعثه المؤقت على يد عيسى لم يكن يعنى أنه استأنف حياته الدنيوية .
( انظر البيت 469 ) .
( 464 ) الأسد الضاري قد قتل الرجل ، ومع ذلك ، لم يستطيع أن ينال منه رزقا ، لأن الرزق مقسوم . وكثير من الرجال يعيشون في هذه الدنيا بقدرة كاملة على الصيد وحظ قليل من الرزق .
( 465 ) يصور الشاعر بهذا البيت الحرص الذي يتملك بعض الرجال للحصول على رزق لا يتحقق ، فهم يقضون حياتهم بين دفع الحرص وامتناع الرزق . وليس معنى هذا أن الشاعر لا يؤمن بالسعي ، ففي المثنوى كثير من المواقف اليت تحت على السعي . لكن الشاعر ينتقد الحرص المرير الذي يكدر الحياة ، ويجعل صاحبه ضحية لسلسلة



“ 438 “
 
لا تنتهى من الرغاب الجامحة ، والفشل المتكرر .
 
( 468 ) العبرة المقصودة من البيت هي أن المرء - برغم بالغ حرصه - قد يحرم من ثمرة يحققها له هذا الحرص .
( 470 - 471 ) انتقل الشاعر إلى الحديث عن الجزاء الذي لقيه الفتى الأبله . لقد واجه هذا الهلاك ، لأنه - وقد لقى نبعا لحياة الروح هو المسيح - اختار حياة البدن ، فكان كمن يلوث النبع بدلا من أن ينهل من مائه .
( 472 - 473 ) هذا الأبله قد لقى هذا الرسول ، الذي وهبه الله مثل هذا القدرة على بعث الحياة في الأرواح ، فكيف يلتمس منه حياة الجسد ؟
( 474 ) النفس الأمارة بالسوء تسعى وراء اللذات ، كما يسعى الكلب وراء العظام . وحياة النفس الأمارة بالسوء يكون فيها القضاء على حياة الروح . فهناك هذا التضاد في الذات الانسانية بين النفس الأمارة بالسوء وبين الروح .
( 475 ) العظام هنا رمز للذات الحس التي تشتهيها النفس ، كما يشتهى الكلب العظام . وقد تكون رمزا لوجود الانسان المادي ، الذي تتعلق النفس بلذاته . أما قول الشاعر :
“ تحول بين الكلب وبين صيد الروح “ فمعناه : أن لذات الحس تصرف النفس عن تذوق ما يتيحه لها الروح من لذات .
( 476 ) “ ان لم يكن أسير الشهوات كالكلب المولع بالعظام أو كالضبع المولع بالدماء ، فلماذا هو أسير لشهوات الحس ؟ “ ( 477 ) الانسان المجرد من البصيرة الروحية ، كالعين المجردة من الابصار ، فهذه عند الامتحان لا جدوى منها ، وهكذا يكون مثل هذا الانسان .
( 478 ) المحروم من البصيرة الروحية قد يعتمد على الظن الذي
 
“ 439 “
 
يخطئ حينا ، ويصيب حينا آخر ، ويكون هذا الظن مبنيا على الاجتهاد العقلي أما الظن الذي لا يبصر فأعتقد أنه كناية تقليد المقلدين الذين حرموا من الالهام الروحي ، كما حرموا من الاجتهاد العقلي . وفي الأبيات التالية يتحدث الشاعر عن التقليد ومساوئه .
( 479 ) يخاطب الشاعر بهذا عين المقلد ، فيقول : “ أيتها العين التي تبكى على سواها ! ان حالك أسوأ من حال سواك ، فليكن بكاؤك على نفسك ، فحالك أولى بالبكاء “ . يقصد الشاعر بذلك أن المقلد يردد نغمات الأسى على سواه وينسى نفسه ، كما يفعل جهال الواعظين .
( 480 ) يذكر الشاعر في مواضع كثيرة أن دموع الندم تجلو القلب ، وتجعل الروح مزدهرا ، فهي كالسحاب الباكي تزدهر به الرياض ، أو كدموع الشمعة تزيدها نورا .
( 481 - 483 ) الانسان الذي يبكى على ما يفنى خير من المقلد الجامد الاحساس . فالباكى على الفاني يكون غافلان عن كنوز الحياة الروحية الخالدة ، لكنه - مع ذلك - خير من المقلد الذي أصاب التقليدُ قلبه بالجمود .
( 484 ) التقليد يكون كالجبل المنيع ، يجعل صاحبه غير قابل للتأثر ، أو يحول بينه وبين ادراك الحقائق الكامنة وراء ظاهر الأشياء . فالتقليد - في ذاته - أسلوب واه كالقشة .
( 485 ) لا قيمة للمقلد مهما كان عظيم الجسم شديد الانفعال . وهذا تصوير لمن يدِّعون العلم مع تجردهم منه ، فمثل هؤلاء الأدعياء قد يعتمدون على المظهر المهيب ، أو اصطناع مظاهر التحمس والانفعال ، ولا يكون وراء ذلك قيمة جوهرية . فمثل هذا المقلد كجاهل أعمى ، تجرد من البصر والبصيرة ، فهو لا يعدو أن يكون كتلة من اللحم .
( 486 ) قد يتحدث المقلد بكلام دقيق ، لكن قلبه لا يدرك حقيقة معناه .



 “ 440 “
 
( 487 ) قد تظهر على المقلد نشوة بما ينطق به ، لكنها نشوة مفتعلة ، بعيدة عن صدق الاحساس ، وعمق التأثر .
( 488 ) تشبيه رائع للمقلد ، يصطنع المعرفة ، ويتفوه بالعلم ، من غير أدنى قدر من التذوق ، فهو كالنهر ، يمر الماء بمجراه ، ولا يكون له أي تذوق لهذا الماء . وقد يوجد من المستمعين من هو أكثر من المعلم المقلد فهما لما يقوله هذا المقلد ، وهكذا يكون الشاربون متذوقين لطعم الماء ، في حين أن النهر الذي يحمله إليهم مجرد من الذوق .
( 490 ) المقلد ينطق بأقوال لا يدركها ، كالناى يترنم بألحان الأسى ولا علم له بهذا الاحساس .
( 493 ) عرف داوود بجمال الصوت والعزف - انظر ما جاء عن ذلك في القرآن الكريم ( 34 : 10 ) .
والشاعر يشبه قول المحقق بغناء داوود ، أما قول المقلد فهو كرجع الصدى .
( 495 ) المقلد يصطنع الانفعال بدون احساس حقيقي ، أما المحقق فيحمل العبء صامتا . وهكذا يكون شأن العربة والثور ، يحمل الثور العبء الحقيقي ويمضى صامتا عى حين أن العربة هي التي تردد الأنين .
( 498 ) المتسول يهتف باسم الله من أجل الخبز ، والمقلد يهتف بالعرفان طلبا للمنفعة الدنيوية ، ولا يستشعر ذوقا لما يقول ، أما العارف فيهتف باسم الله من أعماق قلبه ، وهذا هو المحقق الذي يتذوق بروحه ما ينطق به .
( 499 ) لو أن المقلد أدرك مضمون قوله لهان في نظره ما يهدف اليه من منفعة دنيوية جعلته يتخذ من ادعاء العلم سبيلا إليها .
( 500 ) المقلد يصطنع العلم من أجل هدف تافه ، هو تحقيق شئ من الربح المادي ، كالحمار يحمل المصحف ليكون جزاؤه على ذلك وجبة من التبن . وفي البيت اقتباس من قوله تعالى : “ مثل الذين حملوا التوراة
 
“ 441 “
 
ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا “ . ( 62 : 5 ) .
( 502 ) ان اسم الشيطان يستخدم في السحر ليحقق الثراء العريض ، فهل يجوز أن يستخدم اسم الله لتحقيق ربح تافه ؟
( 503 - 512 ) يروى الشاعر هنا حكاية عن التقليد ثم يعود بعدها إلى بيان مثالبه .
( 508 ) إشارة إلى تصدع جبل الطور حين تجلى له الخالق .
قال تعالى : “ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ، وخر موسى صعقا “ . ( 7 : 143 ) .


( 509 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله “ . ( 59 : 21 ) .


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: